رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدوٍّ صوفي للدين الحق، فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية، وديصانية، تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد يهودية، ونصرانية، ووثنية جاهلية”([1]).
هذه بعض مصادر التلقي عند الصوفية، فضلًا عن آراء الشيوخ، والرياضة، والمنامات، والكشف، والإلهام، والهواتف.
فالصوفية تثبت العقيدة بالإلهام والوحي المزعوم للأولياء، والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين، وبعروج الروح إلى السماوات، وبالفناء في الله، وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب زعمهم، وبالكشف، وبربط القلب بالرسول حيث يستمد العلوم منه في زعمهم، وبلقاء الرسول في اليقظة والمنام حسب زعمهم، وبالرؤى. وبالجملة فالمصادر الصوفية للغيب كثيرة جدًّا([2]).
لكنَّ أكثرها عدوانًا على مرجعية الشريعة: دعواهم أنه يمكن للخواصِّ أن يلقوا رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حال اليقظة، وأن يَتَلَقَّوْا عنه أحكامًا شرعيَّةً ملزِمة؛ مما فتح البابَ على مصراعيه للكذِبِ على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
لقد استدرج الشيطان الصوفية إلى الغلو المذموم في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وذلك عبر خطوات يُسلِّم بعضها إلى بعض، ومن هذه الخطوات:
1- ما زعموه من خروج يده الشريفة صلى اللَّه عليه وسلم من قبره ليقبّلها الشيخ أحمد الرفاعي (ت: 570هـ).
فقد ادَّعى أبو الهدى الصيادي الرفاعي([3]) أن الشيخ أحمد الرفاعي لما حجّ وقف تجاه الحجرة الشريفة، وأنشد:
في حالةِ البُعدِ روحي كنتُ أرسلُها … تقبلُ الأرضَ عني وَهْيَ نائبتي
وهذه دولةُ الأشباحِ قد حَضَرَتْ … فامدُدْ يمينَك كي تحظى بها شَفَتي
قال: “فخرجت إليه يده الشريفة من القبر حتى قبَّلها والناس ينظرون([4]).
2- ثم تمادى الصوفية في التخبط، وساروا على نفس الدرب، ونسجوا على نفس المنوال، فأخذوا يختلقون القصص المشابهة، فذكروا أن إبراهيم الأعزب أنشد شعرًا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: “بارك اللَّه بك، أنت منظور بعين الرضا”([5]).
3- ثم ترقّوا إلى أبعد من ذلك بادعاء أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم يخرج من قبره، ويلتقي مشايخهم، وأنهم يرونه يقظة لا منامًا في الدنيا، ويتلقون عنه([6]).
أولًا: تعريف الرؤية:
قال ابن فارس: “الراء والهمزة والياء أصل يدل على نظر وإبصار بعينٍ أو بصيرة”([7]).
وقال الفيومي: “رأيت الشيء رؤية: أبصرته بحاسة البصر، ومنه الرياء وهو إظهار العمل للناس ليروه ويظنوا به خيرًا، فالعمل لغير الله -نعوذ بالله منه- ورؤية العين: معاينتها للشيء. ويقال: رؤية العين، ورأي العين، وجمع الرؤية: رؤى”([8]).
وجاءت الرؤية في معان ثلاثة:
1- رؤية البصر: “طلب الرؤية بتقليب البصر، وهو الطريق الحسي للعلم”([9]).
2- رؤية القلب: “طلب العلم بالفكر، وهو الطريق المعنوي للعلم”([10]).
3- رؤية المنام([11]).
وعليه فالرؤية تكون بالعين وبالقلب، وأما الرؤيا فتكون في المنام، وهي بغير عين ولا قلب، وإنما بمشاهدة وسماع يصوَّر للرائي في منامه([12]).
ثانيًا: دعوى الصوفية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة:
يرى عامة الصوفية أن مُقَابلة النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته أمر ممكن وواقع، بل يصرح بعضهم بأنه عليه الصلاة والسلام لم يمت، فيقول أبو العباس القصاب: “لم يمت محمد، وإنما الذي مات هو استعدادك لأن تراه بعين قلبك”([13]).
وراح كثير منهم ينظر للطرق والأساليب التي يسلكها الصوفي حتى تتأتى له رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فينقل عمر بن سعيد الفوتي عن محمد بن عبد الكريم السمان قوله: “وأوصيك بدوام ملاحظة صورته ومعناه ولو كنت في أول الأمر متكلفًا في الاستحضار؛ فعن قريب تألف روحك، فيحضرك صلى الله عليه وسلم عيانًا، وتحدّثه وتخاطبه، فيجيبك ويحدّثك ويخاطبك، فتفوز بدرجة الصحابة وتلحق بهم”([14]). ومعنى ذلك أنه ممكن أن يُرى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الرياضة النفسيه بتركيز الفكر على صورته حتى تألف الروح تلك الصورة؛ فيحضر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم!!
ويذكر الشعراني في ترجمة عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي([15]) أنه “ابتلى بالإنكار عليه حين قال: إنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظه ويشافهه، وقام عليه بعض الناس فانقطع في بيته إلى أن مات”([16]).
وفى ترجمة إبراهيم المتبولي يقول الشعراني: “وكان يرى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا في المنام، فيخبر بذلك أمه، فتقول: يا ولدي، إنما الرجل من يجتمع به في اليقظة، فلما صار يجتمع به في اليقظة ويشاوره على أموره قالت له: الآن شرعت في مقام الرجولية”([17]).
وفي ترجمة محمد الصوفي نزيل مدينة الفيوم قال الشعراني: “وكان يخبر أنه يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة أيّ وقت أراد”. ثم علق عليه الشعراني بقوله: “وهو صادق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سائر في كل مكان وجدت فيه شريعته، وما منع الناس من رؤيته إلا غلظ حجابهم”([18]).
