مفهوم الاشتراك المعنوي في الصفات
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
منذ أن وفد المنطقُ اليونانيّ على الأمة الإسلامية والناس في باب العقائد في أمر مريج، وقد وصل الغلوُّ ببعض المتفنِّنين في هذا الفنّ إلى محاكمة قواعد اللغة وأخبار الشرع إلى هذا القانون، وجعلوا منه حكَمًا على اللسان والبيان، وكان أولُ العلوم ابتلاء بهذه التحريفات علم العقائد، وخاصة ما يتعلق بصفات الباري سبحانه؛ فقد كانت الفلسفة المشائية وأطروحاتها حاضرةً في الكلام عن الصفات، واستحضار التعريفات الذاتية والحدود المنطقية في الحكم على ألفاظ اللسان العربي وخبر الصادق؛ مما جعلهم يدَّعون بدهيات لا تخطر على بال سامع، ويحكمون باستحالة أشياء بناء على قرائن غير معلومة للمخاطَبين، ولا مراعاة للمتكلم بالوحي ابتداء، فالتزم بعضهم في جميع الأخبار الحكم على الألفاظ ببطلان ظاهرها؛ لأنه لا يفهم منه إلا المحال، وهي ظنية؛ فيجب ردها بالتأويل أو التفويض، وجعلوا العلاقة بين اللفظ وبين الحقائق التي يشملها مجرد الاشتراك اللفظي، ولا جامع يجمع بينها في الحقيقة، وهذا المعنى وإن بدا لائقا طبقا للتنظير الكلامي، إلا أنه ترد عليه إشكالات علمية وعقلية لا مفر منها ولا جواب عنها.
وكان لأهل السنة على كل ذلك أجوبة مقرَّرة في مواضعها، أهمها التأكيد على إفادة الوحي لليقين في هذه الأبواب، ورفعه للخلاف، وأن جميع ما تكلم به حق وصدق في لفظه ومعناه، لكن المعنى الذي يختص بالخالق لا وجود فيه لأي شيء من خصائص المخلوق، وهذا التقرير لا ينافي الاشتراك في معنى لا يوهم تشبيها ولا تجسيما.
ومع ظهور هذا المعنى وقربه فإن بعض المنتسبين لأهل السنة عموما عرَّف بعض هذه المسألة وأعرض عن بعض، وأخذ طرفا من الحق وردَّ طرفا، فكان النزاع في الألفاظ وحقيقتها هل تفيد معنى مشتركا أم لا؟
والغرض من هذه الورقة العلمية تقريبُ هذا الاصطلاح للعامة وشرحه بما يزيل اللبس في تقعيده وتطبيقه:
المشترك اللفظي:
لقد أفرد الأصوليون للمشترك اللفظي فصولا في الحديث عنه، وحاصل ما لهم في تعريفه هو أنه: ما اتَّحد لفظه وتعدَّد معناه، فالمشترك عندهم: “هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة، سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول، أو من كثرة الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال، وهو في اللغة على الأصح”([1]).
وهو خلاف الأصل كما هو مقرَّر عندهم.
ومن أمثلة المشترك لفظ العين، فإنه مشترك بين العين الباصرة والعين الجارية والنقد، وهذه حقائق متباينة لا جامع يجمع بينها إلا اللفظ([2])، والأصل عدم الاشتراك لإخلاله بفهم السامع، وهو خلاف القصد من وضع اللغة.
الاشتراك المعنوي:
وهو ما يسمى بالقدر المشترك، فمع دورانه في كلام العقائديين والأصوليين إلا أنهم لم يسعوا إلى تعريفه تعريفًا جامعًا مانعًا، لكنهم اتفقوا على كونه هو المعنى الكلي الذي يجمع أفرادًا متعدّدة تشترك فيه، وهذا القدر المشترك وجوده ذهني وليس خارجيا([3]).
والتعبير عن المشترك بالمعنى الكلي يراد به التصور لإخراج الذاتي.
والتعدّد في الاشتراك المعنوي يكون في الأفراد لا في المعنى، وبهذا يكون من الاشتراك المعنوي العلة بمفهومها الأصولي، ووجه الشبه كما يسميه البيانيون، فالسكر معنى مشترك بين أفراد متعدّدة، والشجاعة معنى مشترك بين أفراد متعدّدة، لا يمكن ادعاء أنها حقيقة في أحدهما دون الآخر، والطلب قدر مشترك بين الوجوب والندب في الأمر، وهذا القدر المشترك لا يمنع التفاوت؛ ولهذا أدخل الأصوليون في الاشتراك المعنوي المتواطئ والمشكّك.
