التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية.
ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد في الإسلام لا يعني هجر الدنيا وترك العمل، فالإسلام دين وسط واعتدال، لا يدعو للرهبانية والتطرف([1]).
والصوفية الأوائل أمثال أبي سليمان الداراني (ت 215هـ) وأحمد بن أبي الحواري (ت 230هـ) والجنيد (ت 298هـ) وغيرهم -ممن يطلق عليهم: أصحاب التصوف السني- كانوا ملمين بالعلوم الدينية مما يمكنهم من الرد على انتقادات خصومهم، وحتى لا يتعرضوا للانحراف إذا تصوّفوا مع جهل، وكانوا في الجملةِ على أصولِ الكتاب والسنةِ، خاصةً في باب العقائد، ودَعَوا لالتزام الشريعة والكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ [أي: الصوفية] يوافق ما كان عليه السلف، وهذا هو الذي كان يجب أن يُذْكَر؛ فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ -مثل الفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، ومعروف الكرخي، إلى الجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء- ما يبين حقيقة مقالات المشايخ”([2]).
غير أن الأمر لم يقف عند هذه الزهادة الشرعية، إذ لم يلبث التنسك أن تطور وامتزجت به عناصر أخرى([3])، فبدأ ارتباط التصوف بالفلسفة، فاهتم الصوفية بعلوم المكاشفة ومعرفة الله، وكان ذو النون المصري (ت 245هــ) أول من أدخل العرفانية في التصوف الإسلامي، وجاء أبو يزيد البسطامي (ت 270هــ) بنظرية الفناء، أي: فناء الإنسان عن نفسه لا شعوريًّا بذاته مع الله، ثم تطورت هذه النظرية إلى الحلول والاتحاد مع الله على يد الحسن بن منصور الحلاج (ت 309هــ)، أي: حلول الذات الإلهية في المخلوقات، واتحاد طبيعة الإنسان في الطبيعة الإلهية حتى تصبح حقيقة واحدة([4]).
ثم انقسموا فيما يخصّ الصلة الإلهية إلى ثلاثة أقسام:
الأول: “اتحادية”: ابن مسرة والفارابي وإخوان الصفا، ومجملها انطباع العقل الفعال الذي هو الفيض الإلهي في النفس السلبية.
والثاني: “إشراقية”: السهروردي الحلبي والدواني وصدر الدين الشيرازي، وهي تتلخص في جوهر الروح.
والثالث: “وصولية”: ابن سينا وابن طفيل وابن سبعين، التي تقرر أن النفس بوصولها إلى الإله تدرك وجودها التام الذي لا يقبل التبدل.
وأخذت هذه النظريات الثلاث تمتزج وتتطور حتى انتهت إلى وحدة الوجود المغالية([5]).
اعتراف الصوفية بالأثر النصراني عليهم:
اعترف الكثير من الصوفية القدامى والمعاصرين بالأثر النصراني عليهم؛ فالتصوف له مصادر متعددة وروافد مختلفة، إذ هو متأثر بالثقافات المتنوعة والديانات المختلفة، سواء كانت هذه الديانات وثنية في الأصل كالبوذية واليونانية، أو كانت ديانات سماوية في الأصل كالمسيحية واليهودية([6]).
فقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قومًا يفضلون لباس الصوف، فقال: “إن قومًا يتخيرون الصوف يقولون: إنهم يتشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره”([7]).
ويقول الشيخ إحسان إلهي ظهير: “عندما نتعمّق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر وأقاويلهم المنقولة منهم والمأثورة في كتب الصوفية القديمة والحديثة نفسها نرى بونًا شاسعًا بينها وبين تعاليم القرآن والسنة، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية والبرهمة الهندوكية وتنسك اليهودية وزهد البوذية“([8]).
ولذا قال بعض الباحثين: “إن التصوف وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية، ومن المانوية والمجوسية والمزدكية، وكذلك الهندوكية والبوذية، وقبل ذلك من الفلسفة اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثة”. ثم قال: “وتمسك بهذا الرأي بعض الكتاب في الصوفية من المسلمين وغير المسلمين”([9]).
ومن أشهر من يتجلى بوضوح الأثر النصراني في فلسفته وعقيدته الصوفية ابن عربي (ت 638هـــ) صاحب نظرية وحدة الوجود، الذي يرى أن الطبيعة هي المظهر الخارجي للذات الإلهية، أما الإنسان فهو العالم الصغير الذي تتحد في ذاته جميع صفات الله.
ومن أقواله التي يصرح فيها بهذا الأثر النصراني قوله:
تدرع لاهوتي بناسوتي
وحصل موسى اليم تابوتي
فمن قال عني: إنني العبد
وقد صح أني الملك الفرد
فرُبّ عليم غره الجحد
فانظر عزتي فيك وتثبيتي
على عرش تنزيهي عن القوت([10])
كذلك يبدو الأثر النصراني واضحًا على المنهج الصوفي من خلال ما أدخلوه من المصطلحات النصرانية التي نقلوها كما هي، مثل: “ناموس – رحموت – رهبوت – لاهوت – جبروت – رباني – روحاني – نفساني – جثماني – شعشعاني – وحدانية – فردانية – رهبانية – كيفونية”([11]).
مظاهر الأثر النصراني على الصوفية:
أولًا: الغلو في الصالحين وتقديسهم:
من مظاهر الأثر النصراني على الصوفية تقديس الأشخاص والغلو فيهم، وطلب الشفاعة منهم، وبناء الكنائس على أسماء المعظمين منهم.
فإن من أصول الدين عند النصارى تقديس الصالحين منهم، وبناء الكنائس والقباب، واتخاذ الصور على قبورهم، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»([12]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية متحدثًا عن أعيادهم المبتدعة: “وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَعْيَادِهِمْ مِثْلَ عِيدِ الْقَلَنْدَسِ، وَعِيدِ الْمِيلَادِ، وَعِيدِ الْغِطَاسِ -وَهُوَ الْقُدَّاسُ-، وَعِيدِ الْخَمِيسِ، وَعِيدِ الصَّلِيبِ، وَعِيدِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ الَّتِي فِي آخِرِ صَوْمِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْيَادِهِمُ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَى أَحْوَالِ الْمَسِيحِ وَالْأَعْيَادِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا لِكُبَرَائِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ بِدَعِهِمُ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا بِلَا كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُمْ يَبْنُونَ الْكَنَائِسَ عَلَى اسْمِ بَعْضِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُمْ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ لذلك لا تجد كنيسةً مِن كنائسهم تخلو عن صورةِ مريم والمسيح وجرجس وبطرس، وغيرهم من القدِّيسين عندهم، وأكثرهم يسجدون للصُّور، ويدعونها مِن دون الله تعالى”([13]).
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا معقبًا على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: “هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم… وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين“([14]).
