السبت - 19 جمادى الآخر 1446 هـ - 21 ديسمبر 2024 م

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان للعلوم الدينية في صدر الإسلام -بما فيها من منطلقاتٍ عقلية فكرية من أصول الفقه ورواية الحديث- أثرٌ بالغ في نماء العقل الإسلامي منذ نعومة أظفاره. وعِلم الرواية قد مهَّد للأسس العلمية أن تبرزَ ملامحها، وذلك لأنه يعتمد على تحري الدقة والموازنة، والتمحيص العقلي، والنزاهة التامة، والعمق الشديد في التفكير للوصول إلى جذور الحقائق. فتفجَّر العقل الإسلامي في كافة الميادين، فظهر العباقرة، وعلماء الاجتماع والفلاسفة والأطباء وعلماء الفلك وغيرهم الكثير.

فليس بين الدين والعلم في الإسلام تعارض ولا تنافر كما حدث في النصرانية، والواقع أن الأول كان باعثًا من البواعث الرئيسة للثاني، فقد كانت العلوم العقلية والنقلية أختن شقيقتين.

حتى إن جورج سارتون في موسوعته الضخمة (تاريخ العلم) -والتي أصبحت المرجع الرئيس لجميع المستشرقين- يُقسِّم عصور التاريخ بأسماء أبرز علماء المسلمين وأصحاب الفضل على الحضارة الإنسانية، فيُسمي القرن الثامن الميلادي بعصر جابر بن حيان، ويسمي التاسع الميلادي بعصر الخوارزمي، ثم عصر البيروني، ثم عصر الخوارزمي، وهكذا…

وفي ذلك يقول الدكتور أحمد شوقي الفنجري مُعلقًا: “ولهذا التقسيم وهذه الأسماء مغزى كبير يجب أن لا يفوتنا؛ فمعناه أن الحضارة الإسلامية كانت في تلك العصور سيدة الدنيا بغير منافس ولا منازع، مما حدا بسارتون أن يُسميها بعصور العلم الإسلامي”([1]).

ويقول سارتون: “عندما أمسى الغرب مستعدًّا استعدادًا كافيًا للشعور بالحاجة إلى معرفة أعمق، وعندما أراد آخر الأمر أن يجدد صلاته بالفكر القديم، التفت أولَ ما التفت، لا إلى المصادر الإغريقية، ولكن إلى المصادر العربية”([2]).

إلا أن الملحد إن أقرَّ بعِظَم الحضارة الإسلامية وازدهارها، فإنه يجحَد حقَّ الإسلام وفضله في ذلك، ويجعل إنجازات العلماء من قبيل المجهودات الفردية التي كان يتم معارضتها من قِبل الدولة الإسلامية بالقتل والسجن، ومن الفقهاء بالتكفير والرمي بالإلحاد والزندقة.

وهذا الكلام بعيدٌ كل البعد عن الموضوعية، فمن المعلوم تاريخًا أن الخلافة الإسلامية هي نفسها التي كانت ترعى هؤلاء المفكرين والعلماء، فلقد بنى الخلفاء العباسيون (بيت الحكمة) الذي كان مركزًا للعلوم، واستقطبوا إليه علماء الاجتماع والطب والصيدلة والفيزياء والرياضيات، وقد تم بناؤه في عهد هارون الرشيد، ثم ازدهر في عهد المأمون، وقد كان يعمل فيها الخوارزمي وغيره.

 وأبو القاسم الزهراوي قد عمل في بلاد الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر، وابن النفيس كان شيخ الأطباء في مصر، ومقربًا من الظاهر بيبرس. وسيأتي بيان ذلك.

 

فالخطاب العلموي المعاصر يعتمد على أمرين:

أولهما: جهل المتلقين، فيلقي معلومة غير دقيقة على أسماع الناس اعتمادًا منه على أن جمهور الناس لا يقرؤون.

ثانيهما: مغالطة التركيب المنطقية، وهو افتراض صحة أمرٍ ما اعتمادًا على صحة جزءٍ منه.

بمعنى: أنه يعتمد معلومة صحيحة في أصلها، ثم يبني عليها عشرات المغالطات باللوازم، أو يحرِّفها ويُهوِّل منها، ويزيد عليها. ومثال ذلك: دعوى أن فقهاء المسلمين قد نسبوا الفلاسفة إلى الإلحاد -كذا بالمطلق-.

 وهي معلومة فيها حقٌّ وباطل؛ وذلك لأن المنسوبين إلى الكفر هم أشخاص معروفون بأسمائهم، وأسباب التكفير كانت متعلقة بأمورٍ شرعية؛ كإنكار معلومٍ من الدين بالضرورة ونحو ذلك.

ومصدر الخلط والتلبيس: أنَّ الملحد المعاصر يسحب هذا المناط على جميع علماء الإسلام والمفكرين عبر التاريخ من الأطباء والمهندسين وعلماء الاجتماع؛ ليخرج في النهاية بنتيجة مضلِّلة مفادها: أن جميع العلماء كانوا كفارًا وملاحدة، وأن الإسلام كان ضد العلوم والمعرفة.

وهذه النتيجة غير صحيحة بلا شكّ، فتاريخ الإسلام عبر أربعة عشر قرنًا قد خلَّف آلافًا من المفكرين والعلماء والفلاسفة وعلماء الفيزياء والرياضيات ممن تقدَّر تراجمهم بالآلاف، وليس منهم من اتهم والزندقة إلا نفر قليل تقام على أسمائهم هالة كبيرة! نعم كان لبعضهم بدع عقدية أو مشارب فكرية وذلك بحسب البيئة التي نشأوا فيها.

وسينتظم حديثنا في رد هذه الدعوى في النقاط التالية:

أولًا: بيان استقامة أكثر مفكري الإسلام وثناء الفقهاء عليهم.

ثانيًا: عناية الخلفاء والسلاطين بالعلوم، وقرب المفكرين منهم.

ثالثًا: الاتهام بالإلحاد والزندقة في التاريخ الإسلامي.

 

مركز سلف للبحوث والدراسات

*******

 

 

أولًا: بيان استقامة أكثر مفكري الإسلام وثناء الفقهاء عليهم:

المُطالع لكثيرٍ من علماء العلم التطبيقي سيجد كثيرًا منهم من أهل الاستقامة، ومثل هذا النوع كثير، ولكن كما أوضحنا فإن العلمانيين يعتمدون أصالةً على جهل المُتلقي للشبهة، ونحن نستعرض نماذج ممن مدحهم أهل الشريعة، وتدلُّ مصنفاتهم على استقامتهم؛ لنقطع بذلك أيَّ اعتراضٍ محتمل:

– من هؤلاء أبو الريحان البيروني الرياضي والفلكي وعالم الاجتماع.

فمن يُطالع كتب أبي الريحان البيروني سيجد أنه كان مستقيم الديانة، ولم يؤثر عنه أي انحرافٍ ديني، ولا ذكره أهل التراجم بتكفيرٍ أو شذوذ، بل مدحوه -كما سيأتي-، ولا صحة لما يردده بعض الرافضة والعلمانيين من أنه كان رافضيًّا([3])، فمصنفاته مليئة بالترضي عن الخلفاء الراشدين والصحابة.

