عاشوراء.. يوم عظيم أنجى الله فيه موسى عليه السلام
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
تتوارد على المسلم مواسم العبادات والقربات ويزداد معها إيمان المؤمنين؛ ويزيد إقبالهم على الله سبحانه وتعالى؛ فمن رحمته أن جعل لنا مواسم للطاعات يعظم فيها أجر العبادات ويرفع الله بها الدرجات؛ فجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل صوم الست من شوال كصوم الدهر، وصوم عاشوراء مكفرًا لسنة، وصوم عرفة مكفرًا لسنتين.
وكما أن الله تعالى جعل مواسم للخيرات شرع لنا دينًا متنوع العبادات؛ فالمسلم يتنقل بين العبادات البدنية كالصلاة والعبادات المالية كالصدقة والزكاة والعبادات روحية كالخشوع والتوكل والخشية والإنابة.
ولكن كلما لاح لنا موسم من مواسم العبادات ينشط إلى جانب الأخيار الداعين إلى استثمار تلك المواسم مثبطين لا يعملون ولا يتركون الناس يعملون في طاعة الله؛ كمن يهون من عظمته ويقلل من شأنه ويكذب الفضائل الواردة فيه، وعلاقته بنجاة موسى عليه السلام.
وفي هذه الورقة إبراز لعظمة هذا النبي الكريم ولهذا اليوم العظيم ولقصة نجاته فيه.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
تمهيد:
موسى عليه السلام هو النبيّ الأعظم عند اليهود، والذي تدور وتتمحور حوله الديانة اليهودية.
وهو بحقٍّ من أعظم الأنبياء كما يقرر أهل الإسلام، بل من أولي العزم من الرسل الذين هم في أعلى المقامات البشرية وأشد الناس أثرًا في الفكر البشري؛ فقد كان داعية للتوحيد محاربًا للشرك مواجهًا للباطل بأقوى ما عنده، فضَّله الله تعالى على أنبيائه فكلَّمه تكليمًا، وأعلى منزلته بأن جعل تشريعه في زمنه أهدى تشريع، وكرَّم من آمن به من قومه ففضَّلهم على كثير ممن خلق تفضيلًا.
ولم يرد ذكره في القرآن وحسب، بل لم يورد القرآن قصة نبي ولم يكرر أحداثها كما كرر قصة موسى عليه السلام؛ فقد تكرر ذكره في القرآن في أكثر من مائة وثلاثين موضعًا، فهو من أكثر الأنبياء ذكرًا وأشدهم تفصيلًا وأقربهم حالًا إلى حال نبينا محمد -عليهما الصلاة والسلام- وأشدهم بلاء مع تنوع البلاء؛ فما ابتُلي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ببلاء إلا وَجد في حياة موسى مواساة له، وأعداؤُه من ألدِّ أعداء الرسل وأعتاهم؛ ففرعون أنكر الربوبية، في حين إن أكثر أعداء الرسل لم يجحدوا وجود الله، وهامان كان أعتى المعاونين للمتجبرين، وقارون كان التاجر الجشع ولو على حساب الحق والدين؛ “ففرعون في غاية الكفر والباطل، وموسى في غاية الحق والإيمان؛ فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص وأعظمها اعتبارا لأهل الإيمان ولأهل الكفر”([1])، ولو أطلقنا العنان للقلم في بيان مكانته في الدين الإسلامي لطال المقام، وبعض الربيع ببعض العطر يُختصر.
ولكن مع هذه القيمة العالية والمنزلة الرفيعة التي يتبوَّؤها موسى بين الأنبياء عموما في الدين الإسلامي وبين أنبياء اليهود خصوصًا، ومع أن القسم الثاني من أقسام التناخ([2]) مخصَّصٌ للحديث عن الأنبياء، ومع أن أسفار موسى الخمسة تناولت جوانب من حياة موسى عليه السلام وباستفاضة، إلا أن هناك جوانب أخرى تمثل حلقات مفقودة وغامضة، وتعتبر محل أخذ ورد وافتراضات من قبل اليهود أنفسهم.
يقول المسيري: “ورغم أن له [أي: موسى] هذه الأهمية؛ فإننا لا نجد ذكرًا له على لسان عاموس أو أشعيا، ولا يأتي له أيضا ذكر في الأسفار المقدسة إلا فيما ندر. وربما يعود هذا إلى فقدان اليهود لأسفار موسى الخمسة لمئات من السنين. والواقع أن هذه الأسفار تنسِب إلى موسى كثيرًا من الأوامر الخاصة التي تحرض على النهب والسلب والحرق… ونظرًا لأهمية موسى في الوجدان اليهودي، فإن اليهود والصهاينةَ يخلعون لقب (موسى الثاني) على كل قائد يهوديّ”([3]).
