التوظيفُ البدعيُّ لحديث الوليّ (بعض صور التوظيف البدعي ونقضها)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
حديث الولي أشرف حديث رويَ في ذكر الأولياء([1])، وذكر صفتهم([2])، وهو أصل في السلوك إلى الله عزَّ وجلَّ والوصولِ إلى معرفته ومحبته([3])، ولِعظم هذا الحديث الشريف الإلهي “حرامٌ على غليظِ الطبع كثيفِ القلب فهمُ معناه والمرادِ به”([4]).
لذا شغّب على فهمه المشغِّبون، وحاول بعض أهل البدع والضلال قديمًا وحديثًا توظيفه في بدعهم وتضمينه في مقدمات استدلالاتهم، كسائر نصوص الوحي التي حاولوا الانتصار بها والتقوِّي بها؛ ليستروا حقيقة الوجه القبيح لما أحدثوه ودعوا إليه.
ولا شك أن هذا النص -لا سيما مع محاولات التوظيف البدعي- “مِنْ جملة الأحاديث التي تحتاج -ككثير من آيات القرآن- إلى تفسير، وقد فسَّره أهل العلم”([5])، ولم يَدَعُوا مقالةً لقائل، والحمد لله رب العالمين.
وإن من نافلة القول تقرير أن ضبط فهم حديث الولي والتنبيه على مزالق الفهم البدعي والتوظيف الخاطئ له إنما هو صيانة لجناب الشريعة، ومعاني الإيمان أن تدنس أو تُغيّب باسم (الولاية) و(محبة الأولياء)، أو تكون وسيلة إلى نشر المعاني (الحلولية) و(الباطنية)، وعدم تقدير العبادات الشرعية قدرها، وليس هذا تضييقًا لأمر وسَّعه الله، أو رغبة عن دينٍ شَرَعَهُ الله، كما قد يفهمه مَن استرسل في المعاني المحدثة ولم يفطن لانحرافها وجُرم لازمها، فسعى في إلصاقها بالنصوص الشرعية، بلا حصانة من معاني الوحي الواضحة.
لذا كانت هذه المحاولة لدفع بعض الإشكالات البدعية التي أُنِيطت بحديث الولي زورًا، وهي فرصة كذلك للتنبيه على بعض معتقدات السلف حول القضايا القريبة، وتجلية بعض المزالق الضالة التي سقط فيها القوم.
نص حديث الولي:
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته»([6]).
الفصل الأول: صور التوظيف البدعي لحديث الولي:
ظهر التوظيف البدعي لحديث الولي في عدة صور، منها:
(1) توظيف صفة أولياء الله المتقين في حديث (الولي) في الترويج لأولياء الصوفية:
فأول الخلط ومُفتتح التلبيس إلباسُ (الحال) و(الواقع) الصوفي ثوبَ (الدين) الصحيح الذي ارتضاه، ومن ذلك ترويج صورة (الولي) وحاله الوارد صفتها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -ومنها حديث الولي- على أنها هي المتحقِّقة عيانًا في حال المتصوفة قديمًا وحديثًا، ونراه في طيات كراماتهم المزعومة في كتبهم وطبقاتهم! وخلاصة ذلك كله: الإيهام أن صفة (أولياء الله) في الوحي هي المتحقِّقة في الواقع البدعي.
فقد أُدخل على معنى (الولي) و(الأولياء) معان شيعية الأصل صوفية الاحتضان، تحولت بها عن المعنى القرآني العربي الواضح بأن الولي القريب والمتقرب إلى الله بالإيمان والتقى وبالفرائض والنوافل، إلى وليٍّ مُعيَّن يتوارث الولاية من آبائه أو أقاربه، مجافٍ للشريعة معظم لطقوس، ومتأولٍ لنصوصها بطريقة باطنية إشارية، تحركه أوهام المنامات، ينطلق من أصول بلا أصول.