فمن ذلك: ما يقوله البيروني في كتابه (الجماهر): “فالثياب أولاها وأولها لمماستها إياه، فواجب أن ينظفها إلى اللون العام المحمود وهو البياض، ويصقلها لئلا يتشبث بها الغبار والدخان.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سئل عن المروءة فقال: إنها النظافة في الثياب”([4]).

ويقول البيروني أيضًا: “وقد كان فضلاء الملوك يجمعون الأموال في بيوتها من المساجد، ويجلبونها من أجلِّ وجوهها، ثم يكنزونها بالتفرقة في أيدي حماة الحريم ثم الدافعين مغار العدو عن الحوزة إذ كانت أول فكرتهم آخر عملهم، وهم كالخلفاء الراشدين ومن تشبه بهم مقتديا مثل عمر بن عبد العزيز والكثير من المروانية والقليل من العباسية؛ إذ كانوا يرون ما قلِّدوه عبأ ثقيلا قد حمِّلوه، ويحتسبونه محنة ابتلوا بها، وكانوا يجتهدون في نقص أصرها، ويتحرجون عن التردي في وزرها”([5]).

وفي النقل السابق يمدح الخلفاء الراشدين ويفضل الدولة الأموية على العباسية، مع كونه في كنف الدولة العباسية.

ومن طالع مصنفاته رأى الترضي عن أبي بكر وعمر والتأسي بهما، بل والاستدلال بأئمة الفقه كالشافعي وغيره، ولكن -كما أسلفنا- فالعلمانيون لا يُكلفون أنفسهم القراءةَ المتأنية، ويعتمدون على جهل المُتلقي عنهم.

وفي مصنفات البيروني ذمّ الزنادقة الباطنية بأسمائهم كابن المقفع وابن أبي العوجاء، يقول البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقالة): “وإن كان الإسلامُ مكيدًا في مبادئه بقومٍ من مناوئيه أظهروه بانتحال، وحكوا لذوي السلامة في القلوب من كتبهم ما لم يخلق الله منه شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، فصدقوهم وكتبوها عنهم مغترين بنفاقهم، وتركوا ما عندهم من الكتاب الحق -يعني: القرآن- لأن قلوب العامة إلى الخرافات أميَل، فتشوَّشت الأخبار لذلك، ثم جاءت طامةٌ أخرى من جهة الزنادقة أصحاب ماني، كابن المقفع وكعبد الكريم بن أبي العوجاء وأمثالهم”([6]).

ومن دلائل ديانة البيروني وتشرُّعه ما ذكره الصفدي وياقوت الحموي وغيرهما من أنه في مرض موته كان يسأل أحد الفقهاء عن مسألةٍ شرعية استحى أن يموت وهو جاهلٌ بها، قال ياقوت الحموي: “حدَّث الفقيه أبو الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه -يعني في مرض موته-، قد حشرج نَفَسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يومًا: حساب الجدَّات الفاسدة -وهي التي تكون من قِبل الأم-؟ فقلتُ له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟! قال لي: يا هذا، أُودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا لي أن أُخليها وأنا جاهل بها؟!”([7]).

– ومنهم علاء الدين ابن النفيس عالم الطب ومكتشف الدورة الدموية الصغرى.

فمع كونه أوحد العلماء في الطب، فقد كان فقهيًا شافعيًّا، وكان له درسٌ بالجامع الأزهر، وقد تولى شرح الفقه الشافعي، من كتاب “التنبيه” للشيرازي، يقول الصفدي في ترجمة ابن النفيس: “وَكَانَ عَلَاء الدّين قد تولى المسرورية بِالْقَاهِرَةِ فِي الْفِقْه، وَذكر أنه شرح من أول التَّنْبِيه إِلَى بَاب السَّهْو شرحا حسنا، مرض رَحمَه الله تَعَالَى”([8]).

فكيف يكون مُلحدًا وهو يشرح كتب الفقه المذهبية؟!

ويقول الصفدي في بيان معارضته لمذهب غلاة الفلاسفة: “وَقد رَأَيْت لَهُ كتابا صَغِيرا عَارض بِهِ رِسَالَة حَيّ بن يقظان لِابْنِ سيناء، ووسمه بِكِتَاب فَاضل بن نَاطِق، وانتصر فِيهِ لمَذْهَب أهل الْإِسْلَام وآرائهم فِي النبوات والشرائع والبعث الجسماني وخراب الْعَالم، ولعمري لقد أبدع فِيهِ وَدلّ ذَلِك على قدرته وَصِحَّة وذهنه وتمكّنه من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة”([9]).

ومن ديانته وورعه ما ذكره الصفدي، قال: “فِي علته الَّتِي توفّي فِيهَا أَشَارَ عَلَيْهِ بعض أصدقائه الْأَطِبَّاء بتناول شَيْء من الْخمر، إِذ كَانَت علته تناسب أَن يتداوى بهَا على مَا زَعَمُوا، فَأبى أَن يتَنَاوَل شَيْئا من ذَلِك وَقَالَ: لَا ألْقى الله تَعَالَى وَفِي باطني شَيْء من الْخمر”([10]).

وقد أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية واستدل به في مواضع، ومنها قوله: “ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان، مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة، أما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف”([11]).

وقال التاج السبكي مترجمًا لابن النفيس: “عَليّ بن أبي الحزم الْقرشِي الشَّيْخ عَلَاء الدّين بن النفيس، الطَّبِيب الْمصْرِيّ صَاحب التصانيف الفائقة فِي الطِّبّ: الموجز وَشرح الكليات وَغَيرهمَا، كَانَ فَقِيها على مَذْهَب الشَّافِعِي، صنف شرحا على التَّنْبِيه، وصنف فِي الطِّبّ غير مَا ذكرنَا: كتابا سَمَّاهُ الشَّامِل، قيل: لَو تمّ لَكَانَ ثَلَاثمِائَة مجلدة، تمّ مِنْهُ ثَمَانُون مجلدة، وَكَانَ -فِيمَا يُذكر- يملي تصانيفه من ذهنه، وصنف فِي أصُول الْفِقْه وَفِي الْمنطق، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مشاركا فِي فنون، وَأما الطِّبّ فَلم يكن على وَجه الأَرْض مثله، قيل: وَلَا جَاءَ بعد ابْن سينا مثله، قَالُوا: وَكَانَ فِي العلاج أعظم من ابْن سينا، وَكَانَ شَيْخه فِي الطِّبّ الشَّيْخ مهذب الدّين الدخوار. توفّي فِي حادي عشْرين ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة، وَخلف مَالا جزيلا، ووقف كتبه وأملاكه على المارستان المنصوري”([12]).

– ومنهم أبو القاسم الزهراوي -مؤسس علم الجراحة-:

 أثنى عليه أجلَّة أهل السنة والجماعة، ومن ذلك ما يقوله الحافظ الكبير أبو عبد الله الحميدي (488هـ): “خلف بن عباس الزهراوي، أبو القاسم، من أهل الفضل والدين والعلم، وعلمه الذي بسق فيه علم الطب، وله فيه كتابٌ كبير مشهور كثير الفائدة محذوف الفضول، سماه كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، ذكره أبو محمد عليُّ بن أحمد وأثنى عليه، وقال: ولئن قلنا: إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه للقول والعمل في الطبائع والجبر لنصدُقن. مات بالأندلس بعد الأربعمائة”([13]).

 فانظر إلى هذه الترجمة الجليلة من أحد علماء الشريعة؛ تعلم من ذلك كذب العلمانيين والملاحدة المعاصرين.

