الجواب عن معضلة تعاقب الحروف وشبهة عدم وجود سلف لابن تيمية فيها والجواب عن نفي السجزي لتعاقب الحروف
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مسألة تعاقُب الحروف والكلمات هي من المسائل المُخرَّجة على «الفعل الاختياري»، وهذه المسألة ظهرت بعد القرن الرابع الهجري، ولم يتكلم فيها السلف ولا الأئمة، لكن بدأت هذه الشبهة في الظهور لما قالت الأشاعرة محتجين على أهل الحديث: «إن الحروف متعاقبة, يعقب بعضها بعضًا, وكذلك الأصوات، فلو كان كلام الله بحرف وصوت لكان حادثًا، والله منزه عن الحوادث، فلزم أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت»([1]).
يقول الباقلاني: «وأيضًا فإن حروف الكلمة يقع بعضها سابقًا لبعض، فعند خطّ الكاتب (با) قد حصلت وثبتت قبل خطه (سينًا)، وكذلك السين حصلت وثبتت قبل خطه (ميمًا) -في كلمة (بسم)- وما تقدم بعضه على بعض وتأخر بعضه عن بعض فهو صفة الخلق لا صفة الحق، وكذلك الأصوات يتقدّم بعضها على بعض، ويتأخر بعضها عن بعض، ويخالف بعضها بعضًا، وكل ذلك صفة كلام الخلق لا صفة كلام الحق الذي هو قديم ليس بمخلوق» اهـ([2]).
فجعل تعاقب الحروف والأصوات ومجيء بعضها عقب بعض دليلًا على حدوث الكلام وخلقه، ثم جعل ذلك دليلًا أن كلام الله ليس بصوت ولا حرف.
والأئمة يرفضون تلك الإلزامات، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن قوم يقولون: لمَّا كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت. وقال أبي: حديث ابن مسعود: «إذا تكلم الله سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان». قال أبي: وهذه الجهمية تنكره. قال أبي: وهؤلاء كفار، يريدون أن يُموِّهوا على الناس، مَن زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر([3]).
وكان غرض الأشاعرة من ذلك نفي الحرف والصوت عقليًّا، وذلك لأن الحروف متوالية يعقب بعضها بعضًا، وكل حرف يبدأ وينتهي، وهذا يُنافي القِدم، ويلزم من ذلك أنها مخلوقة، ولذا بدأ أهل السنة في إيجاد ردود مُناسبة لهذه الشبهة.
وأكثر الأثرية والحنابلة على تعاقب الحروف، وأن هذا لازم مذهبهم وإن أحجم بعضهم عن التصريح به.
ويؤكد تلك الحقيقة الحافظ ابن حجر قائلًا: «وافترق أصحاب أحمد فرقتين: فمنهم من قال: كلامه لازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة، ويسمع كلامه من شاء. وأكثرهم أنه يتكلم بما شاء إذا شاء، وأنه نادى موسى حين كلمه، ولم يكن ناداه من قبل»([4]).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأصل اضطراب الناس في [مسألة كلام الله]: أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثًا، بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعًا عليه، وكان معطَّلا عن ذلك، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرًا في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول، والأزل لا أول له، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين”([5]).
ويحكي ابن تيمية المذاهب في تلك المسألة قائلًا: “وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف وإمكان قدمها، والنزاع في ذلك قديم، ذكره الأشعري في المقالات، وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك، وكذلك أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الطوائف، وكذلك أهل الحديث والصوفية، وحينئذ فيقال: إما أن يكون ذلك ممتنعا، وإما أن يكون ممكنا، فإن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة التي هي مدلول العبارات المنتظمة ويجعلها مع ذلك معنى واحدا، فإن الألفاظ قوالب المعاني، ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك، وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها فهي معان متنوعة ليست شيئا واحدا؛ ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء: الحروف متعاقبة والسين بعد الباء، وذلك يمنع قدمها، أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغوني، وقالوا: هذا معارض بمعارض الحروف، فإنها متعاقبة عندنا، وأنتم تقولون بقدمها. الثاني: أن التعاقب والترتيب نوعان: أحدهما: ترتيب في نفس الحقيقة، والثاني: ترتيب في وجودها، فإذا كانت موجودة شيئا بعد شيء كان الثاني حادثا، وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون الصفات تابعة للذات، وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطا بالحياة، وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب، وهذا الذي يقال له: تقدم بالطبع، وهو تقدم الشرط على المشروط، كتقدم الواحد على الاثنين وجزء المركب على جملته، ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول، فقول هؤلاء إن كان باطلا فكون العلم هو الحياة والحياة هي الإرادة ومعنى القرآن هو معنى التوراة ومعنى آية الكرسي و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} هو