وكذلك انتقل معنى الولاية من معنى النصرة إلى نصرة معينة وتحزّب معين لطريقة بعينها تُعقَد لها ألوية الولاء والبراء، على شيخهم، وأبنائه، ومريديه، وطريقته، وأذكاره، وأوراده.
وتسرَّب كذلك معنى الولي (المحفوظ) على غرار النبي (المعصوم)([7])، كما قال القشيري: “ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصومًا، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدع”([8]).
ولم ننتصب هنا للحديث عن مصادر التصوف والنشأة الصوفية، لها موضعها، لكننا هنا ننبه إلى الانحراف بأدنى إشارة إلى امتزاج بعض الأفكار الشيعية بالفكر الصوفي([9]).
وما يعنينا هنا بالأصالة: أنك تجد كل طريقة من طرق الصوفية وكل فرقة وشيخ منهم قد جعل له حصانة، وأنزل حديث (الولي) تصريحًا أو تلميحًا حمى يحميه، حتى وإن لم ينطق بألفاظ الحديث، فإن بعض المعاني التي يريدون توظيفها تبلغ التواتر، وتدور في مصنفاتهم وعباراتهم، ويُرى من حالهم البئيس إذا جالسوا المتشرعة، فينزلون هذه المعاني السامية الخاصة بأولياء الله المتقين أهل الصلاح والعلم والعمل على مجاذيب الصوفية، ويجعلون الولاء والبراء والمحبة والبغض لهذا في شخص هذا الولي المزعوم، بل ويضمون إلى مهامّه وتصرفاته ضمان الجنة بغير حساب ولا عقاب لأتباعه وذويهم وأوليائه ومناصريه ولو عملوا من الذنوب والمعاصي ما عملوا، بل وشهد بعضهم بالجنة لمن رأى هذا الصوفي بعينه.
– نماذج من نصوص التوظيف والتلبيس بإسقاط معنى موالاة أولياء الله ومعاداتهم على أولياء الطرق البدعية:
قال بعضهم: “قال الشيخ رضي الله عنه: قال لي -أعني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم-: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان. ثم قال بعده: من رآك يوم الجمعة أو يوم الاثنين دخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، ولا يدخل النار ولا يراها، سواء كان مطيعًا أو عاصيًا. ومن كراماته الكبرى رضي الله عنه أن كل من أحبه وكل من أحسن إليه بخدمة أو غيرها، وكل من أطعمه، كلهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب، ويكونون معه في عليين في جواز النبي، ويكونون آمنين من عذاب الله من الممات إلى دخول الجنة. قلت: وهذا كله بشرط عدم معاداته رضي الله عنه”([10]).
وقال علي حرازم: “اطلعت على ما رسمه وخطه ونصه.. أسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى ابن مريم من جميع الذكور والإناث. وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر.. فكل من لم يعاديني من جميع هؤلاء. أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخًا أو أخذ عني ذكرًا، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة.. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم.. يضمن لي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن يموت كل حي منهم على الإيمان والإسلام.. ثم قال: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبدًا، إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين. وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضمانًا لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام.. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا منامًا”([11]).
وتطاول أحد هؤلاء الأولياء المزعومين على مقام أنبياء الله ورسله -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- ونصب نفسه على درجة الربوبية والألوهية المطلقة حيث قال: “وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلّا أنا وحدي”([12]).
وقال بعضهم: “وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني وردًا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضمنت لك هذا ضمانًا لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين”([13]).
وقال غيره: “وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان، وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه: بعزة ربي، يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب، ويكتبونه من أهل الجنة، وأنا شاهد على ذلك”([14]).