والحميدي الذي أثنى على الزهراوي هو أبو عبد الله محمد بن فتوح الأندلسي، ممن أخذ عن الحافظ ابن عبد البر وابن حزم الظاهري وغيرهما، وكان من طائفة أهل الحديث الأثرية المُجانبين لأهل الكلام، والتي هي في نظر العلمانيين طائفة سلفية منغلقة.

يقول الذهبي في ترجمة أبي عبد الله الحميدي: “الإمام القدوة الأثري، المتقن الحافظ، شيخ المحدثين”([14])، وقال: “كان ثقة متدينًا بصيرًا بالحديث، عارفًا بفنونه، خبيرًا بالرجال، لا سيما بأهل الأندلس وأخبارها، مليح النظم، حسن النغمة في قراءة الحديث، صينًا ورعًا، جيد المشاركة في العلوم”([15]).

والقصد من ذلك: أن الطبيب الزهراوي كان محل ثناء من أهل الشريعة الإسلامية، وفضلًا عن ذلك كان مقربًا من بلاط الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر، وهو ما يُبطل الادعاء العلموي المعاصر أن الإسلام كان ضدّ العلم التجريبي.

حقيقة ذم الشافعي للعلوم الدنيوية:

ما دمنا في إطار بيان رأي الفقهاء في العلوم التطبيقية، فلا يفوتنا الرد على شبهة لطالما يرددها العلمانيون في كل محفل، وهي ما رُوي عن الشافعي رحمه الله من قوله:

كُلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ *** إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدينِ

العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ: حَدَّثَنا *** وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ([16])

ووفق منظورهم فكلام الشافعي دليل على أن الأمة الإسلامية كانت ضد العلم التطبيقي، وقد أخطؤوا في فهم كلام الشافعي رحمه الله؛ وذلك لأنه يجب جمع كلام الشافعي في الباب الواحد.

 فقد روى ابن أبي حاتم الرازي عنه أنه قال: “إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو: الفقه، والعلم الذي للدنيا هو: الطب”([17]). وقال أيضًا: “اثنان أغفلهما الناس: الطب والعربية”([18]).

ويقول تلميذُهُ حرملة بن يحيى: كان الشافعي يتلهَّفُ على ما ضيَّع المسلمون من الطب، ويقول: “ضيَّعوا ثلثَ العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى”([19]).

 ونقل الذهبي عن تلميذه الربيع أنه قال: “لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه”([20]).

إذن كان ينبغي جمع كلام الشافعي في الباب، لا الاكتفاء بأبياتٍ شعرية، والشعر يُترخَّص فيه بأساليب العموم ما لا يُترخَّص في غيره.

ثم إن مراده من الأبيات: أن العلم الشرعي موقوفٌ على الكتاب والسنة، ردًّا على أصحاب الرأي، أو المتكلمين ونحوهم. وقوله: (كل العلوم) من باب العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: (كل العلوم التي يُطلب منها الهداية الشرعية). والله أعلم.

ثانيًا: عناية الخلفاء والسلاطين بالعلوم، وقرب المفكرين منهم:

المطالع للتاريخ الإسلامي لا يشك للحظة أن خلفاء الإسلام وسلاطين الإسلام كان لهم أكبر الأثر في مسار الحركة العلمية والمعرفية، بل كانت الكتب العلمية تُكتب على شرف السلاطين، وتُهدى إليهم في بلاطهم، وكان هذا عُرفًا سائدًا آنذاك.

بل إن محمد بن موسى الخوارزمي قد جمع كتاب الجبر والمقابلة بناءً على طلب الخليفة المأمون([21])، وهو الكتاب الذي يعتبر تأسيسًا لعلمٍ جديد ما زال يُعمل به إلى يومنا هذا، وقد تطورت الخوارزميات Algorithms -نسبةً إلى الخوارزمي- في البرمجة الحاسوبية وفي الأنظمة الذكية، وتفجرت من خلالها الثورة التكنولوجية، وكان بدايتها (كتاب) قد أهدي إلى بلاط أمير المؤمنين. فكيف يُقال: إن الخلافة كانت ضدَّ العلم إلا أن يكون القائل جهولًا لا يعي ما يقول؟!

ومما يدفع مزاعم العلمانيين أن السلاطين كانوا ضد العلم التطبيقي أن أبا الريحان البيروني بعدما انتقل إلى بلاط السلطان محمود الغزنوي المعروف بابن سبكتكين رافقه في بعض غزواته على الهند، وتعلم هناك اللغة السنسكريتية، وترجم بعض الكتب إلى العربية، وبعد وفاة السلطان محمود تولى ابنه مسعود، وقرَّبه إليه، وأهدى إليه البيروني كتابه (القانون المسعودي)([22]).

ويقول الدكتور رياض حمودة ياسين: “تعلم البيروني اللغة السنسكريتية خلال إقامته في الهند مرافقًا للسلطان محمود في غزواته، وسافر في إقليم بنجاب وكشمير، وقام بحساب خطوط العرض لعدد من البلدان، كما حسب المسافة بين بعض البلدان في الهند. والأهم في هذه المرحلة أن البيروني انتهى من تأليف كتاب (تحقيق ما للهند) بعد وفاة السلطان محمود بمدة قصيرة “([23]).

ومن المعروف تاريخيًّا أن الدولة الغزنوية كانت سُنيَّة، وفي زمن السلطان محمود لُعنت الزنادقة والملحدة والمتكلمون على المنابر.

فقد التزم الأمير المجاهد محمود بن سبكتكين بأمر الخليفة العباسي القادر بالله، فقرأ الاعتقاد القادري -الذي هو اعتقاد أهل السنة- وألزم الناس به. يقول أبو الفرج ابن الجوزي: “وفي هذه السنة [445هـ] أعلن بنيسابور لعن أبي الحسن الأشعري، فضجَّ من ذلك أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وعمل رسالة سماها: شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة”([24]).

فوجود البيروني في بلاط الدولة الغزنوية -رغم شدتهم على الزنادقة- دليل على أن الخلفاء والسلاطين لم يكونوا أعداءً للعلم التطبيقي، بل كانوا داعمين له ويشجعون عليه.

ومن الشعر الذي قاله البيروني مادحًا السلطان محمود بن سبكتكين:

ولم ينقبض محمود عني بنعمةٍ *** فأغنى وأقنى مغضيًا عن مكاسيا

عفا عن جهالاتي وأبدى تكرمًا *** وطرى بجاه رونقي ولباسيا([25])

أما الطبيب ابن النفيس فقد كان طبيبًا خاصًّا للسلطان بيبرس، وهو الذي عيّنه رئيسًا للأطباء، فأصبح شيخ طب الديار المصرية، ولم يكن هذا المنصب فخريًّا، بل كانت له السلطة لمحاسبة الأطباء ومراجعتهم في هفواتهم([26]).

وكل ما سبق من النماذج يدلُّ على أن السلاطين قد عرفوا للعلماء قدرهم، وأن الدولة الإسلامية -بجميع عناصرها- كانت حاضنةً للعلم والمعرفة.

