وقفات مع حديث: (ألا إن في الجسد مضغة)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنّ من الأحاديث التي يزعم بعض العقلانيين معارضتها للنصوص القرآنيّة، والمحكمات الشرعيّة، حديث: (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ)؛ إذ كيف يكون هذا العضو (القلب) هو المتحكِّم في صلاح الإنسان وفساده، وليس العقل؛ ونحن نشاهد عمليات زراعة القلب، وكيف أن قلب المسلم يستبدل بقلب الكافر، ثم يستيقظ من العملية وهو باق على إسلامه!
سنناقش في هذه الورقة العلميّة هذا الإشكال، ونجيب عنه بالحجج القوية والأدلة الشرعية، وأقوال العلماء فيه، مما يبين عظمة هذا الدين الشامخ.
منزلة الحديث ومكانته:
يعدّ هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة، قال إسحاق بن راهويه: أربعة أحاديث هي من أصُولِ الدين: حديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث: (الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ)… ([1]).
وقال أبو داود السجستاني -صاحب السنن-: نظرتُ في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرتُ، فإذا مَدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات) … إلى أن قال …: فكل حديثٍ، من هذه الأربعة، رُبعُ العلم)([2]).
فهي من الأحاديث الجوامع، وقد أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، قال البخاري: (بلغني أن جوامع الكلم؛ أن الله يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك)([3]).
فرحم الله الحافظ أبا الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي حيث قال:
عُـــمدةُ الدِّينِ عندنا كلماتٌ *** أربعٌ مِن كَلامِ خيرِ البرية
“اتقِ الشبهاتِ” و”ازهَد” و”دَع ما *** ليس يَعنِيك” و”اعمَلَن بِنِية”([4])
نصّ الحديث:
عن النعمان بن بشير، قال: سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: (إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس، فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ، وقَعَ في الحَرامِ، كالرّاعِي يَرْعى حَوْلَ الحِمى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ)([5]).
أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أنَّ الأعمال الظاهرة، تدل على الأعمال الباطنة من صلاح أو فساد، فبيَّن أن الجسد فيه مضغة (وهي القلب) يصلح الجسد بصلاحها، ويفسد بفسادها.
عرض الشبهة ووجه الإشكال في الحديث:
(زعم بعض المستشرقين أن هذا الحديث يتعارض مع القرآن الكريم الذي يحاكم الناس إلى عقولهم، وليس إلى قلوبهم، وقد وردت نحو سبعًا وأربعين آية في ذلك)([6]).
أولًا: لا بدّ من التأكيد على أنه لا يمكن وقوع التعارض بين البراهين العقلية الصريحة مع البراهين النقلية الصحيحة.
وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي قسمان:
- قسم شرعي، سمعي، عقلي.
بمعنى: أن المستدل عليه أثبته الشرع، ودلَّ عليه بأدلة عقلية، وهذا القسم هو أكثر الأدلة النقلية، المشتملة على الأمثال المضروبة وغيرها في القرآن والسنة، الدالة على توحيد الله تعالى، وصدق رسله، وعلى المعاد، ويدخل فيه ما أباحه الشرع ونبه عليه.
- وقسم شرعي سمعي.
بمعنى: أن الشيء المستدل عليه في هذا القسم “لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره، كان ذلك شرعياً سمعياً”.
فعلى هذا التقسيم، لم يبق دليل صحيح إلا ودخل في هذا التقسيم، ثم يبقى ما عداه من الأدلّة فهي بدعيّة.
بعد العلم بأقسام الأدلة الشرعية، فإنّه يكون مناط الترجيح –على فرض وقوع التعارض– بين قطعية دلالة الدليل وظنيته، لا على كونه سمعيًّا أو عقليًّا، والقسمة العقلية لوقوع التعارض تكون على النحو الآتي:
إذا تعارض دليلان شرعيان سواء كانا عقليين، أو سمعيين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فإما أن يكونا قطعيين، أو ظنيين، أو أحدهما ظنياً والآخر قطعياً من حيث الدلالة.
والصورة الأولى: وهي أن يكون الدليلان قطعيين ممتنعة الوقوع([7])، وهي الصورة التي تنطبق على هذه الشبهة، فإنّ صاحب الدّعوى، أثبت تعارض الحديث الشريف مع القرآن الكريم، وهي صورة ممتنعة -كما ذكرنا- فإنّه يستحال أن يقع تعارض صريح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن، فإنّ كلامه وحيٌ كما أنّ القرآن وحيّ.
