مكانة ابن تيمية عند السلفيين في منظار الخصوم
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
لعلَّه من الطبيعيِّ أن يغتاظ خصوم المنهج السلفي من وجود ابن تيمية في طليعة المنافَحين عنهم؛ ذلك أنه عالم متّفق على علو منزلته في العلوم الدينية، فحينما تقف هذه القامة العلمية إلى جانب السلفيين تتصدّر جبهتهم، وتدافع بشراسة عن أصولهم وقواعدهم، فهذا يحقق مكسبًا كبيرًا للسلفيين في معركتهم مع خصومهم.
وقد سلك المعادون للسلفية مختلف السبُل للتشويش والشغَب على علاقة السلفيين بابن تيمية:
- فتارة يعظّمون من شأن ابن تيمية من أجل ذمّ وتحقير أتباعه السلفيين، فيزعمون أن ابن تيمية إمام عظيم الشأن، لكن أتباعه في هذا الزمان يغلب عليهم الجهل والغلو والتشدّد.
- وتارة يزعمون أن السلفيين يعظمون ابن تيمية لضعف عقولهم وقلة علمهم، فيحصل الانبهار به، وهذا قول جهلة المبتدعة وغلاتهم، وإلا فعقلاؤهم يعرفون المكانة العلمية العالية لابن تيمية.
- وتارة يقولون: إن السلفيين لا يتّبعون السلف الأوائل، بل هم في الحقيقة يختزلون مذهب السلف في آراء ابن تيمية([1]).
- وتارة يزعمون أن السلفيين لا يعرفون سوى ابن تيمية، فهم يقدِّسونه وينظرون للدين بمنظار اجتهاداته وأقواله، فهم عالة عليه في كل المسائل، وهو مرجعهم في كل المباحث والقضايا التي يتناولونها.
وعند هذه النقطة الأخيرة سنقف مع دعوى تعلّق السلفيين المعاصرين بابن تيمية وكثرة رجوعهم إلى كتبه واستشهادهم بأقواله وتقديم آرائه في الجدالات والموضوعات التي يتناولونها، وستدور المناقشة حول أربعة محاور:
تبدأ ببيان تلبّس خصوم السلفيين بداء تقديس الأئمة والعلماء والتعلّق بهم، وإثبات أنهم غارقون فيما يتهمون به السلفية، بل هو أصل في تشكيل كيانهم الفكري.
ثم سنذكر بعض خصائص ابن تيمية التي فرضت حضوره عند الموافق والمخالف.
ثم نتناول الزعم القائل بأن السلفيين يحكمون بعصمة ابن تيمية لأنهم لا يذكرون له أخطاء ولا يخالفونه.
ثم ننهي الكلام بالإجابة عن السؤال: هل السلفية عالة على ابن تيمية؟
أولًا: تقديس الأئمة والشيوخ أصل عند مخالفي السلفية:
يسعى المخالفون إلى اتهام السلفيين بما يتلبّسون به من داء تقديس للأئمة وتقليدٍ مذموم لهم وتحويلِ أقوالهم إلى محور للولاء والبراء يكفِّرون أو يضلِّلون من خالفهم فيها، فهذا الداء متأصل في المخالفين، بل هو حجر الزاوية في تكوين مذاهبهم.
فمنذ أن ظهرت البدع الأولى في تاريخ الإسلام كالخوارج والشيعة والمعتزلة وهم ينتسبون إلى رؤوس القائلين بتلك البدعة.
فالعلامة الفارقة في الابتداع والمبتدعة هو الانتساب للأشخاص وبناء المذاهب على ما يقرّره رجل واحد في أصول الدين ومسائله، فإن ظهر في الطائفة من يقول بخلاف قول زعيمها استقلّ بجماعته وانشقّ عن الفرقة الأم.
فأشهر فرق الخوارج: الأزارقة نسبة لزعيمهم نافع بن الأزرق، والنجدات وكبيرهم نجدة بن عامر الحنفي، والصّفرية أتباع زياد بن الأصفر، والعجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد، ومثلهم الميمونية والثعالبة والإباضية وغيرهم، وهذا هو الشأن في أشهر فرق الشيعة والمرجئة والمعتزلة.
