
موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي الله وتحت عينه وتربيته، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، ووعدهم الحسنى، وقد سارت الأجيال من بعدهم على خطاهم، وعلى محبتهم ومعرفة حقهم وفضلهم، عدا الفرقة الشيعية الرافضية التي اتبعت هواها، وانحرفت عن مسار ذلك الجيل الكريم ومن جاء من بعدهم، فأساؤوا إلى كثير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وراحوا يفتشون في تاريخهم عن شبه، ويبحثون في أعمالهم عن زلات، يعملون على نشرها بين الناس بغيةَ الطعن والتقليل من أولئك الرجال الكبار، ومنهم سيف الله المسلول أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي رضي الله عنه.
ومركز سلف للبحوث والدراسات سيعرض -بإذن الله تعالى- بعضًا من شبه الشيعة حول هذا الصحابي الجليل، مع قراءتها قراءة نقدية فاحصة تبيِّن خطأها وبُعْدَها عن واقع هذا الصحابي الجليل ومكانته.
مركز سلف للبحوث والدراسات
المبحث الأول: ترجمة مختصرة لخالد بن الوليد رضي الله عنه:
هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم أبو سليمان، القرشيّ المخزوميّ، سيف اللَّه، أمّه لبابة الصغرى بنت الحارث بن حرب الهلاليّة، وهي أخت لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب، وهما أختا ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
كان أحد أشراف قريش في الجاهليّة، وكان إليه أعنّة الخيل في الجاهلية، فلما أسلم كان إليه أعنّة خيل النبي صلى الله عليه وسلم.
أسلم سنة سبع للهجرة وقيل: سنة ثمان، ولما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا سُرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «قد كُنتُ أَرَى لَكَ عَقلًا رَجَوتُ أن لا يُسلِمَكَ إلا إلى خَيرٍ»([1]).
ومنذ أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يكلّفه بمهام كبيرة تعكس ثقة النبي صلى الله عليه وسلم به كقائد عسكري كبير، ومسلم مخلص حريص على طاعة الله ورسوله.
كانت أولى مشاركته الحربية في عزوة مؤتة، وذلك بعد إسلامه بشهرين أو ثلاثة، وعلى الرّغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوله قيادة الجيش، ولكنه أخرج الجيش المكوَّن من ثلاثة آلاف مقاتل هم نخبة المسلمين وقتها، أخرجهم من مأزق كبير حيث وجدوا أنفسهم في مواجهة جيش الروم البالغ مائتي ألف مقاتل، وبكل المقاييس الحربية لا يمكن لجيش قوامه ثلاثة آلاف أن يصمد أمام جيش قوامه مائتا ألف، فقد قتل قادة الجيش الكبار: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وكاد الجيش المسلم يهلك حتى تولى خالد قيادته، واستطاع أن يخرجه من هذا المأزق الكبير بحنكة وذكاء لا مثيل لها، (فخير ما يصنع في ذلك الحين هو الارتداد المأمون، وهو أصعب من النصر في بعض المآزق؛ لأن النصر ميسور مع اجتماع العدة له واحتمال الشدة فيه، ولكن الارتداد المأمون غير ميسور لكل من يريده وهو في أضعف الموقفين، إلا أن تكون له خبرة بالقيادة تكافئ الرجحان في قوة العدو الذي يرتد بين يديه)([2]).
وبعد مؤتة شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتح مكّة، فأبلى فيها، وجرى له مع بني خزيمة ما جرى، ثم شهد حنينًا والطائف في هدم العزّى.
وأرسله النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أكيدر دومة فأسره.
وأرسله أبو بكر إلى قتال أهل الردة فأبلى في قتالهم بلاءً عظيمًا، ثم ولّاه حرب فارس والرّوم، فأثر فيهم تأثيرًا شديدًا وفتح دمشق([3]).
توفي خالد رضي الله عنه سنة 21هـ([4])، وقال عند موته: (ما كان في الأرض من ليلة أحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد في سريّة من المهاجرين أصبّح بهم العدو، فعليكم بالجهاد)([5]).
المبحث الثاني: بعض فضائل خالد بن الوليد رضي الله عنه:
عن أبي هريرة قال: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» فَأَقُولُ: فُلاَنٌ، فَيَقُولُ: «نِعْمَ عَبْدُ اللهِ هَذَا»، وَيَقُولُ: «مَنْ هَذَا؟» فَأَقُولُ: فُلاَنٌ، فَيَقُولُ: «بِئْسَ عَبْدُ اللهِ هَذَا»، حَتَّى مَرَّ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْتُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَقَالَ: «نِعْمَ عَبْدُ اللهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ»([6]).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخَذَ الرّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَواحَةَ فَأُصِيبَ –وعَيْناهُ تَذْرِفانِ– حتّى أخَذَ الرّايَةَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ، حتّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم»([7]).