وهو ما جعل بعض الباحثين في الأديان -حتى من المسلمين- يذكر أن شخصية موسى لم تصل البشرية فيها حتى يوم الناس هذا إلى مفاصل واضحة ومعالم يقينية تبرز لنا حقيقته وشخصيته.
ويبدو أن هؤلاء عند هذا التعميم متأثرون بما يتردَّد في الفكر اليهودي وفكر أهل الكتاب على وجه العموم من الغموض الشديد في شخصيته ليس إلا([4]).
وهنا قضيَّتان مرتبطتان بهذا الغموض:
القضية الأولى: أنَّ الغموض والاختلاف الحاصلَ في شخصيته عليه السلام لا يعني التقليل من شأنه وأهميته في الفكر اليهوديّ، بل “رغم هذا الاختلاف حول شخصية موسى فإن هذه الشخصية أعطت للنبوة الإسرائيلية فيما بعد ملامحها الأساسيّة؛ فقد أصبح موسى النموذجَ الأول للنبيّ عند الإسرائيليّين، وأصبحت فترته فترة النبوة الحقيقية في التراث الإسرائيليّ، وأصبح أنبياء بني إسرائيل يبنون رؤاهم ونبوآتهم وإصلاحاتهم على أساس القرآن الموسويّ. هذا بالإضافة إلى أن أحداث فترة الخروج من مصر بزعامة موسى أصبحت هي الأخرى فترةً نموذجيةً مثاليةً يتمنى تکرارها كل نبيّ من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى”([5]).
القضية الثانية: أن غموضَ شخصيته في الفكر اليهوديّ لا يلزم منه بالضرورة غموضُ شخصيته على البشرية أجمعين، ولا القولُ بأن التاريخ بالعموم لم يصل إلى القول الفصل في شخصيته، وهنا يجب أن نفرق بين أمرين:
الأمر الأول: شخصية موسى في الفكر اليهودي؛ فلا شك أنها تتسم بالغموض وشح المعلومات في بعض حلقات سيرته وتاريخه على الرغم من أنه من أهمّ أنبيائهم، يقول الدكتور حسن ظاظا: “الظاهر أنه بعد موته لم يحتفظ بنو إسرائيل من ذكراه بشيء؛ فقد أضاعوا الرجل وأضاعوا توراته… ومرت أجيال وأجيال لا يذكره منهم أحد”([6])، “فموسى كان قد تحول إلى سيرة تاريخية قديمة يندر ذكرها أو الرجوع إلى تعاليمها حتى في حياة داود وسليمان، وأصبح موسى في اليهودية بمرور الزمن لغــزًا وطلسمًا وأسطورةً محيرةً لعامة الباحثين حتى الآن:
- بأية لغة كان ينزل عليه الوحي؟
- كيف تربى في القصر الفرعوني بمصر؟
- هل هو حقيقة ابن عمران أنجبه من أمه التي كانت بنت عـمـه؟
- وكيف اختار عند هروبه من مصر -وهو مراهق على إثر مشاجرةٍ قتل فيها مصريًّا- أن يستجير بالعرب في أرض مدين، وأن يتزوج ابنة شعيب؟
- ثم يبقى راعيًا في أرض مدين مع زوجته وابنيهما جيرشوم وإليعازر حتى بلغ الثمانين من عمره عندما بعث إلى فرعون؟
- وهل كان يعرف اللغة العبرية وقد تربى في قصر فرعون الذي يقتل بني إسرائيل؟
- وإذا كان يعرفها فلماذا دعا ربه أن يرسل معه مترجما فوريا هو هارون؟
- وإذا كان لا يعرفها، ولا يتكلمها بطلاقة وبلاغة، فهل كان يتكلم المصرية الفرعونية، أم أنه بعد أكثر من ستين سنة من المعيشة بين العرب كانت لغته العربية؟
- وهل يقودنا هذا إلى احتمال أن تكون التوراة قد أنزلت عليه بالعربية؟
إننا لا نملك حرفًا واحدًا من توراة موسى، وأول من جمعها من أفواه الرواة هو عزرا بعد ألف عام”([7]).
ثم دعوى التوراة بأن أخاه هارون أكبر منه بثلاث سنين، فكيف شب هارون وترعرع في وسط أهله بمصر آمنا مطمئنًّا، وعاش في مصر حتى عندما بعث؟!
