الرد على الكوثري في دعواه: تراجع العلماء عن الثناء على ابن تيمية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
إنَّ الناظرَ في موقف خصوم شيخ الإسلام يجده موقفًا مضطربًا غايةَ الاضطراب، وذلك أنك تجدهم تارةً يدّعون توبتَه وتراجعه عن عقيدته، وهذا يقتضي -بحسب تصوّر الخصوم- أن العلماء في زمانه سيثنون عليه بسبب تراجُعه، وستتغير المواقف نحوَه من مواقف سلبية إلى مواقف إيجابية. ثم تجدهم تارةً أخرى يدّعون تراجعَ العلماء في موقفهم منه، وهذا لا يجتمع مع دعوى تراجُعه هو، فإن كان قد تراجع وتاب، فمقتضى ذلك أن يتراجع العلماءُ عن ذمّه وثلبه والحطّ منه، لا أنّهم يتراجعون عن مدحه والثناء عليه.
فهما دَعْوَيان متناقضتان لا تجتمعان، ومع ذلك تجد خصوم الشيخ يردِّدونهما.
ثم إنهما دعوَيان فاسدتان في نفسهما، وقد ناقشتُ سابقًا دعوى تراجع شيخ الإسلام عن عقيدته، وهذا أوان مناقشة الدعوى الأخرى، وهي دعوى تراجع العلماء عن الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية.
يقول الكوثري: (والواقع أنَّ عدّة من العلماء كانوا أسرعوا في إطراء ابن تيمية، وتحزّبوا له في بادئ الأمر، ثم صعب عليهم التراجع عن قولهم فيه، إلى أن توغّل في مفرداته المعروفة، فتخلَّوا عنه واحدًا بعد واحد، حتى الجلال القزويني والقونوي والحريري وغيرهم، وَعِيْلَ اصطبارُهم معه)([1]).
ويقول بعد كلامٍ: (وكان في جملة المثنين عليه: التاج الفزاري المعروف بالفركاح، وابنه البرهان، والجلال القزويني، والكمال الزملكاني، ومحمد بن الحريري الأنصاري، والعلاء القونوي، وغيرهم. لكن ثناء هؤلاء غرَّ ابنَ تيميَّة، ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بِدَعًا بين حينٍ وآخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنُّهم، وعلموا أنه فاتنٌ بالمعنى الصحيح، فتخَلَّوا عنه واحدًا إثر واحدٍ، على توالي فتنه)([2]).
وهذه الدعوى ليست بعيدة عما ذهَبت إليه المستشرقة كاترين بوري في بحثها «ابن تيمية وجماعته: المرجعية والصراع والإجماع في محيط ابن تيمية» من أنّ (الدعم الذي حظي به ابن تيمية كان يتناقص مع مرور الوقت)([3]).
وتوضيحُ موقفِ كُلِّ عالمٍ من العلماء الذين ذكرَهم الكوثري يحتاج إلى فحصٍ ونظر، وسيكون الكلام في ما يخصّ كل واحدٍ من العلماء الذين ذكرهم على حدة([4]):
أولًا: شمس الدين محمد بن عثمان الأنصاري الحنفي المعروف بابن الحريري (ت: 728هـ):
ترجمه الذهبي وأكثَر من الثناء عليه، وكان مما قاله: (وكان صارمًا، قوّالًا بالحق، حميد الأحكام، قليل المثل، متين الديانة، ويُنتقد عليه أمورٌ من تعظيم النفس، والله تعالى يغفر له، فأين مثله؟!)([5]).
ولابن الحريري ثناءٌ عاطرٌ على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ يقول ابن فضل الله في ترجمة ابن تيمية: (وكان قاضي القضاة أبو عبد الله ابن الحريري يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟!)([6])، ونقل مثل ذلك عنه ابن كثير في ترجمته([7]).
قال ابن كثير: (وقال لبعض أصحابه: أتحبُّ الشيخ تقي الدين؟ قال: نعم. قال: والله لقد أحببتَ شيئًا مليحًا)([8]).
وكان ابن الحريري من الذين حضروا مجلس المناظرة في العقيدة الواسطية لما كان قاضي قضاة الحنفية بدمشق([9]).
وقد تسبّب ثناء الحريري على ابن تيمية ودفاعه عنه -لما أصدر فيه ابن مخلوف الحكم القضائي الجائر بالحبس بعد مجلس قضائي ظالم عُقد في مصر سنة 705هـ- تسبب ذلك بعزل الحريري من منصِبِه، حيث كان قاضي قضاةِ الحنفية بدمشق، يقول شهاب الدين النويري: (وكان ممن تعصَّب لتقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة بالشام قاضي القضاة شمس الدين محمد ابن الحريري الحنفي، وأثبتَ محضرًا له مما هو عليه من الخير، وكتب في أعلاه بخطِّه ثلاثةَ عشَرَ سطرًا يقول في جُمْلَتِها: إنَّهُ منذ ثلاث مئة سنة ما رأى الناس مثلَه. وأَرَاني قاضي القضاة زين الدين المالكي هذا المحضر، وغضبَ منه وسعى في عزل قاضي القضاة الحنفية بدمشق شمس الدين ابن الحريري، فعُزِل)([10]).