وعندما عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد بقتال أهل الردة قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نِعْمَ عَبدُ اللهِ وأخو العَشيرةِ خالِدُ بنُ الوَليدِ، وسَيفٌ مِن سُيوفِ اللهِ، سَلَّه اللهُ عَزَّ وجَلَّ على الكُفّارِ والمنافِقينَ»([8]).
وعن ابن أبي أوفى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُؤذوا خالدًا؛ فإنَّه سَيفٌ مِن سُيوفِ اللهِ، صَبَّه اللهُ على الكفّارِ»([9]).
ولما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْر»([10]).
فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيف من سيوف الله، وبأن له عقلا لا يسلمه إلا إلى خير، فيكون بهذا حاز فضل القوة في الدفاع عن دين الله ونشره، وفضل العقل الذي شهد له النبي بأنه لا يسلمه إلا إلى خير، فإذا كان كذلك من أين ستأتيه المثالب وصفات السوء التي يصفه بها أعداؤه من الاثني عشرية؟!
المبحث الثالث: موقف أهل السنة والجماعة من خالد بن الوليد رضي الله عنه:
كتب أهل العلم قديمًا وحديثًا رسائل عدة وبحوثًا كثيرة تناولوا فيها معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وبيَّنوا حقوقهم على الأمة، وواجب المسلمين تجاههم، ودافعوا عنهم وناصروهم وآزروهم، ونشروا فضائلهم وبثوا مناقبهم، والمتصفح لمصادر الإسلام الكبار يجد أن مؤلفيها عقدوا أبوابًا في بيان مناقب خالد بن الوليد وفضائله، فالإمام أحمد في كتابه (فضائل الصحابة) أفرد له بابًا بعنوان: (فضائل خالد بن الوليد)([11])، والبخاري في صحيحه عقد بابًا بعنوان: (مناقب خالد بن الوليد)([12])، والترمذي في سننه عقد بابًا بعنوان: (مناقب خالد بن الوليد)([13])، وابن أبي الدنيا في كتابه “مجابو الدعوة” خصَّ خالدًا بالذكر وأورد دعاءه وإجابة الله له([14])، وابن حبان في صحيحه خصه بعدة عناوين، فقال: (ذكر خالد بن الوليد المخزومي رضي الله عنه)([15])، وقال في موضع آخر: (ذكر البيان بأن خالد بن الوليد كان على خيل المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم حنين)([16])، وقال بعده: (ذكر تسمية المصطفى صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد سيف الله)([17])، والحاكم في المستدرك عقد بابًا بعنوان: (ذكر مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه)([18])، واللالكائي في “كرامات الأولياء” خص خالدًا بالذكر فقال: (سياق ما روي من كرامات أبي سليمان خالد بن الوليد المخزومي رضي الله عنه)([19])، والبيهقي في “دلائل النبوة” عقد بابًا بعنوان: (باب ما جاء في قلنسوة خالد بن الوليد واستنصاره بما جعل فيها من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم)([20])، وعبد الحق الإشبيلي في كتابه “الأحكام الشرعية الكبرى” عقد بابًا بعنوان: (باب فضل خالد بن الوليد رضي الله عنه)([21])، وأفرد له ابن الجوزي ترجمة كاملة في كتابه “صفة الصفوة” أورد فيها بعضًا من أخباره وفضائله([22]).
وكُتُب أهل السنة والجماعة زاخرة عطرة بذكر هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه.
المبحث الرابع: خالد بن الوليد رضي الله عنه عند الاثني عشرية وشبههم حوله:
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا أصْحابِي؛ فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ»([23]).
ومع ذلك فقد دأب الشيعة الاثنا عشرية على سب الصحابة، والطعن فيهم، والتقليل من شأنهم، معتمدين على روايات بعضها صحيح يأخذون منها ما يخدم هواهم، ويدَعون ما يرُدّ على شبههم، وبعضها ضعيف لا تقوم به حجة، وأغلبها قصص من نسج خيال الشيعة يتناقلونها بينهم، قاصدين التأثير على عوامهم، وإلهاب عواطفهم تجاه الصحابة بُغضًا، وتجاه أهل البيت تعصّبًا وغلوًّا، وذلك لتحقيق أهداف دنيوية لا علاقة لها بالآخرة، إنما المقصد منها تحريك عواطف العوام تجاه آل البيت، بقصد استغلالهم لجلب الأموال الطائلة؛ إما للقائمين على الأضرحة المقدسة عندهم، أو لدفع الخمس لمن يدَّعي انتسابه إلى آل البيت رضي الله عنهم.
