السبت - 19 جمادى الآخر 1446 هـ - 21 ديسمبر 2024 م

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

مقدمة:

تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا.

والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ ومحاسبة وإصلاحٍ؛ فهو مع الطغيان المادي أشد حاجة ومع تنوّع المكدرات عليها أكثر افتقارًا للتذكير بما يُصلِحها، خاصة وقد قامت المعاول لهدم ما استقام منها وصلح، وطالما اعتراها من المكدرات والمنغصّات الكمّ الهائل.

والإنسان مهما توجَّه وتعلق بشيء فلن تسكن به نفسه، ولن يرتاح قلبه ولن يستقر حتى يكون تعلُّقه بالله ومراده هو الله، ولا يسكن العبد ولا يطمئن ويتنعم إلا بالإقبال على الله والتوجه إليه بقلبه وروحه، فعندها يطمئن القلب ويرتاح ويسكن، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 27، 28]، يقول ابن القيم (751هـ) رحمه الله: “العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له وإقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إلى لقائه، فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه، ومن عبد غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذب في مبدئه عذاب في نهايته”([1]).

وبسبب طغيان المادية اليوم غفل كثير من الناس وأصبح المؤمن يُعنى بالعبادات الظاهرة وينشغل بها، ولكن لا يُحس بطعم العبادة وحلاوتها؛ لفراغ القلب وخلوه من الأعمال والعبادات الصادقة؛ ذلك أنَّ أعمالَ القلوبِ هي الأصلُ، وأعمالَ الجوارحِ فرعٌ عنها، ولذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن محور الصلاح والانتفاع بالطاعة وبالعبادة هو صلاح القلب، فإن هذه المُضغة إذا صلَحت صلَحَ لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فسدَ لها سائرُ الجسَدِ، وهو ما يدعو المسلم إلى الاهتمام والعناية بها غاية العناية، ومداومة سقيها ورعايتها بصالح أعمال القلوب العظيمة التي هي أساس صلاح الإنسان، وبها تكون استقامته وثباته، وفي هذه الورقة تذكير لمن كان له قلب بأهمية أعمال القلوب؛ فمن الأهداف العظيمة التي يسعى لتحقيقها مركز سلف للبحوث والدراسات تزكيةُ النفوس على وفق منهج أهل السنة والجماعة، بعيدا عن مسالك أهل الانحراف والدروشة والخرافة.

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

 

تمهيد:

من أهمّ فروع العقيدة التي تغافل الناس عن العناية بها والتذكير بها أعمال القلوب، فمن المعلوم أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، أو كما ورد عن السلف أنه قول وعمل؛ ثم القول قولان: قول القلب واللسان، والعمل عملان: عمل القلب وعمل بالجوارح بأن يؤدِّي العبد ما أوجبَ الله تعالى عليه من العبادات، وكما أنه لا يكفي إيمان المؤمن بلسانه دون أن يتبعه عمل جوارحه، فكذلك ليس الإيمان مجرَّد ألفاظ يُطلقها اللسان والقلب في معزلٍ عنها، بل لا بد من أعمال القلوب من الإخلاص والخشية والإنابة والخوف والرجاء والمحبة، وليس الإيمان مجرَّد حركات للجوارح دون أن يكون القلب حاضرًا فيها، فلا بد لكل عمل من نية ومن خشوع وتقوى لله سبحانه، وكما أن الإيمان يَزداد وينقص بأعمال الجوارح فكذلك يزداد الإيمان ويعظم بالطاعات القلبية، ويَنقص ويضعف بالآفات والذنوب القلبية من حقد وحسد ورياء وشرك وغيرها.

والمقصود أن من أهم ما حصلت الغفلة عنه الجزء المتعلّق بالقلب مع أنه من أهم ما ينبغي الحرص عليه؛ إذ أعمال القلوب هي الأصل والأساس الذي تُبنى عليه الأعمال الأخرى من أعمال الجوارح، وصلاح القلب هو أساس الصلاح للإنسان.

أهمية أعمال القلوب:

يكفي المؤمن أن يعرف عن مكانة أعمال القلوب أنها هي الأصل في الإيمان، وهي الأصل في العلاقة التي بينه وبين ربه ومولاه؛ وهو ما يجعلنا نؤكد هذه الحقيقة ونسطر من أجله هذه الأحرف، وفي ذلك يؤكد ابن القيم رحمه الله بأن أعمال القلوب “إنما هي الأصل والمقصود، وأعمال الجوارح تبَعٌ ومُكمِّلة”، ثم يمثِّل لذلك بأن “النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث. فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها”([2]).