ويقول الفوتي: “لا يكمل الرجل عندنا في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله يقظة ومشافهة”، ثم قال: “وممن رآه يقظة من السلف الشيخ أبو مدين المغربي، والشيخ عبد الرحيم القناوي، والشيخ موسي الزواوي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي، والشيخ أبو العباس المرسي، والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر، وسيدي إبراهيم المتبولي، والشيخ جلال الدين السيوطي، وكان يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واجتمعت به نيفًا وسبعين مرة، وأما سيدي إبراهيم المتبولي فلا يحصي اجتماعه به”([19]).
وينقل السيوطي عن خليفة بن موسى النهرملكي أنه كان كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومنامًا، فكان يقال: أكثر أفعاله متلقاة منه بأمر منه؛ إما يقظة وإما منامًا، ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة، وقال له -أي: النبي صلى الله عليه وسلم-: يا خليفة، لا تضجر مني، كثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي([20]).
وممن ادّعى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة من المعاصرين الدكتور علي جمعة فقال: “كنت منهمكًا في قراءة كتب السيرة… قرأت قرابة أربعين كتابا… ثم تجلى لي النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته يقظة”، وسُئل: هل يمكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة؟ قال: “أنا رأيته في اليقظة”([21]).
وسئل يسري جبر: هل يمكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة؟ فقال: “رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة واقعة، وقعت للكثير من الأولياء، بل نعرف معنا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وروحانيات النبي قادرة على التمثل في كل مكان لمن شاء، فالروح قادرة على التمثل بالأشكال الشريفة، وروح النبي موجودة في سائر الأكوان؛ لأنه رحمة للعالمين.. ولا يخلو منه زمان ولا مكان..”، ثم قال: “ولقد عرضت عليَّ وأنا في عُمرة -أي: رؤية النبي في اليقظة- قلت: يا رب، لا أتحملها لأنها نعمة في باطنها اختبار شديد قد لا أتحمله… فدعوت الله أن يصرفها عني فصرفها”([22]).
ثالثًا: أدلة الصوفية على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناقشتها:
استدل الصوفية بعدد من الأدلة العقلية والنقلية:
الدليل الأول: عموم قدرة الله تعالى، وأن منكر ذلك يلزمه إنكار قدرة الله، وإنكار القدرة كفر. فقد نقل السيوطي عن أبي محمد بن أبي جمرة أنه رد على من استبعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ورؤية بعض الناس إياه، وذكر وجهين من المحذور في عدم التصديق بوقوع رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته، فقال في الوجه الثاني: “الجهل بقدرة القادر وتعجيزها كأنه لم يسمع في سورة البقرة قصة البقرة وكيف قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73]، وقصة إبراهيم عليه السلام مع الطير وقصه عزير…”([23]).
وفى “رماح حزب الرحيم” قال: “إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم داخلة تحت قدرة الله تعالى، فالمنكر لها منكر لقدرة الله على ذلك، ومن أنكر قدرة الله فقد كفر، والله سبحانه وتعالى أحيا الميت ببعض البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73]، وهو الذي جعل دعاء إبراهيم سببًا لإحياء الطير: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260]، وهو الذي جعل تعجب عزير سببًا لموته وموت حماره، ثم لإحيائهم بعد مئة سنة، وهو قادر على أن يجعل رؤيته صلى الله عليه وسلم في النوم سببًا لرؤيته في اليقظة”([24]).
والجواب عن ذلك:
ليس الخلاف على شمولية القدرة الإلهية، ولا على إمكانية مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بالنسبة للقدرة الشاملة، بل النزاع على وقوعها بحيث أن أشخاصًا معينين يموتون ثم يرجعون إلى الدنيا.
ثم إن هذا الرد يلزمنا لو كنا نستدل على عدم إمكانية الرؤية يقظة باستبعاد القدرة على ذلك، معاذ الله! والذين ينكرون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا هم من أعلم الناس بقدرة الله تعالي: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
فمن اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى يقظة بعد موته في الدنيا فقد بنى ذلك على أن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، لا أنه منكر لقدرة الله، والأصل في الأمور الاعتقادية التوقيف، حتى يرد فيها الدليل، وليس هناك دليل شرعي معتبر يثبت هذا القول، بل دل العقل والشرع على خلاف ذلك.
ثم إن قدرة الله تعالى متعلقة بكل شيء؛ إذ هو القادر على كل شيء سبحانه، فلا تلازم إذًا بين قدرة الله وبين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا؛ إذ لو قلنا بذلك للزم من هذا الأمر إباحة جميع المحرمات، وتحريم جميع المباحات، وإلغاء جميع الشرائع، وإفساد البلاد والعباد؛ لأن الله قادر على ذلك جميعًا، فمن الممكن أن نبيح الفاحشة لأن إباحتها داخلة تحت قدرة الله، ومن الممكن أن نحرم الصلاة لأن تحريمها داخل تحت قدرة الله، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم([25]).
الدليل الثاني: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»([26]).قالوا: فالحديث صريح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا، قال ابن أبي جمرة: “ودعوى الخصوص بغير مخصّص منه عليه السلام تعسّف”([27]).
وهو عمدة السيوطي وعيره في القول بإمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة ومخاطبته وأخذ الأحكام وغيرها منه، قال السيوطي: “وتمسكت بالحديث الصحيح الوارد في ذلك”([28]).
والجواب عن ذلك:
أولًا: هذا الحديث رواه اثنا عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: “أبو هريرة، وأبو قتادة، وأنس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وأبو جحيفة، وعبد الله بن عباس، وطارق بن أشيم، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكرة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم”([29]).
