وقفات إيمانية مع حادثة الزلزال
الحمد لله الواحد القهار ، العزيز الغفار، يقلب الليل والنهار؛ عبرةً لأولي الأبصار. والصلاة والسلام على النبي المختار وسيد الأبرار، المبعوث رحمة للعالمين وإمامًا للمتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فهذه وقفات إيمانية مع فاجعة الزلزال، الذي ضرب إخواننا في سوريا وتركيا، وأحدث دمارًا واسعًا، ونتج عنه قتلى وجرحى بالآلاف، نسأل الله تعالى أن يكتبهم في الشهداء، وأن يرحم موتاهم، ويشفي مرضاهم، وأن يجبر مصابهم الذي آلم كل مسلم في بقاع الأرض.
أولا : وجوب التفكر في الآيات الكونية :
فإن الله تعالى يدعو عباده إلى معرفته والإيمان به، بآياته المختلفة والمتنوعة، وآياته سبحانه وتعالى قسمان : آياته المتلوة والمقروءة، وآياته المنظورة في الكون والنفس. كما قال تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ ﴾ [فصلت: 53].
قال ابن القيم –رحمه الله- : “الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين: أحدهما النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة”[1].
والتدبر في آيات الله تعالى بنوعيها، من أعظم ما يدل على الإيمان، ويزيده ويقويه، كما قال تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]
وآياته –عز وجل- تارة تتجلى فيها صفات الجمال والكمال، فتذوب القلوب حبًا وشوقًا إلى خالقها وبارئها. وتارة تتجلّى فيها صفات الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع القلوب، وتستكين النفوس، وتتضرع لربها ومالكها. وتارة تتجلّى فيها صفات الرحمة والبر والللطف والإحسان، فينبعث الرجاء في القلب. وتارة تتجلى فيها صفات العدل والقدرة والغضب والسخط والعقوبة، فيمتلئ القلب خوفًا ومهابة وإجلالا وتعظيمًا للواحد القهار.
ولا شك أن الزلازل من أعظم آيات الله تعالى، الدالة على تمام ملكه سبحانه، وعلى تمام قدرته، وعلى قهره سبحانه وتعالى للعباد.
وهي تذكر العباد بضعفهم، وعجزهم التام، وأنهم لا يملكون من الأمر شيئا. فيتبين بذلك قبح الغرور وحماقة المغرور المتكبر بحضارته أو علومه التي علمه الله إياها، فتأتيه هذه النوازل؛ لكي تذكره بحقيقة كونه عبدًا فقيرًا إلى ربه وخالقه الذي لا غنى له عنه طرفة عين !
فواجب المسلم أن يتفكر في هذه الآية، وفي الحكمة منها، وألا يكون من الغافلين، كالذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾ [الطور: 44] وكالمشركين القائلين ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ ﴾ [الجاثية: 24]
قال السعدي –رحمه الله- :”أي : إن هي إلا عادات وجري على رسوم الليل والنهار يموت أناس ويحيا أناس”[2].
فهم لا يتفكرون في سنن هذا الكون، ولا آياته، ولا آياته التي ينذر الله عز وجل بها عباده ويخوفهم بها، كما قال تعالى ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59] ولكنهم يرونها مجرد ظواهر كونية عادية، ومجرد سحاب متراكم، فلا يتعظون بشيء من ذلك، بل ربما زادتهم طغيانًا وكفرًا، كما قال تعالى ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 60].
فالآية الواحدة تزداد بها المؤمن إيمانًا، ويزداد بها الكافر كفرًا وطغيانًا، كما قال تعالى ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124-125]
وهذا كما في الآيات المتلوة، يكون في الآيات المنظورة، فهذا الزلزال يزداد به المؤمن إيمانًا، ويشهد فيه مشاهد قدرة الله تعالى وقهره وجبروته ورحمته بالمؤمنين، ورفعه لدرجاتهم بهذه الابتلاءات. وأما الذين في قلوبهم مرض، فلا يجدون في قلوبهم إلا اللوم على ربهم، والسخط على قدره، وسوء الظن بربهم سبحانه وتعالى.أو يكونوا من الغافلين عن هذه الآيات، فلا يتدبرونها ولا يعقلونها.