وإذا علمنا هذا، فإنّ أول نقطة نريد أن ننبها عليها -ونحن نناقش هذه الشبهة- هي: أنَّ قوله: (أن هذا الحديث يتعارض مع القرآن الكريم) خطأ وتوهّم ممتنع الوقوع، حصل بسبب إغفاله أو جهله بالقاعدة التي ذكرناها قبل قليل.
وقد ذكر الشاطبي خمسة أوجه، تدل على أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول:
الأول: إنَّ الأدلَّة السمعية لو نافت قضايا العقول، لم تكن أدلة للعباد، لا على الأحكام الإلهية، ولا على الأحكام التكليفية، وقد عُلم باتفاق العقلاء: أن الأدلة الشرعية إنما نصبت لتتلقاها عقول المكلفين، فيعملوا بمقتضاها، فلو نافتها لما تلقتها فضلاً عن أن تعمل بمقتضاها.
الثاني: إنه لو فرض أن الأدلة الشرعية، منافية لقضايا العقول ومعارضة لها؛ لكان الكفار أول من ردَّها به –وقد علم بالاتفاق.. أنهم ما وجدوا ما يقدحون به، مع شدَّة حرصهم على الطعن في هذا الدين، وإنما لجؤوا إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم، واتهامه بأنه ساحر أو مجنون ونحو ذلك– فلما لم يوجد منهم ما يقدح في دلالة الأدلة الشرعية، دلَّ على أنهم عقولها، وعرفوا جريانها على مقتضى العقول.
الثالث: إنه لو فرض وقوع التنافي والتعارض بين الأدلة الشرعية وقضايا العقول؛ للزم سقوط التكليف عن جميع الناس –وبيان ذلك: أن الاستقراء دلّ على أن التكليف يعتبر فيه تمكن العقل من التصديق بالأدلة الصحيحة، ويوضحه: أن الشرع لم يلزم تكليف المعتوه والصبي والنائم–؛ لعدم وجود مقتضى التصديق –وهو العقل– ويساويه كذلك، لو كانت الأدلة غير صحيحة، فلزوم تكليف العاقل بها كلزوم تكليف غير العاقل بما لا يصدقه، أشد من تكليف من لا يتمكن من الحكم بالصدق أو عدمه.
الرابع: إن الأدلة الشرعية، لو نافت قضايا العقول لكان الأمر بالتصديق بها تكليفاً بما لا يطاق؛ إذ العقل لا يصدق ما لم يكن صدقاً وما لا يتصوره، فلما كان ذلك باطلاً، لزم ألا تخالف الأدلة الشرعية قضايا العقول.
الخامس: إن الاستقراء دلّ على أن الأدلة الشرعية، جارية على مقتضى العقول؛ بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها([8]).
هذا ما يتعلّق بالوقفة الأولى مع هذه الشبهة.
أمّا الوقفة الثانية: فهي وقفة مع دعواه تعارض نصّ الحديث مع القرآن، من جهة كون القرآن (يحاكم الناس إلى عقولهم وليس إلى قلوبهم).
فإنّنا نسأل هذا المدعي الآن: ماذا تقصد بـ (المحاكمة) هل تقصد بها، تعليق الحكم الشرعي على وجود العقل، واشتراط صحّة تكليف العباد به؟ أم غير ذلك؟
فإن قلت بأنّ المراد بـ (المحاكمة) تعليق الحكم الشرعي على وجود العقل.
قلنا: إنّ السنّة الشريفة، قد جاءت بأدلّة قاطعة، تدلّ على أنّ العقل أساس التكليف، سنكتفي بثلاثة منها:
أولًا: حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل، أو يفيق» ([9]) .
فقد ذكر في الحديث، دليلٌ على أنَّ الصغر والنوم والجنون، من أسباب فقْد الأهلية، والأهلية: صلاحية الشخص للحقوق المشروعة التي تثبت له أو عليه، وعلى هذا، فهؤلاء- الصغير، والمجنون، والنائم.. غير مكلفين بالأوامر والنواهي، وهذا مما جاء في السنّة، ما يدلّ على أنّ العقل أساس في التكليف، وأن من لا عقل له، فصاحبه معذور لا تكليف عليه([10]).