ثالثًا: الاتهام بالإلحاد والزندقة في التاريخ الإسلامي:

1- معنى الإلحاد في التراث الإسلامي:

بادئ ذي بدء ينبغي التنبيه إلى حقيقة صلبة قد لا يدركها كثير من العلمانيين، بل كثيرٌ من الكُتَّاب والمثقفين ممن هم بعيدون عن المجال الشرعي، وهي أن مصطلح (الإلحاد) في كتب التراث الإسلامي لا يتطابق تمام المطابقة مع ذات المصطلح المعاصر المتعارف عليه، فالإلحاد في المعنى المعاصر معناه إنكار وجود الله عز وجل، وإنكار الوحي والرسالات السماوية، أما الإلحاد في كتب التراث الإسلامي فمعناه: مطلق الميل والانحراف عن الحق، أيًّا كان نوع هذا الانحراف، سواء كان انحرافًا بعيدًا كإنكار وجود الله أو أقل من ذلك كتأويل أسماء الله وصفاته، ونحو ذلك.

قال الأزهري: “معنى الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد. وقال الليث: ألحد في الحرم إذا ترك القصد فيما أمر به ومال إلى الظلم، وأنشد:

لما رأى الملحد حين ألحما *** صواعق الحجاج يمطرن دما”([27])

وقال ابن فارس: “اللام والحاء والدال أصلٌ يدلُّ على ميل عن استقامة. يقال: ألْحَدَ الرجل، إذ مال عن طريقة الحقِّ والإيمان. وسُمِّي اللَّحدُ لأنه مائل في أحد جانبي الجَدَث. يقال: لحَدْت الميِّتَ وألحدت. والمُلْتَحَد: الملجأ، سمِّي بذلك لأن اللاجئ يميل إليه”([28]).

فالإلْحَاد إذن هو العُدُول عن الاستقامة والانحراف عنها، سواء كان هذا الانحراف يصل بصاحبه إلى الكفر الأكبر أو يصل إلى ما هو أدنى من ذلك، وسواء كان هذا الكفر فيه شبهة وتأويل يعذر به صاحبه أم لا.

وقد كان بعض أهل الحديث يسمون مؤولة الصفات بالفرق الملحدة ولا يريدون به التكفير، انطلاقًا من قول الله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

ولذلك كانت هذه الكلمة منتشرة ومتداولة عند أهل الشريعة، ولا يريدون بها الكفر الأكبر بالضرورة، وإنما مرادهم توصيف المقالة المنحرفة، فقد يصف الأشعري نظيره المعتزلي بالإلحاد في أسماء الله تعالى، ويصف أهل الحديث طوائف المتكلمين بالملحدة في صفات الله ولا يريدون التكفير، وإنما يريدون الانحراف عن الحقّ أو توصيف مقالة المخالف بأنها مخالفة للحق.

ومن ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وصف الفقيه العز بن عبد السلام ونحوه من الأشعرية بأنه قد سلك مسلك الملاحدة في بعض الأبواب([29])، مع أن العز لم يكن من الفلاسفة، بل كان من كبار الفقهاء، وابن تيمية لا يكفّره، بل يعتضد به في مسائل فقهية ويصفه في مواضع أخرى بالإمام الفقيه العالم([30])، بل ينقل ابن تيمية إجماع المسلمين على عدم تكفير طوائف الأشعرية والحنبلية والصوفية([31]).

وليس استخدام هذا المصطلح بمعنى الميل عن الحق خاصًّا بابن تيمية، فمن تأمّل كتب التراث الإسلامي سيجد من جنس هذا الشيء الكثير، وإنما مثَّلتُ بنموذجٍ واحد، ونبَّهتُ على هذه المسألة لقصر باع العلمانيين وأتباعهم في فهم مصطلحات الشريعة، وقصورهم عن إدراك طرائق العلماء ومقاصدهم.

2- المفكرون الذين اتهموا بالكفر والزندقة:

ينبغي أن يُعلَم أن اتهام فقهاء المسلمين لبعض الفلاسفة أو المفكرين بالزندقة ليس سببه براعتهم في العلوم التطبيقية كالطب والصيدلة والهندسة وغيرهما -كما يوهم الخطاب العلموي المعاصر- بل سبب تكفيرهم إياهم كانت لأمور تتصل بالعلم الشرعي؛ كإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهذا حكم شرعي لا علاقة له بنبوغ هذا العالم أو ذاك في الطب أو الصيدلة أو العلوم التطبيقية.

ومن رُموا بالإلحاد على ضروب، فمنهم الزنادقة المحضة الذين لا شك في كفرهم كابن الراوندي ومن لف لفيفه، ومنهم من ظاهره الإسلام، وكفَّره بعض العلماء لبدعته الباطنية كالفارابي وابن سينا.

ولنأخذ نماذج لندلل بها على المقصود:

أ- الزنادقة المحضة:

كابن أبي العوجاء وابن الراوندي وأمثالهما، وليس في هؤلاء الزنادقة أحدٌ خدم الإنسانية، ولا ساهم في العلوم التطبيقية، وما احتفاء الملحد بهم إلا لمحض زندقتهم.

ولنأخذ نموذجًا منهم وهو أبو الحسن ابن الراوندي:

قال فيه الذهبي: (الملحد، عدو الدين أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الريوندي، صاحب التصانيف في الحط على الملة، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم. ثم إنه كاشف وناظر، وأبرز الشبه والشكوك.

قال ابن الجوزي: كنت أسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر على قلب، ورأيت له كتاب “نعت الحكمة”، وكتاب “قضيب الذهب”، وكتاب “الزمردة” وكتاب “الدامغ” الذي نقضه عليه الجبائي، ونقض عبد الرحمن بن محمد الخياط عليه كتابه “الزمردة”.

قال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل! وقد صنف “الدامغ” يدمغ به القرآن، و”الزمردة” يزري فيه على النبوات.

قال ابن الجوزي: فيه هذيان بارد لا يتعلّق بشبهة يقول فيه: إن كلام أكثم بن صيفي فيه ما هو أحسن من سورة الكوثر، وإن الأنبياء وقعوا بطلاسم. وألف لليهود والنصارى يحتج لهم في إبطال نبوة سيد البشر…

قال أبو العباس بن القاص الفقيه: كان ابن الراوندي لا يستقر على مذهب ولا نحلة، حتى صنف لليهود كتاب “النصرة على المسلمين” لدراهم أُعطيها من يهود، فلما أخذ المال رام نقضها، فأعطوه مائتي درهم حتى سكت”([32]).

وقال الصفدي: “وذكر أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري أن ابن الراوندي كان لا يستقر على مذهب، ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالًا بعد حال، حتى صنف لليهود كتاب البصيرة ردًّا على الإسلام لأربعمائة درهم، فيما بلغني، أخذها من يهود سامرا. فلما قبض المال رام نقضها حتى أعطوه مائتي درهم فأمسك عن النقض”([33]).

وقد نقل الصفدي من كتبه شيئًا من شنائعه، قال: “ففي كتاب الزمردة: إنا نجد من كلام أكثم بن صيفي شيئًا أحسن من {إنّا أعطيناك الكوثر}، وإن الأنبياء كانوا يستعبدون الناس بالطلاسم.  وقال: قوله -أي: النبي- لعمار: (تقتلك الفئة الباغية)، كلُّ المنجمين يقولون مثل هذا. وفي كتابه نعت الحكمة: يسفّه الله في تكليف خلقه ما لا يطيقون من أمره ونهيه. وفي كتابه الدامغ للقرآن: يطعن فيه على نظم القرآن وقال: إن فيه لحنًا (فسادًا من جهة النحو). وفي كتابه الفريد: في الطعن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أبو هاشم الجبّائي أن الراوندي قال في كتاب الفريد: إن المسلمين احتجّوا للنبوة بكتابهم القرآن الذي أتى به النبي محمد بأنه معجز لن يأتي أحد بمثله ولم يقدر أحد أن يعارضه، فقال: غلطتم وغلبت العصبية على قلوبكم؛ فإن مدعيًا لو ادّعى أن (إقليدس) لو ادّعى أن كتابه لا يأتي أحد بمثله لكان صادقًا([34]).

