تقريب الأديان أو توحيدها .. فوضى للفكر وهدمٌ للمعيار (أصول القول ومناقشتها)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مع التغيرات الفكرية التي يشهدها العالم بات الحديث عن الديانة التي تجمع الناس متفشيا وسط المنتديات الثقافية وبرامج الحوار ، وصرنا نرى تطبيقاتها على أرض الواقع أكثر من ذي قبل، وهي دعوات تتكرر بصور شتى، فمنها ما تدعو إلى تصحيح كل الديانات، أي: القول بأنها كلها صحيحة تؤدِّي إلى الله، ومنها دعوات ترى دمج الأديان؛ خاصة الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية، ومنها دعوات ترى أن المطلوب هو الإيمان بالله، وبناء عليه يصح إيمان اليهودي والنصراني فلا يكفرون، إلى غير ذلك من الدعوات.
إن وضع الأديان كلها في درجة واحدة فكرة انتشرت في الفكر الغربي([1])، ثم ما لبث المتعبون من الحداثيين والمنبهرين وأنصاف المثقفين أن استوردوها وأصبحوا ينادون بها وبتطبيقها، وأصبح الحديث عن الحقّ الواحد أو الدِّين الصحيح الوحيد أو الاعتزاز بالحق ممجوجًا منبوذًا مردودًا، فالدعوة إلى أنَّ الإسلام (شريعة محمد صلى الله عليه وسلم) هو الصحيح كابوسٌ لدى أصحاب هذا الفكر، فهم يرون عدم تكفير من لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويرون أنهم متى ما آمنوا بوجود إله فقد آمنوا الإيمان الصحيح؛ بل ادعى كثير منهم أن هذه الفكرة فكرة إسلامية، فالإسلام -في نظرهم- هو من دعا إلى التسوية بين الأديان في الحق والباطل، وهو من قرر صحة إيمان اليهود والنصارى لو لم يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم. ومن هنا أيضا جاءت فكرة الديانة الإبراهيمية والمبادرات الإبراهيمية، وتتمثل في الدعوة إلى الوحدة أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية، وإسقاط الفوارق بينها، والالتقاء على القواسم المشتركة، والاعتراف بصحتها جميعا.
وهذا القول -كما بينت- انتشر في الفكر الغربي وتلقفه كل حداثي أو تنويري، فهذا عبد الكريم شروس بدأ كتابه “الصراطات المستقيمة” بأبيات لابن العربي يدعو فيها إلى تصحيح كلِّ الأديان، ويبين أنها كلها تؤدِّي إلى الله([2])، وهذا هشام صالح -مترجم كتب محمد أركون- يقول: “بعد سقوط الشيوعية والحزب الواحد والأوحد أخذ العالم كله يسير في اتجاه تبنِّي قِيَم التعدُّدية الفكرية والسياسية، فلا أحد يستطيع أن يزعم بأنَّه يمتلك الحقيقة بشكلٍ مسبق، فالآخرون أيضًا لهم نصيبهم من الحقيقة، وإلا لكان العالم كله قد اكتُسِحَ من قبل دينٍ واحد… ومن غير المعقول أن يكون أبناء كل الأديان الأخرى على ضلال ونحن وحدنا على حق”([3]). فمن غير المعقول عنده أن يكون كل الحق في دين واحد! ونحن حين نقول: “إن الإسلام هو الدين الحق” لا يعني ذلك أن الأديان الأخرى كل ما فيها باطل، لكن يجب أن يكون كله صحيحا لا خلل فيه، ولا يرجع أصل من أصوله على الأصول الأخرى بالبطلان، وهذا ما لا نجده إلا في الإسلام.
أصول القول بهذه الفكرة:
بنى هؤلاء قولهم على عدد من الأصول، بعضها أصول شرعية. وأعني بذلك: أنهم بنوا قولهم هذا على آيات وأحاديث ظنوا أنها تؤيد قولهم، وهي جملة من الآيات والأحاديث النبوية ليس غرض الورقة بحثها والإطالة فيها، لكن من أهمها باختصار:
- الآيات التي تدل على أنه يكفي الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]([4]).
- النهي عن التفريق بين الرسل في مثل قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} [النساء: 150].
- تعظيم الله لأماكن عبادات الأديان الأخرى غير الإسلام في مثل قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
- إباحة الزواج من الكتابية دون المشركة، فهذا يدل -في زعمهم- أنها ليست مشركة([5]).