قال القرافي: “والمتواطئ هو اللفظ الموضوع لمعنى كلّي مستوفي محاله كالرجل. والمشكك هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله إما بالكثرة وبالقلة، كالنور بالنسبة إلى السراج والشمس، أو بإمكان التغير واستحالته كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن، أو بالاستغناء والافتقار كالموجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض”([4]).
الفرق بين الاشتراك اللفظي والمعنوي:
يوجد نوع من التداخل ملحوظ للأصوليين بين الاشتراك اللفظي والمعنوي؛ لكنه لم يمنع من فروق جوهرية نصّ عليها العلماء، قال القرافي: “ينبغي أن يفرق بين اللفظ المشترك وبين اللفظ الموضوع للمشترك؛ لأن اللفظ الأول مشترك، والثاني لمعنى واحد مشترك، واللفظ ليس بمشترك. والأول مجمل والثاني ليس بمجمل لاتحاد مسماه”([5]). فالمشترك المعنوي يختلف عن اللفظي بكون الأول متحدَ اللفظ والمعنى، وهو يطلق على سبيل الحقيقة في جميع أفراده مع التفاوت البيّن بينهما، ويمكن تلمّس فروق بينهما من خلال التعاريف الأكثر تداولا له:
– أن المشترك اللفظي يدل على معنيين أو أكثر في حقائق مختلفة، بخلاف المعنوي فإنه يدل على معنى واحد.
– المشترك اللفظي متعدّد الوضع، بخلاف المشترك المعنوي فإنه وضع أصالة لمعنى واحد كلي.
– المشترك اللفظي يكون من باب الإجمال الذي يفتقر إلى بيان، بخلاف المشترك المعنوي فإنه واضح المعنى وإن تفاوتت فيه أفراده في الأحقية به([6]).
المراد بالمشترك المعنوي في الأسماء والصفات:
لكي يفهم المراد في هذا الباب فإن المثبتة ينازعون المعطلة في الوضع اللغوي للأسماء والصفات، فلا يرون أنها وضعت حقيقة في الإنسان فتكون مجازا في غيره، بل يرون أنها وضعت للمعنى الكلي الذي تكون به حقيقة في الجميع عند التجرد، ثم يختص كل فرد بما يميزه([7]).
وهذا المفهوم ذهني وليس خارجيًّا، يحتاج تعقلا من المكلف لكي يفهم أي كلام يخاطب به، فالألوان إذا لم يتعقلها الشخص لم يكن له أي فائدة من إضافتها إلى موجود؛ لأنه لن يفهم الكلام أصلا، وكذلك صفة العلم والقدرة والإرادة إذا لم يتعقلها الإنسان مفردة، لم يستطع التفريق بينها؛ وحين يفرق بينها فلا بد له من تحديد حقيقة كل واحدة في ذاتها بحيث لو أضيفت إلى موجودات متعددة أمكنه تصورها فيها، فالمشترك في هذا الباب هو المعنى المستفاد من اللفظ، فيقوم بذهن المخاطب معناه بمجرد سماع لفظه الموضوع له، وهو بهذا لا وجود له في الخارج، ولا تماثل بين أفراده في الواقع، ولا علاقة له بالحقائق الخارجية([8]).
وهذا المعنى المشترك الذهني يكون تعقّله بالمشاهدة، لكن هذا التعقل لا يلزم منه التماثل بل يحصل الإفهام بمعرفة المعنى؛ لأن المشترك متفاوت في معانيه، وما يتعلق بالله عز وجل منه فإن التفاوت منه على سبيل التفاضل والكمال؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام رحمه: “وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره. فكأن قياس الأولى يفيده أمرا يختصّ به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر؛ ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك ليست بطريق الاشتراك اللفظي، ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده؛ بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده”([9]).
وقد شرح معنى التفاضل ومثّل له بقوله: “لكن التفاضل في الأسماء المشكِّكة لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركًا كليا بينهما، فلا بد في الأسماء المشكّكة من معنى كلي مشترك، وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن، وذلك مورد التقسيم تقسيم الكلي إلى جزئياته، إذا قيل: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام، ثم كون وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليا مشتركا بينهما. وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير، وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته”([10]).