وابن الراوندي ليس له نتاج علمي يُحتفى به في العلوم التطبيقية ولا الفلسفية، غير أن بعض الملاحدة المعاصرين يحتفون به ويجعلونه رمزًا على تحرر الفكر.

ومن المفارقات أن العلمانيين يدَّعون أنهم على منهج المعتزلة، مع أن المعتزلة ردوا على ابن الراوندي وكفَّروه كأبي علي الجبائي وأبي الحسين الخياط وغيرهما([35])، بل حتى الفارابي الفيلسوف له رسالة في الرد ابن الراوندي([36]).

الحاصل: أن ابن الراوندي أمره ظاهر، ومثل هذا المُتنقل بين الملل من أجل المال مما لا يُفرح به، وهو عبءٌ على من ينتسب إليه.

ب- الفلاسفة الإسلاميون:

هذا الصنف هو الذي أحدث شبهة عند العلمانيين؛ لأنهم ساهموا في العلوم الإنسانية وتقدَّموا فيها.

وقبل الولوج في الشخصيات الجدلية من الفلاسفة الإسلاميين، وحالة الصخب التي أحدثوها في الحالة العلمية، ينبغي أن نعرف أولًا: هل كانوا يجحدون وجود الله والرسالة؟

1- هل فلاسفة الإسلام ينكرون وجود الله ويجحدون الرسالة؟

من الظنون الشعبوية عند فئام من الملاحدة والعلمويين أن فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا وابن طفيل ونحوهم ملحدون، أي: ينكرون وجود الله عز وجل، وينكرون الرسالة المحمدية، والحقيقة أن الإلحاد بهذا المعنى ليس له وجود في التاريخ الإسلامي.

بل يصرِّح الفيلسوف ابن مسكويه -وهو تلميذ الفارابي- بقوله: “ولم يختلف أحدٌ ممن يستحق أن يسمى فيلسوفًا في إثبات الصانع عز وجل، ولا حُكيَ عن واحدٍ منهم أنه جحده”([37]).

وكيف يُظنّ بهم الإلحاد -بالمعنى المعاصر- وابن طفيل الفيلسوف روايته الشهيرة (حي بن يقظان) قائمة أصالةً على فكرة وجود الله، فيروي قصة طفلٍ نشأ في جزيرة نائية وسط الحيوانات، وتوصَّل بفطرته إلى الله عز وجل.

بل ما قد يتعجَّب منه الملحد المعاصر أنهم حتى لم ينكروا الملائكة، فمن ذلك ما يقوله الفارابي واصفًا الملائكة بأنها: “كائنات معقولة مجردة عن المادة، وهي صلة ما بين مصدر الوحي الإلهي والموحى إليه”([38]).

كما أنهم لم يجحدوا النبوة أو الوحي الإلهي، بل ردوا على المنكرين للنبوات، وقدموا تفسيرًا عقلانيًّا، وهو وإن كان تفسيرًا باطلًا إلا أنهم أقروا بأصل الوحي الإلهي، وأقروا بجبريل عليه السلام، ولذلك لم يجعل الغزالي هذه المسألة من أسباب تكفيرهم، واكتفى بثلاث مسائل فقط.

وابن تيمية يعتبر الفارابي وابن سينا من الفلاسفة الإلهيين، ويصف كلامهم بأنه أشرف وأرفع من كلام متقدمي الفلاسفة أتباع أرسطو.

 يقول ابن تيمية: “ثم بعد ذلك لما صار فيهم من يتحذَّق على طريقتهم في علم ما بعد الطبيعة كالفارابي وابن سينا ونحوهم وصنف ابن سينا كتبا زاد فيها بمقتضى الأصول المشتركة أشياء لم يذكرها المتقدمون، وسمى ذلك العلم الإلهي، وتكلم في النبوات والكرامات ومقامات العارفين بكلام فيه شرف ورفعة بالنسبة إلى كلام المتقدمين”([39]).

ويقول ابن تيمية مدافعًا عن ابن سينا ضد المشّائين أتباع أرسطو: “ولهذا الفلاسفة المحضة الباقون على محض كلام المشائين يرون أن ابن سينا صانَع المليين لما رأوا من تقريبه [أي: تقريبه بين الإسلام والفلسفة]، وجهلوا فيما قالوا وكذبوا، لم يصانِع ولكن قال -بموجب الحق وبموافقة أصولهم العقلية- ما قاله من الحق الذي أقر به”([40]).

ويترجم الحافظ الذهبي للفارابي ترجمة متوازنة منصفة فقال: “شيخ الفلسفة الحكيم أبو النصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقي أحد الأذكياء، له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى منها ضلَّ وحار، منها تخرَّج ابن سينا، ونسأل الله التوفيق.. وكان يتزهد زهد الفلاسفة، ولا يحتفل بملبس ولا منزل، أجرى عليه ابن حمدان في كل يوم أربعة دراهم.. ولأبي النصر نظمٌ جيد، وأدعية مليحة على اصطلاح الحكماء.. وبدمشق كان موته في رجب سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة عن نحو ثمانين سنة، وصلى عليه الملك سيف الدولة بن حمدان، وقبره بباب الصغير”([41]).

فالذهبي رحمه الله لم يُنكِّل بالفارابي كما فعل مع ابن الراوندي، بل ذكر ذكاءَه وحكمته وبراعته في أمور الدنيا، وذكر أن من طلب الهداية من كتبه ضلَّ وحار، وذلك لأن طريق الهداية الكتب الشرعية لا كتب الفلاسفة. وهذا هو إنصاف علماء المسلمين.

ويُستفاد من كلام الذهبي أن الفارابي كان مقربًا من سيف الدولة -وهو في زمن الخلافة العباسية-، ولما مات صلى عليه سيف الدولة الحمداني، وهو ما يُبطل قول العلمانيين أن دولة الخلافة كانت ضد العلوم والمعرفة.

لماذا كفَّر الفقهاء بعض الفلاسفة؟

إن تكفير الفقهاء لبعض الفلاسفة لم يكن سببه براعتهم في العلوم التطبيقية، ولا حتى ولوجهم علم الفلسفة، فلقد مرَّ بنا أن ابن النفيس مع كونه عالمًا بالطب والفلسفة كان له درسٌ في الفقه الشافعي، وكان مقربًا من الظاهر بيبرس ومحل تعظيمٍ من فقهاء زمانه أيضًا. كما مرَّ أيضًا أن أبا الريحان البيروني قد رافق السلطان محمود بن سبكتكين -المعروف بشدته على الزنادقة- في بعض غزواته إلى الهند، وألف معظم مؤلفاته في بلاط السلطان محمود.