إذن؛ الأصل هو عمل القلب، وعليه تُبنى أعمال الجوارح؛ فكل عمل من أعمال الجوارح لا بد له من النية، وهو من أهم أعمال القلب، يقول ابنِ تيميَّةَ: “والدِّينُ القائمُ بالقلبِ مِن الإيمانِ عِلمًا وحالًا هو الأصلُ، والأعمالُ الظَّاهرةُ هي الفروعُ، وهي كمالُ الإيمان”([3]).

ولا يقف الأمر على مجرد كون القلب هو الأصل، بل إن أعمالَ القلوب هي التي تجعل الإنسان منطلقًا مندفعًا صابرًا على طاعة الله سبحانه وتعالى بالجوارح؛ ذلك أنه كلما عظم الإيمان في نفس الإنسان اندفع وانطلق بقوة أكبر في الطاعات، واجتهد في عبادة الله سبحانه وتعالى بالجوارح أيما اجتهاد، وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إنَّ في الجسَدِ مُضغةً؛ إذا صلَحت صلَحَ لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فسدَ لها سائرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ»([4]).

ومن هنا نعلم يقينا هذه الحقيقةَ التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم من أن صلاح أعمال الجوارح متلازم تلازمًا تامًّا مع صلاح القلب، وفساده مرتبط بفساده، ولا يُتصوَّر أن إنسانًا يكون قلبه صالحًا عامرًا بالإيمان والتقوى ثم هو لا يأتي من أعمال الجوارح بشيء، ولا يمكن أن يكون إنسان مجتهدا غاية الاجتهاد في أعمال الجوارح ثم لا يكون في قلبه شيء من أعمال الجوارح، يقول الحافظ ابن رجب (795هـ) رحمه الله: “حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهرًا وباطنًا، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه وإنْ لم يتيقن ذلك”([5]).

ومرد هذا التأصيل والتلازم أن الإيمان -كما دلت عليه النصوص وكما يقرر أهل السنة- قول وعمل ونية، وأن صلاح الباطن يتبعه ولا شك صلاح في الظاهر، وكلما ازداد صلاح الباطن كان ذلك زيادة في صلاح الظاهر، وهناك أدلة كثيرة أكدت هذا التلازم كحديث المضغة السابق، وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»([6]). ومن هنا نجد العز بن عبد السلام يؤكد على هذا قائلا: “مبدأ التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب… والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد، ولنفع العباد في الآجل والمعاد، إما بالتسبب أو بالمباشرة، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، أي: إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان”([7]).

ويكفي في بيان أهمية أعمال القلوب أنها هي سبيل الفوز بالجنة وعليها مدار الاعتقاد، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر كلها أعمال مدارها على القلب، وهي عبادات قلبيَّةٌ، وبها يكون العبد مؤمنا ويمتاز عن الكافرين.

وفي التأكيد على أهمية أعمال القلوب نجد من السلف من يقول: “لأنْ أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بوزني ذهبًا”([8]).

أضف إلى ذلك أن عمل القلب هو العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق؛ فالمنافق يأتي بأعمال الجوارح من صلاة وصدقة وحج وغيرها من أعمال الجوارح الظاهرة ولكن لا يُقبل منه شيء من عمله وإن عبَد وسَجد؛ لأنه خلوٌ من عمل القلب، بل قلبه مليء بالكفر بالله ومعاندته ومضاداته، ولذا قال تعالى مبينا حال قلوبهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، ثم بين جزاءهم فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].

ومما يبين أهمية عمل القلب أن به يفضل العمل ويتغير وتصبح العادات عبادات يؤجر عليها الإنسان ويثاب وإن فعلها عادة، ومن ذلك أن يقصد بنومه وأكله وشربه التقوِّي على الطاعة والعبادة، وأن يقصد بإتيانه أهله التعفّف عن المحرمات ونحو ذلك، فقد جاء عند مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»([9])، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأجر مترتبًا على نيته للحلال وتحرزه عن الحرام وإن كان الفعل من العادات والمباحات.