وأخرجه ثمانية من أئمة الحديث وهم: “البخاري، ومسلم، وأحمد في عشرة مواضع، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطبراني، وابن عدي، وغيرهم”([30])، ومع ذلك لم يترجم له أحد منهم بقوله: (باب في إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة)، ولو فهموا منه ذلك لترجموا به أو بعضهم على الأقل؛ لأنه أعظم من كل ما ترجموا به تلك الأبواب.
ثانيًا: المواضع التي أخرجوا فيها هذا الحديث (44) موضعًا، ومع كثرة هذه المواضع لم يرد في أي موضع لفظ «فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ» بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة، أما بقية الروايات فألفاظها: «فَقَدْ رَآنِي» أو «فَقَدْ رَأَى الحَقَّ» أو «لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ» أو «فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ».
وعلى ذلك نقول: أخرج البخاري الحديث في ستة مواضع من صحيحيه([31])، وليس فيها لفظ: «فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ» إلا في موضع واحد.
وروى مسلم وأبو داود وأحمد([32]) نفس الحديث بإسناد البخاري بلفظ: «فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ» أَوْ «لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ»، وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ: «فَكَأَنَّمَا رَآنِي» أو «فَقَدْ رَآنِي»؛ لأن كل منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم، وليس شيء فيها شك فيه الراوي، وعند الترجيح ينبغي ترجيح رواية الجزم على رواية الشك.
ثالثًا: إذا علمنا أنه لم يرد عند مسلم ولا أبي داود إلا رواية الشك أدركنا خطأ السيوطي في قوله: “وتمسكت بالحديث الصحيح الوارد في ذلك: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»“([33]).
فأوهم أن مسلمًا وأبا داود أخرجا الحديث برواية الجزم، وأغفل جميع روايات البخاري الأخرى التي خلت من هذا اللفظ.
رابعًا: حكم العلماء على هذا القول بالفساد والشذوذ، فقد نقل ابن حجر عن القرطبي قوله: “اختلف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء. قال: وهذا قول يُدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر، ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره. وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل”([34]).
وقال ابن بطال: “«فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ»: يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها وخروجها على الوجه الحق”([35]).
وقال المازري: “إن كان المحفوظ «فكأنما رآني في اليقظة» فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ «فسيراني في اليقظة» احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن يهاجر إليه؛ فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة”([36]).
قال الحافظ ابن حجر: “وقال القاضي: وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وقيل: معنى الرؤيا في اليقظة أنه سيراه في الآخرة، وتعقب بأنه في الآخرة يراه جميع أمته، من رآه في المنام ومن لم يره، يعني فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية.
وأجاب القاضي عياض باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، والشفاعة له بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات، قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم مدة”([37]).
وقال النووي: “فيه أقوال:
أحدها: أن يراد به أهل عصره، ومعناه أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عيانًا.
ثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤية في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
ثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة بالقرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك”([38]).
وقال ابن حجر: “والحاصل من الأجوبة ستة:
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى: «فكأنما رآني في اليقظة».
ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال”([39]).
الدليل الثالث: ما استدل به السيوطي من اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ليلة الأسراء في بيت المقدس([40]).
ومقصوده أن حياتهم في قبورهم تدل على إمكانية رؤيتهم، وطالما يمكن في حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى الأنبياء يقظة، فيمكن أن يكون جائزًا في حق أولياء أمته من بعده فيرونه في اليقظة.
قال محمد الحافظ التجاني “وأصل الاجتماع الروحي اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بالأنبياء u وهم في الدار الآخرة، وكان الكليم سيدنا موسى u سببًا في تخفيف الصلوات عن هذه الأمة وهو في الدار الآخرة، وصح أن سيدنا أبا بكر t أنفذ وصية ثابت بن قيس بن شماس وقد أوصى بها بعد استشهاده، وكذلك ما ثبت عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان أنه التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأبي بكر وعمر، فقالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشرة بين يديه فقتل وهو بين يديه”([41]).
والجواب عن ذلك:
أولًا: أما حياة الأنبياء في قبورهم حياةً برزخية واجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بهم ليلة الإسراء فهذا مما لا خلاف فيه، فهذا كله ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَيْتُ –وَفِي رِوَايَة: مَرَرْتُ- عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ»([42]).
قال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: “هذا الحديثُ يدُلُّ بظاهِرِه على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى موسى رؤيةً حقيقيَّةً في اليقظةِ، وأنَّ موسى كان في قَبْرِه حيًّا، يصَلِّي فيه الصَّلاةَ التي كان يصَلِّيها في الحياةِ، وهذا كُلُّه ممكِنٌ لا إحالةَ في شيءٍ منه، وقد صحَّ أنَّ الشُّهَداءَ أحياءُ يُرزَقون، ووُجد منهم من لم يتغَيَّرْ في قبرِه من السنينَ كما ذكَرْناه. وإذا كان هذا في الشُّهداءِ كان في الأنبياءِ أحرى وأَولى”([43]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الأنبياءُ أحياءٌ في قُبورِهم، وقد يُصَلُّون كما رأى مُحَمَّدٌ موسى -صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليهما وعلى سائِرِ الأنبياءِ- في قَبْرِه ليلةَ الإسراءِ”([44]).
فنحن نثبت هذه الحياة البرزخية لهم؛ إذ إن الدليل دل عليها، لكن هذا ليس في محل النزاع، إنما محل النزاع في إمكان الولي أو غيره من الأمة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، والتلقي عنه.