ثانيا :لا تعارض بين الأسباب الكونية، والأسباب والحكم الشرعية :
الآيات الكونية عمومًا – ومنها الزلازل – لها أسباب كونية، تعرف بالعلم التجريبي الدنيوي الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، ولها أسباب وحكم شرعية، يختص بمعرفتها أهل العلم والإيمان.
ولا تعارض بين الأمرين؛ فمعرفة الأسباب الظاهرة تجيب عن سؤال كيف حدث؟ ولكنها لا تجيب عن سؤال : لماذا حدث؟ وهو السؤال عن الحكمة من تقدير ذلك، وهو علم يختص به المؤمن، يعلمه من الوحي المنزل.
والجاهل من يظن أن أحد الجوابين يغني عن الآخر، أو ينفيه ولا يثبته، والغافل من ينشغل بالسبب الظاهر لهذه الحوادث والآيات، عن الحكمة العظيمة من تقديرها، كما ذكر الله تعالى حال الكفار عند نزول هذه الآيات كما سبق بيانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :” والزلازل من الآيات التي يخوِّف الله بها عباده، كما يُخَوِّفهم بالكسوف وغيرِه من الآيات.
والحوادث لها أسبابٌ وحكمٌ، فكونها آيةً يُخَوِّفُ الله بها عبادَه، هي من حكمة ذلك.
وأما أسبابه: فمن أسبابه انضغاط البخار في جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق فإذا انضغط طلب مخرجا فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض”[3].
ثالثا :التسليم لحكمة الله تعالى وإن جهلها الإنسان:
المؤمن يعتقد أن الله تعالى حكيم عليم، لا يُقَدِّرُ ولا يَخْلُقُ شيئًا إلا لحكمة عظيمة باهرة، كما قال تعالى ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 7] وغيرها من الآيات الكثيرة.
وهذه الحكمة لا يقدر العباد على الإحاطة بها، وقد يطلعهم الله تعالى على بعض ذلك؛ لتتطمئن قلوبهم، ولكن ما يجهلونه من ذلك، أضعاف أضعاف ما يعلمونه، بل لا مقارنة في الحقيقة.
ولذلك يجب على المسلم، أن يسلم لحكمة الله تعالى، ولو جهلها العبد، وأن يحسن الظن بربه؛ فإنه يعترف على نفسه بالجهل والعجز والتقصير، وأن الله يعلم ونحن لا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو بكل شيء عليم.
ويعتقد كذلك، أنه لا يُنْسب الشر إلى الله تعالى، فليس في فعله تعالى شر أبدًا، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم – :” «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»[4]. فليس في فعله تعالى شر أبدًا. ووجود الشر في مخلوقاته، يترتب عليه انواع من الخير لا يحصيها إلا الله تعالى، فليس شرًا محضًا.
فليس في فعله تعالى شر أبدًا، وليس في ما خلقه تعالى شر محض، بل يكون شرًا من بعض الوجوه، وخيرًا كثيرًا من وجوه أخرى.
والعبد يجزم بهذا وإن كان جاهلا بحقيقة ذلك على التفصيل، فهو مقرٌّ بالحكمة والعلم، راض بما قضاه الله وقدره.
وهذا معنى قوله تعالى ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23] قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:”وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره؛ بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته. فإنه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وقد أحسن كل شيء خلقه”[5].
وفي قصة موسى والخضر –عليهما السلام- دليل وشاهد على ذلك، وجواب عن السؤال القديم الحديث :لمذا يقدر الله الشر؟
فخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، في ظاهره شر، وقد يظن بعض الجهال أنه لا يمكن أن يترتب عليه خير، فيعترض على ربه ويسئ الظن بالله، ولكن لما أطْلَعَ الله تعالى عبادَه على بعض أسرار قدره، عَلِمَ الجميعُ أن ذلك الذي حدث هو الخير في الجملة، ومقتضى الحكمة، بل والرحمة كذلك.