وهذا الغلو والتقديس له صور كثيرة عند الصوفية، منها مثلًا:
– في ترجمة الشيخ حسين أبي علي -وهو شيخ صوفي- ربى أصحابه على الشطح والنطق بالكلمات التي لا تأويل لها([15])، يقول الشعراني: “كان هذا الشيخ من كُمّل العارفين، وأصحاب الدوائر، وكان كثير التطورات، تدخل عليه بعض الأوقات تجده جنديًّا، ثم تدخل تجده سبُعًا، ثم تدخل فتجده فيلًا، ثم تدخل فتجده صبيًّا، وهكذا”([16]).
– وهذا الشعراني أيضًا يسأل شيخه عليًّا الخواص عن أرباب الأحوال الذين يظهر عليهم الخوارق مع عدم صلاتهم وصومهم! فقال: “ليس أحد من أولياء الله له عقل التكليف إلا وهو يصلي ويصوم، ولكن هؤلاء لهم أماكن مخصوصة يصلون فيها، كجامع رملة، وبيت المقدس، وجبل قاف، وسد إسكندر، وغيرها من الأماكن المشرّفة”([17]).
– ومن تقديسهم للولي زعمهم أنه يقول للشيء: كن، فيكون، يقول شيخهم إدريس بن الأرباب السوداني([18])، وهو يتحدث عن درجات الأولياء: “والوسطى أن يعطيه الله الدرجة الكونية، إذا قال للشيء: كن، فيكون”([19]).
– ومن الغلو والتقديس في الولي وصفهم للولي بما يصفون به ربهم، يقول الشعراني: “إن الشيخ محمد الحضري كان يقول: “لأرض بين يديّ كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم”([20]).
والأمثلة على ذلك كثيرة، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، والله المستعان.
ثانيًا: اعتقاد العصمة في الصالحين:
من الأسس التي تقوم عليها العقيدة النصرانية تقديس القساوسة والرهبان واعتقاد العصمة فيهم؛ باعتبارهم نوابًا عن المسيح عليه السلام.
وقد حذرهم الله من ذلك فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].
لكنهم غلوا فيهم وقدَّسوهم، واعتقدوا فيهم العصمة، وحقّ التشريع، والتصرف في الكون.
جاء في إنجيل متى قول المسيح لبطرس: “وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السموات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السموات”([21]).
وقال أيضًا مثل هذا الكلام لتلاميذه([22])؛ لذا اعتبر النصارى كل القائمين على الكنيسة من القساوسة والرهبان نوابًا عن المسيح.
وجاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا. فَوَضَعَ اللهُ أُنَاسًا فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلًا رُسُلًا، ثَانِيًا أَنْبِيَاءَ، ثَالِثًا مُعَلِّمِينَ، ثُمَّ قُوَّاتٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ، أَعْوَانًا، تَدَابِيرَ، وَأَنْوَاعَ أَلْسِنَةٍ”([23]).
لذا عبدوهم من دون الله، فاتخذوهم أربابًا، وأحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، كما قال الله تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
واستمر هذا حالهم في التحليل والتحريم تقديسًا لهم، واعتقادًا للعصمة فيهم، إلى أن قرروا في مجمع روما عام 1869 عصمة البابا، فأصبح من حقه إصدار التشريعات والأحكام فلا يعترض عليه أحد([24]).
وكما غلا النصارى في القساوسة والرهبان غلا الصوفية في الأولياء، فقالوا بعصمة الأولياء كما قالت النصارى بعصمة القساوسة والرهبان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وَهَؤُلَاءِ -أي: الصوفية- مُشَابِهُونَ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وَفِي الْمَسْنَدِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: مَا عَبَدُوهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ»([25])؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِ الْأُصُولِ”([26]).
وفوق ذلك، جعلوهم أنبياء من حيث العصمة، وأن النبوة الظاهرة هي التي انقطعت فقط، وأما الباطنة فباقية إلى يوم القيامة.
يقول د. كامل مصطفى الشيبي: “ويجب أن نقر بهذا أن المتصوفة هم أنبياء ولاية، وأن النبوة الظاهرة هي التي انقطع ظهورها، وأما الباطنة فلا تزال في الدنيا والآخرة؛ لأن الوحي الإلهي والإنزال الرباني لا ينقطع إذ كان به حفظ العالم”([27]).
ويقول أبو الحسن الشاذلي: “إن من خواص القطب إمداد الله له بالرحمة والعصمة والخلافة والنيابة”([28]).
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي في جمهرة الأولياء: “واعلم أن أهل مقام الإحسان لا تصدر عنهم معصية ما داموا في حضرة الإحسان، ومن هنا عُصم الرسل والأنبياء، وحفظ غيرهم من الأقطاب والأولياء”([29]).
والحفظ هنا بمعنى العصمة، بل جعلوهم أفضل من الأنبياء، وأسقطوا عنهم التكاليف، وأحلوا لهم المحرمات، قال الشهرستاني: “ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بذلك نساء غيرهم”([30]).
وجعلوا من قواعد الصوفية وأساس دينهم تقديس المشايخ، وقبول كل ما يصدر عنهم وإن كان مخالفًا للشرع([31]).
يقول ابن عربي:
ما حُرمة الشيخ إلا حرمة الله *** فقم بها أدبًا لله بالله
هم الأدلاء والقربى تؤيدهم *** على الدلالة تأييدًا على الله
كالأنبياء تراهم في محاربهم *** لا يسألون من الله سوى الله
فإن بدا منهم حال تولُّههم *** عن الشريعة فاتركهم مع الله([32])
ويقول علي المرصفي: “من شرط أدب المريد مع الشيخ أن يعادي من عاداه ويوالي من والاه”([33]).
ويقول الشعراني: “المريد لا يصلي مستدبرًا شيخه”([34]).
ومن أدب المريد مع شيخه أن لا يعترض عليه فيما فعله ولو كان ظاهره حرامًا، ولا يقول لشيخه: لم فعلت كذا؟ لأن من قال لشيخه: لم؟ لم يفلح أبدًا.
فانظر هذا التشابه بين الصوفية المنحرفة والنصرانية المحرفة، وكيف أن هؤلاء وهؤلاء قدسوا شيوخهم وألَّهوهم، واعتقدوا فيهم التصرف في الآخرة كما يعتقد النصارى تمامًا، واعترفوا أمامهم بخطاياهم وطلبوا منهم صكوك الغفران كما يعتقد النصارى في قسسهم.
وها هو الشيخ أحمد الرفاعي يطلب شراء بستان من صاحبه، فيقول له صاحب البستان: تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟! اطلب من الدنيا. فقال: يا سيدي، شيئًا من الدنيا لا أريد، فإن أردت البستان فاشتره بما أطلب. فنكس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمرارًا، وقال: يا إسماعيل، قد اشتريت منك البستان بما طلبت. فقال: يا سيدي، اكتب لي خط يدك. فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامنًا على كرم الله تعالى قصرًا في الجنة تجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأشجاره عوض بستان في الدنيا، وله الله شاهد وكفيل([35]).
فهذه بعض مهازل هؤلاء الصوفية التي شابهوا بها سلوك النصارى ومهازل الكنيسة وأربابها، فلا شك أن بيع العقارات في الجنة أسلوب معروف عند النصارى.