لفتة: الدين هو الإسلام:
قبل الخوض في أصول القول بوحدة الأديان أو القول بصحتها جميعا أود أن أؤكد على أن القرآن مليء بأنواع الأدلة التي تؤكد على أن الدين الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح، وتحت كل نوع عدد من الأدلة، وهذه الأنواع باختصار:
- الأدلة الدالة على أن الله لا يقبل من أحد سوى دين الإسلام، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} [آل عمران: 19].
- الأدلة الدالة على عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
- الأدلة الدالة على كفر من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} [البقرة: 89]([6]).
هذه كانت لفتة سريعة على هذه المُحكَمة، وأعود الآن إلى الأصول التي يستند إليها أصحاب هذا القول، ويمكن إجمالها في الآتي:
الأصل الأول: النسبية:
النسبية في الأفكار والمعتقدات والأخلاق موروث غربي، نشأ وترعرع فيه حتى صارت النسبية مثل كرة الثلج التي تظل تكبر حتى تبتلع كل شيء، فكل شيء نسبيٌّ؛ أي: ما هو صحيح بالنسبة لك هو خاطئ بالنسبة لي، والعكس صحيح، ومن هذا المنطق قالوا: صحة الأديان نسبية، فالدين الإسلامي صحيح بالنسبة لي خطأ بالنسبة لغيري، والديانات الأخرى خاطئة بالنسبة لي صحيحة بالنسبة لهم، فالنسبية هي: “الرأي الذي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر، وليس لها معايير موضوعية، وبالتالي فإن كل مدرَكٍ نسبيٌّ”([7])، فالفكرة التي اعتمدوا عليها في تصحيح كل الأديان والقول بأنها كلها حق عند الله هي النسبية في النظر إلى الأديان، وبنوا عليها قولهم هذا.
فمن اعتمد النسبية لا يرى تعارضًا بين الأديان حتى نحتاج إلى أن نصحح واحدا منها، بل كلها صحيحة نسبيا، وقد ورد في مذكرة دورة أقيمت في معهد السلام الأمريكي عن التحديات لإرساء السلام بين الأديان ما نصه: “غالبًا ما تُفهم النصوص الدينية على أنها متعارضة مع بعضها بعضًا”.
إذن بناء على القول بالنسبية نجد أنه لا وجود لدين هو الحق المطلق، ولا وجود لدين هو الصحيح دون غيره، فالحقيقة موزعة في كل الأديان وهي متشعبة فيها، وكل دين هو دين صحيح بالنسبة لمعتنقيه، أو حتى بالنسبة للحداثي والتنويري الذي ينظر إليها كلها على درجة واحدة، فالقول بالنسبية هو واحد من أهم الأصول التي بني عليها القول بصحة كل الأديان.
ولا شك أن النسبية هدمٌ لأي معيار يُخضع الناسَ لرأي واحد، وهي إرجاع إلى الفكر الإنساني فقط، فلا شيء فوق الفكر البشري يمكن أن نحاكم إليه الفكر البشري، ولا وجود لمحكمات تؤطر التفكير البشري وتخرجه من النسبية المطلقة، يقول د. علي سامي النشَّار: “ونسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة (الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس لا وجود ما لا يوجد)، ثم أخذ بها الشُّكاك بعد فطبقوها على الحد، كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء -كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر”([8]). ولست هنا لمناقشة النسبية بشكل عام، لكن لا وجود للنسبية المطلقة في كل شيء، فحتى في العلوم الدنيوية البحتة كالعلوم الرياضية هناك مسلمات وقواطع مثل 1+1=2 مثلا، ومعظم العلوم التطبيقية تُبنى على نظريات مسبقة هي مسلمات وقواطع كالمبادئ الأولية الضرورية، فليس كل شيء نسبيا حتى فيما يتعلق بالعلوم الدنيوية، فلا يمكن أن يكون كل شيء نسبيا في الأفكار والمعتقدات، بل الصحيح أنه توجد حقيقة واحدة للدين الصحيح، وهي أن الدين الصحيح هو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
الأصل الثاني: النصُّ المفتوح:
موضوع النص المفتوح موضوع طويل متشعب، إلا أنه واحد من أهم الأصول التي بنى عليه الحداثيون قولهم بصحة كل الأديان.