وخلاصة الأمر في قوله تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]
رابعا :المصيبة تنزل فتكون رحمة بالمؤمنين وعذابًا على الكافرين:
فالمصيبة الواحدة، تكون ابتلاء للمؤمنين، وعقابا للكافرين والفاجرين. وشواهد ذلك في القرآن والسنة كثيرة.
قال تعالى ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ ﴾ [التوبة: 52]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ حِسَابٌ وَلَا عَذَابٌ، إِنَّمَا عَذَابُهَا فِي الْقَتْلِ وَالزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ»[6].
فهذه المصائب تكون تمحيصًا للمؤمنين، وتكفيرًا لسيئاتهم، ورفعة في درجاتهم، وتخويفًا للعباد وتذكيرًا لهم.
وقد ورد في الأحاديث أن من مات في الزلزال فهو شهيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”[7] قال النووي-رحمه الله- : “وصاحب الهدم من يموت تحته”[8]. فيدخل في ذلك من تنهدم عليهم بيوتهم بسبب الزلزال، فيرجى لهم ثواب الشهادة بفضل الله ورحمته.
خامسًا :وجوب التوبة والاستغفار عند حدوث الزلزال:
وهذه من أعظم الحكم الشرعية من إرسال هذه الآيات، كما قال تعالى ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59]
قال قتادة في تفسيرها : “وإن الله يخوِّف الناسَ بما شاء من آية؛ لعلهم يعتبرون، أو يذكرون، أو يرجعون، ذُكِرَ لنا أنَّ الكوفة رَجَفَت على عهد ابن مسعود، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يَسْتَعْتِبَكم فاعتبوه”[9] .
وقال تعالى : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 42-43]
فترك التضرع والرجوع إلى الله وقت نزول المصائب، من علامات قسوة القلب.
وقال تعالى : ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168] فالسيئات هنا هي المصائب، يقدرها الله تعالى؛ ليرجع العباد إلى طاعته، ويتوبوا إليه.[10]
وقال تعالى : ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]
وقال تعالى : ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]
قال الشيخ ابن باز –رحمه الله- : ” والمعنى: أنه سبحانه قدَّر ما قدَّر من الحسنات والسيئات وما ظهر من الفساد، ليرجع الناس إلى الحق ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله؛ لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة، وأما توحيد الله والإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله والتمسك بشريعته والدعوة إليها والإنكار على من خالفها فذلك هو سبب كل خير في الدنيا والآخرة”[11].
وقال أيضا : “ولا شك أن هذه المصائب وغيرها توجب على العباد البدار بالتوبة إلى الله سبحانه من جميع ما حرم الله عليهم، والبدار إلى طاعته وتحكيم شريعته والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه”[12].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُرِيهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ»[13] وفي لفظ «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّدَقَةِ»[14]. فشرع لنا الصلاة والتوبة والاستغفار عند حدوث الكسوف، مع كونه من الظواهر الكونية، التي نعلم سببها، ولكن كما أسلفنا، فإن لهذه الظواهر أسبابًا كونية، ولها حكم شرعية، ولا تنافي بين الأمرين.
وشرع لنا كذلك صلاة الاستسقاء عند الجدب، وحث الإمام الناس فيها على التوبة والاستغفار ورد المظالم والإقلاع عن الفواحش والمحرمات.
وذهب بعض الفقهاء إلى الصلاة عند الزلزلة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، واستدلوا بفعل ابن عباس رضي الله عنه، وقياسًا على الكسوف، وفي ذلك خلاف معروف بين الفقهاء، ليس هذا محخل بسطه[15]. والغرض المقصود : أن الأمر بالتوبة والاستغفار عند حدوث هذه النوازل، من هدي السلف والصحابة والأئمة.