ثالثًا: تقديس القبور والأضرحة والحج إليها:
أما حج المشاهد عند النصارى فيعني القصد إلى مكان تقدّس بظهور رباني تجلت فيه القدرة الإلهية، متمثلًا بكنيسة أو قبر أو مشاهد لقديسيهم([36]).
فهو عبارة عن رحلة إلى مرقد القديس، أو زيارة إلى مكان مقدس آخر، يتم ممارسته لدوافع مختلفة، فهي إما لأجل الحصول على المساعدة الروحية، أو لأجل القيام بصيام التشكر، أو القيام بعمل تكفيري([37]).
بدأ اهتمام النصارى بحج الأماكن المقدسة المتمثلة بمكان مولد المسيح عليه السلام ونشأته وأضرحة القديسين خلال القرون الوسطى، وبالأخص منذ عهد قسطنطين سنة (306م)، فشرعوا لها طقوسًا يتحتم على روادها القيام بها، كما أقاموا لها ما يقوّمها ويساعد الحجاج على أداء هذه الشعيرة الدينية([38]).
لماذا يحج النصارى إلى قبور القديسين؟
يحج النصارى إلى هذه المشاهد طالبًا للشفاعة منهم عند الله، ويعللون ذلك بقولهم: “إننا نطلب شفاعة القديسين من أجل الدالة العظيمة التي لهم عند الله، ومن أجل إمكانياتهم الواسعة بعد خروجهم من الجسد، وطاقتهم الروحية الأكثر قدرة، ومن أجل محبة الله لهم، وتكليفه لهم بأعمال رحمةً وخدمة للبشر، ومن أجل معرفتهم وهم خارج الجسد بشكل أوسع بكثير من معرفتهم وهم في الجسد”([39]).
وكما هو الحال عند النصارى جاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال، فجعلوا أهم مشاعرهم زيارة القبور وبناء الأضرحة، والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات، فقد جعلوا قبر معروف الكرخي -وهو رائد من رواد التصوف- مكانًا لزيارتهم وقالوا: قبر معروف ترياق مجرب([40]).
بل جعل المتصوفة جل همهم البناء على هذه القبور وتعظيمها ودعوة الناس إليها، وجعلوا أعظم مشاعرهم الطواف بها والتبرك بها ودعاءها من دون الله عز وجل، بل لا يوجد شيخ متبع إلا وبنى لنفسه قبة كبيرة ومقامًا.
وهكذا، تشبهوا بالنصارى واليهود الملعونين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث عن عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا([41]).
فتشبهوا بالنصارى، وأعادوا من جديد شرك الجاهلية.
وكما أن النصارى يزعمون أن للقديسين بعد موتهم قوةً روحية، كذلك يزعم الصوفية أن للأولياء قوة روحية تنتقل منهم بعد موتهم، فينتفع بها الحي.
جاء في موسوعة الكسنزران: “الحقيقية أن (زيارة شيخ الطريقة) تعني معنويًّا زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم خلَّف من بعده الخلفاء الروحيين عن طريق المبايعة أو ما نسميه بـ (اللمسة الروحية)، فعندما صافح الإمام علي -كرم الله وجهه- حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لأخذ عهد الطريقة انتقلت الإشعاعات النورانية المحمدية من يد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يد الإمام -كرم الله وجهه-، فصار على إثرها حضرة الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- مشعًّا بالنور المحمدي -عليه أفضل الصلاة والسلام-، وهو معنى قولنا: (الوارث الروحي المحمدي)، ومن يد الإمام علي -كرم الله وجهه- انتقلت الإشعاعات النورانية المحمدية إلى أيدي ورثة الطريقة من بعده… -إلى أن يقول:- يجوز لأي مسلم أن يزور مقامات الأولياء ومشاهد الصالحين للتبرك بهم والاستفادة الروحية من نورانيتهم، ولكن ذلك يصح قبل أخذ الطريقة والارتباط بشيخ حي، فإذا ما أخذ المريد الطريقة فإن روحه من الناحية الروحية قد ارتبطت بروح شيخه دون سواه، وروح شيخه مرتبطة بأرواح سلسلة مشايخ الطريقة أجمعهم إلى حضرة الرسول الأعظم”([42]).
وقال أيضًا: “وفي قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فهذا فضل رباني، لا حدَّ ولا عدَّ ولا انقطاع له: نور، ورحمة، وأمان، وبشرى… فمن زارهم حبًّا وتبركًا وتعظيمًا يكرم من فيض هذا الرزق الرباني، فينتفع به الزائر قلبًا وقالبًا، جسدًا وروحًا”([43]).
وكما يحج النصارى لقبور قديسيهم طلبًا للشفاء كذلك يفعل الصوفية، بل أشد من ذلك، فهم لا يطلبون مجرد الشفاء، بل يطلبون إحياء الموتى، تزعم البريلوية([44]) في قبر شيخها([45]): “أن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلال المشاكل، ومسهّل الأمور، وقاضي الحاجات”([46])، و”إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا يحيي الأموات!”([47]).
وللصوفية حج إلى قبور أوليائهم في مواسم محددة وأماكن محددة، ولهم شعائر تشبه شعائر الحج تمامًا، نجد فيها قدومًا وسعيًا وطوافًا وتهليلًا وتكبيرًا وذبحًا.
فعند قبر البدوي وضعوا في الضريح مثل الحجر الأسود، وفي نهاية الشعائر يضع الزوار النذور لصاحب الضريح مثلما يقدم الحاج الهدى لله تعالى في مكة المكرمة([48]).
وعجل السيد معروف ومشهور، حيث يجهز ويطاف به في موكب وتهليل وتكبير إلى ضريح -البدوي-([49]).
قال عبد الصمد: “لما مات سيدي أحمد تخلف بعده سيدي -عبد العال- فشيد أركان البيت، وأقام الأشاير، -أي: نظم الأتباع ووزع المهام لرعاية الحجاج- وقصده الناس للزيارة من سائر الأقطار”([50]).
وقد نسب إلى البدوي قوله:
ألا أيها الزوار حجوا لبيتنا *** وطوفوا بأستار له تبلغوا المنا
فهيا بني الحاجات سعيا لمنهل *** ورثناه في الدارين من فيض جدنا
ففي الأبيات حث لزيارة البدوي؛ ليشهدوا منافع لهم، ويفوا نذورهم، ويطوفوا بالبيت -قبر البدوي-، مع وعد صريح لأصحاب الحاجات بقضاء حاجاتهم([51]).
وفي هذا يقول السخاوى بالحرف الواحد: “جاء الحجاج هذه السنة لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة أكثر من حجاج الحرمين”([52]).
وأما الطريقة الشاذلية فالطامة عندهم أشد وأعظم، فأتباعه ومريدوه اتخذوا من مقامه كعبة يطفون حولها، ومن جبل حميثرة بالبحر الأحمر جبلًا يقفون عليه يوم عرفات، بديلًا عن الوقوف بجبل عرفات، رغم خطورة صعود الجبل ومخاطره.