وقبل إيراد الشبَه يجدر بنا أن نورد نصوصًا من كتب الشيعة حول خالد رضي الله عنه تدلّ على عدائهم الكبير له، وحِقدهم الشديد عليه، بما يجعل أحكامهم عليه مردودة لعلَّة العداء الدافع للافتراء والكذب، وحقدهم عليه بسبب ما يعتقدون من عدائه لعلي وفاطمة رضي الله عنهم، وما تبع هذا العداء من تصرفات لا تليق بآل البيت حسب زعمهم، فقد قال الأميني: (خالد بن الوليد الزاني، الفاتك الهاتك صاحب المخازي والمخاريق)([24])، وقال المجلسي: (خالد بن الوليد من الملاعين)([25]).
ورووا كذبًا عن الصادق أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]: (إنه خالد بن الوليد، فعل في الجاهلية ما فعل في أحُد وغيرها، فلما أسلم ونافق بذلك وارتد عن الإسلام سبى بني حنيفة في أيام أبي بكر، وأخذ أموالهم، وقتل مالك بن نويرة، واستحلّ نكاح زوجته بعد قتله، وأنكر عليه عمر بن الخطاب وتهدَّده وتوعَّده، وقال له: إن عشتَ إلى أيامي لأُقيدَنّك به، ولم يأخذ من نهب بني حنيفة شيئًا، وقال: إنهم مسلمون)([26]).
وقال صاحب كتاب (أبهى المداد): (خالد بن الوليد سيف الشيطان المسلول)([27]).
وفي حاشية نقد الرجال للتفريشي قال المعلق: (خالد بن الوليد لعنه الله تعالى، هو شرّ خلق الله، وكُفرُه أشهر من كفر إبليس)([28]).
هذه النصوص تكشف عن حقد عظيم في نفوس الرافضة على خالد رضي الله عنه، وهذا وحده كاف لردّ أي شبهة يوردونها عنه.
وفيما يلي نماذج من هذه الشبه ونقضُها بما يبين بُعدها عن الواقع والحقيقة.
الشبهة الأولى: قتلُ خالد لبني جذيمة:
قال الحلي: (وسموا خالد بن الوليد سيف الله؛ عنادًا لأمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أحق بهذا الاسم حيث قتل بسيفه الكفار، وثبتت بواسطة جهاده قواعد الدين، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علي سيف الله وسهم الله»، وقال علي على المنبر: أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه، وخالد لم يزل عدوًّا لرسول الله مكذبًا له، وهو كان السبب في قتل المسلمين في يوم أحد، وفي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتل حمزة عمه، ولما تظاهر بالإسلام بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة ليأخذ منهم الصدقات، فخانه وخالفه على أمره، وقتل المسلمين، فقام النبي في أصحابه بالإنكار عليهم… وقتل مالك بن نويرة صبرًا وهو مسلم، وعرَّس بامرأته)([29]).
الجواب عن هذه الشبهة:
ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خالِدَ بنَ الوَلِيدِ إلى بَنِي جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أنْ يقولوا: أسْلَمْنا، فَقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فَجَعَلَ خالِدٌ يَقْتُلُ ويَأْسِرُ، ودَفَعَ إلى كُلِّ رَجُلٍ مِنّا أسِيرَهُ، فأمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنّا أنْ يَقْتُلَ أسِيرَهُ، فَقُلتُ: واللَّهِ لا أقْتُلُ أسِيرِي، ولا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِن أصْحابِي أسِيرَهُ، فَذَكَرْنا ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممّا صَنَعَ خالِدُ بنُ الوَلِيدِ» مَرَّتَيْنِ([30]).
وواضح من نص الحديث أن خالدًا أخذ لفظ (صبأنا) على ظاهره؛ لأن لفظ (صبأنا) معناه: خرجنا من دين إلى دين، ولم يصرحوا بدخولهم في الإسلام، فهم أخطؤوا في التعبير، وخالد مكلّف من نبي الله بأن يقاتلهم إن لم يكونوا مسلمين، وظاهر لفظهم هذا يدل على عدم إسلامهم وإن كانوا قصدوا الإسلام به، فلخالد رضي الله عنه مخرج في هذا، فخالد صاحب عقل راجح كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أسلفنا، فقد يكون رأى في قولهم هذا أنَفَةً وتكبرًا وعدم انقياد للدين([31]).
إذن يتّضح أن خالدًا رضي الله عنه لم يقتلهم مع تصريحهم بالإسلام، ولا قتلهم تشفّيًا لنفسه، فلم يحصل منهم ما يدل على أنهم مسلمون صراحة، ولهذا لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعزله، بل أقره على إمارته، ولم يلزمه دفع دية ولا كفارة.