ثانيًا: هذه الحياة البرزحية للأنبياء في قبورهم من الغيب الذي لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولا يجوز لأحدٍ أن يتكلم فيه بغير دليل من كتابٍ أو سنةٍ صحيحةٍ، فحكمها كحكم سائر الغيبيات، نؤمن بها ولا ننشغل بكيفيتها.
ثالثًا: فصَّل ابن القيم في هذه المسألة في كتاب الروح، وبين النزاع في كيفية الرؤية ليلة الإسراء فقال: “وَأما إخْبَار النَّبِي عَن رُؤْيَة الْأَنْبِيَاء لَيْلَة أسرى بِهِ فقد زعم بعض أهل الحَدِيث أَن الَّذِي رَآهُ أشباحهم وأرواحهم… وَقد رأى إِبْرَاهِيم مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، ورأى مُوسَى قَائِمًا فِي قَبره يصلى، وَقد نعت الْأَنْبِيَاء لما رَآهُمْ نعت الأشباح…
ونازعهم فِي ذَلِك آخَرُونَ وَقَالُوا: هَذِه الرُّؤْيَة إِنَّمَا هِيَ لأرواحهم دون أَجْسَادهم، والأجساد فِي الأَرْض قطعًا إِنَّمَا تبْعَث يَوْم بعث الأجساد، وَلم تبْعَث قبل ذَلِك؛ إِذْ لَو بعثت قبل ذَلِك لكَانَتْ قد انشقت عَنْهَا الأَرْض قبل يَوْم الْقِيَامَة، وكَانَت تذوق الْمَوْت عِنْد نفخة الصُّور، وَهَذِه موتَة ثَالِثَة وَهَذَا بَاطِل قطعًا، وَلَو كَانَت قد بعثت الأجساد من الْقُبُور لم يعدهم الله إِلَيْهَا، بل كَانَت فِي الْجنَّة.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الله حرم الْجنَّة على الْأَنْبِيَاء حَتَّى يدخلهَا هُوَ، وَهُوَ أول من يستفتح بَاب الْجنَّة، وَهُوَ أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض على الْإِطْلَاق([45])”([46]).
والروح لها تعلق بالبدن في البرزخ؛ فإنها وَإِن فارقته وتجردت عَنهُ فَإِنَّهَا لم تُفَارِقهُ فراقًا كليًّا بِحَيْثُ لَا يبْقى لَهَا الْتِفَات إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، فإنها تُرد إلى البدن وقت السلام، وَهَذَا الرَّدّ إِعَادَة خَاصَّة لَا يُوجب حَيَاة الْبدن قبل يَوْم الْقِيَامَة([47]).
وعلى هذا نعلم أن حياة الأنبياء بعد الموت حياة خاصة تغاير الحياة الدنيا كل المغايرة، فأجسادهم موجودة في قبورهم، وأرواحهم في السماء، والاتصال بينهما حاصل بالكيفية التي يعلمها الله([48]).
قال ابن القيم: “وَقد صَحَّ عَنهُ أَنه رأى مُوسَى قَائِمًا يصلي فِي قَبره لَيْلَة الإسراء، وَرَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة أَو السَّابِعَة، فالروح كَانَت هُنَاكَ وَلها اتِّصَال بِالْبدنِ فِي الْقَبْر وإشراف عَلَيْهِ وَتعلق بِهِ، بِحَيْثُ يصلي فِي قَبره وَيرد سَلام من سلم عَلَيْهِ، وَهِي فِي الرفيق الْأَعْلَى، وَلَا تنَافِي بَين الْأَمريْنِ؛ فَإِن شَأْن الْأَرْوَاح غير شَأْن الْأَبدَان”([49]).
إذًا فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء ليلة الإسراء حق، وهي رؤية أرواحهم في صورة أجسادهم؛ وهي رؤية عين حقيقية، وليست قلبية ولا مجازًا، ولا رؤيا منام، فعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}، قال: «هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ»([50]).
فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء حق، وهي خاصة به، كما أن الإسراء والمعراج خاص به لا يشركه فيه أحد من الخلق، ومن زعم خلاف ذلك فالبينة على المدعي([51]).
رابعًا: اضطرب الصوفية أنفسهم في مسألة الرؤية اضطرابًا شديدًا، على صور شتى وأقوال مختلفة منها:
1- الرؤية بعين القلب، قال الألوسي في تفسيره: “والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض، وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين، فيظن أنه رآه صلى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال: إنها قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية”([52]).
2- الرؤية بعيني الرأس: واختلفوا فيها لاختلافهم في تحديد طبيعة المرئي كالتالي:
- رؤية المثال، بأن يُرى جسد مثاليّ تعلقت به روحه صلى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا مانع أن يتعدّد الجسد المثاليّ إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلّق روحه القدسية بكل جسد منها([53]).
قال الغزالي: “وليس المراد أنه يرى بدنه، بل مثالًا له صار آلة يتأدى بها المعنى، والآلة تكون حقيقية وخيالية، والنفس غير المثال المتخيّل، فما رآه من التشكيل ليس روح النبي صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله”([54]).
وشبه بعض متأخري الصوفية ذلك بمحطة البث التلفزيوني، فالنبي ميت في قبره حقيقة، ولكن روحه دائمة البث والإرسال، ومن ثم فالذي يرى هو صورته السابحة في الفضاء والمسجلة في فلم من أفلام الله، كالصورة المسجلة على فلم من أفلام البشر لأموات يعرضون علينا أحياء يتحركون ويتحدثون([55]).
- رؤية الروح، بأن تكون قد تطورت وظهرت بصور مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر([56]).