جاء في جريدة الوطن المصرية: “ومن الشعائر التي ينفذها مريدو ومحبو الشيخ في مولده إضافة إلى زيارة ضريحه: صعود جبل حميثرة في يوم عرفة؛ تزامنا مع وقفة الحجيج، حيث كان يصعد الشاذلي للاختلاء والتعبد، ويشكلون شكلًا هرميًّا من الأحجار على قمته على أمل العودة مرة أخرى. يقضي زوار الشاذلي يومهم بعد الصلاة في صعود حميثرة، ثم حلقات الذكر الليلية، وقضاء الوقت في ضريح الشيخ للصلاة والدعاء. وتنظم كل طريقة صوفية موكبا يجوب القرية ويدور حول الجبل، وينتهي عند مقام الشاذلي، ومن أشهر هذه المواكب موكب الطريقة الشاذلية التي تعدّ محملا كبيرًا يركبه شيخ الطريقة وحوله أتباعه، ثم ينتهون بعد الطواف بحميثرة إلى مقام الشيخ، ثم تبدأ حلقات الذكر والمدح النبوي، وينحر الزائرون ما يزيد على مئة ألف رأس ماشية”([53]).
قال ابن القيم رحمه الله منكرًا على هؤلاء: “فقد آل الأمر بهؤلاء الضلال والمشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًّا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه: (مناسك حج المشاهد)؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفي أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام”([54]).
رابعًا: الرهبانية:
الرهبانية عرفها ابن الأثير كما نقلها عنه ابن منظور فقال: “هِيَ مِنْ رَهْبَنةِ النَّصَارَى. قَالَ: وأَصلها مِنَ الرَّهْبةِ: الخَوْفِ؛ كَانُوا يَتَرَهَّبُون بالتَّخَلي مِنْ أَشْغالِ الدُّنْيَا، وتَرْكِ مَلاذِّها، والزُّهْدِ فِيهَا، والعُزلةِ عَنْ أَهلِها، وتَعَهُّدِ مَشاقِّها، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَن كَانَ يَخْصِي نَفْسَه ويَضَعُ السِّلسلةَ فِي عُنقه وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنواع التَّعْذِيبِ، فَنَفَاهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الإِسلام، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا”([55]).
ولقد كان لاتصال الصوفية بالرهبان النصارى أثر بارز في نقل ما للرهبانية النصرانية من سمات، كالتشبه في الملبس، والتبتل وترك الزواج، واختيار الفقر.
وهذه الصلة أثبتها الكثير من كبار رجال التصوف، وافتخروا بها، ودونوها في كتبهم، بل منهم من تتلمذ على يد هؤلاء الرهبان وأخذ عنهم.
فمن ذلك ما ذكره ابن الجوزي بقوله: “إن إبراهيم بن أدهم قال: تعلمت المعرفة من راهب يقال لَهُ: سمعان، دخلت عَلَيْهِ فِي صومعته فقلت لَهُ: يا سمعان، منذ كم أنت فِي صومعتك هذه؟ قَالَ: منذ سبعين سنة، قلت: مَا طعامك؟ قَالَ: يا حنيفي، وما دعاك إِلَى هَذَا؟ قلت: أحببت أن أعلم، قَالَ: فِي كل ليلة حمصة، قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قَالَ: ترى الذين بحذائك؟ قلت: نعم، قَالَ: إنهم يأتونني فِي كل سنة يومًا واحدًا، فيزينون صومعتي، ويطوفون حولها؛ يعظمونني بذلك، وكلما تثاقلت نفسي عَن العبادة ذكرتها تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة”([56]).
ولقد كثر مدح الرهبان النصارى في الكتب الصوفية، فمن ذلك ما ذكره الأصبهاني عن عبد الله بن الفرج أنه قال له رجل: “يا أبا محمد، هؤلاء الرهبان يتكلمون بالحكمة وهم أهل كفر وضلالة، فمم ذلك؟ قال: ميراث الجوع، متعت بك”([57]).
بل تخطى الأمر ما هو أكبر، فحكموا لهم بالجنة، ورجوا لهم الخلاص، حتى قال ابن عربي: “وأما أهل التثليث فيرجى لهم التخلص لما في التثليث من الفردية؛ لأن الفرد من نعوت الواحد، فهم موحدون توحيد تركيب، فيرجى أن تعمهم الرحمة المركبة”([58]).
ويقول الجيلي: “وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين، وسببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثم قالوا بقدمه على وجوده في محدث عيسى، وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي”([59]).
وهكذا تأثر الصوفية بالرهبانية النصرانية، وظهر هذا الأثر، حتى اعترف به الكبار منهم، قال الشيخ محمود أبو الفيض المنوفي، وهو من كبار الصوفية: “فإنه عند نهاية القرن الثاني للهجرة تأسست طرق من الزهاد تأوي إلى المقامات والخلوات وعاشوا عيشة فيها شبه من الرهبانية النصرانية“([60]).
ويمكن أن نجمل هذا الأثر فيما يلي:
1- التبتل وترك النساء:
لقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابًا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج، وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل، خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
فنقل السهروردي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: “من تعوّد أفخاذ النساء لا يفلح”([61]).
ونقل أبو طالب المكي عن أبي سليمان الداراني قال: “من تزوج فقد ركن إلى الدنيا”([62]).
ويقول السهروردي: “التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص، ورجوع من التروّح إلى النغص، وتقيد بالأولاد والأزواج، ودوران حول مظان الاعوجاج، والتفاف إلى الدينا بعد الزهادة، وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة”. ثم نقل حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ)، قيل: يا رسول الله، وما خفيف الحاذ؟ قال: (الذي لا أهل له ولا ولد). وقال بعض الفقراء -لما قيل له: تزوج-: أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج([63]).
وذكر الطوسي أن رجلًا صوفيًا تزوج امرأة، فبقيت عنده ثلاثين سنة وهي بكر([64]).
وذكر العطار عن عبد الله بن خفيف الصوفي المشهور أنه تزوج أربعمائة امرأة، ولكنه لم يجامع واحدة منهن([65]).
وذكر الشعراني عن ياقوت العرشي أنه تزوج ابنة شيخه أبي العباس المرسي، فمكثت عنده ثماني عشرة سنة لا يقربها؛ حياءً من والدها ومنها، وفارقها بالموت وهي بكر([66]).
هذه هي أقوال الصوفية التي خالفوا بها الكتاب والسنة، وأخذوها من أقوال القساوسة والرهبان، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهذه بعض آيات الإنجيل شاهدة عليهم بذلك، يظهر منها من أين دخلت الرهبانية على صوفية المسلمين.
جاء في إنجيل متي، الآية 12: فقال المسيح: “ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل”([67]).
ويقول رسول المسيحيين في رسالته إلى أهل كورنتوس: “وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأُمُورِ الَّتِي كَتَبْتُمْ لِي عَنْهَا: فَحَسَنٌ لِلرَّجُلِ أَنْ لاَ يَمَسَّ امْرَأَةً “([68]).