ومما يدل على أهمية أعمال القلوب أيضا أن العزيمة المصمّمة على المعصية القلبية يُعاقب الإنسان عليها ولو فترت عزيمته عنها من غير سبب منه، بل يصل الحال إلى الكفر والنفاق، وقد فصَّل القول في ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله حيث قال: “إن انفسخت نِيَّتُه، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَ المعصية أم لا؟ هذا على قسمين:

أحدهما: أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطرًا خطرَ، ولم يُساكِنهُ صاحبه، ولم يعقِدْ قلبَه عليه، بل كرهه، ونَفَر منه، فهذا معفوٌّ عنه، وهو كالوَساوس الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: «ذاك صريحُ الإيمان»([10]).

القسم الثاني: العزائم المصمّمة التي تقع في النفوس وتدوم، ويساكنُها صاحبُها، فهذا أيضًا نوعان:

أحدهما: ما كان عملًا مستقلًّا بنفسه من أعمالِ القلوب، كالشَّكِّ في الوحدانية، أو النبوَّة، أو البعث، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ، ويصيرُ بذلك كافرًا ومنافقًا.

ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب، كمحبة ما يُبغضهُ الله، وبغضِ ما يحبُّه الله، والكبرِ، والعُجبِ، والحَسدِ، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير موجِب، مع أنَّه قد رُوي عن سفيان أنَّه قال في سُوء الظَّنِّ: إذا لم يترتب عليه قولٌ أو فعلٌ فهو معفوٌّ عنه. وكذلك رُوي عنِ الحسن أنه قال في الحسد، ولعلَّ هذا محمولٌ من قولهما على ما يجدُه الإنسانُ ولا يمكنهُ دفعُه، فهو يكرهُه ويدفعُه عن نفسه، فلا يندفعُ إلا على ما يساكِنُه، ويستروِحُ إليه، ويُعيدُ حديثَ نفسه به ويُبديه.

والنوع الثاني: ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب، بل كان من أعمالِ الجوارحِ، كالزِّنى، والسَّرقة، وشُرب الخمرِ، والقتلِ، والقذفِ، ونحو ذلك، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يَظهرْ له أثرٌ في الخارج أصلًا. فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران”([11]).

وإذا أدرك المؤمن أهمية أعمال القلوب فإن من أهم ما ينبغي أن يعتني به الاهتمام بصلاح قلبه وإعماره بالصالحات، بل وتفقد حاله وصلاحه بين الفينة والفينة، واجتناب مفسداته من الانغماس في المادية والانجرار وراء الأهواء والمشتهيات، وهو دور المؤمن مع نفسه، ودوره مع أهله وولده ومع مجتمعه المحيط به تذكيرهم بذلك، ويُروى في ذلك عن الحسن أن شابا مر به وعليه بردة له فدعاه فقال: «داوِ قلبك فإنّ حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم»([12]).

الأمور الموقظة للقلب الدافعة إلى صلاحه:

لقد نبه العلماء قديما على الأعمال والطاعات الموقظة للقلب والمحركة له والدافعة إلى عمله، ومن أبرزها:

أولا: اللجأ إلى الله تعالى والتوجه إليه بانكسار وذل:

لقد خلق الله الإنسان وأبدع قلبه بحيثيَّة لا يمكنه فيها الاطمئنان والاستقرار إلا بطاعة ربه ومولاه وعبادته سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، والانقياد له والخضوع والتذلّل له سبحانه، ومن هنا فإن الإنسان مفتقر إلى ربه ومولاه، لا يجد الأنس والطمأنينة والسعادة إلا في التعلق بخالقه، فعلى الإنسان أن يلجأ إلى الله سبحانه ويتوجه بكليته إليه؛ لأن قلبه فقير ومحتاج أشد الحاجة إلى الله سبحانه، سواء من جهة الحاجة إلى التألُّه والتعبّد أو من جهة الحاجة إلى الاستعانة به والتوكل عليه، ولذا أمر الله المسلم بأن يقرر هذه الحقيقة ويكررها عشرات المرات في صلاته، فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ فطمأنينة القلب بعبادة الله واللجأ إليه، والعبد في ذلك محتاج لمعونته سبحانه والتوكل عليه.

ومما اشتهر من هذا كلام ابن القيم رحمه الله قوله: “في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا”([13]).