وقد ردّ الشيخ زهير الشاويش رحمه الله على دعوى الكوثري -دون أن يسمِّيه- تراجع الحريري عن الثناء على شيخ الإسلام، فقال في هوامشه على (الرد الوافر): (وكان ممن انتصر لشيخ الإسلام ابن تيمية يوم أن قامت في وجهه حملات الخصوم، وانتصر له انتصارًا كبيرًا، وكتب في حقّه محضرًا مطوَّلًا بعثه إلى مصر، بيّن فيه للسلطان أن ما يرمى به ابن تيمية باطل وبهتان، ومن فعل الأعداء الذين لا يوثق بقولهم، وختمه بخطه بحاشية طويلة فيها الثناء على ابن تيمية، ومما قاله: إنه منذ ثلاثمئة سنة ما رأى الناس مثل ابن تيمية. ولكن الأمر لم يكن بيد السلطان، بل كان بيد بعض الأمراء الظلمة وأنصارهم من علماء السوء. وبقي ابن الحريري على ولائه ومحبّته لشيخ الإسلام حتى مات، وعاشا في بلدٍ واحدٍ في عمر متقارب، وهو أكبر من ابن تيمية ببضع سنين، ومنزلته في العلم والفهم والوجاهة محل اتفاق، فلا يتّهم بأنه ممن كان يداري ابن تيمية كما زعم أحدهم)([11]).
ويعارِض القول ببقاء ابن الحريري على ولائه لابن تيمية موقفُه منه في مسألتي الطلاق والزيارة:
أما مسألة من علَّق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث هل يقع طلاقه أم لا؟ فقد كان الحريري قاضي قضاة الحنفية بمصر لما صدر الحكم بمنع ابن تيمية من الإفتاء بسبب قوله في هذه المسألة، يقول الذهبي: (ودخل في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زمانه ولا علومهم([12])، كمسألة التكفير في الحلف في الطلاق، ومسألة أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة، وأن الطلاق في الحيض لا يقع، وصنف في ذلك تواليف لعل تبلغ أربعين كراسًا، فمنع لذلك من الفتيا)([13]).
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: (ولما كان في سنة ثمان عشرة جاء الخبر بأنه ينكر وقوع الطلاق إذا حلف به وحنث، فجمع السلطان قضاة القضاة بالديار المصرية، وهم: بدر الدين ابن جماعة، وشمس الدين ابن الحريري، وزين الدين المالكي، وتقي الدين المقدسي الحنبلي، فاتفقوا على منعه من الفتوى)([14]).
بل نقل تقي الدين السبكي عن الحريري ما هو أعظم من المنع من الفتوى، حيث قال: (وكان قاضي القضاة شمس الدين ابن الحريري كثيرًا ما يقول: لولا الفضيحة حكمتُ بكفره؛ لمخالفته الإجماع في مسألة الطلاق. ومات ابن الحريري قبله)([15]).
وشيخ الإسلام لم يخالف الإجماع في تلك المسألة، فكيف يجعل ذلك علةً للحكم عليه بالكفر؟!
وقد قال السبكي في كتابه (التحقيق في مسألة التعليق): (إنه لم يعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف)([16]).
فردّ عليه شيخ الإسلام بقوله: (ابن تيمية يَعلم علمًا جزمًا بأنه لم يخترع هذا القول، بل قد سبقه إليه غير واحد من السلف والخلف، بل هم -والله- من أَجَلِّ السلف وأجلِّ الخلف، وهم في أعصارهم وأمصارهم أفضل من غيرهم، ويَعلم مع ذلك أنه شرع الله تعالى الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. وابن تيمية يجزِم بذلك، ويُباهل عليه من يُباهله، بل يُباهل على هذا وعلى أَنَّ هذا القول هو القول الذي بعث الله عزَّ وجلَّ به رسوله؛ فَلْيَقُمْ هذا وأمثاله فليباهلوا على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)([17]).
وأما مسألة منع شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقول المقريزي في حوادث سنة (726هـ) في بيان دور ابن الحريري في عقوبة ابن تيمية وابن القيم: (فعرف شمس الدين الحريري قاضي القضاة الحنفية بديار مصر ذلك فشنَّعَ على ابن تيمية تشنيعًا فاحشًا حتى كتب بحبسه، وضرب ابن القيم)([18]).
وتاريخ المقريزي من المصادر المتأخّرة، لكن من الثابت أن الحريري كان أحد القضاة الأربعة الذين حكموا على ابن تيمية بالمنع من الإفتاء، وبالحبس بسبب فتياه في مسألة الزيارة، وقد حُفِظَ نصُّ حكمهم، وحُفِظَ أيضًا جواب ابن تيمية عنه([19]).
وبهذا يظهر أن القول ببقاء الحريري حتى الممات على ولائه لابن تيمية -الولاءَ الذي أعربت عنه كلماتُه في إطرائه ومدحه- قول فيه نظر؛ لقوة ما يُعارِض ذلك، وهو حُكمُه عليه في مسألتي الطلاق والزيارة بالمنع من الفتوى والحبس.
ثانيًا: برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري الشافعي، الشهير بابن الفركاح (ت: 729هـ)، ووالده تاج الدين (ت: 690هـ):
الشيخ برهان الدين الفزاري من مخالفي ابن تيمية المنصفين، ولعل ابتعاده عن القضاء ورفضه لتولّيه مع إلحاح الدولة عليه ساهم في إبعاده عن الصدام مع ابن تيمية وأصحابه في المسائل التي أثيرت عليه([20])، بالإضافة إلى حِرْصِه على صِلَة ودّ أبيه العلامة تاج الدين الفزاري، فقد كان أبوه محبًّا لابن تيمية.
يقول الإمام الذهبي في ترجمة الشيخ برهان الدين: (وكان يخالف الشيخ تقي الدين في مسائل، ومع هذا فما تهاجرا ولا تقاطعا، بل كان كلُّ واحدٍ منهُما يحترم الآخر، ولما توفي تقي الدين استرجع برهان الدين، وشيعه، وأثنى على علمه، وقال: عندي بخط والدي درسُه الذي ألقاه بالسكرية)([21]).
والدرس المقصود هو الذي ذكره البرزالي في حوادث سنة (683هـ) بقوله: )في يوم الاثنين ثامن محرم ذكر الدرس الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية مكان والده بدار الحديث السكرية بالقصاعين، وحضره قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين الدين ابن المرحل، وزين الدين ابن المنجا، وجماعة(([22]).