فهذه هي تعاليم النصرانية: طلب الاختصاء للدخول في ملكوت الرب، واعتزال النساء، وهذا قد فعله بعض كبار الصوفية، وعد هذا عندهم من مناقبه، فقد روى الشعراني: “أن عبد الرحمن المجذوب كان من الأولياء الأكابر، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول: ما رأيت قط أحدًا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ونقص حاله، إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب، وكان مقطوع الذكر، قطعه بنفسه أوائل جذبه”([69]).
2- الجوع والتعري والفقر الاختياري:
فمن خصائص النصرانية وتعاليمها: ترك الدنيا، والتجرد من المال، والتجوّع، وتعري الأجساد، وتحريم الطيبات، ورهبانية ابتدعوها ما كتبها الله عليهم.
جاء في إنجيل متى عن المسيح أنه قال: “لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ”([70]).
وجاء في الإنجيل: أن شابًّا تقدم إلى المسيح وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل به لتكون لي الحياة الأبدية؟ فأجابه المسيح ببعض الأجوبة ثم قال له: “إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني. فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينًا، لأنه كان ذا أموالٍ كثيرة. فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم، إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات، وأقول لكم أيضا: إن مرور جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله”([71]).
وليس هذا فحسب، بل نقل عنه لوقا في إنجيله أنه جاءه جموع كثيرة سائرين معه، فالتفت إليهم وقال: “إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وإخوانه حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا”([72]).
لقد كان لاتصال مشايخ الصوفية بالرهبان والأخذ عنهم أثر كبير على منهج الصوفية في حياتهم؛ لذا نراهم يؤثرون الفقر وعدم التكسب على الغنى والعمل؛ مقتدين في ذلك برهبان النصارى، حتى جعلوه أساسًا للتصوف([73]).
يقول ابن عجيبة: “الفقر أساس التصوف، وبه قوامه”([74]).
ويقول الكلاباذي معرفًا بالصوفية: “إنهم قوم قد تركوا الدنيا، فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخدان، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعروا الأجساد”([75]).
ويقول أحمد الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية: “أكره للفقراء دخول الحمام، وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة، وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك”([76]).
وأورد القشيري تعريف الفقير في قول مظفر القرمسيني، فقال: “الفقير: هو من لا يكون له إلى الله حاجة”([77]).
وهكذا اختار الصوفية طريق الجوع والعري والفقر حتى سموا أنفسهم بالفقراء، وجعلوا ذلك أساس التصوف، تشبهًا بمن سبقهم من رهبان وقساوسة النصارى.
3- لبس الصوف:
ومما أخذه الصوفية من النصارى من مظاهر الرهبانية الالتزام بلبس الصوف، ذكر ذلك الشعراني عن أبي العالية أنه كان يكره للرجل زي الرهبان من الصوف، ويقول: “زينة المسلمين التجمل بلباسهم”([78]).
ومثل ذلك نقل ابن عبد ربه عن حماد بن سلمة أنه قال لفرقد السبخي حينما رآه لابسًا الصوف: “دع عنك نصرانيّتك هذه”([79]).
وجاء عبد الكريم أبو أمية إلى أبي العالية وعليه ثياب صوف، فقال له أبو العالية: “إنما هذه ثياب الرهبان، إن المسلمين إذا تزوروا تجملوا”([80]).
وذكر السهروردي أيضًا أنه كان الصوف لباس عيسى عليه السلام فقال: “كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف، ويأكل من الشجرة، ويبيت حيث أمسى”([81]).
ومثل ذلك ذكر الكلاباذي في التعرف لمذهب أهل التصوف([82])، وعلى ذلك قال نولدكة ونيكلسون وماسينيون: “إن التصوف الإسلامي أخذ لبسة الصوف من الرهبان النصارى”([83]).
خامسًا: القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود:
الاتحاد لدى النصارى المراد به هو: أن الله تبارك وتعالى اتخذ جسد المسيح له صورة، وحل بين الناس بصورة إنسان هو المسيح -تعالى الله عما يقولون-([84]).
وبعد أن قال النصارى باتحاد المسيح مع الله ازدادوا عتيًّا، فقالوا باتحاد الرهبان مع الله، ولم يكتف النصارى بهذا حتى عمموا ذلك لجميع النصارى، فقالوا: “إن المعمودية تخلقنا من جديد ككائنات منذورة ومكرّسة للاتحاد بالله إذ تسكب فينا حياة جديدة، حياة المسيح نفسه”([85]).
ويزعم النصارى أن لهم أدلة على هذه العقيدة، مثل ما ورد في إنجيل يوحنا في بدايته من قول صاحب الإنجيل: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسدًا وحل بيننا”([86]).
ويستدلون أيضًا بقول بولس([87]): “عظيم هو سر التقوى. الله ظهر في الجسد. تبرر في الروح”([88]).
وقال بولس أيضًا: “إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم”([89]).
وهكذا عند التحقيق نجد النصارى قد قالوا بالاتحاد الخاص، وزاد بعضهم القول بالاتحاد العام، وزعموا أن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء.
وكما أن النصارى قالوا بالاتحاد فكذلك قالوا بالحلول، وورد ذلك في كتبهم، فهم يعتقدون أن الله حلَّ بالمسيح عليه السلام، في يوحنا يقول المسيح: “ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال. صدقوني أني في الآب والآب فيَّ”([90]).
ثم جاء القائلون من الصوفية بوحدة الوجود، ونقلوا هذه العقيدة نفسها من النصارى، ولم يخفوا هذا النقل بل اعترفوا به، وزادوا عليهم وتجاوزوهم بالقول بالاتحاد العام، وخرجوا به عن الإسلام حتى قال الإصطخري وهو يتكلم عن الحلاج: “وقد انتحل قوم من الفرس ديانات خرجوا بها عن المذاهب، فدعوا إليها وانتصبوا لها، لولا أن إهمال أمرهم ضرب من العصبية وباب من التحامل، فنذكر المحاسن ولا نذكر غيرها، لكان من الواجب إهمال ذكرهم لشناعة أمرهم وفظاعة أخبارهم، ولكن الوقوف على ما أمكن من أخبار الناس وسيرهم -من محمود ومذموم- غير مكروه، فممّن عرف من هؤلاء واشتهر ذكر الحسين بن منصور المعروف بالحلّاج من أهل البيضاء، وكان رجلا حلاجًا ينتحل النسك، فما زال يرتقى به طبقا عن طبق حتى انتهى به الحال إلى أن زعم أن من هذّب في الطاعة جسمه، وأشغل بالأعمال الصالحة قلبه، وصبر على مفارقة اللذات، وملك نفسه في منع الشهوات، ارتقى به إلى مقام المقربين، ثم لا يزال يتنزّل في درج المصافاة، حتى يصفو عن البشرية طبعه، فإذا لم يبق فيه من البشرية نصيب حلّ فيه روح الله الذي كان منه عيسى ابن مريم، فيصير مطاعا، فلا يريد شيئا إلا كان من كلّ ما ينفذ فيه أمر الله، وأن جميع فعله حينئذ فعل الله، وجميع أمره أمر الله“([91]).