- رؤية الجسم، وهو على قسمين:
الأول: أن يكشف للولي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، قال الملا علي القاري الحنفي: “إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لا تستلزم خروجه من قبره؛ لأن من كرامات الأولياء كما مر أن الله تعالى يخرق لهم الحجب، فلا مانع عقلًا ولا شرعًا ولا عادة أن الولي -وهو بأقصى المشرق أو المغرب- يكرمه الله تعالى بأن لا يجعل بينه وبين الذات الشريفة -وهي في محلها من القبر الشريف- ساترًا ولا حاجبًا، بأن يجعل تلك الحجب كالزجاج الذي يحكي ما وراءه، وحينئذ فيمكن أن يكون الولي يقع نظره عليه عليه الصلاة والسلام، ونحن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره يصلي، وإذا أكرم إنسان بوقوع بصره عليه عليه الصلاة والسلام فلا مانع من أن يكرم بمحادثته ومكالمته وسؤاله عن الأشياء، وأنه يجيبها عنها”([57]).
الثاني: أن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم الأماكن والمجالس فيتراءى للبعض دون الآخرين، قال السيوطي: “ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحه؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا وأذن لهم بالخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي”([58]).
وقال القرطبي في حديث الصعقة نقلا عن شيخه: “الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء فالأنبياء أحق بذلك وأولى. وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء، ورأى موسى قائمًا يصلي في قبره، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيّبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامته”([59]).
الدليل الرابع: ما ذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد أن استيقظ متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فنظر فيها فرأى صورة النبي ولم ير صورة نفسه([60]).
والجواب عن ذلك:
هذه القصة ليس لها سند معروف يمكن الاعتماد عليه، ولم يخرجها أو يذكر لها سندًا من يُعتمد عليه.
وقد ذكرها الحافظ ابن حجر حين ذكر حملَ ابن أبي جمرة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظةً على رؤيته في المرآة([61])، وأجاب عن ذلك فقال: “رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحال”([62]).
لكن الحافظ ابن حجر لم يبين حكمه على هذه القصة، ولا سندها، ويكفينا قوله: “وهذا من أبعد المحال”.
قال محمد صادق سليم: “من أورده لم يذكر له إسنادًا يُعرف، ولم يعزه إلى كتاب، حتى السيوطي -مع سعة اطلاعه- اقتصر على عزوه إلى ابن أبي جمرة، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ فهذا الأثر -والله أعلم- قد يكون مما لا أصل له”([63]).
الدليل الخامس: زعمهم أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ممكنة وغير مستحيلة.
سُئل يسري جبر: هل يمكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة؟
فقال: نعم؛ لأنه وقع أم لم يقع؟! وهل هو ممكن عقلًا أم مستحيل عقلًا؟! ثم قال: “والنبي رأى الأنبياء يقظة، إذًا وقع، وقال صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة»، ويعيش معنا من يرى النبي يقظة، وما المصلحة في نفي ذلك؟! وروح النبي موجودة في سائر الأكوان؛ لأنه رحمة للعالمين… ولو غابت روحه عن عالم من العوالم لعاد عدمًا… فلا يخلو منه زمان ولا مكان، فالنبي حاضر وشاهد…”([64]).
والجواب عن ذلك:
أولًا: الاستدلال بالإمكان العقلي لا يصح؛ إذ لا يلزم منه الوقوع، فليس كل ما أمكن عقلًا وقع لزومًا. وكم من ممكن عقلًا مستحيل شرعًا، بل كم من ممكن عقلًا وشرعًا لا يقع.
قال شيخ الإسلام: “فإن الإمكان يستعمل على وجهين: إمكان ذهني، وإمكان خارجي.
الإمكان الذهني: أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه، بل يقول: يمكن هذا، لا لعلمه بإمكانه، بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذاك الشيء قد يكون ممتنعا في الخارج.
وأما الإمكان الخارجي: فأن يعلم إمكان الشيء في الخارج، وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره أو وجود ما هو أبعد عن الوجود منه، فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودًا ممكن الوجود فالأقرب إلى الوجود منه أولى”([65]).
ثانيًا: رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مستحيلة، دلت على ذلك الأدلة النقلية والعقلية.
فمن الأدلة النقلية قوله تعاله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}، قال القرطبي: “هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِهِمْ، فَاحْتَمَلَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ… -ثم قال:- الرَّابِعُ: لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا فِي مَوْتِهِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْكَرَ مَوْتَهُ احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَأَمْسَكَ”([66]).
وقال الألوسي: “ويكفي في إبطال هذا القول قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فإذا أمسك التي قضى عليها الموت فمن أين لها التمكن من التصرف؟! ومن أين لأحد أن يراها؟!”([67]).
وقال الصنعاني: “والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمعلوم من الضرورة الدينية أن من واراه القبر لا يخرج منه إلا يوم المحشر، قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، ولم يقل: (تارات أخرى)، وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22، 21]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31].
وأما الأحاديث النبوية فإنها متواترة أن من أُدخل قبره لا يخرج منه إلا عند النفخة الثانية في الصور… وبالجملة فالقول بخروج الميت من قبره وبروزه بشخصه لقضاء أغراض الأحياء قول مخالف للعقل والنقل”([68]).
وأما فساده عقلًا فقد نقل ابن حجر عن القرطبي قوله: “اختلف في معنى الحديث فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، قال: وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر، ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل”([69]).
الدليل السادس: أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته كرامة يمنحها الله من يشاء من عبادة، فالمنكر لها منكر لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب والسنة والآثار المسندة حتى النظر والعقل.