ولا شك أن الشريعة قد جاءت بنصوص وتشريعات واضحة بينة، فهِمهَا الصحابة الكرام وطبقوها، واعتقدوا ما في تلك النصوص حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، ولا شك أنَّ النصوص إنما ترد من أجل فهمها فهمًا سليمًا كما أراده صاحب النَّص، ولذلك سعت كثير من العلوم إلى ضبط هذه العلاقة بين النَّص ومعناه حتى نتفادى أي تفسير عبثيٍّ للنص، وكان من أهم تلك العلوم التي ضبطت هذه العلاقة: علم أصول الفقه، فبينت دلالات الألفاظ، وضبطت المقيد والمطلق والعام والخاص وما إلى ذلك من أبواب كلها تنصب في قالب اللفظ والمعنى.
بيد أنَّ الحداثيين ومن تبعهم لهم نظرة أخرى في علاقة النص بالمعنى، فقد نقموا على أصول الفقه وعلى الشافعي الذي يربط فهم القرآن باللغة العربية التي لها قواعدها وأسسها([9])، فسعوا جاهدين إلى تجاوز هذه المنظومة الشرعية الضابطة للنص؛ ليتمكنوا من قلب الحقائق الشرعية وتمويهها، وكل ذلك بداعي الاجتهاد في النَّص، والذي -حسب نظرتهم- مفتوح لكل أحد، ولكل مسألة، ولم يسلم الاجتهاد نفسه من ليِّه وتشويهه بعيدًا عن المفهوم الشرعي له، مستعملين في ذلك الأدوات التي ورثوها من الثقافة الغربية، خاصة تلك التي تعتمد على فلسفات ما بعد الحداثة.
النَّص المفتوح بمعناه العام هو فصل النَّص عن قائله، فيصبح مفتوح المعنى بعد أن كان مقيَّدًا بمراد قائله، فهي نصوص تنفتح على كل الاحتمالات، وتميل نحو عدميَّة المعنى الحق للنص. فليس ثمَّ معنى صحيح يحدده قائل النَّص، فالنص قد تجاوزه، ليصل إلى بحر التأويلات حسب قراءة القارئ وثقافته وهواه ومزاجه، وهذا الأمر ينطبق على كل النصوص، وعلى رأسها عند الحداثيين: النصوص الشرعية، وبناء عليه فالنصوص القرآنية الداعية إلى عبادة الله أو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هي نصوص لا يجب أن نفهم منها كما فهمه السابقون مثلا، بل يمكن أن نقرأها قراءة جديدة كما حاول كثير من الحداثيين ومن تبعهم، وهي قراءات تخرج الكفار من كفرهم! أي: قراءات تدعو إلى عدم تكفير غير المسلم بحجة أن هذه النصوص يجب أن تقرأ اليوم قراءة جديدة عصرية في عصر العولمة والتعددية الفكرية.
يقول رونال بارت -أحد رواد هذه المدرسة- وهو يؤكد المعنى الذي ذكرته: “إننا لنعرف الآن أن النص ليس سطرًا من الكلمات ينتج عنه معنى أحادي أو ينتج عنه معنى لاهوتي لرسالة جاءت من قبل الله، ولكنه فضاء لأبعاد متعددة تتزاوج فيها كتابات مختلفة، وتتنازع دون أن يكون أي منها أصليًّا، فالنص نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة، إن الكاتب لا يستطيع إلا أن يحاكي حركة سابقة له على الدوام دون أن تكون هذه الحركة أصلية”([10]). فالنص حسب بارت لا معنى أصلي له، وكون المعنى يحدده الكاتب فكرة عفا عليها الزمن حسب بارت، يقول: “النص مصنوع من كتابات مضاعفة، وهو نتيجة لثقافات متعددة تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار ومحاكاة ساخرة وتعارض، ولكن ثمة مكان تجتمع فيه هذه التعددية، وهذا المكان ليس الكاتب كما قيل إلى الوقت الحاضر، إنه القارئ”([11]).