وبعد مفارقتهم لإجماع المسلمين يحصل الانشقاق الداخلي وتكثر التشظّيات داخل الفرقة الواحدة، وكلٌّ يحكم بضلال صاحبه أو كفره، هذا هو حال الفرق البدعية الأولى.
لم يتغير الأمر كثيرًا بعد ظهور الطوائف البدعية في القرون اللاحقة، والتي انتسبت لأشخاص وضعوا أصولها، وانتسب الناس إليهم كالكلابية والأشعرية والماتريدية وغيرهم.
فالحديث عن هذه الطوائف وغيرها هو حديث عن بضعة أفراد وضعوا رؤيتهم في أصول الدين بعد انقضاء نحو ثلاثة قرون على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واكتمال الدين، ووصلوا إلى خلاصات لم يعرفها المسلمون من قبل، ولم يقل بها أحد من علمائهم خلال تلك الحقبة الطويلة، بل أنكروها وصرّحوا بنقيضها، ثم أصبحت صياغة هؤلاء الأفراد لمباحث الاعتقاد هي الصيغة المعتمدة الوحيدة والتي يُحكم بضلال من خالفها وكفره.
فنحن لا نتكلم عن مجرد تبعيّة عمياء لآراء عالم من علماء المسلمين، بل هو تفرد بضعة رجال بوضع قواعد الاعتقاد واعتمادها من قبل أتباعهم كمعيار للاعتقاد السني المقبول، ورمي أي مخالف لها بالبدعة والشذوذ العقدي، وصولًا إلى اتهامه بالكفر.
هذا على مستوى الاعتقاد، أما في أبواب الفقه فألوان الغلو والتعصب للفقهاء كثيرة وصلت إلى حدّ وضع الحديث على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدح إمام مذهب أو ذم مخالفه، والقول ببطلان الصلاة خلف المخالِف في المذهب، وعدم صحة مناكحة نسائهم، وغير ذلك من ألوان الجنون وغياب العقل والتقوى.
وربما وصل الغلو في بعض الأئمة إلى اعتقاد عصمتهم من الخطأ، فيروَى عن صدر الدين الياسوفي -وهو من أعلام الشافعية- قوله: (كنت إذا سمعت شخصًا يقول: أخطأ النووي أعتقد أنه كفر)([2]).
ومن صور غلوّ المتفقهة في أئمتهم الجمود على كلامهم واختياراتهم ونزولهم إلى رتبة العوام الذين لا يسعهم إلا التقليد، بالرغم من أهلية طائفة منهم للنظر في الأدلة واستنباط الأحكام والترجيح بين الأقوال.
ولا يقتصر الغلوّ في المشايخ والأئمة عند مخالفي السلفية على مسائل الفقه والمعتقد، بل تعداه إلى مجال التعبّد والصلة بين العبد وربه، فأحدث الصوفية الغلو في الأولياء والشيوخ الصالحين، وظهرت ثنائية الشيخ والمريد الذي يُلزم نفسه بطاعة شيخه والتزام توجيهاته وابتغاء رضاه، وعندهم أن من لا شيخ له فشيخه الشيطان، وأن عليه التسليم الظاهري والباطني لتوجيهات الشيخ المربي حتى يكون معه كالميت بين يدي مُغسّله، فلا يعترض عليه ولا يجادله في أمر، ونحو ذلك من الغلو والتبعية العمياء، وإدخال البشر وسائط بين الناس وخالقهم سبحانه.
فأمر التعبّد عند غلاة التصوف لا يتم إلا بوجود الشيخ والطريقة والاعتقاد بمحورية الأولياء في الكون بشكل عامّ، وفي العلاقة بين العباد وخالقهم سبحانه على وجه الخصوص.