قال السيوطي نقلًا عن ابن أبي جمرة قوله: “والمنكر لهذا لا يخلو إما أن يصدّق بكرامات الأولياء أو يكذّب بها، فإن كان ممن يكذّب بها فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان مصدّقا بها فهذه من ذلك القبيل؛ لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي والسفلي عديدة، فلا ينكر هذا مع التصديق بذلك”([70]).
والجواب عن ذلك:
أولًا: إن هذا الدليل لا يرد على محل النزاع؛ إذ لا تلازم بين إنكار رؤية النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا وبين إنكار الكرامة، فقد أنكر رؤيةَ النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته جمعٌ من العلماء المثبتين لكرامات الأولياء؛ كابن العربي، والقرطبي، وابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، والأهدل، وغيرهم([71]).
ثانيًا: أنه لا يلزم أن يكون كل خرق للعادة كرامة، قال الشاطبي رحمه الله: “وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى كُلِّ خَارِقَةٍ صَدَرَتْ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فِي كَرَامَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعْجِزَاتِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فَغَيْرُ صَحِيحَةٍ وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا كَرَامَةٌ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَوَارِقِ بِكَرَامَةٍ، بَلْ مِنْهَا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ”([72]).
ثالثًا: من الأصول أيضًا في هذا الباب أنه لا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من خوارق العادات أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويُعرفون بنور الإيمان والقرآن.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله: “خرق العادات قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصدِّيق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة”([73]).
وقال الشوكاني: “ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره، بل الواجب عليه أن يعرض أفكاره علي الكتاب والسنة؛ فإن كانت موافقة لها فهي حق وصدق وكرامة من الله سبحانه، وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع من الشيطان فلبس عليه”([74]).
الدليل السابع: قولهم: “إن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وقعت لجمع غفير من سلف هذه الأمة؛ منهم الشيخ أبو المدين المغربي شيخ الجماعة، والشيخ عبد الرحمن القناوي، والشيخ أبو العباس المرسي، والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر، وإبراهيم المتبولي، والشيخ جلال الدين السيوطي وغيرهم”([75]).
ويزعم الرفاعية أن الرفاعي لما حجّ وقف تجاه الحجرة النبوية الشريفة وأنشد:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها … تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه نوبة الأشباح قد ظهرت … فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فخرجت إليه اليد الشريفة من القبر حتى قبلها والناس ينظرون([76]).
والجواب عن ذلك:
أولًا: كلام الصالحين يُستدل له لا به، فإذا ظهر من كلامهم ما يخالف الشرع والعقل، أو ما فيه تجوّز، فأقصى ما يمكن فعله أن يُحمل على أفضل المحامل مع عذرهم، فكلّ يؤخذ منه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك مثلًا ما قاله أبو العباس المرسي: “لي أربعون سنة ما حجبت عن رسول الله، ولو حجبت عنه طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين”.
قال الشيخ الأهدل: “فهذا كلام فيه تجوّز يقع مثله في كلام الشيوخ والصالحين، والمراد به أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه يحجب عن الروح الشخصية، فذلك مستحيل”([77]).
أما من لم يبلغ درجة أولئك في الصلاح والتقوى فلا عبرة بما يقوله، إنما هو شيطان تمثل له وأخبر قرينه بخبر كاذب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وَالضُّلَّالُ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ: إمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً، وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُخَاطِبُونَهُ. وَقَدْ يَسْتَفْتُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَحَادِيثَ فَيُجِيبُهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ الْحُجْرَةَ قَدْ انْشَقَّتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَقَهُ هُوَ وَصَاحِبَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ حَتَّى وَصَلَ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ وَإِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ… وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُكَذِّبُ بِهَذَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إذَا صَدَّقَ بِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ الَّذِي رَأَى ذَلِكَ رَآهُ لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ. وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ يُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ”([78]).
ثانيًا: هل من يدعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟! فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه؟!
وهذا بالإجماع لم يدعيه أحد من الصحابة أو التابعين، فإن لم يثبت لهم فعدم ثبوته لغيرهم أولى؛ إذ كيف يظهر للمفضول ولا يظهر للفاضل؟!
قال شيخ الإسلام: “وَالشَّيَاطِينُ كَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْسِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ، وَقَدْ تَأْتِي لِمَنْ لَا يَعْرِفُ فَتَقُولُ: أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الْعَالِمُ فُلَانٌ، وَرُبَّمَا قَالَتْ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَرُبَّمَا أَتَى فِي الْيَقَظَةِ دُونَ الْمَنَامِ وَقَالَ: أَنَا الْمَسِيحُ أَنَا مُوسَى أَنَا مُحَمَّدٌ، وَثَمَّ مَنْ يُصَدِّقُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَأْتُونَ فِي الْيَقَظَةِ فِي صُوَرِهِمْ، وَثَمَّ شُيُوخٌ لَهُمْ زُهْدٌ وَعِلْمٌ وَوَرَعٌ وَدِينٌ يُصَدِّقُونَ بِمِثْلِ هَذَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ حِينَ يَأْتِي إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ فِي صُورَتِهِ فَيُكَلِّمُهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَأَى فِي دَائِرَةِ ذُرَى الْكَعْبَةِ صُورَةَ شَيْخٍ قَالَ: إنَّهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْحُجْرَةِ وَكَلَّمَهُ. وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ كَرَامَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا سَأَلَ الْمَقْبُورَ أَجَابَهُ. وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَحْكِي أَنَّ ابْنَ منده كَانَ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ جَاءَ إلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدَخَلَ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ. وَآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِهِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ: وَيْحَك! أَتَرَى هَذَا أَفْضَلَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟! فَهَلْ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَجَابَهُ؟! وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي أَشْيَاءَ، فَهَلَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَهُمْ؟! وَهَذِهِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ تُنَازِعُ فِي مِيرَاثِهِ فَهَلَّا سَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا؟!”([79]).