ولذلك حول الحداثيون السؤال من: ما المعنى لأفهمه؟ إلى: ما الذي أفهمه ليكون هو المعنى؟ وهو تحويل من المعنى المعطى من الشرع إلى المعنى الممزوج بالرأي والهوى والحمولة الثقافية المتعددة للقراء المتعددين، وانتقال من المعنى المعصوم القطعي -إن كان للنص معنى قطعي- إلى المعنى المنتج من خلال العقول البشرية المتضاربة، فلا بأس للنص الواحد أن يكون له معنيان متضادان بل أكثر! وبناء عليه لا وجود لمعنى نهائي للنص القرآني، ويجوز لنا أن نقرأه كما نريد، فلو كانت آيات التكفير تضايق الحداثيين نغيِّر معناها؛ إذ إننا لا نستطيع أن نغير مبناها. فهذا أركون مثلا يرى أن كل الناس تدّعي وصلا بليلى؛ أي: بالمعنى الحقيقي لكن أنى للجميع ذلك؟! أي: لا يوجد معنى حقيقي واحد ولا دين صحيح واحد، يقول محمد أركون: “إن مفهوم المعنى يطرح مشكلة بالفعل، فالتنافس عليه عام وشامل، كل الناس يريدون المعنى ويدّعونه، وكل الفئات الاجتماعية الباحثة عن هويتها تدّعيه، وكذلك كل المذاهب الفكرية تتنافس من أجل اكتشاف المعنى الحقيقي وفرضه؛ أقصد المعنى المشتق بشكل صحيح من المصدر التشريعي الأعلى، وبالتالي المؤدي إلى المعنى الكلي والأخير. هذا ما فعله اللاهوتيون في السابق من كل الأديان والمذاهب عندما اعتقدوا بأنهم توصلوا إلى المعنى الصحيح الوحيد، كل دين وكل مذهب بالطبع يدعي امتلاك المعنى الوحيد الصحيح لوحده، فالفقهاء واللاهوتيون يزعمون أنهم هم وحدهم القادرون على استخراج المعنى الحقيقي أو الصحيح من النصوص، وكذلك فعلت الأنظمة الميتافيزيقية الكلاسيكية عندما توهمت بأنها توصلت إلى المعنى الكلي، إلى غاية الغايات، انظر ما حصل لنظام أفلاطون وأرسطو وغيرهما.. وأما اليوم فقد تغيرت الأمور، لم يعد أحد يقتنع بوجود معنى کلي نهائي وأخير، ولم يعد أحد يستطيع أن يدّعي أنه يمتلكه، بل إن كل من يرغم ذلك رفض مزعمه بصفته نوعا من الأيديولوجيا”([12]).
وهذا الأصل يمكن بيان أوجه الخطأ فيه من وجوه:
أولًا: القول بالنص المفتوح هدم للعيش الصحيح في الدنيا:
ليس الأمر هدمًا لقطعيات الشريعة فحسب، بل هو هدم للمنظومة السليمة للتعلم والتفكر، بل للتعايش حتى؛ إذ أيُّ قانون يبقى إذا فهم الجميعُ النُّصوصَ حسبما يشتهونه ويريدونه؟! وإن كان الذي يهمنا هو أن هذا قد مسَّ قطعيات الشريعة التي جاءت الشريعة بتثبيتها والإكثار من ذكرها والقطع فيها حتى لا تحتمل إلا المعنى المحدد شرعًا.
ثانيًا: النصوص الشرعية لها ظاهر ينبغي فهمه والأخذ به:
جلُّ النصوص لم يُترك للبشر طريقة فهمها وتحديد الآليات التي يفهمون بها من عند أنفسهم، وفي نفس الوقت لم يكن الخطاب الشرعي أجنبيًّا عن الناس، فقد أنزل بلسان عربي مبين كما أكد الله على ذلك مرات في كتابه، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195]، وغيرها من الآيات، وأقصد هنا بتحديد المعنى: تحديد المعنى النهائي القاطع، بغض النظر عن التدبرات والتأملات والآثار والعلاقات مع الآيات الأخرى والأنفس والكون، فذلك بحر لا ساحل له، لكن النصوص الشرعية ليست مفتوحة من جهة تحديد المعنى، ولذلك كان الجدل دائرا بين أهل السنة والجماعة وأهل التأويل، وما القول بالنص المفتوح إلا شكلٌ من أشكال القول بالتأويل، إلا أنه أكثر عبثية من القول بالتأويل الكلامي.