وهكذا فإن طريقة أهل البدع في تناولهم مسائل الدين العلمية والعملية قائمة على التمحور حول الأشخاص والجمود على أقوالهم والتقليد الأعمى لمذاهبهم والانتساب إليهم وتحويلهم إلى فيصل للتفرقة بين الحق والباطل والخطأ والصواب، فمن خالف اعتقاد الأشعري فقد هلك، ومن لم يتّخذ شيخًا يعلّمه آداب الطريق فشيخه الشيطان!
فالغلو في العلماء وتقديسهم هو الأصل الذي يقوم عليه وجود المبتدعة وكيانهم وبنيانهم، فمن لم يبصر ذلك وأنكر على السلفيين تعظيمهم لابن تيمية فهو كالذي يرى القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه، بل هو أشد من ذلك؛ لأنه يبهت مخالفيه بما هو متلبس به، ويرميهم بما هو متأصل فيه، وهم منه براء.
أما أتباع مذهب السلف فهم أبعد الناس عن تقديس الأئمة والعلماء والسقوط في هاوية التقليد الأعمى والاتباع المذموم للفقهاء والزهاد، فهم الأكثر تحررًا وانعتاقًا من اتباع آراء الرجال وتحويلها إلى معاقد للولاء والبراء حتى جاء في وصف السُني بأنه الذي (إذا ذُكرت عنده الأهواء لم يتعصب -أو يغضب- لشيء منها)([3]).
ومن مشهور كلام أحمد بن حنبل: (لا تقلِّدني، ولا تقلّد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا)([4]).
فأشدّ المسلمين نهيًا عن التقليد المذموم والتبعية العمياء هم أتباع مذهب السلف قديمًا وحديثًا، والحديث عن هذا الأمر ركن أصيل في خطابهم ومشروعهم الفكري، وهو النهي عن التقليد والتمرد على الموروثات والرواسب والتقاليد المخالفة للدين في كل مسائله النظرية والعملية، وهذا هو الذي أحدث الشقاق بينهم وبين خصومهم.
بل إنّ التهرب من التقليد المذموم أوقع بعض السلفيين المعاصرين في ترك التمذهب المنضبط والتفقه على طريقة العلماء قديمًا وحديثًا، والجنوح نحو أقوال شاذة في الفقه حتى أصبحت تهمة الظاهرية تطاردهم إلى جانب التُهم الأخرى.
ثانيًا: ابن تيمية قامة علمية إصلاحية تفرض حضورها:
لا ينبغي للعاقل المنصف أن ينكر على السلفيين إعجابهم بابن تيمية، بل الأولى به أن يُنكر على الذي ينكر عليهم ذلك؛ ذلك أن ابن تيمية عالم يفرض حضوره بما يملكه من خصائص ترفعه عن رتبة من سواه من علماء الإسلام.
فابن تيمية عالم موسوعيّ كتب وصنّف في فنون كثيرة، في العقائد والتفسير والفقه وأصوله والنقد لمقالات الطوائف الإسلامية المخالفة لمنهج السلف، والرد على النصارى، وله فتاوى ورسائل كثيرة في قضايا عصره ونوازله.
فهو صاحب أكبر موسوعة علمية في الرد على الشيعة الإمامية، وهو كتاب (منهاج السنة النبوية) إذ لا يُعرف في التراث الإسلامي كتاب يعدله أو يماثله في الحجم، فضلًا عن قوة الحجة وتنوع الأساليب في جدال المخالف والتعمق في الرد عليه من وجوه كثيرة.
كما أن كتابه في نقد دين النصارى (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) يعد تحفة نادرة المثال فيما يعرف في زماننا بعلم مقارنة الأديان.
وإلى جانب الموسوعية وكثرة التأليف فكتابات ابن تيمية من الطراز الرفيع من جهة قوة الحجة وجودة العبارة واستيعاب آراء السابقين في المسألة، والدقة في نسبة الأقوال لأهلها، والتنبيه إلى الفروق الدقيقة في مواطن الاشتباه، وإنصاف المخالف والتماس العذر له في مخالفته وجنوحه إلى الرأي المرجوح أو الضعيف، وغير ذلك من الخصائص التي تميز رسائله ومؤلفاته([5]).