ويقول أيضًا:
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُهُ … سِرَّ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِرًا … فِي صُورَةِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ
حَتَّى لَقَدْ عَايَنَهُ خَلْقُهُ … كَلَحْظَةِ الْحَاجِبِ لِلْحَاجِبِ([92])
وهذا الشبلي يقول: “أنا والحلاج في شيء واحد، خلصني جنوني، وأهلكه عقله”([93]).
ويقول أيضًا:
فلما أراني أنك حاضري … شهدتك موجودًا بكل مكانٍ([94])
ونقل القشيري عن أبي حاتم السجستاني قال: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سئل الشبلي فقيل لَهُ: أَخْبَرَنَا عَن توحيد مجرد وبلسان حق مفرد، فَقَالَ: ويحك! من أجاب عَنِ التوحيد بالعبارة فَهُوَ ملحد، ومن أشار إِلَيْهِ فَهُوَ ثنوي، ومن أومأ إِلَيْهِ فَهُوَ عابد وثن، ومن نطق فِيهِ فَهُوَ غافل، ومن سكت عَنْهُ فَهُوَ جاهل، ومن توهم أَنَّهُ واصل فليس لَهُ حاصل([95]).
ويقول إبراهيم الدسوقي أيضًا معبرًا عن هذه العقيدة: “أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلعته بيدي ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس”([96]).
وهذا أحمد البدوي نُقل عنه الكثير من الأشعار التي تُظهر هذه العقيدة الباطنية، وهي مليئة بالحلول والاتحاد، بل ووحدة الوجود.
مثل ما نقله عنه عبد الصمد بن عبد الله الأحمدي المصري، كقوله:
وباسطني عمدًا فطاب خطابه فيا طيبها من حضر صمدية
وغيبني عني فصرت بلا أنا دهشت بمرآة ووحدت وحدتي
أنا قطب أقطاب الوجود بأثره وكل ملوك العالمين رعيتي
أنا أحمد البدوي قطب بلا خفاء على الأقطاب صحت ولايتي
وقوله أيضًا:
سائر الأرض كلها تحت حكمي وهي عندي كخردل في فلاء
أنا سلطان على قطب كبير وطبولي تدق فوق السماء([97])
وأما وحدة الوجود: فتعني أنه لا وجود حقيقة إلا الله، وكل الموجودات وهمٌ، ولا تصبح حقيقة إلا بتجليات الإله فيها([98]).
وهي عقيدة ابن عربي، وعامة الصوفية اليوم ينتسبون لها، ويصرحون بها، أمثال يسري جبر وغيره.
ومن زعم غير ذلك فقد كذب، وابن عربي نفسه يعترف بهذا المعنى([99])؛ فقد زعم أنه نقل علمه وكتبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وكتب عن اللوح المحفوظ بلا وساطة، وصاغ عقيدة وحدة الوجود بكل جرأة وبلا مواربة، واستطاع أن يحرف آيات القرآن، فيزعم أن قوم هود الكافرين كانوا على الصراط المستقيم، وأن فرعون كان مؤمنًا كامل الإيمان، وأن قوم نوح كانوا مؤمنين، فجازاهم الله بأن أغرقهم في بحار الوحدة، وأدخلهم نار الحب الإلهي؛ ليتنعموا فيها، وأن هارون أخطأ لأنه نهى بني إسرائيل عن عبادة العجل، وما كان العجل إلا المعبود الحق، أو صورة من صور المعبود الحق، وأن قوم نوح أصابوا في عدم تركهم ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا؛ لأنها مظاهر للإله الواحد، وأن النار عذوبة لا عذاب، وأنه ما من إنسان إلا مرحوم مرضي عنه، وأن الله لا يعلم شيئًا قبل وجوده، لأن وجود الشيء هو وجود العلم، بل وجود كل شيء هو ترجمة لوجود الله([100]).
وفي الواقع، يصعب تخليص النظم الصوفية المتأخرة من لوث الاتحاد أو الوحدة الوجودية منذ رسخها ابن عربي وجعلها نظامًا معرفيًّا.
ولا تكاد تجد نظامًا صوفيًّا متأخّرًا يجرؤ على التبرؤ من ابن عربي أصلًا، قصاراهم الاعتذار أو النهي عن القراءة إلا للخواص.
وهذا يسري جبر مع اعترافه أنه من أتباع ابن عربي يقول: “الحالة الثالثة من الحرمة: أنك تعلم أنك قائم به، فالتفت فوجدت نفسك أنك عابدًا له به، فسبحانه الذي عبد نفسه بنفسه، وذكر نفسه بنفسه، ولم يذكره غيره إذ ليس معه غيره، وهذه حالة الفناء أو وحدة الوجود، أو وحدة الشهود”([101]).
وهذا صوفي آخر من بلاد الشام يوزع على تلامذته ورد الشاذلية، وأوله بالحرف الواحد: “اللهم انشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة”. أليست هذه هي وحدة الوجود بعينها([102])؟!
الصلاة المطلسمة كأثر من آثار القول بالحلول والاتحاد:
وليس أدل على هذا الأثر النصراني على الصوفية المعاصرين في قولهم بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود من هذه الصلاة المطلسمة التي وضعها لهم ابن عربي، ودعا إليها شيخ الشافعية في مصر الشيخ عبد العزيز الشهاوي، والتي يظهر فيها الأثر النصراني واضحًا، فقال: “هذه الصلاة المطلسمة مروية عن سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه، وأخبر أنها بسبعين ألف صلاة، ومن العجب أنها وافقت صلاة مع تغيرات خفيفة للإمام الأكبر محيي الدين بن العربي رحمه الله، مضيفًا: قال سيدي محمد البهي: هذه الصلاة تلقيناها لقضاء الحوائج عن مشايخنا لقضاء الحاجات، ولكن بإضافة: يا عظيم قد أهمني هم أمر عظيم، وكل أمر أهمني يهون بأمرك يا عظيم، الصلاة والسلام عليك يا سيد المرسلين أنت لها ولكل كرب عظيم، فرجها يا رب -ثم تذكر حاجتك- فرجها يا رب بحق بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: وإن قرأ الفاتحة كان أسرع للإجابة([103]).
ونصها كما يلي: “اللّهُمَ صَلِّ عَلَى الذَاتِ المُطَلْسَمِ، والغَيْبِ المُضَمْضَمِ والكَمَالِ المُكْتَتَمْ، لاهُوتِ الجَمَال ونَاسُوتِ الوُصَالْ، طَلْعَةِ الحَقِّ كَثَوبِ عَيْنِ إنْسَانِ الأزَلْ، في نَشْرِ مَنْ لَمْ يَزَل، مَنْ أقامَتْ بِهِ نَواسِيتُ الفَرقِ، في قَابِ قَوْسِهْ نَاسُوتَ الوِصَالْ، الأقْرَبِ إلى طُرقِ الحَقْ، فَصَلِّ اللّهُمَّ بِهِ فِيهِ مِنْهُ عَليه وسَلِّمْ”.