معنى آية الدَّين و{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هو باطل أيضا سواء كان مثله في البطلان أو أخفى بطلانا منه أو أظهر بطلانا منه، وحينئذ فيقال: هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال، فقول الكلابية أيضا محال، فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا، وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل، وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر، وهو أنه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة، وهذا يستلزم قيام الحوادث به، فمن قال بهذا لم يكن تناقُضُ الكراميةِ حجة عليه، ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل، وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض، ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة؛ لأن الحروف: إما أن يمكن قدم أعيانها، وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها، وإما أن لا يمكن قدم أعيانها، بل قدم أنواعها، وإما أن لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها، وأما القسم الرابع وهو: قدم أعيانها لا أنواعها، فهذا لا يقوله عاقل، وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها، وإما ان لا يمكن، فهذه خمسة أقسام. وأيضا فإذا أمكن الاجتماع فإما أن يكون بقاؤها ممكنا، وإما أن لا يكون، فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث أعيانها وأنواعها، لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث، وهذا قول من أقوال متعدّدة، وبإزاء ذلك من يقول: يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها، إما مع إمكان الاجتماع، وإما مع عدم إمكان الاجتماع، ومن يقول: يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع، وقد لا يقول، والناس متنازعون في تكليم الله لعباده: هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدّد تكليم من جهته أو لا بد من تجدّد تكليم؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فالأول: قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بأن الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، بل هو بمنزلة الحياة، والثاني: قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم، وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم”([6]).
` طريقة أهل الحديث والأثرية في التعامل مع هذه الشبهة:
أكثر أهل الحديث -قبل ابن تيمية- تركوا الخوض في إلزامات المتكلمين العقلية، واعتبروها نوعًا من رد الكتاب والسنة بالعقل البشري القاصر، وعليه اكتفوا بإطلاقات الكتاب والسنة وما ورد عن السلف من أن الله يتكلم إذا شاء بحرف وصوت.
وبعض متكلمة الحنابلة لما نظروا في كتب الباقلاني وغيره دخلهم نوع من الشبهة، وظنوا ما ذكره قواطع عقلية، فأرادوا التوفيق بين مذهب السلف وبين القواطع العقلية -بحسب ظنهم-، فالتزموا عدم قيام الأفعال الاختيارية، فنتج عن ذلك مذهب هجين خليط بين هذا وذاك، وقالوا: إن كلام الله بحروف وأصوات مقترنة في الأزل وغير متعاقبة، وأن الله إذا أراد أن يتكلم يكشف عن كلامه ويُفهم كلامَه مَن شاء.
وهذا المذهب يُعرف بمذهب الاقترانية، وهو مذهب السالمية من أهل الحديث والقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني، وإن ذهب الأخير إلى تعاقبها في الوجود دون الذات.
يقول ابن القيم([7]):
لكنَّ زاغونيهم قد قال: إن ** ذواتها ووجودها غيران
فترتبت بوجودها لا ذاتها ** يا للعقول وزيغة الأذهان!
` ابن عقيل يدلي بدلوه:
أحسن مَن ردّ على شبهة التعاقب -قبل ابن تَيميَّة- هو أبو الوفاء ابن عقيل، فقد قال كلامًا جليلًا بعدما عاد في آخره إلى السُّنة([8])، وتعرَّض لهذه المسألة في رسالته «الرد على الأشاعرة العزال وإثبات الحرف والصوت في كلام الكبير المتعال»، فمما قاله عن تجدد الكلام واستحالة أن يقال: الكلام في وقت واحد: «فإن قيل: إن المانع من أن يكون كلام الله تعالى بحروف هو أن الثاني من الحروف متأخر والأول متقدم، والقديم لا يجوز أن يسبق بعضه بعضًا، فثبت أن الحروف مخلوقة؛ لأنها مترتبة في الوجود، قيل: هذا يبطل عليكم بقول الله سبحانه لآدم ولعيسى: {كُنْ}، ومعلومٌ أن آدم خُلق قبل عيسى، فإن قيل: إنما قال لآدم ولعيسى: {كُنْ} في الأزل بقِدم الوجود لآدم قبل عيسى، ولم يتقدم القول بعضه على بعض، قيل: هذا باطل لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40] ولا يخلو أن يكون جميع ما في الدارين شيئًا واحدًا، أو أشياء كثيرة، فإن كان شيئًا واحدًا، فإن دليل الشرع والعقل يمنع ذلك، ويثبت أن جميع ما في الدارين أشياء عدة، وكل شيءٍ منها قال الله له: {كُنْ}، ولا بد أن يخلق شيئًا بعد شيء! فيكون {كُنْ} الذي هو القول لكل شيء منفردًا من القول للشيء الآخر، وذلك يمتنع في حالةٍ واحدة وساعة واحدة…».