والناظر في سيرة ابن تيمية يجد أنه لم يكن مجرد فقيه منقطع للتدريس والتأليف، بل كان متفاعلًا مع قضايا عصره ونوازله السياسية والدينية، ومنها الغزو المغولي لبلاد الشام، والتشيع الذي انتعش في ظلال ذلك الغزو، وانتعشت معه الدعاية المذهبية المضادة لمذهب الجمهور السني، هذا على صعيد التهديدات الخارجية، أما في الداخل فقد واجه ابن تيمية أزمات استفحلت في واقع المجتمع الإسلامي من جهة، وفي الأوساط العلمية الدينية من جهة ثانية، ومنها:
– منظومة الخرافة الصوفية التي أفسدت تدين العوام بمرض التعلق بالأولياء والأضرحة.
– العقائد الكلامية المخالفة لمنهج السلف.
– التعصب المذهبي.
واجه ابن تيمية ذلك كله بعقلية الفقيه المصلح، فقدّم أفكاره بكل جرأة مخالفًا الآراء السائدة والمتعارف عليها عند أهل زمانه، فأنكر كل طريقة مخالفة لهدي السلف ومنهجهم في فهم الدين والعمل به.
في الوقت نفسه كان ابن تيمية واعيًا بالأخطار المهددة لكيان الإسلام السني، وفي مقدمتها: الغزو المغولي والمشروع الشيعي السائر في ركابه، فبذل ما بوسعه لمواجهة هذين الخطرين والتقليل من شرورهما، وقد سلك في مسيرته مسلكًا إصلاحيًّا حرص فيه على الموازنة بين مواجهة خصوم الداخل وأعداء الخارج.
شخصية ابن تيمية الاستثنائية جعلته محطًّا لأنظار أهل زمانه، فكثر أنصاره من الأعيان والأمراء والوجهاء والعلماء والطلبة، ووردت إليه الأسئلة من مختلف البقاع، في المقابل فقد كثر خصومه وحسّاده، وواجه متاعب كثيرة بسبب دعوته الإصلاحية، ودخل السجن عدة مرات حتى توفي في دمشق مسجونًا سنة (728هــ/ 1328م).
لقد ملأ ابن تيمية الدنيا وشغل الناس في حياته وبعد وفاته، فأفكاره وطروحاته في مختلف القضايا الدينية حاضرة في كتابات المفكرين الإسلاميين والعلماء المعاصرين على اختلاف مدارسهم وتوجهاتهم، فهو من الشخصيات المتفق على علو قدرها والاحتجاج برأيها، ولم يعاده أحد من المعاصرين إلا أرباب التقليد والجمود والخرافة ممن كان أسلافهم يسعى في أذيته وحبسه ومحاربة منهجه وقمع أنصاره.
والقصد مما سبق أن الذي يُنكر على السلفيين المعاصرين احتفاءهم بتراث ابن تيمية لا يدفعه لذلك إلا الحسد أو الجهل بمكانته العلمية، وهو بذلك كالذي يُنكر على المؤرخين وعلماء الاجتماع احتفاءَهم بابن خلدون ومقدمته في فلسفة التاريخ ووضع عشرات الدراسات لتحليل مضامينها وكثرة الرجوع والإحالة إليها، أو كالذي ينكر على المهتمين بمقاصد الشريعة اعتمادهم الكبير على كلام أبي أسحاق الشاطبي، فابن خلدون والشاطبي رواد فيما كتبوه من الفنون التي برعوا فيها، ولن تجد عاقلًا يعي ما يقول يُنكر على الناس الاشتغال بمؤلفاتهم، وابن تيمية كذلك إمام عبقريّ رائد في الدفاع عن عقيدة السلف وأصحاب الحديث، وعن فهمهم للدين، فلا يصحّ بعد ذلك الإنكار على السلفيين اهتمامهم بمؤلفات ابن تيمية واحتفاءهم بأفكاره وتقريراته في مختلف المسائل الدينية.
وهذا هو الشأن في أهل كل طائفة أو مذهب؛ فإنهم يعتصمون بكبار علمائهم في تقرير مذهبهم والدفاع عن أصوله والانتصار له في وجه المخالفين.