إذن ليست العلة في تكفير ابن سينا هي الولوج في الفلسفة فضلًا عن أن تكون العلة البراعة في الطب والصيدلة وعلوم الدنيا كما يوهم العلمانيون ومن لف لفيفهم. بل السبب في تكفيرهم هي أمور تتعلق بإنكار بعض قطعيات الشريعة.

فلقد حاول الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا أن يوفِّقوا بين الدين والعقل، وحاولوا تفسير كل الشريعة -بما فيها الغيبيات- بتفسيرٍ مادي عقلاني، مما أوقعهم في محاذير خطيرة تخالف المعلوم من الدين بالضرورة؛ مثل إنكار البعث الجسماني، وقولهم: إن الله لا يعلم الجزئيات ونحو ذلك.

قال ابن حجر العسقلاني: “وقد اتفق العلماء على أن ابن سينا كان يقول بقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني، ولا ينكر المعاد النفساني. ونُقل عنه أنه قال: إن الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي، بل بعلم كلي. فقطع علماء زمانه ومن بعدهم من الأئمة ممن يعتبر قولهم أصولا وفروعا بكفره، وبكفر أبي نصر الفارابي، من أجل اعتقاد هذه المسائل، وأنها خلاف اعتقاد المسلمين”([42]).

وقد نقل بعض العلماء توبة ابن سينا قبل موته:

قال ابن خلكان موضحًا توبته قبل موته: “وقد ضعف جدًّا وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة وقال: المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره فلا تنفعني المعالجة. ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات”([43]).

وقال ابن كثير: “وقد لخص الغزالي كلامه في (مقاصد الفلاسفة)، ثم رد عليه في (تهافت الفلاسفة) في عشرين مسألة، كفَّره في ثلاث مسائل منهن، وهي قوله بقدم العالم، وعدم المعاد الجسماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وبدّعه في البواقي، ويقال: إنه تاب عند الموت. فالله سبحانه وتعالى أعلم”([44]).

 

وهنا لا بد من توضيح أمرين يغالط فيهما العلمانيون والملاحدة:

الأول: بغض النظر عن توبة ابن سينا، فهو لم يكن منذ البداية على طريقة الملاحدة المعاصرين ولا حتى على طريقة العلمانيين، إذ كان مُتشرعًا ومُعتزًّا بانتمائه الإسلامي، بل كان يستفتح كتبه بالتحميد والصلاة والسلام على رسوله، وكتابه القانون في الطب في أثنائه استدلالات بالأحاديث النبوية الشريفة([45]) والتي يأنف العلماني المعاصر من ذكرها، ويعتبرها من جنس إدخال الدين في العلم.

إذن فانتماء الملاحدة المعاصرين إليه هو انتماء مقطوع الصلة، فالرجل مُتشرِّع بطريقته المبتدعة، وإنما كفَّره علماء المسلمين ببدعته الباطنية، فالبدعة قد تكون مُكفِّرة وقد تكون مُفسّقة، وبدعة ابن سينا ونحوه من الباطنية هي بدعة مُكفِّرة. والتكفير حكمٌ شرعي ليس فيه مُحاباة لأحد، فمن أنكر معلومًا من الدين بالضرورة فهو كافر، كمن زعم أن القرآن محرف، أو أنكر المعاد الجسماني، أو غير ذلك، حتى ولو كان عبقريًّا قد خدم الإنسانية.

الثاني: لا يمنع ما سبق أن يكون ابن سينا محسوبًا على الحضارة الإسلامية، ورائدًا من روادها في العلوم الدنيوية؛ وذلك لأنه عاش في كنفها، ومنتمٍ إليها، ويحمل هويتها ولغتها، واستفاد من موروثها الثقافي. والذهبي لما ترجم لابن سينا في (السير) وصفه بقوله: “هو رأس الفلاسفة الإسلامية”([46])، ووصفه في (تاريخ الإسلام) بقوله: “هو رأس الفلاسفة الإسلاميّين”([47]). فنسبه الذهبي إلى الحضارة التي ينتسب إليها.

وكذلك لا يمنع الاستفادة من كتبه في العلوم التطبيقية؛ فالحكم الشرعي لا يستلزم إهدار ما أبدع فيه من علومٍ دنيوية، وما زال علماء المسلمين -رغم تحفظهم على ديانته- يدرسون آراءَه في الطب والفلسفة، ويعتبرونه مدرسة من مدارس الفلسفة، وكتب التراث الإسلامي -بما فيها كتب ابن تيمية- تعج بالنقل عن ابن سينا ودراسة آرائه، والموازنة بينها وبين المدارس الفلسفية القديمة والحديثة، بعيدًا عن الحكم على شخصه والذي قد يذكرونه في موضعٍ آخر.

وهذا هو التوازن المعرفي والحضاري الذي استطاع أن يحققه علماء الإسلام دون إفراطٍ أو تفريط.

ج- كذب دعوى تكفير ابن رشد:

يدَّعي العلمانيون ومن لفَّ حولهم من الملاحدة أن فقهاء المسلمين يكفِّرون ابن رشد، اعتمادًا على كونه فيلسوفًا، فظنوا أن الفقهاء ألحقوه بابن سينا.

ونحن نقول: إن هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة، فلقد ترجم له علماء المسلمين تراجم حافلة، وإن خالفوه في أشياء.

1- ترجمته عند مؤرخي الإسلام:

قال الحافظ الذهبي: “العلامة، فيلسوف الوقت أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي. مولده قبل موت جده بشهر سنة عشرين وخمسمائة. عرض الموطأ على أبيه. وأخذ عن أبي مروان بن مسرة وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول ثم أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم، حتى صار يضرب به المثل في ذلك.

قال الأبار: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، وكان متواضعا، منخفض الجناح، يقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سود فيما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة. وكان يفزع إلى فتياه في الطب، كما يفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي.

وله من التصانيف: (بداية المجتهد) في الفقه، و(الكليات) في الطب، و(مختصر المستصفى) في الأصول، ومؤلف في العربية. وولي قضاء قرطبة، فحُمدت سيرته.

قال ابن أبي أصيبعة في تاريخ الحكماء: كان أوحد في الفقه والخلاف، وبرع في الطب، وكان بينه وبين أبي مروان بن زهر مودة، وقيل: كان رث البزة، قوي النفس، لازم في الطب أبا جعفر بن هارون مدة، ولما كان المنصور صاحب المغرب بقرطبة، استدعى ابن رشد، واحترمه كثيرا، ثم نقم عليه بعد -يعني لأجل الفلسفة- وله (شرح أرجوزة ابن سينا) في الطب، و(المقدمات) في الفقه، كتاب (الحيوان)”([48]).

وفي الجملة: من طالع تراجم ابن رشد عند فقهاء المسلمين لن يجد إلا الثناء عليه وعلى تواليفه، حتى وإن خالفوه وناقضوه في أشياء. فمن أين أتى العلمانيون بدعوى تكفيره هذه؟!

وتأمل قول ابن الخطيب منتقدًا ابن رشد: “أما الفقيه الفاضل أبو الوليد ابن رشد رحمه الله فإنه بالغ في ذلك مبالغة عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلة المتكلمين…”([49]).

فسماه بالفقيه الفاضل، وترحم عليه، ثم انتقد عليه بعض بحوثه.