وخالد ليس بدعًا في ذلك الخطأ، فقد سبقه إلى مثله أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل الرجلَ الذي قال: لا إله إلا الله؛ لأنه كان مجتهدًا متأولًا، ظن أنه قالها هربًا من الموت، وقد أنكر النبي صنيعه إنكارًا عظيمًا حتى قال أسامة: تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم([32]).
إن مثل هذه الأخطاء واردة في الأيام الأولى من تأسيس دولة الإسلام، ومثل هذه الأخطاء كانت أسبابًا لنزول آيات أو صدور أحاديث تبين وتصحّح الأمر، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]، قال ابن جرير رحمه الله: “إن هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلته سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -بعدما قال: (إنيّ مسلم)، أو بعد ما شهد شهادة الحق، أو بعدما سلَّم عليهم- لغنيمةٍ كانت معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه”([33]).
فهذه الأحداث تكرّرت في الأيام الأولى للدعوة نتيجة اختلاط الحق بالباطل والمسلم بالكافر بسبب شبه كثيرة، فليس خالد بدعًا في ذلك.
والواقع أن من يعيب على خالد هذا الأمرَ إنما يعيب على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأن مقتضاه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن جرم كبير لم يعاقب خالدًا عليه، ولا حمَّله أيّ تبعة من تبعاته، ولا دية القتلى، أو حتى عزله عن قيادة الجند!
وبهذا يتّضح أن زعم الرافضة أن خالدًا خان الرسول صلى الله عليه وسلم وخالف أمره كذب على خالد وافتراء، فخالد لم يتعمد ذلك الفعل، ولا خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قتل من هو معصوم عنده، ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد، وكما أخطأت السرية التي قتلت مسلمًا ونزل فيها قرآن يتلى.
الشبهة الثانية: شبهة قتل مالك بن نويرة واستحلال زوجته قبل انقضاء عدّتها:
رووا عن الصادق أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]: (إنه خالد بن الوليد، فعل في الجاهلية ما فعل في أحُد وغيرها، فلما أسلم ونافق بذلك وارتد عن الإسلام سبى بني حنيفة في أيام أبي بكر، وأخذ أموالهم، وقتل مالك بن نويرة، واستحل نكاح زوجته بعد قتله، وأنكر عليه عمر بن الخطاب وتهدَّده وتوعَّده، وقال له: إن عشت إلى أيام لأقيدنك به، ولم يأخذ من نهب بني حنيفة شيئًا، وقال: إنهم مسلمون)([34]).
وقال الحلي: (وأهمل أبو بكر حدود الله، فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حين قتل مالك بن نويرة وكان مسلمًا، وتزوج امرأته من ليلة قتله وضاجعها، وأشار عليه عمر بقتله)([35]).
والجواب عن ذلك بعدة وجوه:
الوجه الأول: أن مالك بن نويرة كان على رأس المرتدين المانعين للزكاة، بل ومن المحرِّضين على ذلك، وفعلُه هذا من أعظم الجرائم التي هدَّدت الإسلام وكادت تقضي عليه، وخالد إنما قتله لفعله هذا.
الوجه الثاني: أن خالدًا لما استدعى مالك بن نويرة ونبهه على متابعة سجاح ومنع الزكاة، وقال له: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟! قال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال خالد رضي الله عنه: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟!([36]). فعدّ خالد هذه الكلمة تنقيصًا للرسول صلى الله عليه وسلم موجبةً للقتل، فأمر ضرار بن الأزور بضرب عنقه.
الوجه الثالث: غاية ما يقال في قصة مالك بن نويرة أنه كان معصوم الدم، وأن خالدًا قد قتله متأولًا، ولهذا لم يعاقبه الصديق على تلك الفعلة وعذره بالتأويل، متأسّيًا بالنبي الكريم الذي لم يعاقبه بقتله بني جذيمة من قبل؛ لأنه كان متأولًا.
أما تزوّجه بزوجة مالك فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما ما ذكر من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته)([37]).
الشبهة الثالثة: زعمهم أن عمر بن الخطاب أمر خالد بن الوليد بقتل علي بن أبي طالب بسبب زعمه تحريفَ القرآن:
قالوا: لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم جمع علي (عليه السلام) القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار، وعرضه عليهم؛ لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر، وقال: يا علي اردده، فلا حاجة لنا فيه، فأخذه (عليه السلام) وانصرف، ثم أحضروا زيد بن ثابت وكان قارئًا للقرآن، فقال له عمر: إن عليًّا جاء بالقرآن، وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن، ونسقط منه ما كان في فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كل ما عملتم؟! قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: فما حيلته دون أن نقلته ونستريح منه؟! فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك([38]).