وقد وصف التاج الفزاري الدرس بأنه (كان درسًا حسنًا)، وقال: (وكان يومًا مشهودًا)([23]).
يقول الذهبي في ترجمة الشيخ تاج الدين الفزاري: (وكان يبالغ في تعظيم الشيخ تقي الدين ابن تيمية بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكرية)([24]).
وقد مات الشيخ تاج الدين الفزاري في وقتٍ مبكّر، ولم يعاصر شيئًا من محن ابن تيمية، وبقي على ثنائه على ابن تيمية وتعظيمه له، فدعوى تراجُعِه دعوى كاذبة، ويكفي في إبطالها أن ابنه بقي يذكر حضور والده درس السكرية بعد وفاته بعقود، ولو كان قد تراجع عن موقفه لما صحّ له ذلك. بل قد بقي الشيخ برهان الدين أيضًا وفيًّا لأبيه بارًّا به، فسار على مَهيَعِه في محبة ابن تيمية وتعظيمه.
يقول تلميذهما الإمام ابن كثير في خبر وفاة ابن تيمية: (وتردَّدَ شيخُنَا الإمام العلامَّة برهان الدين الفزاري إلى المقبرة في الأيام الثلاثة، وكل يوم بكرةَ النهار، ويعودُ وهو راكبٌ على حماره، وعليه الجلالة والوقار، رحمه الله تعالى)([25]).
ونقل ابن المحب الصامت من خط ابن غانم شهادة فريدة للشيخ برهان الدين في حقّ ابن تيمية، يقول ابن غانم: (اجتمعت بالشيخ برهان الدين رحمه الله تعالى يوم وفاة الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى على مصطبة باب المدرسة البادرائية، وعزَّيتُه فيه فوجدتُه متأسِّفًا عليه، كثيرَ الألم لموتِه، وإذا بشخصٍ من الطلبة قد حضر، فقال له: يا سيدي، لا تحضر الدرس اليوم حتى نحضر في خدمتك. فغضب غضبًا شديدًا، وانزعج انزعاجًا كثيرًا، وقام لوقته، ودخل بيته، وانصرف ذلك الرجل، وأنا جالسٌ موضعي على المصطبة متألمًا لانزعاجه، وإذا به قد علم برواح ذلك الرجل، وجلوسي مكاني بعده، فطلبني فدخلت، فوجدته على حاله في الانزعاج، وقال لي: ما تُبصِرُ هذا الحال؟! يموتُ أقلُّ من يكونُ من الفقهاء فتبطل الدروس لأجله، ويموتُ مثل هذا الرجل العظيم ولا تبطل الدروس لأجلِه؟! والله عنده من الفضائل ما لا عند أحمد بن حنبل. هذا -يعني ابن تيمية- كان صاحبي من الصغر، ويجتمع بوالدي، وكان والدي يحبُّ والده وأهلَه، ويتردَّدُ إلى والده. وعندما درَّسَ ولدُه بعد وفاة والده حضر والدي عندَهُ الدرس، وكتب درسَه، وأثنَى على درسِه وعلى فضائله من ذلك الزمان)([26]).
وهذه المواقف التالية لوفاة ابن تيمية تبطِل دعوى الكوثري تراجعَ البرهان الفزاري عن الثناء عليه.
فإن قيل: إن المؤرخ ابن الجزري ذكر في أحداث محنة الزيارة في شعبان من سنة 726هـ ما نصُّه: (قامت الفقهاء الشافعية والمالكية وكتبوا فتيا في الشيخ تقي الدين ابن تيمية لكون أنه هو أول من تكلم بهذه المسألة وغيرها، فكتب عليها الشيخ الإمام برهان الدين نحو أربعين سطرًا بأشياء كثيرة أنه يقولها ويفتي بها، وآخر الكلام أفتى بتكفيره)([27])، وهذا يؤكد دعوى تراجعه عن الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالجواب: أنه مما لا نزاع فيه أن ابن تيمية قد مات دون أن يتراجع عن قوله في مسألة الزيارة، بل كان رجوعه عنها غير متصوّر كما سيأتي، فلا يجوز حينئذٍ للشيخ برهان الدين أن يصلّي عليه، ويتردد إلى قبره، ويدعو له، ويعظم من شأنه بعد وفاته، وهو يراه قد مات على الكفر، ولما وجدنا الذهبي وابن كثير وابن المحب الصامت ينقلون من حاله ما لا يجتمع مع التكفير لشيخ الإسلام؛ دلّ ذلك على بطلان نسبة القول بالتكفير إليه، وشذوذ ما نقله ابن الجزري؛ لمخالفته لنقل هؤلاء العلماء.
وما نقله الذهبي وابن كثير وابن المحب الصامت كان بعد وفاة شيخ الإسلام، فهو متأخِّرٌ عما نقله ابن الجزري زمانًا، فلو سلمنا جدلًا أن البرهان الفزاري وقع منه تكفير لابن تيمية، فيكون قد تراجع عنه إلى مدحه وإطرائه بحيث جعله يفوق الإمام أحمد في بعض الفضائل، فيكون تراجعه تراجعًا من الذمّ إلى المدح، لا العكس كما زعم الكوثري، والله تعالى أعلم.
ثالثًا: علاء الدين علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي (ت: 729هـ):
ولد بقونية([28]) سنة 668هـ، ثم قدم إلى دمشق سنة 693هـ، واشتغل بالتدريس، وما زال على ذلك حتى انتقل إلى القاهرة سنة 700هـ، وطالت مدة إقامته فيها، وولي فيها عددًا من المناصب، ثم عاد إلى دمشق سنة 727هـ قاضيًا للقضاة عوضًا عن القاضي جلال الدين القزويني([29])، وبقي على ذلك مدةً ليست بالطويلة إلى أن توفي سنة 729ه([30]).