ثانيًا: ما جاء عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أضحى أو فطرٍ إلى المصلى، فمرَّ على النساء، فقال: (يا معشر النساء، تصدَّقْنَ، فإني أُرِيتُكنَّ أكثر أهل النار)، فقُلْن: وبم يا رسول الله؟ قال: (تُكثِرْنَ اللعن وتَكفُرْن العَشِيرَ، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكُنَّ)، قلن: وما نُقصان دينِنا وعقلِنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟)، قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت، لم تُصلِّ ولم تَصُمْ؟)، قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها)([11]).
وقد يظنّ بعض القراء: بأنّ هذا الوصف، ذمٌّ للمرأة أو تنقيصٌ من قدرها، وإقلالٌ من شأنها، والحقيقة: أنّ الوصف النبويّ، لم يرد على سبيل الذمّ والتنقيص، فقد أوضح النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في الحديث ذاته، المراد بنقص العقل والدين، فقد علَّل نقصان عقلها؛ بأنّ الشارع يعتبر شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، وقد نصّ القرآن على ذلك، قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكرّ إحداهما الأخرى} [البقرة آية 282]، والضّلال هنا، بمعنى: النسيان (لما أنّ النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهنّ) ([12]).
ثالثًا: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِيَلِنِي مِنكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم -ثلاثًا- وإياكم وهيشاتِ الأسواق)([13]).
فيها الإشارة إلى إكرام أهل العلم وأهل الفضل الكبير، فمن ذلك؛ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم) قال ذلك ثلاثًا.
وأولو الأحلام: يعني: الذين بلَغوا الحُلُمَ، وهم البالغون، والنُّهى جمع نُهْية، وهي العقل، يعني: العقلاء، فالذي ينبغي أن يتقدم في الصلاة، العاقلون البالغون؛ لأن ذلك أقرب إلى فهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يفعله، من الصغار ونحوهم؛ فلهذا حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتقدم هؤلاء حتى يَلُوا الإمام([14]).
كل هذه الأحاديث، تؤيّد بأنّ العقل أساس للتكليف، ومؤثّر في التكليف، فأين التعارض بين الحديث والقرآن في إثبات وظيفة للعقل؟! فكلاهما متفقان على اشتراط العقل، وأمّا أنّ الحديث، دلّ على أن في الجسد مضغة -وهي القلب- يصلح الجسد بصلاحها، ويفسد بفسادها، فهو أثبت للقلب وظيفةً أخرى ليست هي ذات الوظيفة التي أثبت للعقل، فلا تعارض بينهما.
إذا تبيّن لنا أنّه لا تعارض بين وظيفة العقل والقلب في نصوص القرآن والسنّة، وأنّه على فرض أنّ معنى (محاكمة) تعليق الحكم الشرعي على وجود العقل؛ معناه: موجود في الكتاب والسنّة متوافقان.
بقي هناك احتمال آخر لكلمة (محاكمة) يثبت به التعارض، وهو: أن نقول: بأنّ معنى (المحاكمة) هو تعليق سائر الأعضاء على حكم العقل!
وهذا مردود بنصوص القرآن نفسها؛ فإنّ في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة التي تشير في ظاهرها إلى أنّ القلب، هو مركز العقل والتعقّل؛ من هذه الآيات:
- {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [سورة الحج الآية 46].
- {لهم قلوب لا يفقهون بها} [سورة الأعراف الآية 179].
- {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون} [سورة التوبة الآية 45].
- {وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} [سورة التوبة الآية 93].
- {فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [سورة المنافقون الآية 3]
- {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم} [سورة الأحزاب الآية]
- {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [سورة البقرة الآية 225].
كما توجد آيات أُخر، تشير إلى أن القلب هو مركز العواطف والمشاعر والأحاسيس، منها:
- {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة} [سورة البقرة الآية 74].
- {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} [سورة آل عمران الآية 7].
- {ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا} [سورة آل عمران الآية 8].
- {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} [سورة آل عمران الآية 167].
- {فطبع على قلوبهم فهم لا يشعرون} [سورة الأعراف الآية 100].