ثالثًا: السلفيون وأخطاء ابن تيمية:
يدّعي الشانئون أن السلفيّين يحكُمون بعصمة ابن تيمية لأنهم لا يذكرون له أيّ خطأ أو مخالفة.
والجواب: أن هذا عامّ في سائر أتباع المذاهب والأئمة، لا تجد فيهم من يتتبع أخطاء إمامه الذي يعظّمه أو العالم الذي يُقلّده أو يحرص على ذلك، حتى وإن كانت لإمامه مخالفات وشذوذات انفرد بها عن جمهور الفقهاء والعلماء.
وكثير من أتباع المذاهب الفقهية والعقدية على طريقة التعصّب المذموم لا يقرّون بأخطاء أئمتهم، بل ويجتهدون في إثبات صواب مقالتهم حتى وإن كانت ظاهرة الفساد، ولا يمكن تأويلها وحملها على وجه سائغ، أما تتبع الأخطاء والإقرار بها فهذه حال لا يرقى إليها أكثرهم.
فلماذا يُطلب من السلفيّين دون غيرهم تتبّع أخطاء إمامهم وشيخهم ابن تيمية؟! ولماذا يُنكر عليهم أمر موجود لدى أكثر أتباع الأئمة والعلماء؟!
وإن كان السلفيون -كما يزعم الخصوم- مقلدين ومتابعين لابن تيمية في كل ما يذهب إليه، فليس من شأن المقلدين تتبّع أخطاء الإمام وبيانها، وإلا انتفت عنهم صفة التقليد وأحكام المقلّدين، بل لا يسعهم إلا الأخذ بآرائه وتقليده في مذهبه، فهذا هو اللائق بهم.
والمنصف يُدرك أنّ السلفيين المعاصرين يخالفون ابن تيمية ولا يقلِّدونه كما يفعل خصومهم مع أئمتهم:
– فالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله خالف ابن تيمية في أكثر من سبعين مسألة فقهية كما ذكر ذلك الدكتور خالد بن مفلح آل حامد في دراسته الموسَّعة عن اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية ومنهجه في الفتوى والفقه([6]).
– أما الشيخ ابن عثيمين رحمه الله -وهو من أشهر فقهاء السلفية في هذا الزمان- فمخالفاته لابن تيمية قد أفرِدت لها أكثر من دراسة جامعية([7]).
– والألباني رحمه الله كذلك انتقد ابن تيمية في عددٍ من المسائل في العقيدة وفي تصحيح الأحاديث وتضعيفها، فضلا عن القضايا الفقهية.
وهذا شأن مَن دونهم من الباحثين السلفيين الذين لا تخلو دراساتهم من ملاحظات وتعقبات على كلام ابن تيمية في بعض المسائل.
والسلفيون أكثر جرأة من غيرهم على مخالفة إمامهم ابن تيمية، فأكثر من يعظِّم علم الكلام والتصوّف لا يتجرّأ على نقد ما أحدثه الصوفية في دين الإسلام، وينكر على أئمتهم الشذوذات الفكرية والسلوكية التي وقعوا بها، فضلًا عن نقد أعلام هذا الاتجاه كالجويني والغزالي والرازي ومن دونهم من رموز التصوف كأبي القاسم القشيري وغيره.
وكذلك أنصار الفلسفة الإسلامية، فأكثرهم يجبن عن نقد مقالات الفارابي وابن سينا وابن رشد والخواجة الطوسي وغيرهم، أو ينكر عليهم بعض المذاهب والأقوال الشنيعة المرذولة شرعًا وعقلًا كاعتقاد الإسماعيلية والقول بالفيض والعقول العشرة، وهرطقات التشيع الإمامي ونحوها.
رابعًا: هل السلفيون عالة على ابن تيمية؟
ونعني بذلك ما يشيعه الخصوم بأنه لولا ابن تيمية لما كان للسلفيين شأن، ولعجزوا عن جدال خصومهم بالحجة والبرهان.