وقال أيضًا: “ورأيت في كلام بعض من كان مشارًا إليه بالفتح من الأصحاب ما يشير إلى أن المختص برؤيته في اليومين هو السعادة التي لا شقاوة بعدها، يعني أنه لا يراه في هذين اليومين إلا من سبق في علم الله تعالى أن يكون سعيدًا، فيدخل الكفار في هذا الخطاب، وينسحب عليهم الحكم في هذا المقام بفضل الملك الوهاب، فيقال: لا يراه في هذين اليومين إلا من يسبق في علم الله تعالى أنه يختم له بالسعادة كائنًا من كان، فإذا رآه الكافر في أحد هذين اليومين ختم له بالإيمان، وعليه فتخصص الرؤية المطلقة في كل يوم بمن كان مسلمًا، سواء كان من الأصحاب أو لا، حسبما هو مصرح به في الجواهر، وهذه المقيدة باليومين بما يشمل كل من رآه ولو كان كافرًا”([15]).
قلب هذا التوظيف:
لاحظ بؤس هذه المعاني السيئة، وقارنها بحديث الولي، وبحال أولياء الله وعبادتهم وتواضعهم، وقارن ذلك أيضًا بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «والله، إني رسول الله، وما أدري ما يفعل بي»([16])، والذي يقول الله تبارك وتعالى له: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21، 22].
قال محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله -وقد كان تجانيًّا قبل أن يعود إلى عقيدة أهل السنة والجماعة- معلقًا على بعض هذه الأقوال: “لا يستطيع أحد أن يعتقد هذا الخبر إلا إذا تجرد من العقل والدين والمروءة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الزخرف آية (72): {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، ورؤية الشيخ ليست من العمل في شيء، ولم يثبت هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بقرآن ولا حديث صحيح أو ضعيف؛ فإن الكفار والمنافقين كانوا يرونه كل يوم ولم ينفعهم ذلك، فلا أنجاهم من عذاب الله؛ ولا جعلهم من أهل الجنة؛ بل دعاؤه لهم أخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم، قال الله تعالى في سورة التوبة آية (80): {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}”([17]).
وصدق رحمه الله، فهذه الدعاوى لم يرد مثلها ولا أقلّ منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم.
والملاحظ عليهم أنهم يحاولون تصدير صورة متخيلة عن أولياء الله تنطبق على الواقع البدعي، والتي تنطوي على تعظيم -بل وتأليه- وصناعة طاغوت يزعم التصرف في الكون، وكل هذا يناط بهذا الحديث الشريف حديث الولي وغيره من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.
لذا فإن هذا التلبيس ينمحي وينجلي ظلامه بالإسفار عن معنى أولياء الله المذكورين في حديث الولي، الذين هم أولياء الله على الحقيقة، وبإيضاح صفتهم التي ذكرها السلف، لا أولياء البدعة والخرافات المنسوجة حول الولي وطريقته وإمكاناته وتصرفاته، وطقوس تعظيمه والولاء والبراء عليه.
فأين هؤلاء من قول الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]؟!
قال ابن جرير الطبري: “الولي -أعني ولي الله- هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}… الذين صدقوا الله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه”([18]).
وأصل الولاية: القرب، فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم أولياءه المقربين إلى قسمين:
أحدهما: من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.
والثاني: من تقرَّب إليه بعد الفرائض بالنوافل.
فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن ادّعى ولاية الله والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر: 3]، وكما حكى عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، مع إصرارهم على تكذيب رسله وارتكاب نواهيه وترك فرائضه([19]).
والجاري على قواعد السلف أن يقال في تمييز أولياء الله كما قال ابن حجر: “المراد بولي الله: العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته”([20]).
قال الشوكاني عن تعريف ابن حجر وما شمله من قيود ومحترزات: “وهذا التفسير للولي هو المناسب لمعنى الولي المضاف إلى الرب سبحانه. ويدل على ذلك ما في الآيات القرآنية كقوله سبحانه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]”([21]).
فهذه القيود التي ذكرها ابن حجر ضوابط يحترز بها عن أضدادها؛ أصحاب الولاية البدعية:
– فالولي عالم بالله: غير جاهل به، وبما يستحقه الله، وما يجب له، وما يتنزه عنه، ومن ذلك تعظيمه وألا تصرف العبادات لغيره سبحانه وتعالى.