ثانيا: تدبر القرآن الكريم:

وضّح المولى سبحانه وتعالى العلاقة الطردية والعكسية بين تدبر القرآن وبين تعطيل القلوب عما خُلقت له، فقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. فمن أراد حياة قلبه وإعماره بالصالحات فعليه تدبر كتاب الله والتأمل فيه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه صلحت قلوبهم ووجدت ما تحتاج إليه، ومُلئت قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من اليقين، ومن أعرض عن تدبر القرآن فقد أغلق قلبه على ما فيه من الشر وأقفل، فلا يدخله خير أبدا، ولا يتعظ ولا يفهم ما في القرآن من محييات القلوب ومصلحاته([14]).

ومن المجرب في الواقع أن كل مؤمن تمر به أوقات الضيق والهمِّ والحزن، ولا دواء أنفع وأنجع ينشرح به صدره ويذهب به همُّه وغمُّه من تدبر القرآن والتفكر في مواعظه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82].

ثالثا: كثرة الدعاء والإلحاح على الله بصلاح القلب وإعماره بالصالحات:

ينبغي للمؤمن أن يكثر من الإلحاح على الله بالدعاء بصلاح القلب وإعماره بالصالحات، وقد كان السلف الصالح على ما هم فيه من الصلاح والتقوى يدعون الله سبحانه بما أرشدهم إليه ربهم ويقولون: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعاء الله سبحانه بصلاح قلبه وثباته وتصريفه إلى طاعته: «اللهم مصرِّف القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك»([15]).

رابعًا: مجالسة الصالحين ومجالس الذكر:

لا يخفى على من ذاق طعم مجالس الإيمان والذكر أهميتها ودورها في إيقاظ القلوب وتنبيهها من الغفلة والزيغ والانحراف، والإنسان كلما حضر مجالس الذكر انشرح فؤاده واطمأن وازداد إيمانًا واندفع للعمل الصالح، وإذا كان المؤمن يسكن قلبه ويستأنس ويطمئن بذكر الله منفردا فمن باب أولى أن تسكن وتستأنس قلوبُ المؤمنين وهم مجتمعون على الذكر لا يجمعهم في مجلسهم إلا ذلك([16]).

ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا يُفرق به بين حال من يذكر الله ويُداوم على حضور مجالس الذكر ويُصغي إليها وبين من يُعرض عن ذكره سبحانه وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»([17]).

وكيف لا تحيا قلوبهم وتتيقظ من غفلتها وتنتعش بالإيمان وهي التي تغشاها الملائكة ويذكرهم الله عنده في ملئه ويقربهم ويدني قلوبهم منه، كما في الحديث القدسي: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([18]).

بل إن الله سبحانه وتعالى خصَّ ملائكة من ملائكته لتتبّع هذه المجالس وإحياء قلوب أهلها كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ»، قَالَ: «فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»، قَالَ: «فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ»، قَالَ: «فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟»، قَالَ: «فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ، مَا رَأَوْكَ؟»، قَالَ: «فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا»، قَالَ: «يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ»، قَالَ: «يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا»، قَالَ: «يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً»، قَالَ: «فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ»، قَالَ: «يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا»، قَالَ: «يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً»، قَالَ: «فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ»، قَالَ: «يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ؛ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ، لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»([19]).

وكان من أهم صفات من لعنهم الله وجعل على قلوبهم أقفالا وأغلالا أنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، فالمنافقون قليلو الذكر، بعيدون كل البعد عن مجالس الصالحين ومجالس الذاكرين؛ “لامتلاء قلوبهم من الرياء، فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته”([20]).

خامسًا: إعمار القلب بالطاعات القلبية:

كما أن الله سبحانه وتعالى خلق البطن لهضم الطعام والفم للأكل والشرب والعين للإبصار، فكذلك خلق الله القلب للعلم بالأشياء والتفكر فيها، ومن المعلوم أن كل شيء صُنع لشيء فإنما يصلح لما صُنع له، وأما إن استُعمل في غير ما صُنع له وأشغل بغيره أو تُرك بلا عمل كان ذلك وبالا وخسرانا على القلب ودمارًا له، وأما إن استعمل فيما خُلق له نَعِم بالأمن والاطمئنان، وأحس بالخير وظَفر باليقين([21])، وإنما يكون ذلك بالإيمان بالله تمام الإيمان؛ بالتعرف عليه وعلى أسمائه وصفاته وتوحيده سبحانه وجمع القلب عليه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وهذا ينقلنا إلى الحديث عن أهم تلك الأعمال القلبية الصالحة، وننبه على أبرزها سريعا وقد تناولها المصنفون في مظانها، ويطول بنا الحديث لو أردنا تتبّعها، فأعمال القلوب كثيرة لا تُحصى، ومن أجَلِّ أعمال القلوب:

  • تحقيق التقوى، فالتقوى أساس الدين، ولا حياة إلا بها، بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق، بل هي أدنى من حياة البهائم، فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى، والمتأمل في القرآن يجد أن كثيرًا من الخير عُلِّق بها، وجملة من الثواب الجزيل منوط بها، وكمّ كبير من السعادة مضاف إليها، قال القرطبي عن التقوى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]: “الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم”([22])، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله، لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره([23]).
  • التوكل، والتوكل على الله سبحانه وتعالى من أعلى المقامات وأجل العبادات القلبية، فالمرء المؤمن يؤمن بأن الأمور كلها بيد الله، ولذلك يتوكل عليه سبحانه وتعالى، ويعتمد عليه دونما سواه، ويعلم المؤمن أن كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى فيتوكل عليه، ويعلم في هذه الأوقات العصيبة أن الأرزاق كلها مكتوبة ومقدّرة، فيتوكل على الله سبحانه وتعالى ويعتمد عليه ويلتجئ إليه، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3]، قال الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: من يخف الله فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجا بأن يعرفه بأن ما قضى فلا بد من أن يكون ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر ولا يعلم”([24])؛ ولذا كانت هذه العبادة نصف الدين كما في سورة الفاتحة حين قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال ابن القيم: “التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة؛ فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها. ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين”([25]).
  • الرجاء، وهو الاستبشار بجود الله وفضل الرب تعالى والارتياح لمطالعة كرمه ومنّته، وهو الثقة بجود الرب، ففي ظل هذا الطغيان المادي ينبغي للمؤمن أن يحيي قلبه بالرجاء، ويتذكر جزيل النعم وسوابغ الفضل الذي أكرمه الله به، ولن يخيب رجاؤنا فيه سبحانه وتعالى وقد وعد أهل الإيمان فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وكيف يخيب رجاؤنا فيه وهو القائل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]؟! فرحمته عمت الخلق أجمعين([26]).
  • الخوف من الله سبحانه وتعالى، والخوف هو: تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال([27]) ، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ} [فاطر: 28]. وحريٌّ بالمؤمن بالله سبحانه وتعالى أن يحيي هذه العبادة القلبية من العبادات في نفسه مع الواقع المادي الذي نعيش فيه، فيتذكر قدرة الله سبحانه وتعالى، ويخنع له ويخاف من عذابه وبطشه، ويتوب ويؤوب إليه ويلجأ إليه بالتوبة والاستغفار والذكر والطاعة، قال ابن قدامة: “اعلم أن الخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل؛ لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى، والخوف له إفراط، وله اعتدال، وله قصور. والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فإن الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة ولا التقاصر عن الخوف أيضًا محمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية، أو سبب هائل، فيورث البكاء”([28]).
  • الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، والمقصود: ألا يكره ما يجري به قضاؤه، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»([29])، والمؤمن يرضى بما قدره الله ولا يجزع ولا يسخط، وأمر المؤمن كله خير كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ ابن عثيمين: “الصبر مثل اسمه مر مذاقته… لكن عواقبه أحلى من العسل، فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا، ولكن إيمانه يحميه من السخط… الرضا وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره، وإن كان قد يحزن من المصيبة؛ لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة، أو أُصيب بضدها، فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت، بل لتمام رضاه بربه سبحانه وتعالى يتقلب في تصرفات الرب عز وجل ولكنها عنده سواء، إذ ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه، وهذا الفرق بين الرضا والصبر”([30]).
  • الشكر، وهو ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيمانًا، وفي لسانه حمدًا وثناءً، وفي جوارحه عبادة وطاعة، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وشكر الله سبحانه وتعالى إنما يكون على نعمه، ومن ذا يستطيع أن يحصي نعم الله تعالى، فنعم الله على العبد تترى في نفسه وأهله وماله وعلمه وعبادته وغيرها من المنن، ومراتب الإنسان أمام قضاء الله سبحانه ثلاثة، أعلاها شكره سبحانه على البلاء؛ لأنها تورث من العبادة والإنابة إلى الله سبحانه ما لا يحصل في غيرها، وأدناها الصبر عليه، وبينهما الرضا، قال ابن القيم: “لله سبحانه على عبده أمر أمره به، وقضاء يقضيه عليه، ونعمة يُنعم بها عليه؛ فلا ينفك من هذه الثلاثة، والقضاء نوعان: إما مصائب وإما معايب، وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها. فأحب الخلق إليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها؛ فهذا أقرب الخلق إليه. وأبعدُهم منه مَن جهل عبوديته في هذه المراتب فعطلها علما وعملا”([31]).
  • الإخلاص لله تعالى؛ وعليه مدار العمل والعبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، ولا شك أن الإخلاص هو ما يتفاضل به المؤمنون فيما بينهم؛ فالصحابة تفاضل بعضهم على بعض بما وقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق، وأيضا هو ما ميز أهل الشجرة عن غيرهم حتى رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
  • الزهد وعدم التعلق بلعاعة من الدنيا، ولهذا كان السلف يؤكدون أن مدار الزهد على القلب لا الجوارح، وأنه ليس الزَّهادة في الدُّنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأنْ يكونَ حالك في المصيبة وحالُك إذا لم تُصب بها سواءً، وأنْ يكون مادحُك وذامُّك في الحقِّ سواء([32]).