ومن نماذج كذبهم: ما يروونه من أن عليًّا وضع في عنق خالد بن الوليد لما أراد ضربه وقتله طوق رحى الحارث بن خلدة الثقفي، ولواه في عنقه، فالتوى فدخل به المدينة، وأقام أيامًا حتى أقسم عليه بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فكه عنه ففعل([39]).
وقد سئل الطوسي عن هذه الرواية فقال: (هذه الرواية مذكورة، ولكنها من أخبار الآحاد، وضعيفة لا يقطع بصحته)([40]).
الرد على هذه الشبهة:
لا شكَّ أن مثل هذه الرواية من نَسج خيال الشيعة المريض، أرادوا بذلك اتهام الصحابة بتحريف القرآن، والتآمر على حرمان علي من إمامة المسلمين، وهو إذ يمدح عليًّا يذمّه بسكوته السلبي حينما رفض الصحابة الأخذ بقرآنه، فكيف يتفق هذا مع مواقف علي رضي الله عنه البطولية في سبيل الدفاع عن الإسلام؟! ويرد على مثل هذه الترهات قول علي رضي الله عنه: (أعظم الناس في المصحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع ما بين اللوحين)([41]).
بل إن الصحابة أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله، ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول الطاهر بن عاشور: “وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله فالجواب: أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن، وهذا لا نزاع فيه”([42]).
الشبهة الرابعة: عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد رضي الله عنه نتيجة إنفاقه أموال الغنائم على الأقوياء:
أورد ابن كثير رحمه الله قصة عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وأشار إلى سبب هذا العزل، وأنه كان يصرف أموال الغنائم على الأقوياء، ويتجاهل الضعفاء والمساكين، ويحتج الرافضة بهذه الروايات قائلين: إن كان هذا الصحابي (أبو عمرو بن أحمد بن حفص) صادقًا فقد اتهم عمر بالظلم والحسد ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مخرج عن حد العدالة، وإن كان كاذبًا أو غير متورع في حكمه فقد ثبت بهذا أن الصحابة كغيرهم لا يتورعون في الأحكام، قال ابن كثير رحمه الله: (وقد روى البخاري في التاريخ وغيره من طريق علي بن رباح عن ناشرة بن سمي اليزني قال: سمعت عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف واللسان، وأمَّرت أبا عبيدة. فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: ما اعتذرتَ يا عمر، لقد نزعتَ عاملًا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعتَ لواءً رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدتَ سيفًا سلَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد قطعت الرحم وحسدت ابن العم، فقال عمر: إنك قريب القرابة، حديث السن، مُغْضَبٌ في ابن عمك)([43]).
الرد على هذه الشبهة:
هذه الشبهة يرد عليها عمر رضي الله عنه بنفسه، حيث قال: (إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به؛ فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع)([44]).
وروى سيف بن عمر وغيره: أن عمر قال حين عزل خالدًا عن الشام والمثنى بن حارثة عن العراق: (إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعًا)([45]).
إذن فالدافع لعمر إلى عزل خالد هو افتتان الناس به، وهذا أمر خطير جدًّا، خاصة في ذلك الوقت، فحرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرسوا في نفوس الناس أن الفاعل الحقيقي لكل شيء هو الله وحده، حتى يكون اتكالهم على الله وثقتهم بالله؛ لأن الله حي لا يموت، وخالد وأمثاله من القواد المحنكين يموتون، وقد يؤثّر موتهم على من ترسخ في ذهنه أن النصر إنما يأتي بحنكة هؤلاء القادة، لذلك قرر عمر أن يعزل خالدًا ويولّي غيره حتى يرى الناس أن النصر سيكون بخالد وبغيره؛ لأن الناصر في الحقيقة هو الله لا سواه.