ترجمه الذهبي وأكثر من الثناء عليه، وكان مما قاله: (كان منصفًا في بحوثه، معظِّمًا للآثار)([31])، وقال: (وحدّثني أمين الدين الواني أنه قال له يومًا: أنا أحب أهل العلم، وأحب من بينهم أهل الحديث أكثر)([32]).
ويمكن اعتبار القونوي من مخالفي ابن تيمية المنصفين، حيث يُجمِلُ الصفدِيُّ موقفه من ابن تيمية بقوله: (وكان مع مخالفته للشيخ تقي الدين ابن تيمية وتخطِئَتِه له في أشياء كثيرة يُثنِي عليه، ويُعظِّمُه، ويذُبُّ عنه)([33]).
ولم أجد للقونوي ذكرًا في حياة ابن تيمية (قبل حبسته الأخيرة) سوى حضوره مجلسًا من مجالس الكيد لابن تيمية والتأليب ضدّه في القاهرة قبل جلب ابن تيمية إليها سنة 705هـ، وهو ما يخبرنا به التقي السبكي في ترجمته لابن تيمية حيث يقول في أحداث محنة ابن تيمية بمصر: (وكان مدبِّر الدولة الناصرية في ذلك الوقت بيبرس وسلَّار، فاجتمع العلماء بهما في ذلك، وكان من جملة العلماء المالكية أبو عبد الله القروي المشار إليه في العلم والدين ومذهب مالك رحمه الله، وكان بيبرس يعتقد فيه، فأخبرني الشيخ علاء الدين القونوي الذي صار قاضي القضاة بدمشق -وكان حاضرًا معهم في ذلك المجلس- أنه سمع أبا عبد الله القروي المذكور يقول لبيبرس: ما أنت ركنُ الدين، أنت هدمُ الدين. كيف يخلى هذا والله تعالى يقول: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلكُفَّارِ وَليَجِدُواْ فِيكُم غِلظَة} [سورة التوبة: 123]؟!)([34]).
وهذا الموقف ليس واضحًا في كون القونوي من خصوم ابن تيمية؛ إذ إن حضوره ذلك المجلس لا يلزم منه أن يكون موافقًا على ما قيل فيه.
وثمة موقف آخر ذكره النويري في خبر السجنة الثانية لابن تيمية في مصر، وهو أن ابن مخلوف لما علم بأن ابن تيمية سيعود للشام أرسل إلى نائبه القاضي نور الدين الزواوي، فحضر بابن تيمية إلى مجلس قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وحُرِّرَت الدعوى عليه في أمر اعتقاده، وما وقع منه، فشهد عليه الشيخ شرف الدين ابن الصابوني، وقيل: إن الشيخ علاء الدين القونوي يشهد عليه([35]).
وكما ترى فإن النويري ذكر شهادة القونوي على ابن تيمية بصيغة التمريض.
أما الحضور الظاهر للقونوي في سيرة ابن تيمية فقد كان في آخر فترة قضاها القونوي في دمشق قاضيًا لقضاتها، حيث كان ابن تيمية إذ ذاك محبوسًا في السجن بسبب قوله في مسألة الزيارة.
وعندما أرسله السلطان الناصر من القاهرة إلى دمشق ليَلِيَ قضاء القضاة جرى بينهما الحوار الآتي:
قال له السلطان: إذا وصلتَ إلى دمشق قُل لنائب الشام يُفرجْ عن ابن تيمية.
فقال القونوي: يا خوند، على ماذا حبستموه؟
قال السلطان: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة.
فقال القونوي: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد تاب ورجع أفرجنا عنه.
قال الصلاح الصفدي معلقًا: (كان ذلك سبب تأخيره في السجن إلى أن مات)([36]).
وعلق الحافظ ابن حجر بعد أن نقل هذه القصة -معتمدًا على الصفدي- بقوله: (فيُقال: كان هذا الجواب سببًا في استمرار الشيخ ابن تيمية في السجن إلى أن مات؛ لأنه كان لا يُتصوَّرُ رجوعه)([37]).
والقونوي في هذا الموقف لم يخرج عن حكم القضاة الأربعة([38]) الذين حكموا بحبسِ ابن تيمية، ومنعِهِ من الإفتاء بسبب قوله في الزيارة، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.
إلا أن للقونوي مواقف بعد توليه قضاء دمشق في 26/ 10/ 727هـ([39]) تُظهِرُ إنصافه لابن تيمية، وتُبطِلُ دعوى الكوثري بأن القونوي تخلى عن ابن تيمية، أو عيل اصطباره معه.
فمن تلك المواقف:
1- إمامته للناس في الصلاة على شيخ الإسلام ابن تيمية: ذكر ذلك المؤرخان ابن الجزري والصلاح الصفدي([40]).
وهذا الموقف يتنافى مع القول بتكفير الشيخ بتهمة تنقيص النبي صلى الله عليه وسلم لقوله بمنع شد الرحال لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وهي التهمة التي رماه بها خصومه وأعداؤه.
2- إحسانه لابن القيم بعد خروجه من السجن: كان حبسُ ابن القيم في نفس المسألة التي حُبِسَ بسبَبِها شيخُه، وهي مسألة الزيارة، وأُفرِج عنه بعد وفاة شيخه في 20/ 12/ 728هـ([41]).
وذكر الإمام الذهبي في ترجمة القونوي موقفًا حسنًا منه مع ابن القيم بعد خروجه فقال: (ولما أخرج إمام الجوزية من القلعة أتاه فبشَّ به، وأكرمه، ووصله، وكان تعجبه بحوثه)([42]).
وفي «تاريخ ابن الجزري» أنه بعد الإفراج عن ابن القيم أحضروه إلى القونوي، فاستتابه، وقبل توبته، وأعطاه مئتي درهم، وشرط عليه شروطًا، والتزم بقبولها، وتاب على يده، وقال: (أشتهي أحضر بين يدي مولانا، وأستفيد من علومه)، فأذن له بالتردد إليه([43]).