ثالثًا: ما يدعيه الرفاعية من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج يده فقبلها الرفاعي، فهذه القصة أيضًا باطلة من وجوه:
الأول: أنها لو صحت لتوفرت دواعي نقلها مستفيضة، ولم يتفرد بها بعض الصوفية، وذلك لغرابتها.
يقول العلامة الألوسي في تفنيد هذه القصة: “فالشيء الذي تتوفر الدواعي على نقله ولم يذكره أحد من الثقات، بل ذكره الدجالون الضالون المضلون، فهو ولا شك تزوير وبهتان وكذب من إفك الشيطان”([80]).
الثاني: أنه قد ترجم لأحمد الرفاعي جماعة من المؤرخين ولم يذكروا هذه القصة في ترجمته، ولو كانت ثابتة لعدوها من أعظم مفاخره، فقد ترجم له السبكي في طبقاته، وجمع في ترجمته كل مفاخره، حتى ذكر الهرة والبعوضة، ومع ذلك لم يذكر هذه القصة أو يشر إليها([81]).
الثالث: أن البيتين ذكر الألوسي أن كثيرًا من أهل العلم نسبهما إلى ابن الفارض، ومنهم صلاح الدين الصفدي في تذكرته حيث قال: “إن ابن الفارض لما اجتمع بالشهاب السهرودي قال: في حالة البعد… البيتين”. ثم قال الألوسي: “وكفى بما قاله الشيخ صلاح الدين هذا شاهدًا على بطلان ما ادعاه الرفاعية ومبتدعتهم، فإن هذا الشيخ كان إمامًا أديبًا ناظمًا ناثرًا”([82]).
وممن أنكر هذه القصة عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري المغربي الشاذلي، فقال: “لكننا نجزم بأن هذه القصة مكذوبة، لا نَصيب لها من الصحة”([83]).
خامسًا: اللوازم الباطلة للقول بجواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة:
ترتب على هذه العقيدة بعض الإلزامات الباطلة منها:
1- استمرار التشريع؛ لأن الذين يزعمون مقابلة النبي يدّعون أنهم يأخذون منه بعض الأحكام الشرعية الجديدة.
2- يلزم من ذلك أيضًا أن يكون من رآه في اليقظة صحابيًّا، يقول ابن حجر: “ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء… وهذا مشكل جدا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكر عليه أن جمعًا جمًّا رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف”([84]).
3- يلزم من هذا القول أيضًا أن الموتى يخرجون من قبورهم، ويمشون بين الناس، وأن هناك بعثًا قبل البعث.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: “ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أو أنه يحضر المولد، أو ما شابه ذلك، فقد غلط أقبح الغلط، ولُبّس عليه غايه التلبيس، ووقع في خطأ عظيم، وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم؛ لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}، فأخبر سبحانه أن بعث الأموات يكون يوم القيامة لا في الدنيا، ومن قال خلاف ذلك فهو كذاب كذبًا بينًا، أو مغالط ملبَّس عليه لم يعرف الحق الذى عرفه السلف”([85]).
خاتمة:
من خلال الدراسة السابقة يتضح الآتي:
1- لقد استدرج الشيطان الصوفية إلى الغلو المذموم في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وذلك عبر خطوات يُسلِّم بعضها إلى بعض، كان من أعظمها دعواهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والتلقي عنه.
2- زعم الكثير من الصوفية أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ممكنة، عن طريق الرياضة النفسية، بتركيز الفكر على صورته حتى تألف الروح تلك الصورة، فيحضر النبي صلى الله عليه وسلم.
3- استدل الصوفية على جواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الأدلة، بعضها صحيح غير صريح، وبعضها صريح غير صحيح.
4- اعتماد الصوفية في كثير من أدلتهم على القصص والحكايات التي تروي عن مشايخهم، حتى ولو كانت القصة بسند كله مجاهيل.
5- يترتب على هذه العقيدة مجموعة من اللوازم الباطلة، والتي منها: جواز القول باستمرار التشريع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، واستمرار منزلة الصحبة حتى بعد وفاته، وجواز القول بالبعث بعد الموت.
هذا، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) هذه هي الصوفية، ط: أنصار السنة المحمدية (ص: 19).
([2]) انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، د. عبد الرحمن عبد الخالق (ص: 37).
([3]) في كتابه: قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر (ص: 67-68).
([4]) تنوير الحلك في رؤية النبي والملك (ص: 51).
([5]) ترياق المحبين، لتقي الدين الواسطي (ص: 69).
([6]) انظر: أصول بلا أصول، د: محمد إسماعيل المقدم (ص: 129-132)، بتصرف.
([7]) مقاييس اللغة (ص: 415)، مادة: رأي.
([8]) المصباح المنير (ص: 129)، مادة: روي.
([9]) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، ط: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة (9/ 130).
([10]) انظر: نظم الدرر (1/ 328).
([11]) انظر: لسان العرب، لابن منظور (6/ 657)، مادة: رأي.
([12]) رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته دراسة عقدية، د: سعد بن عبد الله آل ماجد الدوسري (ص: 12).
([13]) انظر: في التصوف الإسلامي وتاريخه، رينولد. ا. أنيكولسون (ص: 208).
([14]) رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم (1/ 226).
([16]) الطبقات الكبرى (1/ 172).
([17]) الطبقات الكبرى (2/ 75).
([18]) الطبقات الكبرى (2/ 160).
([19]) رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم (1/ 199).
([20]) تنوير الحلك في رؤية النبي والملك، ط: دار الأمين، 1993م (ص: 39).