الشبهة الخامسة: شبهة اشتراك خالد بن الوليد مع عمر رضي الله عنهما في حرق باب فاطمة وعلي رضي الله عنهما، ونعت فاطمة لهما بأنهما من حزب الشيطان:
ذكر المجلسي عهدًا كان كتبه الخليفة الثاني إلى معاوية يحكي فيه له ما جرى لهم مع الزهراء، وقد جاء فيه: (فأتيت داره مستشيرًا لإخراجه منها، فقالت لأمة فضة وقد قلت لها: قولي لعلي: يخرج إلى بيعة أبي بكر، فقد اجتمع عليه المسلمون، فقالت: إن أمير المؤمنين (ع) مشغول، فقلت: خلي عنك هذا، وقولي له يخرج وإلا دخلنا عليه وأخرجناه كرها، فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب، فقالت: أيها الضالون المكذبون، ماذا تقولون؟ وأي شيء تريدون؟ فقلت: يا فطمة، فقالت فاطمة: ما تشاء يا عمر؟ فقلت: ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب؟ فقالت لي: طغيانك يا شقي أخرجني وألزمك الحجة وكل ضال غوي، فقلت: دعي عنك هذه الأباطيل وأساطير النساء، وقولي لعلي يخرج، فقالت: لا حب ولا كرامة، أبحزب الشيطان تخوفني يا عمر؟! وكان حزب الشيطان ضعيفا، فقلت: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها نارًا على أهل هذا البيت، وأحرق من فيه، أو يقاد علي إلى البيعة، وأخذت سوط قنفذ فضربت، وقلت لخالد بن الوليد: أنت ورجالنا هلموا في الحطب، فقلت: إني مضرمها، فقالت: يا عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين، فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرمته فتصعب علي، فضربت كفيها بالسوط فآلمها، فسمعت لها زفيرًا وبكاء، فكدت أن ألين وأنقلب عن الباب، فذكر أحقاد علي وولوعه في دماء صناديد العرب… -إلى أن قال:- فركلت الباب وقد ألصقت أحشاءه بالباب تترسه، وسمعتها وقد صرخت صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها، وقالت: يا أبتاه! يا رسول الله! هكذا كان يفعل بحبيبتك وابنتك، آه يا فاطمة! إليك فخذيني، فقد والله قتل ما في أحشائي من حمل، وسمعتها وهي مستندة إلى الجدار، فدفعت الباب ودخلت، فأقبلت إلي بوجه أغشى بصري، فصفقت صفقة على خديها من ظاهر الخمار، فانقطع قرطها، وتناثرت إلى الأرض، وخرج علي، فلما أحسست به أسرعت إلى خارج الدار، وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما: نجوت من أمر عظيم([46]).
الرد على هذه الشبهة:
هذه الشبهة تفضح نفسَها بألفاظها وصياغتها وأحداثها التي تتعارض مع أولئك العظماء، فلا يمكن لعربي أصيل أن يعتدي على امرأة أيًّا كان وأيا كانت؛ لأن هذا مُنقص له بين العرب، وهذا تصرف لا يمكن لأي عربي حر أن يضع نفسه فيه، فما بالك بعمر بن الخطاب ومع ابنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! هذا أمر محال الحدوث عقلًا، ناهيك عن كذب هذه القصة المخترعة، وللرد على هذه الشبهة نقول:
أولًا: هذه القصة لا إسناد لها البتة، قال الحاكم رحمه الله مبينا أهمية الأسانيد في بيان الصحيح من السقيم: “لولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترًا”([47]).
ثانيًا: نقل السيد جعفر مرتضى لهذه القصة عن المجلسي، فمن المجلسي؟ هو إمام رافضي لا يعوَّل على كلامه، وكتابه (بحار الأنوار) مليء بالطوام والمخازي من مثل هذه القصص العجيبة التي لا أصل لها إلا في كتابه هذا.
الشبهة السادسة: شبهة اشتراك خالد بن الوليد مع عمر رضي الله عنهما في دفع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب، وهجومهما عليهما حينما امتنعا عن مبايعة الصديق رضي الله عنه:
قال ابن أبي الحديد: (قال أبو بكر: وحدثنا أبو زيد عن عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي، قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي، قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل: عند علي وقد تقلَّد سيفه، فقال: قم يا عمر، قم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما. فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليًّا، فاخترطه عمر، فضرب به حجرًا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير، فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد، دونكه فأمسكه، ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكَّأ واحتبس، فأخذ بيده، وقال: قم، فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك، وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه)([48]).
الرد على هذه الشبهة:
هذه الشبهة مردودة لأن سندها واه لا تقوم به حجة أبدًا؛ ففيه علتان:
الأولى: أن ابن أبي الحديد شيعيّ من الغلاةِ، وعليه فإن الاحتجاج بهذا الخبر غير مقبول ولا يصح، قال عنه ابن كثير: “عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين، أبو حامد بن أبي الحديد، عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق، الشيعي الغالي، له (شرح نهج البلاغة) في عشرين مجلدًا، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد، فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي”([49]).
فهو موصوف بالغلوّ في التشيّع، وهذا يدفع بصاحبه إلى الكذب لنصرة مذهبه، خاصّة التشيع؛ إذ الكذب فاشٍ في رواياتهم.
والثانية: إرسال الشعبي لهذه الرواية، حيث إنه لم يدرك زمن أبي بكر رضي الله عنه، قال المزي رحمه الله: (ولد لسنتين خلت من خلافة عمر بن الخطاب على المشهور)([50]).