والعلاء القونوي أهل للاستفادة منه، وابن القيم عالم متواضع يصدر منه مثل هذا الكلام، غير أن قضية الاستتابة توهم أن القونوي كان يرى كفره، وهذا يتنافى مع حقيقة قول القونوي([44]). وذكر النويري أيضًا أن القونوي اشترط على ابن القيم شروطًا، فالتزمها([45]).
3- توبيخه لمن يحطُّ على ابن تيمية: يقول الإمام الذهبي في ترجمة العلاء القونوي: (وبلغني أنه حضر عنده ابن جملة، وحطّ على كلام الشيخ تقي الدين، فقال القونوي الفاضل -بالتُّركي-: هذا ما يفهم كلام ابن تيمية، لو فهم لما قال هذا)([46]).
وابن جملة المذكور هو القاضي جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة الشافعي، كان يبالغ في أذى ابن تيمية وجماعته([47])، وهو أحد الذين امتنعوا من الصلاة عليه لما توفي([48]).
وقد جرت لابن جملة محنة بعد ذلك، وعُزِلَ من منصبه، وحُبِسَ بقلعة دمشق، وعلق المؤرخ أبو الفداء -ملك حماة- على ذلك بقوله: (فكان الناس يرون أن حادثة القاضي وحبسه بالقلعة بقيامه على ابن تيمية جزاءً وفاقًا)([49]). هذا، مع أن أبا الفداء لا يُعدُّ من أنصار ابن تيمية، لكن الحق أبلج.
رابعًا: جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني الشافعي (ت: 739):
يلقب بالخطيب القزويني لكونه ولي خطابة الجامع الأموي، وسمي أيضًا قاضي الإقليمين لولايته قضاء مصر والشام إحدى عشرة سنة. وهو صاحب كتابي (التلخيص) و(الإيضاح) في علم البلاغة.
قدم هو وأخوه إمام الدين أيام التتر من بلادهم إلى دمشق، ثم ناب في القضاء لأخيه سنة 696هـ حتى توفي إمام الدين سنة 699هـ، ثم ناب لابن صصرى سنة 705هـ، ثم ولي خطابة الجامع الأموي بدمشق مدةً سنة 706هـ، ثم قضاء دمشق مع الخطابة سنة 724هـ، ثم قضاء الديار المصرية سنة 727هـ، ثم غضب عليه السلطان ونفاه للشام، فتولى قضاء دمشق سنة 738هـ، وبقي في ذلك مدة قصيرة، وما لبث أن توفِّي سنة 739هـ.
قال الإمام الذهبي في آخر ترجمته: (وسيرته تحتمل كراريس، فالأمر لله، وما كل ما يعلم يقال، والأمر شديد، والرشاء قبيح)([50]).
وللشيخ جلال الدين القزويني ذكرٌ في سيرة ابن تيمية منذ بدايات المحن التي مرّ بها، إلى محنة الزيارة التي توفي فيها محبوسًا:
1- ففي فترة نيابته لأخيه إمام الدين وقعت اعتراضات خصوم شيخ الإسلام بسبب الفتيا الحموية، يقول البرزالي: (ثُمّ إنّ ابن تيمية اجتمع بالقاضي إمام الدين الشافعي، وواعده لقراءة جُزئه الذي أجابَ فيه، وهو المعروف بـ «الحموية». فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر، من بُكرة النهار إلى نحو الثلث من ليلة الأحد، ميعادًا طويلًا مستمرًّا، وقُرِئت جميع العقيدة، وبَيَّن مرادَه من مواضع أشكلت، ولم يحصل إنكارٌ عليه من الحاكم ولا ممَّن حضر المجلس، بحيثُ انفصل منهم والقاضي يقول: كلُّ من تكلَّم في الشيخ فأنا خصمه. وقال أخوه جلالُ الدِّين -بعد هذا الميعاد-: كلُّ من تكلَّم في الشيخ نُعَزّره. وانفصلَ عنهم عن طيبةٍ)([51]).
وقال الذهبي: (ثم حضر ابن تيمية من الغد عند قاضي القضاة إمام الدين رحمه الله، وحضر جماعة يسيرة، وبحثوا مع الشيخ في الحموية، وحاققوه على ألفاظ فيها، وطال البحث، وقرئ جميعُها، وبقوا من أوائل النهار إلى نحو ثلث الليل، ورضوا بما فيها في الظاهر، ولم يقع إنكار، بحيث انفصل المجلس والقاضي رحمه الله يقول: كل من تكلم في الشيخ فأنا خصمه. وقال أخوه القاضي جلال الدين: كل من تكلم في ابن تيمية بعد هذا نعزره. حدثني بذلك الثقة. لكن جلال الدين أنكر هذا فيما بعد، ونسي -فيما أظن-)([52]).
وذكر ابن تيمية أن قائل هذه الجملة الأخيرة هو إمام الدين وليس جلال الدين([53])، ولا مانع من نسبة القول إليهما معًا كما فعل ابن حجر([54]).
2- جاء اسم الشيخ جلال الدين القزويني ضمن أسماء حضور المجلس الأول في المناظرة في العقيدة الواسطية في 8/ 7/ 705هـ في فترة نيابته عن ابن صصرى([55]).
ثم حصل بعد المجلس الثاني اضطراب في البلد، وآذى الجلال القزويني بعضَ أتباع ابن تيمية في فترة غيابِ الأمير الأفرم (نائب السلطنة بدمشق) للصيد.
قال البِرْزالي في «تاريخه»: )وبعدَ ذلك عزَّر بعضُ القُضاة بدمشق شخصًا ممن يلوذُ بالشيخ تقي الدين، وطُلب جماعة وأطلقوا، ووقع هَرْجٌ في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد، وغاب نحو جمعة، ثم حضر(([56]).