وهذا لا يعني الحكم على كل من ابْتٌلِي بهذه المصائب بالسوء والشر، فهذه المصائب تصيبُ المؤمنَ والكافرَ، والبرَّ والفاجر، ولكنها تكون رحمة للمؤمنين وتمحيصًا لنفوسهم، وتكفيرًا لذنوبهم، ورفعة في درجاتهم، وعذابًا وعقابًا للكافرين، كما سبق بيان ذلك. ولكن تذكير عموم المسلمين بذلك، من هدي السلف والصحابة كما بينا ذلك.
سادسا :التذكير بأهوال يوم القيامة :
فالمؤمن يتذكر بما يراه من آيات، أهوال يوم القيامة العظمى، فكسوف الشمس، يُذّكِّرُ بتكويرها وخسوفها يوم القيامة، وهذه الزلزلة تذكر بالزلزلة العظمي يوم القيامة قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) ﴾ [الحج: 1-2] فإذا كانت هذه الزلازل تحدث هذا الدمار الهائل، رغم ضعفها نسبيًّا؛ فكيف بالزلزلة الكبرى يوم القيامة ؟
سابعا :كثرة الزلازل من علامات الساعة :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ – وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ – حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ»[16]. فهذا أيضا مما يوجب الخوف والمهابة من حدوث الزلزال، ويوجب التضرع إلى الله تعالى والإنابة إليه.
وهذه من العلامات التي كلما اقتربت الساعة، كلما زادت وكثر جنسها، حتى تكون الزلزلة العظمى يوم القيامة.
ثامنا :واجب المسلمين تجاه إخوانهم المنكوبين:
ففي مثل هذه الحوادث، هناك واجب على المسلم في نفسه، وهو كما أسلفنا الاتعاظ والاعتبار والتوبة والاستغفار، وهناك واجب عليه تجاه إخوانه المسلمين المصابين. والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده؛ ليستخرج منهم أنواعًا من العبودية، وهذه أيضا من حكم تقدير هذه النوازل.
فمن ذلك إضافة لما سبق:
شعور الجسد الواحد، والتألم لألم إخواننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»[17]. فعدم التألم لمصاب المسلمين، من علامات قسوة القلب، وضعف الإيمان، وضعف الرابطة الإيمانية في القلب. نسأل الله العافية.
ومن ذلك الدعاء لهم، بأن يرحم الله تعالى موتاهم، وأن يشفي مرضاهم، وأن يجبر مصابهم، وأن يفرج كربهم.
ومن ذلك تعزيتهم وتسليتهم في مصابهم.
ومن ذلك مواساتهم بالمال والغذاء والخيام، وكل صور العون الممكنة، كل على حسب طاقته وقدرته.
وهذه المواساة بالقلب والقول والعمل من أوجب حقوق الإخوة الإسلامية، ومن معاني الموالاة الإيمانية، قال تعالى : ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]
نسأل الله تعالى أن يفرج كرب المكروبين، وأن يرحم موتى المسلمين، وأن يكتبهم في الشهداء في عليين، وأن يخلفهم في عقبهم في الغابرين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] الفوائد لابن القيم (ص20)
[2] تفسير السعدي (ص777)
[3] مجموع الفتاوى (24/264)
[4] أخرجه مسلم (771)
[5] مجموع الفتاوى (8/79)
[6] أخرجه أبو اداود (4278) والحاكم (7649) وقال :صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه كذلك الألباني .
[7] أخرجه البخاري (2829) ومسلم ( 1914 ) .
[8] شرح النووي على مسلم (13/63)
[9] تفسير الطبري (14/638)
[10] انظر : تفسير الطبري (10/533)
[11] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الشيخ ابن باز (2/127)
[12] المصدر السابق (2/130)
[13] اخرجه البخاري (1085)
[14] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1399)
[15] انظر المغني (3/332-333)
[16] أخرجه البخاري (1036)
[17] أخرجه البخاري واللفظ له (6011) ومسلم (2586)