– والولي مواظب على الطاعة: غير مطَّرح للتكاليف الشرعية، كحال كثير ممن يدّعون الوصول لليقين، فيطرحون العبادات، ويتخلون بالخلوات تاركين للصلاة والجمعات والأمر والنهي وأمور المعاش وحقوق العباد وصلة الأرحام، وخلافًا للتقريرات الصوفية؛ فالولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب، وبغير حكمة، ويجعلون الولاية الكسبية هي ولاية العوام والمتنسكين، والولاية الحقيقية عندهم هي الولاية الوهبية.
– والولي مخلص لله غير مراءٍ ولا متصنِّع: فلا يتصنع الفضل والعزة، ولا يحب الظهور بمقام الكرامة على الله، بل ولا يظهر التحدّي بما وهبه الله به من كرامة يزعمها، وإلا فإن دون ذلك تلبيس شيطاني ومادة سحرية، يُلبِّس بها بعض طواغيتهم، وما حال الرفاعية عن ذلك ببعيد.
قال شمس الدين الذهبي عن الرفاعية أصحاب أحمد الرفاعي: “ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق؛ من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات”([22])، وقال ابن خلكان: “ولأتباعه أحوال عجيبة؛ من أكل الحيات وهي حية، والنزول إلى التنانير وهي تضطرم من النار فيطفئوها”([23]).
فأولياء الله أهل إيمان وهدى، ومشتغلون بالعبادة ساعون لخلاص أنفسهم، ويسألون الله ويفتقرون إلى فضله، ويدعونه ويرجون استجابة دعائهم، فالكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، ولا يتحدَّون بها أحدًا، ولا ينتصرون بها أو يرون أنهم أعلى من غيرهم، فضلًا عما رأيناه هنا من كونهم يملكون الجنة والنار، ويدخلون من شاؤوا من محبيهم وأتباعهم.
وأولياء الله تعالى على الحقيقة هم من أهل التواضع، ولعل هذا أحد أسباب وضع الإمام البخاري هذا الحديث في باب التواضع؛ فإن أولى الناس بأن يتواضعوا للخلق هم أولياء الله تعالى، ويحتمل كذلك أن الإمام البخاري وضعه في باب التواضع لأن أولياء الله تعالى شديدو التواضع حتى إن منهم من قد لا يأبه له أحد من الخلق لظهور سِيمَا التواضع عليه في المأكل والملبس.
قال ابن حجر: “أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي: ليس هذا الحديث من التواضع في شيء، وقال بعضهم: المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى، وبذلك ترجم البيهقي في الزهد فقال: فصل في الاجتهاد في الطاعة وملازمة العبودية. والجواب عن البخاري من أوجه: أحدها: أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكل عليه ذكره الكرماني. ثانيها: ذكره أيضا فقال: قيل: الترجمة مستفادة مما قال: «كنت سمعه»، ومن التردّد. قلت: ويخرج منه جواب ثالث، ويظهر لي رابع، وهو أنها تستفاد من لازم قوله: «من عادى لي وليا» لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم، وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع؛ إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له، وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة، لكن ليس شيء منها على شرطه، فاستغنى عنها بحديثَي الباب، منها حديث عياض بن حمار رفعه: «إن الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد» أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة رفعه: «وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه» أخرجه مسلم أيضا والترمذي، ومنها حديث أبي سعيد رفعه: «من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين» الحديث أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان”([24]).
(2) توظيف «كنت سمعه.. وبصره..» في معنى الكشف والاطلاع على الغيب:
فعلى اختلاف مشارب الصوفية واختلاف درجاتهم قربًا وبعدًا إلا أن الكشف الصوفي والاطلاع على الغيب وانكشاف الحجب تحتلّ في قلوب أكثرهم -إن لم يكن كلهم- المحل الأوفى.