فالمعنى الكلي المجرد عن الإضافة مشترك بين أفراده في الذهن؛ لكنه عند الإضافة يتميز كل بما يخصّه في الخارج، فما يختص بالمخلوق فالله منزه عنه سبحانه وأخصّ ذلك القيد والافتقار، فقدرة العبد حقيقة في حقّه لكنها مقيدة وقدرة الرب حقيقة فيه لكنها مطلقة، وعلم العبد حقيقي في حقه لكنه حادث وعرضي، وعلم الله حقيقي لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، ولا يعزب عنه شيء، فلكل صفة عند الاتصاف بها لوازم مشتركة بها تتميز وتفهم، وأخرى تختص بالموصوف المعين([11]).
وقد قرب شيخ الإسلام هذا المعنى وألزم به في أكثر من مناسبة فقال: “فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا، ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر؛ فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: إن له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبّة تليق به وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به، وإن قلت: الغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: والإرادة: ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق، وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين؛ فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختصّ بالمخلوقين فيجب نفيه عنه، قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به؛ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا”([12]).
فالمعنى الذي يرتسم في ذهن المكلف المخاطب باللفظ هو المعنى الكلي الذهني المجرد، وإذا أضيف إلى الخالق سبحانه؛ فإنه وإن عقل منه المعنى الذهني الكلي فإن ذلك لا يلزم منه التشبيه ولا التمثيل؛ لأنه إذا أضيف إلى الخالق كانت لوازمه لوازم كمال تليق بالخالق، وانتفت عنه جميع لوازم المخلوق من النقص والافتقار، وهذا المعنى لا يوجد من يرفضه بإطلاق من متكلِّمة أهل القبلة؛ لكنه قد لا يطرده في كثير من الصفات لاعتقاده بعدم تناول القاعدة لها.
ويمكن القول بأن القول بالاشتراك المعنوي في الصفات هو تأصيل للوضع اللغوي في معاني الألفاظ، وأنها لم توضع حقيقة في الإنسان كما يدَّعي المتكلمون.
والمعنى المشترك إذا لم نقل به فإنه يلزمنا الحكم بأن الله خاطبنا بمجمل لا نعقل منه شيئا، وهو محال في حقه شرعًا.
ومن تأمّل الشرع وجد خطابه في المغيبات مبنيًّا على استحضار المعنى المشترك، وما ليس له معنى مشترك يمكن للمكلّف أن يعقله؛ فإن الخطاب يجمله الشرع فيه، ويحيل فيه إلى عدم الإطاقة لتصوّره وتعقّله، قال سبحانه: {فَلاَ تَعلَمُ نَفسٌ ما أُخفيَ لَهُم من قُرة أَعيُن جَزَاء بمَا كَانُوا يَعمَلُون} [السجدة: 17].
قال شيخ الإسلام: “وتمام الكلام في هذا الباب أنك تعلم أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه، فنحن نعرف أشياء بحسِّنا الظاهر أو الباطن، وتلك معرفة معينة مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامة كلية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا، فلولا أنا نشهد من أنفسنا جوعًا وعطشًا وشبعًا وريًّا وحبًّا وبغضًا ولذةً وألمًا ورضًا وسخطًا لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا ذلك وأخبرنا به عن غيرنا، وكذلك لو لم نعلم ما في الشاهد حياة وقدرة وعلما وكلاما لم نفهم ما نخاطب به إذا وصف الغائب عنا بذلك، وكذلك لو لم نشهد موجودا لم نعرف وجود الغائب عنا، فلا بد فيما شهدناه وما غاب عنا من قدر مشترك هو مسمّى اللفظ المتواطِئ، فبهذه الموافقة والمشاركة والمشابهة والمواطأة نفهم الغائب ونثبته، وهذا خاصّة العقل، ولولا ذلك لم نعلم إلا ما نحسه، ولم نعلم أمورا عامة ولا أمورا غائبة عن إحساسنا الظاهرة والباطنة؛ ولهذا من لم يحسّ الشيء ولا نظيره لم يعرف حقيقته”([13]).