ومن أمثلة ذلك أيضا ما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله: “محاسبةُ النفس على ما سلف من أعمالها، والندم والتوبة من الذنوب السالفة، والحزن عليها، واحتقار النفس، والازدراء عليها، ومقتها في الله عز وجل، والبكاء من خشية الله تعالى، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أمور الآخرة، وما فيها مِنَ الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب، كالخشية، والمحبَّةِ، والرَّجاء، والتوكُّل، وغير ذَلِكَ”([33]).

ختاما:

إن من أصعب الأمور علاج القلب وتزكيته؛ كيف واليوم قد تعاظمت المادية وطغت على كبيرنا وصغيرنا، والسعيد من زكى قلبه وأيقظ فؤاده وعمره بما خلقه الله له؛ فنَعِم باليقين وفاز بالطمأنينة والاستقرار، فالقرآن ذكرى لمن كان له قلب، “والرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم، والله المستعان”([34]).

وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

 

([1]) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 99).

([2]) بدائع الفوائد (3/ 187).

([3]) مجموع الفتاوى (10/ 355).

([4]) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

([5]) جامع العلوم والحكم (1/ 222).

([6]) أخرجه مسلم (2564).

([7]) قواعد الأحكام (1/ 197).

([8]) أخرجه ابن أبي شيبة (35544)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/366).

([9]) أخرجه مسلم (1006).

([10]) أخرجه مسلم (132).

([11]) جامع العلوم والحكم -ت ماهر الفحل- (3/ 1047) بتصرف.

([12]) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 154).

([13]) مدارج السالكين (3/ 164).

([14]) ينظر: جامع البيان (22/ 179)، تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 320)، تفسير السعدي (ص: 788).

([15]) أخرجه مسلم (2654).

([16]) ينظر: جامع البيان (16/ 432).

([17]) أخرجه البخاري (6407)، ومسلم (779).

([18]) أخرجه البخاري (7405).

([19]) أخرجه البخاري (6408) ومسلم (2689).

([20]) تفسير السعدي (ص: 211).

([21]) ينظر: مجموع الفتاوى (9/307 وما بعدها).

([22]) تفسير القرطبي (5/ 408)

([23]) ينظر: تفسير القرطبي (5/ 408)

([24]) جامع البيان (23/ 445).

([25]) مدارج السالكين (2/ 113).

([26]) ينظر: جامع البيان (13/ 156).

([27]) مختصر منهاج القاصدين (ص: 302).

([28]) مختصر منهاج القاصدين (ص: 303)

([29]) رواه الترمذي (2559) وابن ماجه (4031)، وقال الترمذي: “حديث حسن غريب من هذا الوجه”، وصححه الألباني.

([30]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (10/ 694).

([31]) الفوائد (ص: 163).

([32]) جامع العلوم والحكم -ت ماهر الفحل- (2/ 726).

([33]) جامع العلوم والحكم -ت ماهر الفحل- (2/ 726).

([34]) مدارج السالكين (2/ 315).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017