([23]) انظر: تنوير الحالك (ص: 16).
([24]) انظر: رماح حزب الرحيم على نحو حزب الرجيم (1/ 205).
([25]) انظر: التجانية، د: علي بن محمد آل دخيل الله، ط: دار العاصمة (ص: 126).
([26]) رواه البخاري: كتاب التعبير، بَابُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ (6993)، ومسلم، كتاب الرؤيا، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» (2266).
([27]) انظر: رماح حزب الرحيم (1/ 205)، تنوير الحلك (ص: 16).
([28]) انظر: تنوير الحلك في رؤية النبي والملك، جلال الدين السيوطي، ط: دار الأمين، 1993م (ص: 14).
([29]) تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، د. محمد أحمد لوح، ط: دار بن عفان، ودار بن القيم، (2/40).
([30]) صحيح البخاري (110، 6197، 6993، 6996، 6994، 6997)، صحيح مسلم (2266)، مسند أحمد (1/ 400، 2/ 232، 261، 342، 411، 425، 463، 469، 472، 5/ 306)، سنن أبي داود (5023)، سنن الترمذي (2280)، سنن ابن ماجه (3901)، ، الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 339)، مجمع الزوائد (7/ 181).
([31]) صحيح البخاري (110، 6197، 6993، 6996، 6994، 6997).
([32]) صحيح مسلم (2266)، سنن أبي داود (5023)، مسند أحمد (7398، 7553، 9316، 22606).
([33]) تنوير الحلك في رؤية النبي والملك، ط: دار الأمين، 1993م (ص: 14).
([34]) فتح الباري، ط: دار المعرفة، بيروت (12/ 384).
([35]) ينظر: فتح الباري (12/ 385).
([36]) ينظر: فتح الباري (12/ 385).
([38]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت، (15/ 26).
([40]) انظر: تنوير الحلك في رؤية النبي والملك (ص: 65).
([41]) رماح حزب الرحيم (1/ 199).
([42]) رواه مسلم، كتاب الفضائل، بَابُ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2375).
([43]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، ط: دار بن كثير (6/ 192).
([44]) المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 101).
([45]) رواه البخاري، كتاب الخصومان، بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الأشْخَاصِ وَالخُصُومَةِ بَيْنَ المُسْلِمِ وَاليَهُودِ (2412).
([46]) الروح، ط: دار الكتب العلمية (ص: 41).
([47]) انظر: الروح لابن القيم (ص: 44).
([48]) انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح، ط: دار بن القيم، دار بن عفان (2/ 51).
([50]) رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، بَابُ المِعْرَاجِ (3888).
([51]) انظر: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.. دراسة عقدية، د. سعد بن عبد الله الدوسري، بحث منشور بمجلة العلوم الشرعية، العدد السابع والستون، ربيع الآخر 1444هــ (3/ 159).
([52]) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ط: دار الكتب العلمية (11/ 215).
([53]) انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ط: دار الكتب العلمية (11/ 215).
([54]) ينظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى – مصر (6/ 132).
([55]) انظر: الموقظة في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة، لهشام عبد الكريم الألوسي، مراجعة كل من: الأستاذ الدكتور أحمد عبيد عبد الله الكبيسي، أستاذ الشريعة والقانون بجامعة بغداد سابقًا، والشيخ عبد الكريم محمد بيارة، رئيس رابطة علماء العراق، والمدرس في الحضرة القادرية في بغداد، تخريج: أحمد فائق جواد العاني، معاون مدير ثانوية الحضرة المحمدية في الفلوجة (ص4، 37، 42)، وينظر:
https://www.youtube.com/ watch?v=ruOT_pUF4wY
([56]) انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (11/ 215).
([57]) جمع الوسائل على شرح الشمائل (2/ 237).
([58]) تنوير الحلك في رؤية النبي والملك (ص: 14)، وانظر: الحاوي في الفتاوي للسيوطي (2/ 484).
([59]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ط: دار المنهاج- الرياض (ص: 460).
([60]) انظر: تنوير الحلك في رؤية النبي والملك (ص: 17)، والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني (2/ 368).
([61]) فتح الباري (12/ 385). وينظر: بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها (1/ 778).
([63]) انظر: المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضًا ونقدًا، ط: مكتبة الرشد (ص: 425).
([65]) الرد على المنطقيين، ط: دار المعرفة، بيروت، لبنان (ص: 318).
([66]) الجامع لأحكام القرآن، ط: دار الكتب المصرية (15/ 254).
([67]) غاية الأماني في الرد علي النبهاني، ط: مؤسسة الرسالة (1/ 52).
([68]) الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف (ص: 51).
([69]) فتح الباري، ط: دار المعرفة، بيروت (12/ 384).
([70]) تنوير الحلك في رؤية النبي والملك (ص: 17-18).
([71]) التجانية، د. علي بن محمد آل دخيل (ص: 128).
([72]) الموافقات، ط: دار ابن عفان (2/ 444).
([74]) بغية المستفيد (ص: 79-80).
([75]) رماح حزب الرحيم (1/ 199).
([76]) قلادة الجواهر (ص: 67-68).
([77]) انظر: شرح المواهب اللدنية للزرقاني (5/ 300).
([78]) مجموع الفتاوى (27/ 392).
([79]) مجموع الفتاوى (10/ 407).
([80]) غاية الأماني في الرد على النبهاني، ط: مؤسسة الرسالة (1/ 224).
([81]) انظر: طبقات الشافعية (6/ 24).
([82]) غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/ 225).
([83]) النقض المبرم لرسالة الشرف المحتم، ط: مكتبة القاهرة (ص: 9-40). وقد فنّد القصة كاملة من أكثر من وجه.