فالغائب عنا مجهول لنا من حيث حقيقته وما هو عليه؛ فإذا أُخبرنا عنه بلفظ لا نفهمه ولا نعقل منه شيئا لم يكن في ذلك إفادة ولا علم، وهذا غير متصوَّر في الوحي ولا في بيان الرسُل، فلم يبق إلا الإحالة إلى المعنى الذي يحصل به تعقّل المعنى ذهنيّا، مع وجوب المخالفة بين المشتركين في الواقع بالقدر المميز لكل واحد منهما.
فنحن لو لم نعلم حقيقة السمع والبصر والقدرة لم يكن لنا حين نخبَر عن غائب بهذه الصفات أن نفهم شيئا منها.
لكن حين فهمناها وعقلناها بقي أمر زائد وهو التفاوت فيها بالقدر المميز، وهذا يحصل في أذهاننا بمجرَّد الإضافة، فهي حين تضاف إلى الله عز وجل فإننا نفهم منها معنى كليًّا عامًّا، وندرك ما يختص به الباري سبحانه، ويختلف فيه عن مخلوقاته، فنثبتها له حقيقة وعلى الوجه اللائق به الذي لا يشاركه فيه مخلوق، فالله عز وجل يقول: {اللهُ لاَ إلَـهَ إلا هُوَ الحَي القَيومُ لاَ تَأخُذُهُ سنَةٌ وَلاَ نَومٌ لهُ مَا في السمَاوَات وَمَا في الأَرض مَن ذَا الذي يَشفَعُ عندَهُ إلا بإذنه يَعلَمُ مَا بَينَ أَيديهم وَمَا خَلفَهُم وَلاَ يُحيطُونَ بشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حفظُهُمَا وَهُوَ العَليُّ العَظِيمُ} [البقرة: 255].
فإنك تجد أنَّ اسم الحي المذكور في الآية يفهَم منه المعنى المشترك، وهو كونه ضدَّ الميت، لكن الله يختص بشيء آخر عن الحي من المخلوقات، وهو كونه قيوما ولا تأخذه سنة ولا نوم، فحياته لا أوَّلية لها ولا آخر لها، وهذا المعنى هو القدر المميز الخاصّ بالخالق، فالاشتراك في معنى لا يلزم منه التماثل في الحقائق؛ لأن الإضافة تفيد التمييز والتخصيص، فإذا اخلفت الذوات اختلفت الحقائق المضافة إليها، “فالله تعالى هو السميع البصير، فإذا سُمِّي بعضُ مخلوقاته بالسميع البصير لم يكن مدلولُ اسمِه تعالى مِثْلًا لمدلولِ اسم ذلك المخلوق بوجهٍ من الوجوه، فإذا لم يكن مُسمَّى السميع البصير الذي هو الذات والصفة مِثْلًا لذلك، لا الذات مثل الذات ولا الصفة مثل الصفة، امتنع أن يكون اسمُ هذا يُقال على هذا وأن يكون سميًّا له، وإن كان من مدلولِ الاسمين تشابهٌ من بعض الوجوه. والتشابه ليس هو التماثل بوجهٍ من الوجوه، فإن الشيء قد يُشبِه ما يكون مخالفًا له، إذ ما من شيئين إلّا وقد يَشتبهانِ ولو في أدنى شيء، ولو أن في أحدهما غير الآخر وخلافه وضدّه، ومثلُ هذه المشابهة لا توجب تماثلًا بوجهٍ من الوجوه، بل رفعُ الاشتباه من كلِّ وجهٍ يقتضي عدم أحدهما”([14]).