بل حتى العلامة ابن القيم اعتد بنقل ابن رشد الإجماع في مواضع عديدة، ومنها قوله في (النونيــة) عند ذكره إجماع علماء الشريعة على علو الله عز وجل، يقول ابن القيم:

وأبو الوليد المالكي أيضًا حكى *** إجماعهم أعني ابن رشد الثاني

وفي الجملة: ليس هناك فيمن ترجم لابن رشد من فقهاء المسلمين من كفَّره أو أخرجه من الملة الإسلامية.

2- سبب الصورة العلمانية المعاصرة عن ابن رشد:

أخذ العلمانيون تصورهم عن ابن رشد من خلال النسخة الأوروبية له، أو ما يُعرف بـ (الرشدية اللاتينية) والتي تتصور ابن رشد رجلًا ملحدًا يعارض الأديان، ويدَّعي معارضة العقل للدين، وهي نسخة مشوَّهة لا تُمثل حقيقة فكر ابن رشد، وانتقلت تلك الصورة إلى العلمانيين العرب، ولم يُكلِّفوا أنفسهم معرفة ابن رشد الحقيقي من واقع كتبه ورسائله.

ويعترف المستشرق هنري كوريان بخطأ الرشدية اللاتينية بقوله: “لقد كان من الإفراط في الرأي أن يُنسب لابن رشد القول بوجود حقيقتين متعارضتين ]يعني: الدين والعقل[، وإن المذهب الشهير القائل بحقيقة مزدوجة كان بالفعل من نسج خيال الرشدية اللاتينية السياسية”([50]).

ويؤكد الدكتور حمدي زقزوق -رغم ميله للعقلانية الإسلامية- خطأ العلمانيين العرب بقوله: “إن ابن رشد الفيلسوف مفترى عليه، اتخذته الرشدية اللاتينية غطاءً لما تدعو إليه من أفكار. وقد انتقل هذا الفهم إلى بعض الباحثين العرب، وبدلًا من أن يرجعوا إلى نصوص ابن رشدٍ نفسه أخذوا بفهم الرشدية اللاتينية له. وهذا يعني أن الرشدية اللاتينية هي التي تعود إلى الظهور في ثوبٍ عربي، ولا يُراد لابن رشد نفسه أن يظهر بوجهه الحقيقي”([51]).

ولابن رشد مصنف جليل بعنوان: (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، أكّد فيه معنى أن العقل لا يمكن أن يعارض النقل، بل هما صنوان كفرسي رهان.

وما قد يجهله الملاحدة أن ابن رشد الفيلسوف له مصنفات في الفقه المقارن وأصول الفقه، مثل كتابه الجليل: (نهاية المجتهد وبداية المقتصد) والذي يمدحه الحافظ الذهبي بقوله: “كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه عَلَّلَ فيه ووَجَّه، ولا نعلَمُ في فنه أنفَعَ منه، ولا أحسَنَ مَساقًا”([52]).

وكتابه يُدرَّس حتى اليوم في أقسام الدراسات العليا في كليات الشريعة في الأزهر الشريف، وفي الجامعات السعودية وغيرها، فكيف يكون كافرًا؟!

ولابن رشد كتب أخرى مثل (مختصر المستصفى) و(التحصيل)، وهي مصنفات جليلة قد شهد لها أهل الفن بالإحكام، وليس فيها خروج عن ظواهر الشريعة وقواعد الفقهاء، ولو كان ابن رشد يُبطن الإلحاد والكفر لما ضيَّع أوقاته في تأليف تلك المصنفات الشرعية، ولوفَّر وقته وجهده إلى أعمال أخرى أنفع.

ومن المعلوم أن الذي يُبطن الإلحاد لو أراد التصنيف في علوم الإسلام لن تخرج مصنفاته بتلك البراعة؛ لأنه غير مقتنع أساسًا بفكرة الإسلام ذاته.

 ومن المعلوم عقلًا أن الاجتهاد والجد في شيء والإبداع فيه يصعب بل يستحيل صدوره من غير قناعة، ويمكن ملاحظة ذلك في كتابات العقلانيين مثل فرج فودة وشحرور وغيرهم، رغم ذكائهم وسيلان أقلامهم إلا أن كتبهم عن الإسلام مهترئه، وفيها أغاليط يلحظها أهل الشريعة، ولا تتسق مع علوم الإسلام ولا قواعد الأصولية، فتأمل.

3- استدلال العلماني بمحنة ابن رشد مع الخليفة:

استدل العلمانيون بنفي ابن رشد في آخر أيامه من قِبل خليفة الأندلس يعقوب الموحدي على أن المسلمين أعداء للعلم والتقدم والحضارة.

وكما ذكرنا مُسبقا أن العلمانيين يعتمدون على مغالطة التركيب المنطقية التي تعتمد على أخذ معلومة صحيحة في أصلها، ثم يركِّبونها على عشرات المغالطات، معتمدين على جهل القراء والمُتلقين وسذاجتهم.

والجواب على ما ذكروه من وجوه:

1- أن عقوبة الردة هي القتل وليست الحبس أو النفي. ولو كان ابن رشد مرتدًّا كافرًا لقتلوه.

2- أن أمر النفي والسجن ليس خاصًّا بابن رشد، بل إنَّ كثيرًا من فقهاء المسلمين قد حُكم عليهم بنفس الحكم، كابن حزم الظاهري، والفخر الرازي، وابن تيمية، والحافظ المزي، وغيرهم كثير. وليس موضع النزاع وقوع المحنة له، ولكن النزاع في تكفيره، وهو ما لم يحصل.

3- أن ابن رشد قد تم نفيه بسبب الوشاية ضده من أقرانه، ثم عفا عنه الخليفة ورجع مرة أخرى إلى بلاطه -كما سيأتي-، فلم يكن سبب نفيه كراهة المسلمين للعلوم التطبيقية أو الطب أو حتى الفلسفة، فإن الخليفة كان يعلم اشتغاله بتلك العلوم، وظل في بلاطه لعقودٍ طويلة قبل نفيه.

والحقيقة أن سبب النفي: هو وشاية بعض الناقمين عليه، زاعمين أنه يزدري الملك في بعض مصنفاته وسماه بملك البربر.

يقول الحافظ الذهبي: “محنة ابن رشد: وسببها أنه أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطوطاليس فهذبه، وقال فيه عند ذكر الزرافة: رأيتها عند ملك البربر. كذا غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خدمة الملك من التعظيم، فكان هذا مما أحنقهم عليه، ولم يظهروه. ثم إن قوما ممن يناوئه بقرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت والحشمة سعوا به عند أبي يوسف بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص، فوجدوا فيه بخطه حاكيا عن بعض الفلاسفة قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة. فأوقفوا أبا يوسف على هذا، فاستدعاه بمحضر من الكبار بقرطبة، فقال له: أخطُّك هذا؟ فأنكر، فقال: لعن الله كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه مهانا. وبإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم، وبالوعيد الشديد. وكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في تركها، وبإحراق كتب الفلسفة، سوى الطب، الحساب، المواقيت. ثم لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، استدعى ابن رشد للإحسان إليه، فحضر ومرض، ومات في آخر سنة أربع”.

ثم ينقل الذهبي عن ابن أبي أصيبعة: “ثم إن جماعة شهدوا لأبي الوليد أنه على غير ما نسب إليه، فرضي عنه وعن الجماعة، وجعل أبا جعفر الذهبي مزوارا للأطباء الطلبة. ومما كان في قلب المنصور من أبي الوليد أنه كان إذا تكلم معه يخاطبه بأن يقول: تسمع يا أخي. قلت -أي: الذهبي-: واعتذر عن قوله: ملك البربر بأن قال: إنما كتبت ملك البرين، وإنما صحفها القارئ”([53]).