والتوراة تقول: إن بعثته كانت وهو في الثمانين من عمره وكان هارون في الثالثة والثمانين.
أضف إلى ذلك من الإشكالات أن التوراة تجعلك تشعر أن الخلاف بين موسى وفرعون لم يكن إلا نزاعًا سياسيًّا فقط؛ حيث إنه يصور لك أن موسى لم يحاول دعوة فرعون إلى توحيد الله أو الإيمان به أو اتباع شريعة هذا الرسول الكريم، وإنما يطالبه فقط بأن يترك بني إسرائيل ليخرجوا معه من مصر وما هم فيه من استعباد.
وهكذا فإن سيرة موسى عليه السلام في اليهودية محل إلغاز وتعتبر شخصيته فيها من الإشكالات البحثية التي لم تُرفع عنها الأقلام ولا جفت فيها الصحف، بل لا زالت محل أخذ ورد ونقاش بينهم([8]).
الأمر الثاني: شخصية موسى عليه السلام في الدين الإسلامي؛ وهو ظاهر بارز كما سبق أن أوردنا.
وإذا أدركنا هذا فلا إمكانية لإجراء مقارنة بين سيرة موسى عليه السلام في التوراة وسيرته في القرآن الكريم حتى وإن اتفقا في بعض الجزئيات، لأن هناك الكثير من علامات الاستفهام في اليهودية لا يمكننا الإجابة عنها ولم ينته الباحثون في اليهودية من إجاباتها كما أوردنا.
ولئن كانت التناقضات قد كثرت في سيرة موسى في التوراة فإن القرآن قد استعرض سيرته بوضوح وجلاء لا يعتريها ريب؛ سواء قصة ولادته أو نشأته في قصر فرعون، أو دعوته له بعد ذلك إلى التوحيد، أو إسلام السحرة له وإيمانهم بدعوته، أو انفلاق البحر وغيرها من المعجزات التي تكرر تناولها في القرآن، بل والأمر بالاعتبار بها أيضا.
بل إن هناك كثيرًا من الآيات القرآنية ارتبط فهمها بفهم قصة موسى عليه السلام وما حصل، كما أن من الشرائع الإسلامية ما عُلل بقصته، ومنها علة صيام يوم عاشوراء وهو محل حديثنا هنا، فما يوم عاشوراء؟ وكيف يرتبط بنبي الله موسى عليه السلام؟
عاشوراء يوم عظيم:
يستحب في دين الإسلام صوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم([9])، وقد تضافرت الدلائل الحقة على أن يوم عاشوراء من أعظم أيام الله، ومن ذلك:
- أنه يوم من أيام الله؛ فقد ثبت في المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه»([10]).
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرَّى الصيام فيه، ويعتبر أفضل أيام صيام التطوع بعد صيام رمضان، ففي المتفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر -يعني شهر رمضان-([11]). ومعنى (يتحرى) أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه([12]).
- أن صيامه يكفر السنة الماضية كلها؛ فقد ثبت عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»([13]).
- أن الأمم قد توارثت تعظيمه عن أنبيائهم حتى إن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه كما كانت تعظمه اليهود والنصارى؛ ففي المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه»([14])، قال النووي رحمه الله: “والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكدًا، ثم بقي صومه أخف من ذلك التأكد”([15]).
ويذكر ابن حجر أن “الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور”([16])؛ فمن تعظيمهم ليوم عاشوراء أنهم اتخذوا منه يومًا تستر فيه الكعبة، وقال: “وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقَّوه من الشرع السالف؛ ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك”([17]).
- أنه أحد الأيام الفاضلة من الأشهر الحرم التي خصَّها الله بالتحريم من شهور السنة، حيث قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] أي: “أن الله سبحانه وتعالى لما ابتدأ خلق السماوات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرًا”([18])، “وقد كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ”([19]).
- أنه أحد أيام شهر الله المحرم الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم بأفضلية التعبُّد بالصيام فيه، حيث ثبت في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»([20]).
- أنه يوم نجاة موسى عليه السلام من فرعون، ويوم انتصار الحق على الباطل والخير على الشر، وهو ما سنفصله فيما يأتي.
عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى عليه السلام:
لقد ثبت بالدلائل الكثيرة أن يوم عاشوراء هو يوم نجاة موسى عليه السلام من فرعون ويوم انتصار الحق على الباطل والخير على الشر، ولقد تنوَّعت الآيات القرآنية والنصوص الدالة على عظمة هذا اليوم، ومن ذلك:
- تنبيه الله سبحانه وتعالى عباده عامّة وبني إسرائيل خاصة لإنعامه على المؤمنين مع موسى بالنصر والتمكين وما أسبغ عليهم من نعمه، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 47-50]، أي: “اذكروا إنعامنا عليكم {إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} بإنجائناكم منهم”([21]). ومما كانوا يسومونهم به من العذاب ذبح أبنائهم واستبقاء نسائهم واستعبادهم، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه: 77-80].
- تذكير الله سبحانه للمؤمنين بأن العاقبة لهم، وأن الصابرين المستضعفين من المؤمنين هم الوارثون للأرض المباركون في إعمارها، قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 136، 137].
- أن عاقبة الكفرة والمتكبّرين هو الهلاك، وأنه لا تنفعهم توبة ولا أوبة إذا أدركهم غضب الله وعقابه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 90-93]، وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 38-40]، أي: “جمعنا فرعون وجنوده من القبط، فألقيناهم جميعهم في البحر، فغرقناهم فيه”([22]).
- إخبار الله سبحانه وتعالى أن إنجاء موسى ومن معه من المؤمنين وإغراق فرعون ومن معه من الكافرين آية من آيات الله ينبغي لكل مؤمن الاتعاظ بها، قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 61-67].
- أمر الله تعالى لموسى عليه السلام بأن يُذكِّر قومه بنعمة الله عليهم بتلك الأيام التي نصرهم الله فيها على عدوهم وأنجاهم من عذابه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
والقرآن على كثرة النصوص فيه والآيات التي ذكرت قصة موسى وفرعون و”الإنجاء والإغراق لم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه”([23])، ولكن جاء ذكره وتحديده في الصحيح الثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
- ما جاء في المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم»، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه([24]).
- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم»([25]).
فهنا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أننا أحقّ بالأنبياء وبما جاؤوا به من الحقّ قبلنا، وأن دين الإسلام جامع لفضائل الأديان السابقة عليه، وأن أهلَ الحقّ يفرحون بفرح الحق وانتصاره في أي زمان ومكان، فموسى عليه السلام إنما أُرسل من عند الله تعالى وانتصر بنصر الله له، و{يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4، 5]، فالمؤمنون في كلّ زمان ومكان يفرحون بنصر الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان كما فرح المسلمون بانتصار أهل الكتاب على أهل الأوثان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحين شكر موسى ربه على نصره له بصيام هذا اليوم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين أحقّ بهذا الفرح وهذا الشكر؛ فهو ليس مجرد اتباع لليهود في تشريعهم، وإنما إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحقّ وأولى بالأنبياء وبموسى خاصة -وهو من أولي العزم من الرسل- حين أخبره الله تعالى باليوم الحق الذي نصر الله فيه نبيه موسى عليه السلام، وقد عرفنا فيما مضى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه وهو بمكة، وأن قريشًا كانت تصوم هذا اليوم وتعظمه؛ وربما بلغها من أخبار الأولين أنه يوم من أيام الله الذي نصر فيه عباده([26])، و”ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه كما تقدم؛ إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك… وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه”([27]).
ولدرء شبهة موافقة اليهود واتباعهم اتباعًا تامًّا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام التاسع؛ يقول ابن حجر: “النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر، وهمَّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر؛ إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح… وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمَر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحبَّ مخالفة أهل الكتاب أيضًا كما ثبت في الصحيح، فهذا من ذلك، فوافقهم أوَّلا وقال: «نحن أحقّ بموسى منكم»، ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم”([28]).