إلى أن قال مُحاجِجًا الأشاعرة في التعاقب: «ولا يخلو أن تكون حروفًا متوالية أو غير متوالية، فإن كانت متوالية بطل ما قالوه، وإن كانت غير متوالية فيعكسونها في القرآن، وذلك أن يقولوا: (صعيهك) وهذا إن بلغوا إليه كفروا؛ لأنها إن كانت قرآنًا لم يجز تغييرها، وإن لم تكن قرآنًا عندهم كفروا»([9]).
وابن عقيل يريد من ذلك أن تتابع الحروف لازم للقرآن، وإلا لجاز لنا أن نقلب ﴿كهيعص﴾ [مريم: 1] إلى «صعيهك»، ثم ذكر بعد ذلك أن هذه الأحرف مما لم يفسره النبي ﷺ، فبطل بذلك الكلام النفسي، إذ لو كانت هذه الأحرف المقطعة ليست مرادة لذاتها بهذا الترتيب والتعاقب لما نزلت بهذه الصورة. وهو إلزامٌ قوي من ابن عقيل V.
ويبقى احتمال أن ابن عقيل يريد أن الحروف مُرتبة في الذات دون الوجود، لكن ظاهر كلامه لا يفيد بذلك أبدًا.
` متأخرو الحنابلة:
على الرغم من تناقض متأخري الحنابلة في هذه الأبواب، إلا أنهم يقلدون ابن تيمية في هذه المسألة ونحوها، فهذا ابن النجار الفتوحي يقول: «وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله، وكذلك التوراة، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء([10])، وأنه تكلم بحروف القرآن، وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته، وقالوا: إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين، لازمة للذات، ليست متعاقبة، بل لم تزل قائمة بذات مقترنة لا تسبق، والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق، بخلاف الخالق، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين، وأبى ذلك كثير»([11]).
وينقل المواهبي مذهب الاقترانية دون عزو عن ابن تَيميَّة -مقرًّا له-: «ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وأن الباء لم تسبق السين، والسين لم تسبق الميم، وأن الحروف مقرونة ببعضها اقترانًا قديمًا أزليًّا، لم يزل ولا يزال، وهي متراتبة في حقيقتها وماهيتها غير متراتبة في وجودها، وقال كثير منهم: إنها مع ذلك شيء واحد. إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء: إنها معلومة الفساد بضرورة العقل»([12]).
` هل الإمام السجزي من الاقترانية؟
ذكرنا أن مسألة التعاقب ظهرت بعد القرون الثلاثة، وإنما ظهرت مع شبهات الأشعرية، وقد حاول أئمة الحديث إيجاد ردود تتوافق مع مذهب السلف، وممن خاض غمار تلك المحاولة الإمام الأثري الحافظ أبو نصر السجزي الوائلي، فكان مُجمل كلامه صحيحًا، إذ كان موفَّقًا ومؤيَّدًا في معظم أحواله، إلا أن الخطأ وارد في هذه المسائل.
نفي الإمام السجزي تعاقب الحروف في معرض رده على الأشعرية:
يقول السجزي: إن التعاقب يدخلها، وكل ما تأخر عن ما سبقه محدث، قيل: «فإن قالوا: دخول التعاقب إنما يتعين فيما يتكلم بأداة، والأداة تعجز عن أداء شيء إلا بعد الفراغ من غيره. وأما المتكلم بلا جارحة فلا يتعين في تكلمه التعاقب. وقد اتفقت العلماء على أن الله سبحانه يتولى الحساب بين خلقه يوم القيامة في حالة واحدة، وعند كل واحد منهم أن المخاطب في الحال هو وحده، وهذا خلاف التعاقب. ثم لو ثبت التعاقب لم يضرنا، لأن النبي ﷺ قال لما خرج من باب الصفا: «نبدأ بما بدأ الله به»، ثم قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ الآية [البقرة: 158]، فبين أن الله بدأ بذكر الصفا. والقرآن كله بإجماع المسلمين كلام الله سبحانه. وفي هذا القدر كفاية لمن وفق للصواب»([13]).