فالرواية لا تصح لهذين السببين.
الشبهة السابعة: شبهة قتله للمسلمين في بدر وأحد والخندق، وانهزامه بجيش المسلمين في مؤتة:
جاء في “موسوعة من حياة المستبصرين”: (خالد بن الوليد سيف الله أم مجرم حرب؟ خالد بن الوليد بن المغيرة أحد عتاة مجرمي قريش، الذي شاءت له الخلافة المغتصبة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون سيف الله المسلول على أعدائها، ولو كانوا مسلمين وعربًا، وهي التي تدعي العروبة والإسلام، ونحن عندما نقرأ تاريخ خالد محققين فيه نجده تاريخًا مشينًا مليئًا بالجرائم والخزي والعار… حارب المسلمين في بدر وأحد والخندق أيام كفره وجاهليته، والذي كان في حنين مع الفارين، وانهزم بجيش المسلمين في مؤتة حتى حصبه أهل المدينة بالحجارة وقالوا له: رجعت فارًّا)([51]).
الرد على هذه الشبهة:
أما قتله المسلمين قبل إسلامه فهذه شبهة ردّها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بقوله لخالد وعمرو بن العاص عندما أسلما: «الإسلامُ يجبُّ ما قَبلَهُ»([52]). ومثل هذا الكلام من الشيعة إنما ينبئ عن حقد كبير في نفوسهم والتمسك بأي مطعن أو شبهة، وإلا فجل من أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كفارًا مشركين بدرت منهم أعمال عدائية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قبل أن يسلموا، وعندما أسلموا لم يحاسَبوا على تلك الأعمال ولا حتى عوتبوا عليها.
أما انسحابه بالجيش في مؤتة فهو من كبار أعماله التي دلت على أنه قائد محنَّك يعرف كيف يقدّر الأمور ويزنها وزنًا دقيقًا، فقد كان هو وجيشه في معمعة عظيمة يبادون تحت وطأة جيش يفوقهم بأضعاف أضعاف عددهم وعدتهم، فشتان بين جيش خالد الذي عدده ثلاثة آلاف مقاتل وبين جيش الروم البالغ مئتي ألف مقاتل.
لقد أبلى خالد في هذه الغزوة بلاء منقطع النظير، فقد دق في يده تسعة أسياف وما ثبت معه إلا صحيفة يمانية، وقاتل الجند فيها قتالًا شرسًا أمام جند العدو، ولكن عدد العدو الكبير كان له أثره في توجيه نتائج المعركة؛ فقد كثر القتل في المسلمين، ورأى خالد بعينه كيف قتل الأمراء الثلاثة جعفر وزيد وعبد الله، فتولى قيادة الجيش، وانحاز بمن بقي منهم لينجو بهم، فليست الشجاعة في الإقدام دائمًا، وإنما الشجاعة في الإقدام في موضع الإقدام والإحجام في موضع الإحجام، والمتهور الأحمق المندفع بغباء يصعب عليه فَهْم هذا، ويظن بحماقته أن الشجاعة هي الاندفاع دائمًا، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم انسحاب خالد بالجيش فتحًا، وحمده على فعله، وأثنى عليه خيرًا، بل وصفه بأنه سيف من سيوف الله بسبب هذا التصرف العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: «أخَذَ الرّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَواحَةَ فَأُصِيبَ -وعَيْناهُ تَذْرِفانِ- حتّى أخَذَ الرّايَةَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ، حتّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم»([53]).
فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف عمل خالد بالفتح، ووصفه بأنه سيف من سيوف الله، ومن طعن في عمل خالد ووصفه بأنه فِرار طعَن في كلام النبي نفسه، ورد كلامه ولم يقبله، وهذا ما لا يقول به مسلم.
قال عباس العقاد واصفًا انسحاب خالد رضي الله عنه في مؤتة: (فخير ما يصنع في ذلك الحين هو الارتداد المأمون، وهو أصعب من النصر في بعض المآزق؛ لأن النصر ميسور مع اجتماع العدة له واحتمال الشدة فيه، ولكن الارتداد المأمون غير ميسور لكل من يريده وهو في أضعف الموقفين، إلا أن تكون له خبرة بالقيادة تكافئ الرجحان في قوة العدو الذي يرتد بين يديه)([54]).
هذه بعض شبههم ودعاواهم الباطلة حول سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو أمر ليس بالغريب عليهم؛ فقد كفَّروا صحابة النبي جميعًا إلا نفرًا قليلًا منهم، وعلى رأس من كفروهم وسبوهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق خير الناس بعد الأنبياء، ومن فَضلُهم مشهور عند كل مسلم، وعمدة الشيعة الاثني عشرية في تلك المطاعن والمزاعم هو الهوى، وبعض النصوص المكذوبة المفتراة منهم، أو من بعض وُضّاع الأحاديث وكَذَبة التاريخ.