فعبر هذا المعتقد مُرِّرت دعاوى بدعية، ومُرِّرت معاني مخالفة، وتهشَّمت عقائد الإيمان بالغيب في قلوب كثير مِنهم، حتى إن المطالع إذ يتمعّن كلامهم ويتمحّص لوازمه ويقارنها بمعاني الوحي الصافية ليطيش عقله ويذهل من فجاجة الدعاوى؛ دعاوى أن الله أطلعهم على الغيب، وأعلمهم ما في الأرحام، وأراهم كتابًا فيه أسماء أهل الجنة والنار، وجلس معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة، وأملى عليهم أمالي من الغيب، كل هذا تحت مسمى الكشف.
وعليه فإن “الكشف الصوفي: وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعًا، وما في الأرض جميعًا، فلا تسقط ورقة إلا بنظره، ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه، ولا يولد مولود أو يعقد معقود أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي… كتب القوم كلها تنص على أن الصوفي لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل، وماذا سيكون إلى الأبد، لا أقول: قد ساوى الصوفية أنفسهم بالأنبياء بالغيب، أو ساووا أنفسهم بالخضر الذي يزعمون النقل عنه، لا والله، بل جعلوا كل واحد منهم ممن لا وزن له في خُلُق ولا علم، جعلوا هؤلاء هم الله علما بكل شيء، وإحاطة بما في السماوات والأرض”([25]).
فهم جعلوا الأولياء متصرفين في كون الله بما شاؤوا، وهذا من أقبح المعتقدات؛ أن يظن أن الله تعالى قد فوَّض هؤلاء الدراويش بالـمُلك والتدبير والإحياء والإماتة، وأنهم قد آل أمر الخلق إليهم، كذبات يروّج لها كذابون، ويدعمها سحرة وشياطين، مع تلبيس على الناس في غيبة العلم والنصح، وفي غفلة عنهم يروج أمرهم، وإذا ما وجدت رائحة استدلال فإنهم ينفخون فيها نيران البدعة، وينوطون بها كذبتهم وخرافتهم.
فقد روجوا أن الولي يعلم الغيب ويتصرف في كون الله، وأنهم يقولون للشيء: كن، فيكون! أو أنهم أهل للعبادة -عياذًا بالله من هذا الزيغ-؛ فالمتصوفة يعتقدون في أوليائهم أوصافًا إلهية ونعوتًا ربانية.
وقد نقل ابن عطاء السكندري مقولة أبي العباس تلميذ أبي الحسن الشاذلي وخليفته في شيخه: “لو كُشف عن حقيقة الولي لَعُبِدَ؛ لأن أوصافه من أوصافه، ونعوته من نعوته”([26]).
وقال ابن مغيزل الشاذلي في وصف المرسي أبي العباس: “وبالجملة فهذا الشيخ أبو العباس المرسي هو ممن أطلعه الله على حقائق الغيوب المطلقة والمقيدة، فصار يغترف من فيض البحر الإلهي والمداد الرباني”([27]).
قلب هذا التوظيف:
من تأمل معاني الوحي وجد أن من القضايا الكبرى التي أوعبها الوحي واستفاض في تقريرها قضية الغيب؛ لقطع الطرق على كل مُبطل مُلبس وشيطان مُخبث.
فالغيب لا يعلمه إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يُطْلِع على ما شاء من الغيب مَنْ شاء من أنبيائه ورسله فقط، والأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه، كما قال سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]، وقال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 26-28].
وأمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه ليس ملَكًا، ولا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، قال تعالى: {قُل لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].
وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما قاله نوح قبل ذلك: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله»([28]).
وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
– وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»:
فإنه محمول على أن تصبح عبادته لله على وصف الحضور ومراقبة الله كأنه يراه، أي: على درجة الإحسان، كما قال ابن رجب رحمه الله: “إن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه، ورقّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة… -إلى أن قال:- فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»، ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول أو الاتحاد، والله ورسوله بريئان منه”([29]).