ولا شكَّ أننا نؤمن بالحديث الصادق الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونوقن بأن يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، ومن تمام البحث في هذا الموضوع أن نسلِّط العدسة على اليهودية الموجودة الآن، وننظر هل تشريع الصيام معروف عندهم؟ وهل يوم نجاة موسى معروف لديهم؟
هل تشريع الصيام معروف عند اليهود؟
أما معرفة اليهود لشريعة الصوم فلا شك أنها من أهم الشرائع التي جاء بها أنبياء الله وفرضها الله على من قبلنا من الأمم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ففرضه علينا كما فرضه على من قبلنا؛ ليكونوا لنا “فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك”([29])؛ فكما أنها شعيرة أساسية في الدين الإسلامي فهي كذلك في كافة الشرائع والأديان الحقة؛ فقد كان الصوم ركنًا ركينًا وأساسًا للأديان القديمة بل والمعاصرة، “مارسته شعوب الحضارات القديمة، كما نجده منتشرًا بين القبائل البدائية والمنعزلة، وظلَّ يحتلُّ ركنًا أساسيًّا في الديانات السماوية… فالصوم قديم قِدَم الظاهرة الدينية ذاتها“([30])، ومصداقًا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نجد الدلائل الكثيرة تقرّر وجود الصوم عند اليهود، بل إن الصوم -كما تقرر- كان ولا زال عبادة وشريعة أساسية من شرائع الأديان والأمم الماضية، ولا يختلف الأمر في ذلك ما بين أمم بدائية أو منعزلة أو ذات حضارة؛ ولا بد من فهم معنى الصوم ليتضح المقصود بهذا التقرير([31])؛ ذلك أن وجود الصوم عندهم لا يعني أن يكون تمامًا مثل صوم المسلمين، ولقد حاول مجموعة من الباحثين الخروج بتعريف عامّ يمكن به توضيح الصيام عند الأمم، ومن أبرز ذلك: التقرب إلى الإله بالإمساك عن الملذّات الدنيوية مدة معينة([32]).
ويكاد يتفق الباحثون في الديانة اليهودية على اتساع مساحة تشريع الصوم فيها؛ فليس الصوم فيها متعلّقًا بتشريعٍ إلهيٍّ لعباد الله من أجل التقوى ونحوه، بل هو مرتبط غالبًا بأحداث تاريخية([33])؛ فالصوم والأعياد والحج في اليهودية مجرد مناسبات وذكريات تاريخية ليس إلا؛ إما ذكرى مأساة فاتخذوه يوم صوم، أو ذكرى انتصار فاتخذوه عيدًا، ولا ترتبط بأيام فضل أو عبادة وتشريع إلهي غالبًا بقدر ما ترتبط بأحداث تاريخية يهودية أراد لها حاخامات اليهود أن تخلد التاريخ اليهودي وأن تغرس في النفس اليهودية الانتماء الديني وتحقِّق في ذاتها العصبية العرقية اليهودية؛ “ومعظم هذه الأيام مناسبات قومية”([34]) وأيام حزن وحداد؛ يبكون فيها على الآلام المريرة وحوادث التاريخ الفاجعة والهزائم والخسائر التي تعرضوا لها على مر العصور؛ فهم يصومون هذه الأيام يعبِّرون فيها عن تألمهم لما لحقهم من أهوال ومصائب؛ وهكذا نجد أنَّ الصوم في اليهودية فرَّغه اليهود من حقيقة استشعار الذل والخضوع لله وعبادته والافتقار إليه والالتجاء إلى حوله وقوته وما تحويه من المعاني الإيمانية الروحية إلى معاني قومية مادية؛ فربطوه بالحزن والحداد والذكريات المأساوية التي حلت بالشعب اليهودي ليس إلا، فأصبحت عبادة تشاؤمية لا غير([35])، ولا علاقة لها بموسى عليه السلام وشريعته غالبا أو ضعيفة العلاقة وأكثرها عائد إلى مناسبات وذكريات متأخرة زمنيًّا عن موسى كثيرًا([36]).
وإنما كان التعبير بكونها غالب الأيام وأنها ضعيفة الصلة بموسى وشريعته؛ لأن ثمة صومًا واحدًا فقط يزعمون أنه مذكور في أسفار موسى الخمسة الموجودة في توراة اليهود اليوم، وهو صوم يوم كيبور الذي سنعرِّج عليه بعد أن نؤكد بالأمثلة ما تقرَّر أولًا؛ فبالمثال يتضح المقال:
- إذا ما أردنا سبر التاريخ اليهودي وتطلَّعنا لأكبر فاجعة تاريخية حصلت لهم على مر العصور تجلَّت لنا مصيبة السبي البابلي الذي تعرَّض له اليهود في اليوم التاسع من آب([37]) بحسب زعمهم -وهي مصيبة محورية فاصلة فصلت تاريخ اليهود بل ودينهم، وافترق ما بعده عما قبله- وقد اتخذه اليهود يوم صوم وحزن وحداد ويوم حقد ونقمة على البشرية جمعاء؛ حيث جعلوا منه ذكرى مزدوجة لأحزان وأشجان عظيمة؛ منها التدميرين الأول والثاني للهيكل؛ حيث يزعمون أن اقتحام بختنصر الكلداني في القرن السادس قبل الميلاد كان في نفس اليوم وأنه في ذلك اليوم نفسه من سنة ۷۰ ميلادية اقتحم الروماني تيتوس الهيكل الثاني الذي أقامه عزرا ونحميا بعد ذلك؛ فهم يصومونه حزنا وحدادا على هدم وتدمير الهيكل([38]).