والجواب:
– أن السلفية مستغنية بأصولها المتينة القائمة على الوحيين عن أي عالم أو فقيه أو متكلّم يجادل عن تلك الأصول، ذلك أنها صورة الإسلام الأول النقيّ الجليّ الموافق للعقل والفطرة، الناطق بالوحي كما فقهه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
وجهود علماء السلفية قديمًا وحديثًا ليست سوى تدعيم لأصولها القويمة، أو كشف لشبهات الخصوم ونقض لها، أو جدال للخصم بمنطقه وطريقته، وعدم وجود هذه الجهود لا يقدح بالمنهج السلفي الذي يعتصم بالوحي ويدور معه وينطلق منه في تقرير أيّ مبدأ أو بحث أي قضية.
فالسلفية ليست ثمرة تأويلات واجتهادات بشرية في قضايا المعتقد كما هو شأن طوائف المبتدعة، بل هي الإقرار بالوحي الصحيح كما جاء، والتمسّك به كما فهمه جيل الرسالة دون تحريف أو تأويل، فهي مستغنية عن الانتساب للرجال أو الافتقار إلى جهودهم في وضع أصولها والمحاججة عنها، فلن تسقط السلفية أو يتضعضع وجودها لو لم يظهر ابن تيمية أو غيره من علماء المنهج المتقدمين والمتأخرين.
– إنّ هذا الزعم يوحي بأن السلفيين قبل ابن تيمية لم يعرفوا الجدال عن مقالاتهم بالعقل والنقل، فجاءهم ابن تيمية بمثابة المنقذ، وهذا القول في غاية البطلان لكل من عرف الخلاف العقائدي في تاريخ الإسلام وحجم الجهود التي بذلها علماء السلف قبل ابن تيمية لتقرير حقائق الكتاب والسنة وإبطال شبهات المبتدعة حولها.
– أنّ المناهج البدعية هي التي تفتقر إلى أشخاص تنتسب إليهم، فهم الذين وضعوا أصولها وصاغوا قوالبها على نحو لم يعهده سلف الأمة، فهم عاجزون عن نسبة معتقدهم إلى السلف، فضلًا عن التصريح بأن مذهبهم هو عين ما ينطق به الوحي الشريف، لا سيما بعد أن تحايلوا في الالتفاف على حقائقه الصريحة، فاضطروا للانتساب لشخصيات وضعت تصوراتها في أبواب المعتقد، فهم في الحقيقة عالة عليهم، لا يمكنهم أن يرجعوا بنسب معتقدهم إلى ما قبل المائة الثالثة الهجرية.
– أن الذي يُبقي على قوة المنهج السلفي هو التمسك به مع المعرفة بتلبيس الخصوم، وحسن الدعوة إليه على بصيرة، وليس بكثرة الجدل عنه، ذلك أن المخالف لن يجدي معه كثرة الجدال، فقد تقرَّر في ذهنه أن أنصار مذهب السلف حشوية مجسّمة مهما تغيرت طريقتهم في الدفاع عن مذهبهم أو الدعوة إليه، فلا فرق عند المبتدعة بين ابن تيمية وعوام الحنابلة، فما دام ينافح عن طريقة السلف فهو لا يعدو كونه حشويًّا مجسِّمًا، يستخدم الجدل العقلي ليقرر ذات النتائج التي يقول بها إخوانه أهل الأثر.
ولم تنتشر السلفية في المجتمعات الإسلامية نتيجة كثرة النموذج التيميّ من العلماء وطلبة العلم، أو لدخولها جدالات عقدية مطولة مع أرباب الكلام، بل لكونها أقرب أشكال التدين إلى الفطرة والعقل، وأكثرها تمسّكًا بالسُنة، وقد تعزز ذلك بانزواء العقائد الكلامية والطرق الصوفية عن الحياة الدينية بعد ارتقاء المستوى التعليمي والفكري لأبناء المسلمين، فكانت السلفية هي الثقافة الدينية الفطرية لكل من لم يتلبس بشيء من لوثات التصوف والكلام.