فإذا أثبت العقل القدرَ المشترك استدلّ به على القدر المميّز، والذي تتباين فيه الحقائق عند الإضافة، ولا يمكن لمن أراد فهم هذا الباب أن يفهمه ما لم يحقّق في اللغات وفي وضعها، ويفرق بين الدعاوى فيها وبين الحقائق، وبين الاصطلاحات العرفية في الحقول المعرفية، وخاصة في علمي النحو والصرف وبين الوضع اللغوي للكلمات، فحمل اصطلاح العلوم العرفي الذي دعا إليه تحديد قانون اللسان على اصطلاح أهل اللغة الأصليين هو الذي يوقع في كثير من هذه الإشكالات، وقد عقد شيخ الإسلام فصلا لهذه المسألة نورد منه جزءًا يسيرا نختم به هذا المبحث لنفاسته، قال شيخ الإسلام: “إن النحاة رأوا ذلك المعنى المشترك فيه نوع مشابهة لما تسميه العرب من الأجسام ظرفًا فسموه ظرفًا حقيقة عرفية خاصة اصطلاحية ليست هي اللغة التي تكلم بها العرب، وجاء بها القرآن والحديث، وهكذا سائر اصطلاحهم مثل الفاعل والمفعول والحال والصفة والتمييز والمعرب والمبني والمبتدأ والخبر ونحو ذلك؛ فإن العرب لا تفرق بين الجملة الاسمية والفعلية في تسمية كل منهما خبرًا صادقًا أو كاذبًا، ولا يسمى المفرد الذي لا يستقل بالإفادة خبرًا، فتسمية المفرد الذي هو أحد ركني الجملة خبرًا وتخصيص ذلك بالجملة الاسمية دون الفعلية بل تخصيص ذلك بالجزء الثاني منها دون الأول هذا لفظ النحاة واصطلاحهم، وإن كان بينه وبين اللغة الأصلية نوع تعلق يجعله بالنسبة إليه مجازًا، كما سمع بعض الأعراب قومًا من النحاة يتحدثون باصطلاحهم، فقال: قوم يتكلمون في كلامِنا بغير كلامِنا ليصلحوا به كلامَنا، وكذلك اسم الفاعل هو الاسم الذي أُسند إليه الفعل ونحوه متقدّمًا عليه، مثل قام زيد وأقام زيد ونحو ذلك، ولا يسمون الاسم الظاهر في قولك: (زيد قائم) فاعلًا، بل مبتدأ، ومن المعلوم أن لفظ الفاعل ليس لمسماه في اللغة لفظ، ولا يختص إذا جعل اسمًا لاسم الفاعل عن قديم أو آخر، بل هذا اصطلاح احتاجوا إليه لبيان قوانين اللغة العربية في نحوها وتصريفها، وهو من أنفع الأشياء في معرفة الأدلة السمعية واللغة العربية، لكن ينبغي أن يعرف اصطلاح اللغات ليحمل كلام كلّ متكلم على لغته وعادته”([15]).
فيتحصَّل مما سبق أن باب الصفات الخبرية وغيرها هو كسائر المغيبات، أفادته الشريعة باللغة والخبر الصادق، ومن هنا حصل العلم به واليقين بوجوده، وفهم المراد منه الذي يفيده الوضع اللغوي للألفاظ، وبقي الكنه والكيفية فرعًا عن حقيقة الذات لا يمكن الحكم عليهما؛ إذ المخبَر عنه -وهو الله سبحانه وتعالى- ليس له شبيه ولا نظير ولا مثيل، ولم ير في هذه الدنيا بالأبصار، فالمعوَّل عليه في العلم به هو الخبر الصادق من الوحي وما تقبله اللغة مما يليق به ويختص به ولا يشاركه فيه مخلوق، فما نستطيع فهمه هو معاني ما وصف الله به نفسه كمعنى القدرة والعلم والسمع والبصر، وأما كنهها وحقيقتها فمما اختص الله به في علم الغيب عنده، ومن ثم صوب العلماء كلا التفسيرين في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7]. فمن وقف على لفظ الجلالة حمل التأويل على الحقيقة، ومن وقف على الراسخين في العلم حمل التأويل على التفسير وفهم المعنى؛ لأنهم إذا لم يفهموا المعنى لم يكن في وصفهم بالعلم مزية تذكر، والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) البحر المحيط (2/ 377)، والإبهاج في شرح المنهاج للسبكي (1/ 248).
([2]) ينظر: الفوائد السنية للبرماوي (2/ 794)، والتحبير شرح التحرير (1/ 337).
([3]) ينظر: التلويح على التوضيح (1/ 94)، تيسير التحرير لابن همام (1/ 194)، المهذب في أصول الفقه المقارن للنملة (2/ 527).
([6]) ينظر: ملاك التأويل القاطع لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم الغرناطي (2/ 332)، تقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي (ص: 144)، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 157)، نهاية السول شرح منهاج الوصول للإسنوي (ص: 90).
([7]) ينظر: منهاج السنة (2/ 581).
([8]) ينظر: الانتصار للتدمرية لماهر أمير (ص: 275) وما بعدها.
([10]) الرد على المنطقيين (ص: 155).
([11]) ينظر: الانتصار (ص: 264).
([13]) مجموع الفتاوى (5/ 346).