وقد ذكر اليونيني في أن الذي فعل ذلك هو القاضي جلال الدين القزويني، وأن ابن تيمية لما اجتمع بابن صَصْرى في قصر الأمير بعد اعتقاله للمزّي شكا للأمير ما فعله القزويني في غيابه([57]). وكذا ذكره الشمس ابن الجزري في «تاريخه»([58]).
3- في نهاية حياة ابن تيمية كان الجلال القزويني قاضيَ القضاة بدمشق، وقد نال من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، وقام باعتقال جماعةٍ منهم بسبب مسألة الزيارة، منهم الإمامان ابن كثير وابن القيم.
قال البرزالي: (وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي بحبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة، وإذنه له فيه فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعَزَّرَ جماعة منهم على دواب ونُودِي عليهم، ثم أطلقوا سوى شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية، فإنه حُبِسَ في القلعة، وسكنت القضية)([59]).
وقال المؤرخ ابن الجزري: (وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من شعبان قعد قاضي القضاة جلال الدين بعد الصلاة بالمدرسة العادلية، وأحضروا جماعة من جماعة تقي الدين ابن تيمية كانوا معتقلين في حبس الشرع. فادُّعِي على العماد إسماعيل -صهر جمال الدين المزي- أنه قال: إن التوراة والإنجيل ما بدّلت، وإنها بحالها كما أنزلَت، وشهدوا عليه، وثبت ذلك في وجهه، فعزّر بالمجلس بالدرة، وأخرج طيف به، ونادوا: هذا جزاء من قال: إن التوراة والإنجيل ما بدّلت، وبعد ذلك سيبوه)([60]).
ثم ذكر جواب كلّ واحدٍ من المعتقلين من أصحاب ابن تيمية عن التهمة الموجهة إليه، وسعي القاضي الحنبلي في تبرئتهم، ثم قال: (فعاد جلال الدين عزَّرَ عبد الله الإسكندري على حمار غير مقلوب، والصلاح الكتبي، وآخر أساء الأدب، وقال: كل من قال عن ابن تيمية شيء فهو كاذب، وأضربه بمداس. وضربوهم جميعهم بالدرة في قفيهم على الحمير، ورُدُّوا إلى الحبس. وأحضر بعدهم إمام الجوزية وعزره عنده بالعادلية بالدرة، ثم أركبه حمار وطاوفه البلد، وراحوا به إلى الصالحية، وآخر النهار رد إلى الحبس، وأعلموا نائب السلطنة بما فعلوه)([61]).
والواقع أن القاضي جلال الدين القزويني لم يكن قد أحاط بحقيقة قول ابن تيمية الذي انتقم بسببه من أصحاب ابن تيمية هذا الانتقام القاسي.
قال ابن الجزري: (وفي يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة (11/ 11/ 726هـ) سيّر نائب السلطنة للقاضي جمال الدين يوسف بن جملة الشافعي نائب الحكم العزيز وناصر الدين مشد الأوقاف للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وسألوه عمّا أفتى وما يعتقده، فكتب بخطّه ثمانين سطرًا بصورة ما أفتى وما يعتقده وغير ذلك، فسيّرها ملك الأمراء طي مطالعته للسلطان -عَزَّ نصرُه-)([62]).
ثم كتب جلالُ الدين القزويني تحت جواب ابن تيمية: (قابلتُ الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية، فصحَّ). إلى أن قال: (وإنما المحزُّ جعلُه زيارةَ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبورِ الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصيةً بالإجماع مقطوعًا).
وقد نقل الحافظ ابن كثير كلامَ القزويني، ثم عقَّبَ عليه بقولِه: (فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام! فإنَّ جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياءِ والصالحين، وإنما فيه ذكرُ قولَينِ في شد الرِّحَال، والسَّفَر إلى مجرد زيارة القبور. وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى. والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرَّض إلى هذه الزيارة على هذا الوجه في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة». والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا تخفى عليه خافية: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227])([63]).
تتمة الجواب عن دعوى تراجع العلماء عن الثناء على ابن تيمية:
وبعد هذه الجولة في بيان مواقف العلماء والقضاة الذين ذكرهم الكوثري نخلص إلى عدم التسليم للكوثري بما قاله من تراجع التاج والبرهان الفزاريين وكذلك العلاء القونوي.
وأما القاضيان ابن الحريري والجلال القزويني فيُسَلَّم بوقوفهما مواقف في التشديد على الشيخ مُتأخرة عن مواقف في مدحه والتعاطف معه، غير أن التسليم بذلك لا يمنع من التنبيه على جملةٍ من الأمور:
أولًا: أن المثنين على ابن تيمية لا ينحصرون في هؤلاء العلماء الذين ذكرَهم الكوثري، فقد أثنى عليه من كبار علماء الشام الذين هم في طبقة مشايخه أو طبقة أقرانه: شهاب الدين الخويي، وشرف الدين المقدسي، وتاج الدين الفركاح، وعلاء الدين ابن العطار، وجمال الدين الزواوي، ومحمد بن إبراهيم الأرموي، ومحمد بن قوام، وعماد الدين الواسطي، وغيرهم، ولم يحفظ عن أحدٍ منهم تراجعٌ عن قوله.
ثانيًا: لو كان الموقف المستقرّ للعلماء هو موقف ذم ابن تيمية ومعاداته والتخلي عنه الذي ادعى الكوثري رجوع هؤلاء العلماء إليه، فكيف نفسُّر ثناء جمٍّ غفير من العلماء ممن جاؤوا بعدَه على ابن تيمية، ممن تجد كلامهم في كتاب ابن ناصر الدين (الرد الوافر) وتقاريظ علماء عصره الذين انتصروا لابن تيمية له كابن حجر والبدر العيني وغيرهما؟!