وقد أكثر العلماء من التأكيد على أن المراد من النصوص: الظاهر، فالنصوص تفهم حسب ظاهرها، وكون الله أراد معنى آخر غير المعنى الظاهر ولم يبينه ما هو إلا عبث يجب أن ينزه الله تعالى عنه، وفي الحقيقة فإن المتكلمين هم من جعلوا أبواب التأويل مشرعة على مصراعيها حتى وإن لم يريدوا ذلك([13])، وقد نبه على هذا ابن تيمية وغيره، يقول ابن تيمية حمه الله: “فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونًا فيما يتأول وما لا يتأول، بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع”([14]). فعلى مقاييسهم لا يمكن التفريق بين نص وآخر في جواز التأويل من عدمه، بل كل النصوص سواء وإن لم يلتزموا هم بهذا اللازم، يقول ابن القيم رحمه الله: “ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي، وجعلوها عيارًا على كلام الله ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة، وأي بناء للإسلام هدموا بها، وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخرَّ من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئًا من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذرًا له فيما تأوله هو، وقال: ما الذي حرَّم علي التأويل وأباحه لكم؟! فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات، بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وقالوا: كيف نحن نعاقب على تأويلنا وتؤجرون أنتم على تأويلكم؟! قالوا: ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر من نصوصه بالمعاد، ودلالة النصوص عليها أبين، فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد؟! وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم، وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب، وطمث الوادي على القرى، وتأولت الدين كله، فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل؟! وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟! فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟! الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل، وليس هذا مختصا بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد”([15]).
والغرض من هذا الكلام أن يقال: إن الشريعة إنما جاءت بنصوص لها معان واضحة، فهمها الصحابة الكرام، وعملوا بها استنادًا إلى رؤيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم يعمل بها، واستنادًا كذلك إلى فهمهم للغة العربية التي بها أنزل القرآن، والشريعة قد أمرت باتباع الكتاب والسنة، والمراد اتباع المعاني لا النصوص فقط، وإلا لما كان في الشرع ما يسمى بالبدعة؛ إذ إن كل طريق تتدثر بالنص الشرعي يكون حسنا مطلوبًا، وليس الأمر كذلك، فالقول بالنص المفتوح يناقض الأمر الشرعي، ويناقض المقصد الشرعي من إنزال الرسالة، وبناء عليه فجميع النصوص التي تكلمت عن كفر أهل الكتاب نصوص تؤدي إلى قول واحد وهو: الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح لا غيره.
ثالثًا: فوضى التأويل:
إذا كان النصُّ الشرعي له معنى محدد، وقد مارس المتكلمون التأويل على مر التاريخ، وأدى ذلك إلى تناقضات في التأويل، فإن التأويل الحداثي قد فجَّر الفوضى في المعاني، فالتأويل الحداثي تأويل عبثي فوضوي بلا ريب؛ خاصة وأنه يتيحه لكل أحد من الناس، فتتعدد المعاني والتفسيرات بتعدد القراء!
الأصل الثالث: المادية:
المادية هو المذهب الذي يُرجع كل شيءٍ إلى المادة، ويحصر طرق المعرفة في الحس، وينكر كل ما سواه([16])، وهي تبتلع كل القيم الدينية والأخلاقية، وتهدم كل المعايير فوق البشرية، والدين عند الماديين ما هو إلا منتج بشري محض، لا علاقة له بالإله.
فالأديان كلها في نظر المادية على طاولة واحدة، لا يفضل دين على دين، فلا ينكر على دين دون الآخر، بل كلها متساوية يجب قبولها كلها أو ردها كلها، ولا يوجد ما يسمى بالدين الصحيح الذي يفضل كل الأديان.
النتيجة:
هذه بعض الأصول التي يبني عليها أصحاب هذا القول قولهم، ونتيجة القول بهذه الأصول هي: التسوية بين الأديان كلها، والدعوة إلى القول بصحتها أو التقارب بينها أو دمجها في دين واحد، فقد جمعوا بين كل الأديان، ورأوا أنها كلها تتضمن قدرا من الصواب، وبناء على هذا كله يجب علينا قبول كل الأديان والقول بأنها كلها تحمل الحق، يقول جون هيك: “ومن غير المناسب الحديث عن الأديان كأديان خاطئةٍ أو قوميَّة أو ضالة أو هادية، أو الحديث عنها كنُظُمٍ وأفكار ومعان متنافسة؛ بل الأديان عبارة عن تقاليد وعلاقات دينية تطورت داخل تيار الحياة البشرية، وفي سياق تاريخ الجماعات الإنسانية؛ لتعبر عن التنوع في أشكال الفكر، والتعدُّد في الطَّبع البشرى”([17]).