- صوم اليوم الرابع من تشري، وقد فُرض إحياءً لذكرى قتل جداليا بن أحيقام، وكان آخر من تولى من اليهود في القدس؛ حيث كان واليا عليها تحت حكم بختنصر البابلي على من بقي من اليهود في فلسطين بعد السبي([39]).
- صوم اليوم السابع عشر من تموز، وقد فُرض إحياء لذكرى بداية مهاجمة الرومان لأورشليم على يد تيتوس وإبادته لها عام 70م، وكذلك ذكرى تحطيم ألواح التوراة وإبطال القربان اليومي صباحًا ومساء، وإحراق التوراة على يد القائد الروماني المدعو بوستهوموس وغيرها من الحوادث والفواجع الأليمة التي يتخذها اليهود أيام حداد([40]).
هل يصوم يهودُ اليومِ يومَ نجاة موسى؟
مع أن الأصل في الديانة اليهودية المعروفة اليوم أن غالب أيام الصيام عندهم هي مجرد فواجع وأحزان تاريخية يهودية يعلنون فيها الحداد إلا أنه وجد ما شذ عن هذه القاعدة؛ فأهم أيام الصيام عند اليهود صوم يوم (كيبور) كما يسمى بالعبرية، ويطلق عليه بالعربية: يوم الغفران، ويذكر اليهود أنه يعود إلى أيام موسى، ويعتقدون أنه مفروض بفقرة من فقرات التوراة وهي ما جاء في سفر اللاويين: “ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر تذللون نفوسكم”([41])، وأصلها العبري كان يقصد به الصيام، “واستخدم في نصوص العهد القديم كمصطلح للدلالة عليه”([42])؛ هم يفسرون هذا الإذلال بالصيام، ويعتقدون أنه يعود إلى ذكرى نزول موسى عليه السلام من سيناء للمرة الثانية ومعه لوحا التوراة؛ وبشرهم بمغفرة الله لهم على أشنع خطاياهم التي ارتكبوها وهو الإشراك بالله بعبادة العجل.
واليهود يصومون هذا اليوم كله، وكذلك يوم التاسع من آب؛ لأنهما يعتبران من أهم أيام الصيام؛ فمدة صيامهم أكثر من يوم كامل؛ يبدأ الصوم قبيل غروب شمس يوم التاسع من تشري إلى ما بعد غروبها في اليوم التالي قريبا من خمس وعشرين ساعة، وقيل: سبع وعشرين ساعة، وهذا على عكس مدة الصيام في الأصل حيث يبدأ وقته من الشروق إلى ظهور أول نجوم الليل([43]).
ومن أهم ما جعل التعريف الآنف الذكر عامًّا يشمل عموم الملذات أن الصوم في اليهودية ليس نوعًا واحدًا في الإمساك بل هناك أنواع كثيرة، ومنها الإمساك عن الكلام الآنف الذكر، ومنها الإمساك عن نوع من أنواع المفطرات كالأكل والشرب والجماع والتنظف والغسل (الاستحمام) وارتداء الأحذية الجلدية والتطيب والترجُّل والادّهان أو عن جميع ذلك؛ كما يحصل في صيام يوم كيبور وصيام اليوم التاسع من آب، فهما صيامان متميزان عن غيرهما في اليهودية([44]).
وإذا كان الأمر كذلك فهو يثير التساؤل التالي: هل يوم كيبور هو يوم عاشوراء؟
لا شك أن من أوائل الاحتكاكات التي حصلت بين الفكر اليهودي والفكر الإسلامي الاحتكاك في العبادات، خاصّة ما تشابهت صفتها أو منطلقاتها كالاتفاق في أصل الصلاة بل وبعض تفصيلاتها كاستقبال بيت المقدس وغيرها، ومن ذلك صوم عاشوراء، وقد سبق خبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟»، فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه([45]).
وهذا الحديث يؤكد لنا أن اليهودية على وجه الخصوص متفقة مع الإسلام على أصل تشريع الصيام، وأن اليهود ذكروا أن علة هذا الصوم هو شكر الله سبحانه وتعالى على أن نجاهم من العذاب المهين الذي كانوا فيه تحت اضطهاد فرعون([46]).