والناظر في هذه الصلاة يرى الأثر النصراني واضحًا فيها؛ فقد استخدموا ألفاظًا نصرانية شهيرة مثل: “الناسوت” و”اللاهوت”.
واستخدموا كلمة “الذات المطلسم”، وتعني أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في صورة بشرية بالخصائص الإلهية، وهو نفس اعتقاد النصارى في المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام.
وأما قوله: (إنها وافقت صلاة سيده ابن عربي) فيعني أن عقيدة الحلول والاتحاد ما زالت ممتدة، ويتوارثها الصوفية خلفًا عن سلف مقرين بها، فبعضهم يصرح بها دون خجل، وبعضهم يكتمها إلى حين.
سادسًا: التقرب إلى الله بالرقص والغناء:
من دين الصوفية الذي تأثروا فيه بالنصرانية: الرقص والغناء، قال الدكتور صابر طعيمة: “أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بموالد بعض كبارهم أن يجتمع الأتباع لسماع النوتة الموسيقية، التي يكون صوتها أحيانا أكثر من مائتي عازف من الرجال والنساء، وكبار الأتباع يجلسون في هذه المناسبات يتناولون ألوانا من شرب الدخان، وكبار أئمة القوم وأتباعهم يقومون بمدارسة بعض الخرافات التي تنسب لمقبوريهم، وقد انتهى إلى علمنا من المطالعات أن الأداء الموسيقي لبعض الطرق الصوفية الحديثة مستمد مما يسمى: كورال صلوات الآحاد المسيحية“([104]).
وهذا الذي قرره الدكتور صابر طعيمه سبقه إليه علماء الإسلام، فقرروا أن اتخاذ الرقص والغناء قربة يتقرب بها العبد لربه إنما هو من دين اليهود والنصارى، وليس من الإسلام في شيء.
وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلًا جسدًا له خوار، فأتوا يرقصون حوله ويتواجدون، وهو -أي: الرقص- دين الكفار وعباد العجل، لذا قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل: “ذكر الصوفية بدعة يهودية، وقد جاء في مزامير العهد القديم عن اليهود: ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود، سبحوه برباب، سبحوه بصنوج الهناف”([105]).
وقال القرطبي: “سُئل الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ؟ فأجاب: مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ بَطَالَةٌ وَجَهَالَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَمَا الْإِسْلَامُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَأَمَّا الرَّقْصُ وَالتَّوَاجُدُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ، لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ وَيَتَوَاجَدُونَ، فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ وَعُبَّادِ الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيَشْغَلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى رؤوسهم الطَّيْرُ مِنَ الْوَقَارِ، فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ أَنْ يمنعهم من الْحُضُورِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ، وَلَا يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ من أئمة المسلمين وبالله التوفيق”([106]).
وجعلوا الرقص والوجد والسماع حرامًا على العوام، مباحًا لهم، فنقل الشعراني عن أبي علي الدقاق قوله: “الحرام من السماع سماع العوام لبقاء نفوسهم ورعوناتها، والمباح منه سماع الزهاد لحصول مجاهدتهم، والمستحب هو سماع أصحابنا؛ لأنه يحيي قلوبهم”([107]).
وكان الشبلي يقول: “السماع ظاهره فتنة، وباطنه عبرة، فمن عرف السماع وفتنته خاف منه”، وكان يقول: “لا يصلح السماع إلا لمن ذبح نفسه بسيوف المجاهدات، وحيي قلبه بنور الموافقات، وهو لأهل المعرفة غذاء لأرواحهم”([108]).
مما سبق وغيره كثير يظهر مدى التشابه بين النصرانية المحرفة والصوفية المنحرفة، ويؤكد مدى تأثر الصوفية بالنصرانية، ويؤكد مدى تأثر السابق باللاحق.
الخاتمة:
من خلال العرض السابق يظهر الأثر الشديد للعقيدة النصرانية على الصوفية، والذي اعترف به مشايخهم، ورؤساء الطرق فيهم، والذي يتمثل في الآتي:
1- تقديس الأشخاص والغلو فيهم.
2- اعتقاد العصمة في الصالحين.
3- تقديس القبور والأضرحة والحج إليها.
4- الرهبانية والتي تظهر في النقاط التالية:
أولًا: التبتل وترك النساء.
ثانيًا: الجوع والتعري والفقر الاختياري.
ثالثًا: لبس الصوف.
5- القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، والذي كان من آثاره هذه الصلاة التي تسمى بالصلاة المطلسمة، والتي يظهر فيها الأثر النصراني واضحًا، كأثر من آثار القول بالحلول والاتحاد.
6- التقرب إلى الله بالرقص والغناء، المستمد من كورال صلوات الآحاد المسيحية.
هذا، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: التصوف.. منشؤه ومصطلحاته، أسعد السحمراني، ط: دار النفائس، بيروت، (ص: 180).
([3]) انظر: التصوف المقارن، د: محمد غلاب، ط: مجلة الأزهر، (ص: 45).
([4]) انظر: الصوفية بين التأثير والتأثر، د: محمد عباس، جامعة مستغانم، الجزائر، (ص: 8).
([5]) انظر: التصوف المقارن، د: محمد غلاب، ط: مجلة الأزهر، (ص: 52).
([6]) مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، إدريس محمود إدريس، ط: مكتبة الرشد، (1/ 54).
([7]) ينظر: مجموع الفتاوى، (11/ 7).
([8]) التصوف.. المنشأ والمصادر، (ص: 28).
([9]) التصوف.. المنشأ والمصدر، (ص: 49). وانظر: بدع الاعتقاد وأخطارها على المجتمعات الإسلامية، محمد حامد الناصر، (1/ 13).
([10]) الديوان، ط: دار الكتب العلمية، (ص: 363).
([11]) السماع عند الصوفية.. عرض ونقد، عبد الرحمن بن عبد الرحيم القرشي، (ص: 69).
([13]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ط: دار العاصمة (1/ 365).
([14]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، لمحمد عبد الرؤوف القاسم (1/ 780).
([15]) انظر: الطبقات الكبرى للشعراني (2/ 78).
([16]) انظر: الطبقات الكبرى للشعراني (2/ 78).
([17]) انظر: الطبقات الكبرى (1/ 67)، والجواهر والدرر، (ص: 210).
([18]) انظر ترجمته في: طبقات ابن ضيف الله (ص: 49).
([19]) طبقات ابن ضيف الله (ص: 206).
([20]) الطبقات الكبرى (2/ 94).
([22]) انظر: متى (18/ 20: 18).
([23]) رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، (12/ 28: 27).
([24]) التصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة، د: لإبراهيم بن خلف التركي، (ص: 134).
([26]) مجموع الفتاوى، (11/ 212).
([27]) الصلة بين التصوف والتشيع، (1/ 417).