وواضح من كلام السجزي أنه احتمل الوجهين معًا -مع ترجيحه الرأي الأول- بقوله: «ثم لو ثبت التعاقب لم يضرنا»، فجعل الوجه الآخر وجهًا محتملًا، ثم دلل عليه واحتج له من الحديث النبوي، مما يدل أن كلامه عن نفي التعاقب كان على سبيل المحاججة وبيان أوجه الرد المتنوعة، لا على سبيل التقرير والجزم.
على أنه يجب التنبيه على الفور أن نفي التعاقب لا يستلزم نفي الفعل الاختياري بالضرورة، فالسجزي يثبت الكلام في أوقات دون أوقات (الفعل الاختياري)، إلا أنه لا يرى وجوب تعاقب الحروف في المرة الواحدة؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
فمما قاله في إثبات الفعل الاختياري ردًّا على القائلين بالكلام القديم: «﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40] فبيَّن الله سبحانه أنه يقول للشيء: (كن) إذا أراد كونه، فعُلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعدُ: كوني»([14]).
فقول السجزي: «لم يقل للقيامة بعدُ: كوني» فيه إثبات الفعل الاختياري الذي سوف يكون بعد أن لم يكن.
وبشكلٍ صريح يؤكد تجدّد نوع الكلام في أوقاتٍ مخصوصة، يقول السجزي: «﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]: فبيَّن عز وجل أنه قال لآدم بعد أن خلقه من تراب: (كن)، وأنه إذا أراد شيئًا يقول له: (كن) فيكون، ولم يقتضِ ذلك حدوثًا ولا خلقًا بعد حدوث نوع الكلام؛ لِما قام الدليل على انتفاء الخلق عن كلام الله تعالى»([15]).
فصرح بقوله: (حدوث نوع الكلام)، والنوع هنا لا يقصد به حدوث الصفة ذاتها كما تقول الكرامية، إنما يقصد تجدد الكلام في هذه المرة الواحدة في وقتٍ مخصوص، فهذه لا تستلزم الحدوث الذي هو بمعنى الخلق.
وقال أيضًا: «ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه، ومِن أهل الأثر مَن جوَّز إطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث»([16]).
ووضعه ابن تَيميَّة في زمرة القائلين بالأفعال الاختيارية، يقول شيخ الإسلام: «وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته -كقول ابن كلاب- أبو الحسن التميمي وأتباعه، والقاضي أبو يعلى وأتباعه، كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة وهذا تارة، وممن كان يخالفهم في ذلك أبو عبد الله بن حامد وأبو بكر عبد العزيز وأبو عبد الله بن بطة وأبو عبد الله بن منده وأبو النصر السجزي ويحيى بن عمار السجستاني وأبو إسماعيل الأنصاري وأمثالهم»([17]).
ومن ذلك يُعلم أن ابن تَيميَّة وضع السجزي في زمرة القائلين بالأفعال الاختيارية، مع أنه يعلم كلامه عن نفي التعاقب، ولم يفهم من ذلك لزوم نفي الأفعال الاختيارية بالضرورة، وذلك لأن طريقة العالِم تُعرف من مُجمل أحواله وتصرفاته، لا من جُملة واحدة في مسألة دقيقة (من مسائل الدِّق) قيلت على سبيل المحاججة.
` الفرق بين قول القاضي أبي يعلى وقول السجزي:
بعض مَن لا نظر له قد يخلط بين طريقة القاضي وبين طريقة السجزي في نفي التعاقب، ويظن أن كِلا القولين مبنيان على أصولٍ عقدية واحدة، ولذلك يحسن تحرير الفروق بين القولين في النقاط التالية:
1- السجزي يثبت الأفعال الاختيارية كما تقدم، بينما القاضي لا يثبتها.
2-كلام السجزي عن التعاقب كان على سبيل المحاججة وقد احتمل القول الآخر، بينما طريقة القاضي مبنية على تأصيل كلامي في نفي حلول الحوادث، فالفرق ظاهر وكبير.
3- القاضي يقول بالاقتران في الأزل، وأن الحروف والأصوات كلها واحد، والله كشف الحُجب عنها، ومعلوم أن السجزي V لم يلتزم تلك اللوازم.
بل غاية ما يُقال في حق السجزي أنه أراد الرد على شبهة التعاقب، وبيَّن أن الله ليس كمثله شيء، وأن ما يلزم الإنسان من التعاقب لا يلزم في حق الله، وهو رد من منطلقاتٍ سُنية صحيحة، لا من منطلقات كلامية.