بل إنّ هذا، مذهب المالكية والشافعية، وعليه بعض الحنابلة: بأّن محلّ العقل هو القلب، وصحّحه الباجي، ونسب إلى مجموعة من الأطباء الأمريكان، وجدوا مجموعة من الخلايا العصبية في جدار القلب، وأن هذه الخلايا مسؤولة عن اتخاذ القرار في الجسم.
وعلى هذا القول، ينزاح الإشكال الذي ادعوه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة)، فإنَّما خُص القلب بذلك؛ لأنه أمير البدن، وسائر الأعضاء حجَبَة له، توصل إليه من الأخبار ما لم يكن يأخذه بنفسه، فالعين والأُذن وحاسة الشم، وحاسة اللمس، توصل إليه ما لا يدركه إلا بها، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه: تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه([15]).
فأساس العقل: أنه فطري مطبوع في الإنسان، وهو العقل الذي يعقل ويدرك به، ويعقل به العلم، وبالعلم والدربة يحصل العقل المكتسب، فالعقل الغريزي، وسيلة لحصول العقل المكتسب، ولا يمكن أن يكتسب الإنسان عقلاً وهو فاقد العقل الغريزي، قال عبد الله بن المعتز: “العقل كشجرة، أصلها غريزة، وفرعها تجربة، وثمرتها حمد العاقبة، والاختيار يدل على العقل، كما يدل توريق الشجرة على حسنها، وما أبين وجوه الخير والشـر في مرآة العقل إن لم يصدها الهوى”([16]).
الوقفة الثالثة -مع هذا الحديث العظيم-: هل القلب المقصود في هذا الحديث، العضو الصنوبري، أم أنّه مقتصر على العضو المعنوي المتحّكم في سائر الأعضاء؟
قبل أنّ نجيب على هذا السؤال، سنعود لألفاظ الحديث ونفسر بعضها بشيء من التفصيل، حتى نرفع أيّ لبس متعلّق بألفاظه:
ومن الألفاظ المهمة تحريرها: لفظ (مضغة)، هل هذه الكلمة دليل على العضو العضلي؟
اختلف العلماء في فهم هذا اللفظ من الحديث، على قولين:
القول الأوّل: هو من يرى بأنّ هذا اللفظ (نصّ في القلب الحسي اللحمي المعروف) وهو ظاهر كلام القاضي عياض([17])، والطيبي في شرحه على المشكاة([18])، وتبعه على ذلك الملا علي قاري في المرقاة([19])، والشيخ محمد ابن عثيمين([20])، والشيخ عبد الكريم الخضير([21]).
القول الثاني: هو من يرى بأنّ هذا اللفظ جاء للتمثيل عن القلب المعقول بصورة حسّيّة، وهو قول ابن الجوزي، وابن حجر، ورشيد أحمد الكنكوهي، ومحمَّد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الجكني الشنقيطي وغيرهم([22]).
فأرباب هذا القول، يحملون المضغة على ظاهرها: أي: قطعة لحم ممضوغة، قصد بها تصغير حجم القلب بالنسبة إلى باقي الجسد مع عظم منفعتها، فإنّ صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، كقولهم: المرء بأصغريه، يعني بهما: القلب واللسان، وقيل لهما: الأصغران؛ ذهابًا إلى أنهما أكتر ما في الإنسان معنى وفضلًا ([23]).
لكنّ ينبغي التنبيه إلى: أنّ غالب الشراح، يستدلّون بهذا الحديث، على أنّ (العقل في القلب) كالقسطلاني، وابن حجر، وتبعه الحسين بن محمد المغربي صاحب البدر التمام، والصنعاني، والشيخ محمد علي آدم وغيرهم([24])؛ ووجه استدلال هؤلاء بهذا الحديث؛ لم يكن واضحًا على طريقة المقدمات ثمّ النتائج، وإنما طويت؛ لوضوح الاستدلال، وهي مركّبة من مقدمتين:
أولاهما: فإنّه قد أثبت في الحديث الشريف، بأنّ القلب هو ملك الأعضاء.
ثانيها: أنّ الدماغ من جملة الجسد، فاقتضى ظاهر الحديث كون فساده وصلاحه، تبعًا للقلب.
فنتج عن ذلك بضرورة كون العقل والفهم في القلب لا في غيره([25]).