 

ويُمكن تلخيص أمر الفلاسفة ممن لهم إسهامات في الحضارة في ثلاثة أنواع:

النوع الأول: من كان مُنتسبًا للإسلام، ولكن تلبَّس ببدعة باطنية، فكفَّره كثير من الفقهاء لهذه البدعة، ومن هذا النوع الفارابي وابن سينا وغيرهما.

النوع الثاني: من كان من الفضلاء العلماء وفقيهًا في الدين، ولكنه برع في الفلسفة وحاول التوفيق بين الدين والعقل، فوقع في بعض البدع الباطنية بنوع تأويل، إلا أن أمره أخف من سابقيه وأتبع منهم للشرع، ومن هذا النوع: أبو الوليد ابن رشد.

وهذا النوع لم يكفّره فقهاء المسلمين، بل مدحوه في الأبواب التي أحسن فيها، وإن خالفوه وناقضوه في غيرها.

النوع الثالث: من كان من الفضلاء العلماء وبرع في العلوم التطبيقية كالطب والهندسة أو الرياضيات أو علم الاجتماع، ثم برع في الفلسفة ووعاها، لكنه لم يخالف قواطع القرآن، وحصر الفلسفة في التفكر في الحياة وفي استكشاف خباياها وأسرارها، وكفَّ عن ما لا يدركه العقل من عالم الغيب وسلَّم لظواهر القرآن، ولم يقفُ ما ليس به علم، وهذا النوع هو أفضلهم وأكملهم، ومن أمثلتهم البيروني وابن النفيس وغيرهما.

وخلاصة البحث:

1) أن الحضارة الإسلامية قد زخرت بالعقول التي سبقت جميع الأمم في شتى ميادين العلوم، والخلافة الإسلامية كانت حاضنة لهؤلاء المفكرين والمبدعين، فلقد بنى الخلفاء العباسيون (بيت الحكمة) الذي كان مركزًا للعلوم، واستقطبوا علماء الاجتماع والطب والصيدلة والفيزياء والرياضيات، وهي بمثابة دار معارف ازدهر فيها حركات الترجمة والإبداع والتصنيف والاختراع وغير ذلك.

2) الفلاسفة الذين كفرهم بعض فقهاء الشريعة كان لتكفيرهم علة شرعية، وليس بسبب براعتهم في العلوم الدنيوية، وإلا فقد أثنى الفقهاء على غيرهم من الفلاسفة كالبيروني وابن النفيس وغيرهما، والتكفير حكمٌ شرعي ليس فيه محاباة لأحد. ولم يمنع ذلك كون هؤلاء الفلاسفة من جملة رواد الحضارة الإسلامية في علوم المعرفة الدنيوية؛ وذلك لأن الحضارة أمرٌ دنيوي يُقاس بالانتساب الاجتماعي واللغة والموروث الثقافي.

3) من مدحهم فقهاء المسلمين أكثر ممن كفَّروهم، وقد مثَّلنا بنماذج أردنا بها التمثيل والإشارة لا السبر والحصر.

4) أبو الوليد ابن رشيد الفيلسوف، فقيهٌ وعالمٌ مسلم، وله مصنفات في الفقه وأصوله، وفقهاء المسلمين وإن خالفوه في أشياء إلا أنهم لم يضعوه في منزلة غلاة الفلاسفة.

وهذا كان آخر ما تيسَّر، والحمد لله ربِّ العالمين.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) علوم المسلمين، د.أحمد شوقي الفنجري (ص: 24).

([2]) مقدمة في تاريخ العلم (1/ 5).

([3]) واستدلوا باتصاله بابن سينا ومراسلاته العلمية معه، والحق أن الاتصال المعرفي لا يعني الاتفاق في المذهب.

([4]) الجماهر في معرفة الجواهر (ص: 8).

([5]) الجماهر في معرفة الجواهر (ص: 13).

([6]) تحقيق ما للهند (ص: 291).

([7]) معجم الأدباء، ياقوت الحموي (17/ 181)، وانظر: الوافي بالوفيات، الصفدي (8/ 91-94).

([8]) الوافي بالوفيات (20/ 183).

([9]) الوافي بالوفيات (20/ 183).

([10]) الوافي بالوفيات (20/ 184).

([11]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 117).

([12]) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 805-806).

([13]) جذوة المُقتبس في ذكر عُلماء الأندلس (ص: 303).

([14]) سير أعلام النبلاء (19/ 120).

([15]) تاريخ الإسلام (10/ 617).

([16]) ينظر: طبقات الشافعية الكبرى (1/ 157).

([17]) آداب الشافعي ومناقبه (ص: 224). وانظر أيضًا: مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 114).

([18]) انظر: مناقب الشافعي (2/ 116).

([19]) انظر: مناقب الشافعي (2/ 116)، وسير أعلام النبلاء (10/ 57).

([20]) سير أعلام النبلاء (10/ 57).

([21]) انظر: كشف الظنون، حاجي خليفة (2/ 68).

([22]) انظر: البيروني والثقافة الهندية (ص: 15)، والبيروني ودوره في الكتابة التاريخية (ص: 59).

([23]) البيروني ودوره في الكتابة التاريخية (ص: 60).

([24]) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (15/ 340).

([25]) انظر: معجم الأدباء، ياقوت الحموي (5/ 2334).

([26]) انظر: مقدمة كتاب (الموجز في الطب) لابن النفيس، تحقيق د. يحيى مراد (ص: 31)، وموسوعة علماء الطب (ص: 207)، تأليف: هيكل نعمة الله، وإلياس مليحة.

([27]) تهذيب اللغة (2/ 73).

([28]) مقاييس اللغة (5/ 236).

([29]) مجموع الفتاوى (2/ 83).

([30]) مجموع الفتاوى (1/ 257، 2/ 244).

([31]) مجموع الفتاوى (35/ 101).

([32]) سير أعلام النبلاء (14/ 59).

([33]) الوافي بالوفيات (6/ 343).

([34]) الوافي بالوفيات (6/ 343-344).

([35]) انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 59).

([36]) انظر: الوافي بالوفيات، الصفدي (6/ 344).

([37]) الفوز الأصغر (ص: 59).

([38]) المجموع (ص: 72).

([39]) مجموع الفتاوى (2/ 85).

([40]) مجموع الفتاوى (2/ 86).

([41]) سير أعلام النبلاء (15/ 417) مختصرا.

([42]) لسان الميزان (2/ 293).

([43]) وفيات الأعيان (2/ 160).

([44]) البداية والنهاية (15/ 668).

([45]) انظر مثلًا: القانون في الطب (1/ 161).

([46]) سير أعلام النبلاء (17/ 535).

([47]) تاريخ الإسلام (29/ 232).

([48]) سير أعلام النبلاء (21/ 308).

([49]) الإحاطة في أخبار غرناطة (ص: 266).

([50]) تاريخ الفلسفة الإسلامية (ص: 362).

([51]) مقدمة في الفلسفة الإسلامية (ص: 137).

([52]) تاريخ الإسلام (12/ 417).

([53]) تاريخ الإسلام (42/ 224).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017