فالأديان كلها على درجة واحدة من الصحة، ومن الخطأ تخطئتها حسب الفكر التعددي هذا، ولا شك أن هذا القول مبني على هذه الأصول الخاطئة، فهو أيضا قول يفضي إلى التسوية بين الحق والباطل، وهدم أي معيار صحيح للموازنة بين الخير والشر، وهذا ما لا يمكن أن يصح في كل المعارف والتجارب الدينية والدنيوية، فلا يمكن التسوية مثلا بين الصدق والكذب، ولا بين الإنسان الملتزم بالقوانين الدنيوية وغير الملتزم بها، فكيف نساوي بين ما قامت على صحته عشرات الأدلة -وهو دين الإسلام- وبين غيره من الأديان التي قامت عشرات الأدلة أيضا على بطلانها وتحريف الصحيح منها؟!
وقد جاءت الشريعة بإبطال التسوية بين الحق والباطل في آيات كثيرة لتضع نظاما يقول: إن الخير لا يمكن أن يوضع على مرتبة واحدة مع الشر والسوء، بل لا بد من التمايز، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، وغير ذلك، فلا يستوي الحق والباطل في التشريع الإسلامي، والتسوية بين الخير والشر يفضي إلى انعدام العيش السوي في الدنيا، لا يمكن أن يقال: فكرة السرقة مساوية لفكرة الحفاظ على الممتلكات، ولا فكرة الإحسان مثل فكرة الظلم، ولو أننا ساوينا بين كل الأمور ونظرنا إليها بنسبية مطلقة لأصبح العيش بين البشر مستحيلا، فلا يمكن أن يساوى بين الأديان كلها، بل هناك دين واحد هو الصحيح والحق دون الأديان الأخرى، وهو دين الإسلام.
وأخيرا:
الدين الوحيد الذي يثبت أمام الاختبارات التاريخية والعقلية هو دين الإسلام، فهو الدين الذي لا يزال محافظًا على كتابه كما أنزله الله، وهو الدين الخالي من التناقضات في العقيدة وأصول الدين وحتى في فروعه، وهو الدين الذي يدعو الإنسان إلى التخلص من أوحال الشرك وتعدد الآلهة، ونؤمن يقينًا لهذه الأدلة أن الإسلام هو الدين الصحيح الوحيد الذي حاز الحق أكمله، ولا يمكن لأي دين أن يوضع في مكان متساوٍ مع الإسلام، بل الإسلام هو الحاكم على كل الأديان الموجودة كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) التقارب بين الأديان أو دمجها فكرة قديمة، يرجعها الشيخ العلامة بكر أبو زيد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر: الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان (ص: 16) وما بعدها.
([2]) ينظر: التعددية الدينية -رؤية نقدية-، د. محروس محمد محروس بسيوني، مجلة جامعة طيبة (ع: 12، ص: 423).
([3]) حاشية الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (ص: 183).
([4]) نوقشت مثل هذه الآيات في ورقة بعنوان: (ليسُوا سواء) وجوبُ اتِّباعِ النَّبي ﷺ على أهل الكتاب بينَ نصوصِ الإسلام ونظريَّة عدنان (ثلاثة أجزاء) على مركز سلف، أولاها على الرابط:
(ليسُوا سواء) وجوبُ اتِّباعِ النَّبي ﷺ على أهل الكتاب بينَ نصوصِ الإسلام ونظريَّة عدنان (الجزء الأول)
([5]) وهذه الشبهات كلها مناقشة في ورقة علمية في مركز سلف بعنوان: (إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلامُ) تفسير وإجابة عن المتشابهات، على الرابط التالي:
إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلامُ “تفسير وإجابة عن المتشابهات”
([6]) ينظر: نفس الورقة العلمية السابقة.
([7]) آفاق فلسفية عربية معاصرة (ص: 329).
([8]) مناهج البحث عند مفكري الإسلام (ص: 191).
([9]) ينظر مثلا كتاب: الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، لنصر حامد أبو زيد.
([12]) الإسلام، أوروبا الغرب.. رهانات المعنى وإرادة الهيمنة (ص: 24)، وينظر ما قبلها.
([13]) ينظر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية، للدكتور: محمد أحمد لوح.
([14]) درء تعارض العقل والنقل (5/ 344).
([15]) أعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 191).
([16]) ينظر: المعجم الفلسفي (2/ 306) وما بعدها.
([17]) التعددية الدينية في فلسفة جون هيك المرتكزات المعرفية واللاهوتية، د. وجيه قانصو (ص: 117) عبر: التعددية الدينية رؤية نقدية. د. محروس محمد محروس بسيوني، مجلة جامعة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، السنة السادسة، (العدد: 12، ص: 421).