وعلى هذا القول.. فليس هناك تعارض بين العقل والقلب، فانقلب الحجة التي ردّوا بها هذا الحديث، حجة عليهم، فانظر -يا رعاك الله- إلى زعمه، بـ (أن هذا الحديث يتعارض مع القرآن الكريم الذي يحاكم الناس إلى عقولهم، وليس إلى قلوبهم، وقد وردت نحو سبعًا وأربعين آية في ذلك)!
ستجد كلامه شديد الاضطراب، ولو علم صاحب هذا القول، باستدلالات العلماء واستنباطاتهم من هذا الحديث؛ لانكشف عنه تلك الظلمات، {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.
ولعلنا نعود إلى السؤال الذي طرحناه، وهو: هل القلب المقصود في هذا الحديث العضو الصنوبري، أم أنّه مقتصر على العضو المعنوي المتحّكم في سائر الأعضاء؟
لاشكّ، أنّ المقصود بالقلب من هذا الحديث هي النفس المدركة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبعث إلينا ليبيّن لنا ما يعرض لأجسامنا من الأمراض، فإنّ القلب الذي هو عضوٌ هو كسائر أعضاء البدن، وإنما بعث إلينا ليرشدنا طريق الصواب.
ولعلنا نختم هذه الورقة، بسؤال أثاره العلماء، أثناء شرحهم للأحاديث، وهو: أنّه كيف يكون القلب ملك الأعضاء، ثمّ هو يتأثّر بباقي الأعضاء؟
يجاب عن ذلك، بأن يقال: إنّ الاختلاف في الظاهر، ناشىء عن فساد القلب، وذلك أن عدم إقامة الصفوف، يدل على عدم الاعتناء بالسنة، وعدم الاعتناء بها، يدل على غفلة القلب وفساده؛ لأن من كان قلبه حيّاً صالحاً مُنَوَّراً بنور الإيمان، يكون متبعاً للسنة في جميع أفعاله، والعكس بالعكس، فثبت بهذا، ترتب الاختلاف الظاهريِّ على الفساد الباطني، ثم ينشأ من هذا الاختلاف الظاهريِّ المتسبِب عن فساد القلب، الاختلافُ الباطنيُّ بمعنى آخر، وهو وقوع العداوة، والبغضاء، والتحاسد فيما بينهم([26]).
وفي القلب قوتان: قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل. وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق، فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه، فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه، فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم.
يقول ابن القيم رحمه الله: وهذا موضع لا يفهمه إلا الألبّاء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية، والنفوس الأبية الزكية .
إذا كان الأمر كذلك -أيها المحب- فاعلم أن صاحب القلب الحي، يغدو ويروح، ويمسي ويصبح- وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه، وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه، إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، قلب حي تتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها، أحب الله وأحب فيه، يترقى في درجات الإيمان والإحسان فيعبد الله على الحضور والمراقبة.. يعبد الله كأنه يراه؛ يمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً، وأُنساً وإجلالا. ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية، ورجاء وطاعة، وخضوعاً وذلة، (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) كلما اقترب من ربه، اقترب الله منه (من تقرب إليّ شبراً، تقربتُ إليه ذراعاً).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) جامع العلوم والحكم (1/9).
([2]) جامع العلوم والحكم (1/9-10).
([3]) صحيح البخاري رقم (6611).
([4]) جامع العلوم والحكم (1/10).
([5]) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
([6]) السنة بين الوحي والعقل، سالم البهنساوي، ص (276- 277).
([7]) انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/79-80).
([8]) انظر: الموافقات (3/27-28).
([9]) أخرجه أبو داود (٤٣٩٨)، والنسائي (٣٤٣٢)، وابن ماجه (٢٠٤١)، وأحمد (٢٥١٥٧)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (297).
([10]) انظر: فتح ذي الجلال والاكرام بشرح بلوغ المرام، للشيخ ابن عثيمين، (5/ 58).
([12]) روح المعاني، للآلوسي (2/57).
([14]) شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين (3/ 234- 238).
([15]) الفقيه والمتفقه (2 /20).
([16]) الفقيه والمتفقه (2 /21).
([17]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 288).
([18]) شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2100).
([19]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1893).
([20]) فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 308).
([21]) شرح الأربعين النووية (6/ 24، بترقيم الشاملة آليا).
([22]) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 205)، الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/ 128)، ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (34/ 89).
([23]) شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2100).
([24]) البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 235)
([25]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 288).
([26]) ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/ 203)