([28]) الصلة بين التصوف والتشيع، (1/ 417).
([29]) جمهرة الأولياء، (1/ 32).
([30]) الملل والنحل للشهرستاني، ط: دار الفكر بيروت، (ص: 226).
([31]) انظر في ذلك: الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، للشعراني، ط: مكتبة دار المعارف.
([32]) الفتوحات المكية (2/ 364).
([33]) ينظر: الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، للشعراني، ط: مكتبة دار المعارف (ص: 190).
([34]) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، (ص: 157).
([35]) انظر: جامع كرامات الأولياء، للنبهاني، ط: دار الكتب العلمية، (1/ 296).
([36]) دائرة المعرف الإسلامية، ط: طهران، هامش “1”، (7/304).
([37]) العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق رحيم، ط: الأوائل للنشر والتوزيع، (ص: 195).
([38]) العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق رحيم، ط: الأوائل للنشر والتوزيع، (ص: 197).
([39]) اللاهوت المقارن- البابا شنودة الثالث، (ص: 77).
([40]) انظر: طبقات الصوفية للسلمي، (ص: 85).
([42]) موسوعة الكسنزران لما اتفق عليه أهل التصوف والعرفان، محمد الكسنزران الحسني، حرف الزاي (ص: 340).
([43]) موسوعة الكسنزران لما اتفق عليه أهل التصوف والعرفان (ص: 351).
([44]) هي فرقة صوفية في العقيدة. وتدّعي الانتساب لمذهب أبي حنيفة في المسائل الفقهية الفرعية. نشأت في شبه القارة الهندية في مدينة بريلي بالهند أيام الاستعمار البريطاني، وتنسب هذه الفرقة إلى أحمد رضا خان. انظر:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%8A%D8%A9
([45]) هو: أحمد رضا خان بن تقي علي خان المولود سنة 1272هـ، والمتوفى سنة 1340هـ، وسمى نفسه عبد المصطفى، وكان نحيلًا حاد المزاج، مصابًا بالأمراض المزمنة، دائم الشكوى من الصداع وآلام الظهر، شديد الغضب، حاد اللسان، مع فطنة وذكاء. ومن أبرز كتبه: أنباء المصطفى وخالص الاعتقاد ودوام العيش والأمن والعي. انظر:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%8A%D8%A9
([46]) انظر: البريلوية عقائد وتاريخ، (ص: 75).
([47]) البريلوية عقائد وتاريخ، (ص: 75).
([48]) انظر: شرح الصدور بأحكام المساجد والقبور، للطهطاوي، ط: دار الكتب العلمية، (ص: 85).
([49]) انظر: شرح الصدور بأحكام المساجد والقبور، (ص: 86).
([50]) الجواهر السنة، (ص: 24)، وانظر: السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة، أحمد صبحي منصور، (ص: 233).
([51]) السيد البدوي شيخًا وطريقة، (ص: 262).
([52]) التبر المسبوك في ذيل السلوك، (ص: 176).
https://www.elwatannews.com/news/details/67913
([54]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم، ط: مكتبة المعارف، الرياض، (1/ 197).
([55]) لسان العرب، ط: دار صادر بيروت، (1/ 438).
([56]) تلبيس إبليس، ط: دار الفكر، (ص: 137).
([57]) حلية الأولياء، (1/ 151).
([58]) الفتوحات المكية، (3/ 228).
([59]) الإنسان الكامل، (2/ 127).
([60]) جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف، (ص: 214).
([61]) عوارف المعارف، (ص: 166).
([62]) انظر: قوت القلوب، لأبي طالب المكي، ط: دار صادر بيروت، (1/ 252).
([63]) انظر: عوارف المعارف، (ص: 165).
([64]) اللمع، ط: الهيئة العامة لقصور الثقافة، (ص: 264).
([65]) انظر: اللمع للطوسي، (ص: 264).
([66]) طبقات الشعراني، ط: مصطفى الحلبي، (ص: 34).
([68]) رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (7: 1).
([69]) طبقات الشعراني، (2/ 142).
([73]) التصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة، د: لإبراهيم بن خلف التركي، (ص: 65).
([75]) التعرف لمذهب أهل التصوف (ص: 29).
([76]) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص: 263).
([77]) الرسالة القشيرية، (2/ 545).
([78]) الطبقات الكبرى، (1/ 35).
([79]) العقد الفريد، ط: دار الكتب العلمية، (2/ 212).
([80]) ينظر: تلبيس إبليس، (ص: 176).
([81]) عوارف المعارف، (ص: 59).
([82]) انظر: التعرف لمذهب أهل التصوف، لأبي بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي البخاري الحنفي (ت ٣٨٠هـ)، ط: دار الكتب العلمية، (ص: 22).
([83]) انظر: التصوف المنشأ والمصدر، للشيخ: إحسان إلهي ظهير، ط: إدارة ترجمان السنة، لاهور – باكستان (ص: 81).
([84]) دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، د. سعود بن عبد العزيز الخلف، ط: أضواء السلف، (ص: 296).
([85]) انظر: محاضرات في النصرانية، للشيخ محمد أبو زهرة، ط: دار الفكر العربي، (ص: 114)، والتصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة، (ص: 73).
([87]) في رسالته الأولى لتيموثاوس (3/ 16).
([88]) انظر: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، سعود بن عبد العزيز الخلف، ط: أضواء السلف، (ص: 296).
([89]) رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (3/ 16).
([91]) المسالك والممالك، ط: دار صادر بيروت، (ص: 148).
([92]) ينظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، ط: دار العاصمة، (3/ 386).
([93]) ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 331).
([94]) ينظر: الرسالة القشيرية، (2/ 376).
([95]) الرسالة القشيرية، ط: دار المعارف، (2/ 466).
([96]) ينظر: الطبقات الكبرى للشعراني، (1/ 181).
([97]) الجواهر السنية في النسبة والكرامات الأحمدية، (ص: 90-95).
([98]) انظر: موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي (2/ 624).
([99]) انظر: فصوص الحكم، طبع بيروت. تحقيق: أبو العلاء عفيفي، (ص: 47).
([100]) انظر: الفكر الصوفي (في ضوء الكتاب والسنة)، عبد الرحمن عبد الخالق، ط: دار الحرمين – مصر، (ص: 115).
https://www.facebook.com/qarar2m/videos/3329543787264453/?extid=WA-UNK-UNK-UNK-AN_GK0T-GK1C&mibextid=2Rb1fB&ref=sharing
([102]) الصوفية نشأتها وتطورها، طارق العبدة، طارق عبد الحليم، (ص: 64).
https://www.cairo24.com/1815940
([104]) التصوف معتقدًا ومسلكًا، (ص: 310).
([105]) هذه هي الصوفية، (ص: 143). وانظر: سفر المزامير (149).
([106]) الجامع لأحكام القرآن، ط: دار الكتب المصرية – القاهرة، (11/ 238).
([107]) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، ط: مكتبة دار المعارف، (ص: 179).
([108]) ينظر: الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، (ص: 180-181).