(3) توظيف معنى التردد في معنى مخالف لمعتقد السلف:
فهِم البعض من هذا الحديث أن المعنى أن الله تعالى يوصف بالمتردد، وأنه يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب. وفهِم البعض منه أن الله يعامل معاملة المتردد([30]).
قلب هذا التوظيف:
هناك عدة مسالك للتعامل مع هذا التوظيف البدعي([31])، وذلك كالآتي:
المسلك الأول: إجراء الحديث على ظاهره: فيؤخذ بمدلوله في إثبات التردد صفة لله تعالى، على ما يليق بجلاله وعظمته، مع القطع بكون تردده سبحانه ليس كتردد المخلوق، لأنه جلَّ وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فليس مثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وقد نص على هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية([32]).
المسلك الثاني: تأويل الحديث وصرفه عن ظاهره: وذلك بنفي صفة التردد عن الله تعالى، وإلى هذا ذهب الشوكاني رحمه الله، وهو مسلك عامة أهل التأويل من شراح الحديث وغيرهم([33]). قالوا: لأن التردد يكون ممن لا يعلم عواقب الأمور، وهذا محال على الله تعالى([34]).
وقد ذكروا عدة تأويلات حملوا الحديث عليها، منها:
1، 2- ما ذهب إليه الخطابي وغيره حيث قال: “التردد في صفة الله عزَّ وجلَّ غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، وتأويله على وجهين:
أحدهما: أن العبد قد يشرف في أيام عمره على المهالك مرات ذوات عدد؛ من داء يصيبه وآفة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع مكروهها عنه، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرًا ثم يبدو له في ذلك، فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، فإنه قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه…
والثاني: أن يكون معناه: ما ردَّدت رسلي في شيء أنا فاعله تَردِيدِي إياهم في نفس المؤمن، كما روي من قصة موسى وملك الموت -صلوات الله عليهما-، وما كان من لطمه عينه، وتردده إليه مرة بعد أُخرى([35]).
وحقيقة المعنى في الوجهين معًا: عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه”([36]).
3- وذهب بعضهم كابن الجوزي إلى احتمال أن يكون المعنى: أن تركيب الولي يحتمل أن يعيش خمسين سنةً، وعمره الذي كتب له سبعون، فإذا بلغ الخمسين فمرض دعا الله بالعافية، فيحييه عشرين أخرى، فعبر عن قدر التركيب وعما انتهى إليه بحسب الأجل المكتوب بالتردد([37]).
4- ما ذهب إليه الشوكاني وهو: أن “التردد كناية عن محبة الله لعبده المؤمن أن يأتي بسبب من الأسباب الموجبة لخلوصه من المرض الذي وقع فيه حتى يطول به عمره؛ من دعاء أو صلة رحم أو صدقة، فإن فعل مد الله له في عمره بما يشاء وتقتضيه حكمته، وإن لم يفعل حتى جاء أجله وحضره الموت مات بأجله الذي قد قضي عليه إذا لم يتسبب بسبب يترتب عليه الفسحة له في عمره، مع أنه وإن فعل ما يوجب التأخير والخلوص من الأجل الأول فهو لا بد له من الموت بعد انقضاء تلك المدة التي وهبها الله سبحانه له. فكان هذا التردد معناه: انتظار ما يأتي به العبد مما يقتضي تأخير الأجل، أو لا يأتي فيموت بالأجل الأول”، قال: “وهذا معنى صحيح لا يرِد عليه إشكال، ولا يمتنع في حقّه سبحانه بحال، مع أنه سبحانه يعلم أن العبد سيفعل ذلك السبب، أو لا يفعله، لكنه لا يقع التنجيز لذلك المسبب إلا بحصول السبب الذي ربطه عزَّ وجلَّ به”([38]).