وجه المقارنة |
القاضي أبو يعلى |
أبو النصر السجزي |
المنطلقات |
منطلقات كلامية. |
منطلقات أثرية ويرفض مقدمات المتكلمين حتى إنه رفض قولهم: إن القديم لا يتجزأ. |
الفعل الاختياري |
ينفي الفعل الاختياري لا سيما في صفة الكلام. |
يثبت الفعل الاختياري. |
صفة الكلام |
الحروف مقترنة في الأزل، ولا يتكلم في وقت دون وقت، ويُسمع كلامه من شاء. |
يتكلم في أوقات مخصوصة إذا شاء. |
غرضه من نفي التعاقب |
نفي الكلام بالمشيئة من منطلق كلامي. |
غرضه المحاججة، بدليل أنه جوَّز القول الآخر بالتعاقب. |
` الشيخ أبا بطين النجدي يوافق السجزي في نفي التعاقب:
من الجدير ذِكره في هذا المقام أن الشيخ أبا بطين النجدي -وهو شيخ الحنابلة في وقته-، نفى أيضًا تعاقب الحروف، مع قوله بالفعل الاختياري.
قال الشيخ أبا بطين: «وقلتم: الحروف يلزمها التعاقب، ويتقدم بعضها بعضًا، فيلزم أن تكون مخلوقة. قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج، والله سبحانه غير موصوف بذلك. وأيضًا فواجب على كل مكلَّف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارضه بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. فَمِنَ الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم»([18]).
والفائدة من النص السابق: أنه لا تلازم بين نفي تعاقب الحروف وبين نسبة القائل إلى نفاة الأفعال بالضرورة. فهذا الشيخ أبا بطين -وهو من مثبتي الأفعال الاختيارية- لم يلتزم تعاقب الحروف. فتأمل.
وأما بحسب رأي ابن تَيميَّة أن مسألة التعاقب مُخرجة على الفعل الاختياري سواءً بسواء، فالحرف بعد الحرف ليس بأعجب من الفعل بعد الفعل، فلا وجه لتفرقة السجزي بين الأمرين؛ فالمجيء يوم القيامة يكون بعد أفعال أخرى، وكلام الله لموسى هو فعل، وكلامه يوم القيامة هو فعل أيضًا، مع أن هذا أتى بعد ذاك.
ويُلخص ابن تَيميَّة الخائضين في هذا الباب من الأشاعرة ومُتكلمة الحنابلة قائلًا: «وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب؛ بل يجعل هذا هو هذا، فينفيهما جميعًا أو يثبتهما جميعًا، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلامَ الله، وأن يكون مناديًا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله عز وجل، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئًا واحدًا لا فرق بين القديم والحادث، هو مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئًا واحدًا لا حقيقة له عند التحقيق. وإذا أثبتَ جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله: إن الحروف متعاقبة في الوجود مقترنة في الذات قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو تتحد بصفته، فقال بنوع من الحلول والاتحاد، يفضي إلى نوع من التعطيل...
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين، ثم قالت طائفة: هو معنى واحد، هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله لم تزل لازمة لذاته، وإن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معًا أزلًا وأبدًا، لم تزل ولا تزال لم يسبق منها شيء شيئًا...»([19]).
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: «مشكل الحديث» لابن فورك (ص: 202)، و«الإنصاف» للباقلاني (ص: 149)، و«التبصير» للإسفراييني (ص: 167).
([5]) «مجموع الفتاوى» (7/ 258).
([6]) «درء تعارض العقل والنقل» (ص: 125-128).
([7]) «نونية ابن القيم»، بشرح الهراس (1/ 118).
([8]) قال ابن تيمية: «ابن عقيل الغالب عليه إذا خرج عن السُّنَّة أن يميل إلى التَّجهم والاعتزال في أول أمره، بخلاف آخر ما كان عليه، فقد خرج إلى السُّنَّة المحضة». «مجموع الفتاوى» (4/ 164).
([9]) «الرد على الأشاعرة العزال» (ص: 76)، بتحقيق جورج مقدسي، الدراسات الشرقية، دمشق 1971.
([10]) تعليق الكلام بالمشيئة لا ينتظم مع هذا القول الذي ذكره.
([11]) «شرح الكوكب المنير» لابن النجار (1/ 174).
([12]) «العين والأثر» للمواهبي (ص: 68-69)، ومعلوم أن هذا كلام شيخ الإسلام بحروفه.
([13]) «رسالة إلى أهل زبيد» (ص: 256).
([14]) نقله عنه ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 279-280) من كتابه «الإبانة».
([15]) ينظر: «درء التعارض» (1/ 280).
([16]) ينظر: المرجع السابق (1/ 281).
([17]) ينظر: المرجع السابق (2/ 18-19).