“فلما أقرهم على ذلك ولم يكذّبهم علم أن موسى صامه شكرا لله، فانضمّ هذا القدر إلى التعظيم الذي كان له قبل الهجرة، فازداد تأكيدًا حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في الأمصار بصومه وإمساك من كان أكل”([47]).
وإذا بحثنا عن أشبه الصيام وأقربه إلى صيام عاشوراء وجدنا أن اليهود يعظمون يوم كيبور ويصومونه ويعتقدون أنه يوم نجاة موسى، والذي يميل إليه الباحث أنه هو عاشوراء الذي وجدهم النبي صلى الله عليه وسلم يصومونه لما يأتي:
- أنه اليوم العاشر من الشهر الأول من التقويم اليهودي، فهو عاشوراء اليهود([48]).
- أنه الصوم الوحيد الذي ينسبه اليهود إلى انتصار موسى.
- أنه الصوم الوحيد المعتمد على نص من التوراة كما يعتقد اليهود.
- أنه من أيام الصيام القلائل التي يصومها اليهود شكرًا على نعمةٍ بحسب اعتقاد اليهود، على عكس عامة أنواع الصيام عندهم فهي أيام حداد.
- أنه من أحد الصيامين المتفقين مع ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم من صفة صيامهم؛ حيث كان المسلمون أول الأمر يصومون مثل صيامهم من العتمة إلى العتمة([49])، ثم نسخ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر»([50]).
ومهما يكن من أمر سواء أكان هو يوم كيبور أم لا، فقد ثبت بالبرهان القاطع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من كون اليهود كانوا يصومونه، فصامه شكرًا لله على أن نجى موسى عليه السلام، وهذا على عكس التوراة المحرّفة التي تعاني من أزمات كثيرة في سبيل إثبات صحته وكونه الوحي الحق الذي جاء به موسى، ولا نريد أن نستطرد هنا في إشكاليات ثبوت التوراة الآنفة الذكر.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/ 9) بتصرف.
([2]) التناخ: عنوان الكتاب المقدس اليهودي وهو ما يسمى بالعهد القديم في اصطلاح النصارى، ويكتبونها بالعبرية (ت، ن، ك)، وهو مُختصَر لكلمات ثلاث: (توراة) أي: أسفار موسى الخمسة، نبوئيم (الأنبياء)، كتوبيم (الكتب). ينظر: الكتاب المقدس – ترجمة فاندايك، العهد القديم، موسوعة اليهود واليهودية للمسيري (5/ 194)، الفكر الديني الإسرائيلي، ظاظا (ص: 13 وما بعدها)، العهد القديم كما عرفته كنيسة الإسكندرية، ترجمة وإعداد: رهبان دير القديس أنبا مقار، دار مجلة مرقس، الطبعة الأولى 1994م (ص: 32 وما بعدها).
([3]) موسوعة اليهود واليهودية للمسيري (٤/ ١٣٩).
([4]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، ظاظا (ص: 19 وما بعدها)، مقال: الدولة الصهيونية والتعصب العنصري، ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: ١٠٢).
([5]) تاريخ الديانة اليهودية، محمد خليفة حسن، رؤية للنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الأولى 2016م (ص: 120).
([6]) الصهيونية العالمية وإسرائيل، ظاظا وآخرون (ص: 29)، وينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، ظاظا (ص: 23)، مقال: خلفاء موسى أضاعوا شريعته، ظاظا، الفيصل (ع: 248/ ص: 20).
([7]) مقال: موسى في التلمود، ظاظا، الفيصل (ع: ٢٣٧/ ص: 19).
([8]) ينظر: مقال: الدولة الصهيونية والتعصّب العنصريّ، ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: ١٠٢)، مقال: عنتريات يهودية مقدسة، ظاظا، الفيصل (ع: 236/ ص: 20)، مقال: من التخبط اليهودي اليهود المران، ظاظا، (ع: 247/ ص: 21).
([9]) ينظر: سنن الترمذي -تحقيق شاكر- (3/ 119)، فتح الباري لابن حجر (4/ 245)، المغني لابن قدامة (3/ 177).
([10]) أخرجه البخاري (1892)، ومسلم (1126).
([11]) أخرجه البخاري (2006)، ومسلم (1132).
([12]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 249).
([14]) أخرجه البخاري (2002)، ومسلم (1125).
([15]) شرح صحيح مسلم (8/ 9 وما بعدها)، وينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 246).
([17]) فتح الباري لابن حجر (4/ 246).