– إن أعظم مواطن النزاع بين السلفية وخصومها قضية توحيد العبادة والشرك الواقع في هذه الأمة، وقضية الصفات الإلهية، أما النزاع مع القبورية والصوفية في خرافاتهم فليس بحاجة إلى علماء أفذاذ لدحض شبهاتهم وتلبيساتهم، فالعقل قبل النقل يقطع ببطلان أوهامهم، وكل ما يتعلقون به محض أساطير عن قدرة الأموات على التصرف في عالم الأحياء، وعن مكانة الأولياء ومنزلتهم المحورية في الكون أو في حياة المسلمين، ونحو ذلك من الكلام الذي يصلح أن يكون مادة للسخرية وليس رأيًا معتبرًا قابلًا للجدل والنقاش.
وأما الصفات الإلهية فأمر يعجز العقل عن إدراك كنهه وحقيقته، فاكتفى السلفيون بكلام الله عن ذاته وصفاته؛ موقنين بأنه السبيل الوحيد للمعرفة في هذا الشأن، وأما مخالفوهم فوجدوا أنفسهم أمام مأزق النصوص الصريحة الكثيرة في الصفات، فتحايلوا بشتى الطرق للتهرب منها، وظنوا أن خوض العقل البشري في أعظم القضايا الغيبية يمكن أن ينتج معرفة مقاربة للحقيقة، فوقعوا في أمرين:
- تجاهل النصوص والعبث بها تعطيلًا وتأويلًا وهروبا من الاعتراف بما تتضمنه من الحقائق والمعاني.
- كثرة البحث في شأن غيبي، أقصى ما ينتجه: ظنون وأوهام لا ترقى للحقيقة ولا تقاربها، بل تصادم النصوص التي تم تعطيلها والإعراض عنها.
وهذا المنهج الترقيعي لا يسمى علمًا، ولا يدل على كمال العقل، بل هو هواجس وعُقد تتحكم بأصحابها، ولذلك أعرض السلف الأوائل عن جدال الخائضين في الصفات بغير ما نطق به القرآن؛ مدركين تهافت مخرجاتهم وفسادها، فضلا عن قبحها وكونها متعلقة بالذات الإلهية وصفاتها العلية.
والمقصد مما سبق أن ما يتنازع فيه السلفيون مع خصومهم قضايا محسومة بالعقل والنقل لصالحهم، لا تفتقر إلى علماء جهابذة ينتصرون لها ويجادلون عنها بحيث يضعف موقف السلفيين من دونهم، فجهود العلماء تدعم موقفهم وحجّتهم، فتزيد الحق وضوحًا وترفع حجب الشبهات عنه، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) لمركز سلف مقال بعنوان: (السلفيون يتبعون منهج السلف أم شيخ الإسلام؟) برقم (334) منشور بتاريخ (8/ 10/ 1441هـــ – 31/ 5/ 2020م) على الرابط:
([2]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (2/ 311).
([3]) يروى عن أبي بكر بن عياش، أخرجه الآجري في الشريعة (1987)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (ص: 53).
([4]) ينظر: إعلام الموقعين (3/ 469).
([5]) وللتوسع في الحديث عن مميزات الشخصية العلمية لابن تيمية وسبب حضورها الواسع في الخطاب السلفي المعاصر ينظر: ينبوع الغواية الفكرية (ص: 512-519).
([6]) طبع كتابه (اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية وآراؤه في قضايا معاصرة) عن دار الفضيلة في الرياض سنة 1431هــ.
([7]) منها دراسة سطام بن مفرح العتيبي بعنوان: (المسائل الفقهية التي خالف فيها الشيخ ابن عثيمين شيخ الإسلام ابن تيمية فى العبادات: دراسة فقهية مقارنة)، وهي رسالة ماجستير في جامعة الطائف سنة 1434هـ. ودراسة جابر بن خليفة العازمي بعنوان: (المسائل الفقهية التي خالف فيها ابن عثيمين شيخ الإسلام ابن تيمية دراسة تحليلية فقهية مقارنة)، وهي رسالة ماجستير من المعهد العالي للقضاء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سنة 1433هــ.