ثالثًا: لو سُلّم أن عالمًا من العلماء أو جماعةً منهم رأوا وقوع ابن تيمية في البدعة أو الشذوذ الفقهي فتكلموا فيه بسبب ذلك، فلا يصح أن يقال ذلك في جميع العلماء في زمان ابن تيمية، أو أن تجعل تلك المواقف الفَرْدية ظاهرةً عامَّةً.
ومن نظر في البحث الذي كتبته المستشرقة كاترين بوري، والذي تقدّمت الإشارة إليه، سيجد أنها وقعت في هذا الخلل، حيث كانت تستند إلى انتقادات محدودة لابن تيمية وتجعلها حجةً على تناقص دعم ابن تيمية مع مرور الوقت، لتذهب بعد ذلك إلى أن (المصادر تصور لنا ابن تيمية كشخصية لجماعة محدودة متشددة، ليس لها علاقة بالضرورة مع أكثرية الحنابلة والمحدّثين)([64]).
رابعًا: أن نسأل عن موجب الذم عند الذامين لابن تيمية: هل كانَ موجودًا منذ نشأته أو لا؟
وأعظمُ ما ينقِمه خصوم ابن تيمية عليه ويجعلونه موجبًا لذمّه ما ينسبونه إليه من القول بالجسمية والجهة وإثبات الحرف والصوت وغير ذلك من المسائل المتعلقة بصفات الله تعالى، وهذه المسائل ينسبونها أيضًا لسائر الحنابلة، وابن تيمية حنبلي، من أسرةٍ حنبلية، وقيام المخالفين عليه بسبب مسائل الصفات وقع في شبابه، ولم يكن في مرحلةٍ متقدّمة من عُمُره، ولا يخفى مثل هذا على العلماء الذين ذكرَهم الكوثري كالحريري والجلال القزويني.
فإن كانوا يرونه مبتدعًا مجسِّمًا -كما يراه الكوثري- بسبب هذه المسائل لم يكن لهم أن يثنوا عليه أصلًا، وكان الحق أن يذمّوه منذ أول أمره، لا أن نجدهم يدافعون عنه، بحيث يقول الجلال القزويني: (كلُّ من تكلَّم في الشيخ نُعَزّره).
والكوثري يسلم بأنهم كانوا يمدحونه في أول أمره، وهذا منه تسليمٌ -شَعَر أو لم يَشعُر- بأنهم لم يذموه بسبب قوله في الصفات الذي يراه الكوثري تجسيمًا وكفرًا، فافترق موقفهم عن موقفه في قضية التجسيم.
وإن كان موجب الذمّ عند الذامين للشيخ قد حصل في مرحلةٍ أخرى من حياته، وجب أن يُقال: إنه تراجع مُقيَّد متعلق بمسألة محددةٍ، ولا يطلق القول بتراجع العالم عن موقفه من ابن تيمية، أو تخلّيه عنه.
خامسًا: أن الخلاف درجات ومراتب، ومسائل الخلاف السائغ لا يصح أن يُنكَر على ابن تيمية بسببها، ولو قدّر أن عالمًا من العلماء أو قاضيًا من القضاة فعل ذلك، واستعمل مع ابن تيمية أو أتباعه المنع من الإفتاء أو الحبس أو الضرب أو التهديد -كما فعل الحريري والقزويني- فإنما يقع اللوم على ذلك العالم لا على ابن تيمية، حيث لم يَعذُرْهُ في اجتهاده.
يقول شيخ الإسلام: (ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد)([65]).
سادسًا: أن العبرة بموافقة الدليل، فإن دلّ الدليل على بطلان الحكم بمنع ابن تيمية من الإفتاء وحبسه، وضرب أصحابه، لم يكن حكم خصوم ابن تيمية من القضاة مقدَّمًا على الدليل، أما تأييد مواقف خصوم ابن تيمية بلا حجةٍ ولا دليل بل لمحض الهوى والعصبية؛ فلا يصدرُ من مسترشدٍ طالبٍ للحق.
سابعًا: أن تراجُعَ بعض العلماء إلى موقفٍ سلبي من ابن تيمية بسبب مسألة الزيارة قابَلَهُ انتصارُ علماء آخرين له في نفس المسألة، كما انتصر علماء بغداد لابن تيمية بشأن هذه المسألة، وكتبوا في ذلك رسائل للسلطان الناصر، وقد أثبت ابن عبد الهادي في (العقود الدرية)([66]) تلك الفتاوى.
ثامنًا: هل الكوثري ينتقدُ ابن تيمية فقط بسبب مسألة الزيارة أو مسألة الطلاق كما ذهب إلى ذلك من ذهب من العلماء الذين ذكرَهم؟
يكفيك أن تُطالِع حواشيه على ردّ السبكي على نونية ابن القيم لتعلم أن الجواب هو النفي القاطع، وكذلك تطالع كلامه في رسالته المسماة (الإشفاق على أحكام الطلاق) لتعلم أنه ينسب لابن تيمية ما يحلو له من المذامّ، ولا ينحصر الأمر في مخالفةٍ علمية له في مسألتي الطلاق والزيارة.
من اتهامات الكوثري مثلًا التي لا نجدها عند ابن الحريري ولا الجلال القزويني ولا غيرِهما: أن ابن تيمية أراد هدم ما تبقى من الإسلام بعد غزو المغول لديار الإسلام، وأنه كان السبب في استفزاز الشيعة لمعاداة أهل السنة، وغير ذلك من الاتهامات الكثيرة. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) حاشية «بيان زغل العلم» للذهبي (ص: 24).
([2]) حاشية «السيف الصقيل» للتقي السبكي (ص: 186).
([3]) «ابن تيمية وعصره» (ص: 71).