([18]) فتح الباري لابن حجر (8/ 324).
([19]) جامع البيان (14/ 234)، وينظر: تفسير ابن كثير (4/ 146).
([23]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 390).
([24]) أخرجه البخاري (4108)، ومسلم (1130).
([25]) أخرجه البخاري (2005)، ومسلم (1131).
([26]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 390)، شرح النووي على صحيح مسلم (8/ 9 وما بعدها)، فتح الباري لابن حجر (4/ 246 وما بعدها).
([27]) فتح الباري لابن حجر (4/ 248).
([28]) فتح الباري (4/ 245 وما بعدها).
([29]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير -تحقيق سلامة- (1/ 497). وينظر: جامع البيان (3/ 410)، معالم التنزيل -طبعة طيبة- (1/ 195)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 274).
([30]) الصوم في اليهودية، محمد الهواري، دار الهاني للطباعة والنشر – القاهرة، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م (المقدمة، الصحفة: و).
([31]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى، الأوائل للنشر والتوزيع – دمشق، الطبعة الأولى 2001م (ص: 100)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري، (المقدمة، الصفحة: و)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني، رسالة دكتوراه بقسم العقيدة بجامعة أم القرى -غير مطبوعة- (ص: 324).
([32]) هذا هو التعريف المقترح للصوم العام بعد التأمّل في الصيام في الملل ليشمل عامة أنواع الصيام فيها؛ وقد وُجدت تعريفات كثيرة للصوم لكنَّ كثيرا منها اختصّ دينا من الأديان أو اقتصَر على الجانب الروحي دون الجسديّ أو العكس. ينظر: موسوعة الكتاب المقدس، مجموعة من الباحثين، دار منهل الحياة – بيروت، الطبعة الأولى 1993م (ص: 202)، قاموس الكتاب المقدس، نخبة من الأساتذة المتخصصين واللاهوتيين بإشراف بطرس عبد الملك، دار مكتبة العائلة – القاهرة، الطبعة الرابعة عشرة 2005م (ص: 562)، موسوعة المصطلحات الدينية، رشاد الشامي (ص: 256)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 2)، الصيام من البداية حتى الإسلام، علي الخطيب، المكتبة العصرية – بيروت، الطبعة الأولى 1400هـ-1980م (ص: 9).
([33]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 100)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 13)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني -رسالة دكتوراه غير مطبوعة- (ص: 324).
([34]) موسوعة اليهود واليهودية، المسيري (5/ 277).
([35]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا
([36]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية، المسيري (5/ 261)، الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 169، 180).
([37]) وهو من أشهر التقويم العبري.
([38]) مقال: الدولة الصهيونية والتعصب العنصري، حسن ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: 105-106) بتصرف يسير. وينظر: موسوعة اليهود واليهودية، المسيري (5/ 277)، الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 202)، ومقال: الضحك اليهودي، حسن ظاظا، الفيصل (ع: 243/ ص: 19)، ومقال: القدس (أورشليم) في التلمود، حسن ظاظا، الفيصل (ع: ٢٤١/ ص: 22).
([39]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 202)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 104)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 46)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني -رسالة دكتوراه غير مطبوعة- (ص: 331).
([40]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 229) وورد فيه أنه في اليوم السابع عشر ولعله خطأ مطبعي، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 104)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 47)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني -رسالة دكتوراه غير مطبوعة- (ص: 331).
([41]) لا: (16: 29)، وينظر: لا: (23: 27).
([42]) الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 5).
([43]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 202)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 102)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 31، 44)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني -رسالة دكتوراه غير مطبوعة- (ص: 328)، الصيام من البداية حتى الإسلام، علي الخطيب (ص: 59)، الصيام من البداية حتى الإسلام، علي الخطيب (ص: 119).
([44]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 107)، الصوم في اليهودية، محمد الهواري (ص: 32، 39)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني -رسالة دكتوراه غير مطبوعة- (ص: 327).
([45]) أخرجه البخاري (4108)، ومسلم (1130).
([46]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 247).
([47]) زاد المعاد لابن القيم (2/ 67).
([48]) ولا نستفيد هنا من التأمل في التقويم العبري؛ لأن اليهود قد تلاعبوا بتقويمهم ولم يلتزموا بالاثني عشر شهرا، فهم يزيدون عليها شهرا ليتوافق مع بعض تشريعاتهم التي ربطوها بأشهر قمرية مع مواسم شمسية؛ فزادوا شهرًا لحل الإشكال. ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 194).