وخلاصة الكلام: أن المسلك الأول هو المسلك الجاري على قواعد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وذلك بحمل الحديث على ظاهره، وإثبات التردد صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.
ومن أوَّل الحديث معتقدًا تنزيه الله تعالى عما لا يليق به فيقال: إذا كان تردّد المخلوق معناه: “التوقف عن الجزم بأحد الطرفين”، فإن هذا المعنى لا يدل عليه الحديث؛ لأن الحديث صريح في الجزم بأحد الطرفين، حيث قال: «وما ترددت في شيء أنا فاعله» أي: سأفعله ولا بد؛ لأنه تعالى قد قضى على عباده بالموت، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، يؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض طرق الحديث بعد قوله: «يكره الموت، وأكره مساءته» زيادة: «ولا بد له منه».
فتردد الله تعالى ليس منشؤه عدم الجزم بأحد الطرفين، أو عدم العلم بعواقب الأمور، وإنما هو تردد مفسَّر في الحديث نفسه، حيث قال: «يكره الموت، وأكره مساءته»، فهذا هو معنى تردّده سبحانه، وهو كون الفعل مرادًا لله تعالى من وجه، ومكروهًا له من وجه، فهو يريد الموت لعبده؛ لأنه قد قضى به عليه، ولا بد له منه، ومع ذلك فهو يكرهه لأنه يكره ما يكرهه عبده، ولذلك قال: «وأنا أكره مساءته».
وهذا المعنى للتردد يحصل من المخلوق أيضًا، فالمريض مثلًا يريد الدواء الكريه لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة المتمثلة في كونه كريهًا، سواء في طعمه أو رائحته أو غير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الواحد منا يتردّد تارةً لعدم العلم بالعواقب، وتارةً لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه… وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: «حُفت النار بالشهوات، وحُفت الجنة بالمكاره»([39]).
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216]. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق، محبًّا له، يتقرب إليه أولًا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة، بحيث يحب ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه، والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته… والمقصود هنا: التنبيه على أن الشيء المعيَّن يكون محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه، وأن هذا حقيقة التردّد، وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص، والله أعلم”([40]).
وأما المسلك الثاني فإنهم بنوا مذهبهم على كون التردد بمعنى: التوقف عن الجزم بأحد الطرفين لعدم العلم بالعاقبة، وتقدم بيان أنه غير لازم من معناه، إذ قد يكون التردد لكون الشيء المعين مرادًا من وجه، ومكروهًا من وجه آخر، وهذا هو حقيقة تردده سبحانه -كما تقدم-، فهو يريد الموت لكونه قضى به على الخلق كلهم، ويكرهه لكراهة عبده له، مع أنه سبحانه قد قطع بأحد الأمرين وهو الموت، وهو سبحانه يعلم عاقبة كل منهما، فهو يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وختامًا: فهذه بعض الصور التي قد ظهر فيها التوظيف البدعي لحديث الولي، ويتلوه إن شاء الله تعالى في فصل قادم: “القواعد السُّنية التي شملها حديث الولي” وبعض صور التوظيف البدعي.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (2/ 334).
([2]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (18/ 129).
([3]) التعيين في شرح الأربعين، لنجم الدين الطوفي (ص: 321).
([4]) الداء والدواء، لابن القيم (ص: 431).
([5]) الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» للمعلمي -ضمن آثار المعلمي- (12/ 269).
([7]) مستفاد من: التصوف الثورة الروحية في الإسلام، لأبي العلا عفيفي (ص: 252). وانظر: الصوفية والصفوية، خصائص وأهداف مشتركة، لعلي الكاش.
([8]) الرسالة القشيرية (2/ 416).