الخاتمة:
في ختام هذه الورقة العلمية نصل إلى مجموعة من الحقائق التي يسعى الرافضة إلى إخفائها وإظهار ما يُنقص من شأن خالد بن الوليد ومكانته في نفوس الناس حقدًا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذًا لوساوس الشيطان في عداء أهل الحق وخذلانهم، ومن أبرز هذه الحقائق:
- ثناء النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه لخالد بأنه سيف الله المسلول، وفي قوله: (سيف الله) دليل على أنه سيف الله الأول، وهذه خصيصة من خصائص خالد؛ إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف أحدا بهذه الصفة.
- ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عقل خالد، وأنه لا يقوده إلا إلى الخير، وفي هذا دليل على أن حياة خالد بعد إسلامه كانت خيرًا وأفضت إلى خير، على عكس ما يدعي الشيعة الاثنا عشرية.
- ثناء أهل السنة والجماعة على خالد بن الوليد رضي الله عنه، وحسن ظنهم به كباقي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلام الإسلام الكبار.
- أن خالد بن الوليد بَشَر يحصل منه الخطأ والنسيان والاجتهاد الخاطئ أو التأويل الخاطئ، وهذا شأن البشر في كل زمان ومكان، وهذا لا يقلل من شأنه ولا يحمله من الأخطاء ما لم يقترف.
وبهذا نرى بكل وضوح بطلان مزاعم الشيعة فيما نسبوه لخالد من مثالب وأحداث مختلّقة، لم تثبت واحدة منها أمام الفحص والتمحيص والتحليل.
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) دلائل النبوة للبيهقي (4/ 349)، صفة الصفوة (1/ 251).
([2]) عبقرية خالد، عباس العقاد (ص: 47).
([3]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 215).
([5]) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1476)، وابن حبان في الثقات (3/ 102).
([6]) أخرجه الترمذي (٣٨٤٦)، وأحمد (٨٧٢٠) باختلاف يسير، وقواه الألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة (١٢٣٧).
([8]) أخرجه أحمد (1/ 216)، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (44). وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 41): “إسناده صحيح”. وقال شعيب الأرنؤوط (43): “صحيح بشواهده”.
([9]) أخرجه الطبراني في الكبير (4/ 121)، وابن سعد (7/ 120)، والحاكم (3/ 298)، وأُعلّ بالإرسال.
([10]) دلائل النبوة للبيهقي (4/ 349).
([11]) فضائل الصحابة (2/ 1024).
([15]) صحيح ابن حبان (15/ 563).
([16]) صحيح ابن حبان (15/ 564).
([17]) صحيح ابن حبان (15/ 565).
([18]) المستدرك على الصحيحين (5/ 1963).
([19]) كرامات الأولياء -ضمن كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- (9/ 152).
([21]) الأحكام الشرعية الكبرى (4/ 428).
([23]) أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (6488).
([26]) نهج البيان عن كشف معاني القرآن (2/ 368)، والبرهان في تفسير القرآن (3/ 247).
([27]) أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد (2/ 271).
([28]) حاشية نقد الرجال (2/ 190).
([31]) انظر: فتح الباري (7/ 654)، وأعلام الحديث (3/ 1765)، وعمدة القاري (15/ 139).
([32]) أخرجه البخاري (4269)، ومسلم (278).
([34]) نهج البيان عن كشف معاني القرآن (2/ 368)، والبرهان في تفسير القرآن (3/ 247).
([36]) ينظر: البداية والنهاية (9/ 462).
([38]) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2/ 920).
([39]) الرسائل العشر (ص: 319)، وإثبات الهداة بالنصوص والمعجزات (3/ 493).
([41]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 25).
([42]) التحرير والتنوير (1/ 141).
([43]) البداية والنهاية (10/ 133).
([44]) ينظر: البداية والنهاية (7/ 81).
([45]) ينظر: البداية والنهاية (7/ 115).
([46]) شبكة الشيعة العالمية، مأساة الزهراء عليها السلام 2/ 179:
http://www.shiaweb.org/books/maasat_alzahraa_2/pa20b.html
([47]) معرفة علوم الحديث (ص:40).
([48]) السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة (ص:251).
([49]) البداية والنهاية (13/ 199).
([51]) موسوعة من حياة المستبصرين (5/ 159-160).
([52]) أخرجه أحمد (29/ 315)، وقال محقق المسند: “إسناده حسن”.