([4]) تكلمت في هذه الورقة عن خمسة من العلماء هم: ابن الحريري، والبرهان الفزاري، ووالده التاج، والقونوي، والجلال القزويني، وترتيبهم بحسب الوفاة، وأفردت ورقةً للكلام عن موقف ابن الزملكاني من ابن تيمية، ويلاحظ أن جميع العلماء الذين ذكرهم الكوثري شافعية، باستثناء الحريري فهو حنفي، وأنهم جميعًا من أقرانه، باستثناء التاج الفزاري فهو في طبقة شيوخه.
([5]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 316).
([6]) «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» (5/ 700).
([7]) «البداية والنهاية» (18/ 307).
([8]) «البداية والنهاية» (18/ 307)، ونقل ابن ناصر الدين كلتا العبارتين عنه في «الردّ الوافر» (ص: 102).
([9]) نقل ذلك الشيخ شرف الدين ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (3/ 203).
([10]) «نهاية الأرب في فنون الأدب» (32/ 84).
([11]) «الردّ الوافر» (ص: 102).
([12]) كان شيخ الإسلام يبين سبب دخوله في تلك المسائل، وهو أنه لا يَسَعُهُ كتمان العلم. كما نقله عنه ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص: 394). وقد اعتمَدَتِ المستشرقة كاترينا بوري على كلام الذهبي في تفسير ما أسمته (الانقلاب الكبير لابن الحريري من شخص داعم لابن تيمية إلى منتقد له ومعادٍ له على الملأ). «ابن تيمية وعصره» (ص: 67). ومما يُشار إليه أن الذهبي يخالف شيخ الإسلام في هذه المسألة لكنه يعذُرُه باجتهادِه؛ كما بيَّنَ ذلك في ترجمته للإمام الطبري في «تاريخ الإسلام» (7/ 164-165).
([13]) «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» ضمن «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص: 318-319).
([14]) «ترجمة ابن تيمية» للسبكي بخط الحافظ ابن حجر في «التذكرة الجديدة».
([15]) «ترجمة ابن تيمية» للسبكي بخط الحافظ ابن حجر في «التذكرة الجديدة».
([16]) وانظر أيضًا: «الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية» لأبي زرعة العراقي (ص: 95-99).
([17]) «الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق» (1/ 170).
([18]) «السلوك لمعرفة دول الملوك» (3/ 89).
([19]) انظر حكم القضاة الأربعة بحبس ابن تيمية ومنعه من الإفتاء وجوابه عنه في «مجموع الفتاوى» (13/ 288-313).
([20]) انظر: «البداية والنهاية» (18/ 316-317).
([21]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 341).
([22]) «المقتفي على الروضتين» (2/ 40).
([23]) نقله عنه الذهبي في «تاريخه» (15/ 420).
([24]) «المعجم المختص» (ص: 135).
([25]) «البداية والنهاية» (18/ 301).
([26]) نقل ذلك ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص: 155-156).
([27]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 112).
([28]) تقع اليوم جنوب غرب تركيا.
([29]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 369).
([30]) انظر: «الدرر الكامنة» (4/ 29-34).
([31]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 332).
([32]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 333).
([33]) «أعيان العصر» (3/ 290).
([34]) «ترجمة ابن تيمية» للسبكي بخط الحافظ ابن حجر في «التذكرة الجديدة». وتأمَّل تنزيل القوم الآيات الواردة في الكفار على شيخ الإسلام ابن تيمية!
([35]) «نهاية الأرب» (32/ 119).
([36]) «أعيان العصر» (3/ 290).
([37]) «الدرر الكامنة» (4/ 31-32)، ونقله الشوكاني في «البدر الطالع» (1/ 440)، قال: (لأنه كان لا يذعن للرجوع).
([38]) هم: ابن الحريري الحنفي، والإخنائي المالكي، وابن جماعة الشافعي، وتقي الدين المقدسي الحنبلي، وفرقٌ بين القول بأن هذا هو حكم القضاة الأربعة، وبين القول بأن هذا هو حكم المذاهب الأربعة. وانظر الوجه الثلاثين من الأوجه التي أجاب بها ابن تيمية عن حكم القضاة بحبسه ومنعه من الإفتاء في «مجموع الفتاوى» (27/ 304).
([39]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 196).
([40]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 278).
([41]) انظر: «تاريخ ابن الجزري» (2/ 278).
([42]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 333)، ونقله ابن حجر في «الدرر الكامنة» (4/ 32).
([43]) انظر: «تاريخ ابن الجزري» (2/ 278).
([44]) وسبق لابن الجزري أن ذكر استتابة ابن القيم أيضًا عند القاضي الحنبلي في بداية القلاقل التي حصلت بسبب مسألة الزيارة. انظر: «تاريخ ابن الجزري» (2/ 112).
([45]) «نهاية الأرب» (33/ 215).
([46]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 333)، ونقله الحافظ في «الدرر الكامنة» (4/ 32).
([47]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 435)، ونقله ابن حجر في «الدرر الكامنة» (6/ 215).
([48]) «أعيان العصر» (5/ 595-596).
([49]) «المختصر في أخبار البشر» لملك حماة أبي الفداء (4/ 112).
([50]) «ذيل تاريخ الإسلام» (ص: 449).
([51]) نقله ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص: 256-257).
([52]) «تاريخ الإسلام» (15/ 700).
([53]) «مجموع الفتاوى» (3/ 256).
([54]) «الدرر الكامنة» (1/ 169).
([55]) نقل ذلك الشيخ شرف الدين ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (3/ 203).
([56]) «المقتفي على الروضتين» (3/ 302).
([57]) «ذيل مِرآة الزَّمَان» (2/ 846-848).
([58]) كما نقله عنه النويري في «نهاية الأرب» (32/ 80)، لكن في المطبوعة «كمال الدين القزويني» وهو غلط.
([59]) نقله ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 268).
([60]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 112).
([61]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 113-114).
([62]) «تاريخ ابن الجزري» (2/ 113-114).
([63]) «البداية والنهاية» (18/ 270).