([9]) من الطبيعي أن تتسرب إلى أوساطهم أفكار الشيعة عن الولاية، لا سيما وأن التصوف والتشيع نبتا وترعرعا زمنًا طويلًا في بيئة واحدة هي البيئة العراقية والفارسية. غير أن الصوفية لم يقفوا بالولاية عند الحدود التي رسمها الشيعة، بل تجاوزوا هذه الحدود، وتوسعوا في معنى الولاية في عصورهم المتأخرة، وخاضوا في مسائل لم يخض فيها الشيعة ولم تخطر لهم ببال.
يقول ابن خلدون في نص نفيس يستحق الدراسة: “ثم حدث أيضا عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس، وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم أيضا القول بالقطب والأبدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء. وأشربوا أقوال الشيعة وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم، حتى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن عليا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري، وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة. واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن علي من وجه صحيح. ولم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه، بل الصحابة كلهم أسوة في طريق الهدى، وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية، يفهم منها ومن غيرها من القوم دخولهم في التشيع وانخراطهم في سلكه. وظهر منهم أيضا القول بالقطب، وامتلأت كتب الإسماعيلية من الرافضة وكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر”. تاريخ ابن خلدون (1/ 402- 403).
وانظر أيضًا: التصوف والطرق الصوفية، لعبد الكريم بليل (ص: 93-94)، والتصوف: الثورة الروحية في الإسلام، لأبي العلا عفيفي (ص: 252).
([10]) روض المحب الفاني فيما تلقيناه من سيدي أبي العباس التجاني، للمشري السائحي (ص: 204).
([11]) جواهر المعاني (1/130-131). وانظر أيضًا: بغية المستفيد، للعربي السائح التجاني (ص: 268)، وموسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية، للمغراوي (9/ 65)، والفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق (ص: 355)، ودراسات في التصوف، لإحسان إلهي ظهير (ص: 281).
([12]) رماح حزب الرحيم (2/ 143) -بهامش الجواهر-.
([13]) الجيش الكفيل بأخذ الثأر، لمحمد صغير الشنقيطي (ص: 214-215).
([14]) بغية المستفيد، للعربي السائح (ص: 216).
([15]) بغية المستفيد، للعربي (ص: 275).
([17]) الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية، للهلالي (ص: 74).
([18]) جامع البيان (12/ 212-213).
([19]) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (2/ 335-336).
([23]) وفيات الأعيان (1/ 172).
([25]) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (ص: 146).
([27]) الكواكب الزاهرة في اجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة (ص: 147).
وقد استفتح محقّقَا الكتاب: د. عاصم الكيالي والدرقاوي مقدمة هذا الكتاب (ص: 3) وما فيه من طوام بحديثنا: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب…». وهذه إشارة جلية للتلفيق والتوظيف البدعي لحديث الولي.
([29]) جامع العلوم والحكم (2/ 345-346).
([30]) نقله ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/ 129).
([31]) يُنظر باختصار: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعا ودراسة، للدبيخي (ص: 251-268). ويُنظر أيضًا: الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 448)، ومجموع الفتاوى (18/ 129)، جامع العلوم والحكم (2/ 356-357).
([32]) مجموع الفتاوى (18/ 129-131، 10/ 58). وينظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (9/ 417).
([33]) انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 527)، وفتح الباري (11/ 345-346).
([34]) انظر: كشف المشكل، لابن الجوزي (3/ 525)، ومجموع الفتاوى (18/ 129).
([35]) أخرجه البخاري (1274)، ومسلم (2372).
([36]) أعلام الحديث (3/ 2259-2260) بتصرف يسير. وانظر: الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 448)، وشرح السنة، للبغوي (5/ 20).
([37]) انظر: فتح الباري (11/ 346).
([38]) قطر الولي على حديث الولي (ص: 515).
([39]) أخرجه البخاري (6122)، ومسلم واللفظ له (2822)، من حديث أبي هريرة.
([40]) مجموع الفتاوى (18/ 129-135، 10/ 58). وينظر: فتح الباري، لابن رجب (2/ 356).