
عبادة السلف في رمضان وأين نحن منها؟!
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
لا يخفى أن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يحرصون كل الحرص على كثرة التعبد لله سبحانه وتعالى بما ورد من فضائل الأعمال، وبما ثبت من الصالحات الباقيات التي تعبَّد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم كانوا يتهيؤون للمواسم – ومنها شهر رمضان – بالدعاء والتضرع إلى الله أن يبلغهم إياه قبل ستة أشهر من بلوغه حتى يعمَّهم خيره وفضله وبركته وهداه، فكانوا يُكثِرون اللَّجَأ إلى الله أن يبلغ العبد رمضان وأن يبلغه فضله، وهذا من أعظم وسائل التهيؤ؛ ومن أبرز مظاهر التعظيم والاستعداد لاستقبال رمضان بالعبادات والفرح بقدومه، والخشية من التفريط فيه.
ومن أبرز مظاهر التعظيم والاستعداد لاستقبال رمضان بالعبادات ما كانوا يداومون عليه مقتدين بالنبي الكريم من كثرة الصيام والقيام في شعبان أكثر من غيره، وأحوال السلف في رمضان ينبغي للمسلم أن يتخذها حاديا له ويحاول أن يحذو حذوهم فيها وينتهج نهجهم ويسير مع ركب الصالحين فيها.
ولما كان المسلم بحاجة دائمة إلى التذكير والوعظ ليرتاح قلبه ويكون تعلُّقه بالله خاصة في مواسم العبادات وأزمنة الخيرات([1]) بادر مركز سلف للبحوث والدراسات بهذه الورقة تذكيرا لمن كان له قلب، وإرشادًا لمن أراد الحق.
مركز سلف للبحوث والدراسات
تمهيد:
من أجلِّ نعم الله تعالى على المسلم أن شرع له أزمانًا ومواسم للطاعات وخصص أوقاتًا للقربات، يزداد فيها المؤمن إيمانًا ويتزود فيها من العبادات، ويجتنب فيها المعاصي والموبقات، ويبتعد عن الظلم والمفسِّقات؛ فمن أعظم مِنَنِه سبحانه أن جعل رمضان خير شهور العمر، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل صوم الست من شوال كصوم الدهر، ويوم عرفة يتباهى سبحانه بالمتضرعين له من البشر، وفضَّل عشر الحج وعظَّم فيها الأجر؛ فالله سبحانه ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص: 68]. وليس للعبد في ذلك اختيار؛ بل العبد المسلم مطيع لربه مسلِّم له في كل ما أراد واختار؛ فيعبده بما شرعه طوعًا وكرها، ويسلّم لقضائه رضًا وتسليما؛ كما قال تعالى في تمام الآية: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]، “فليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه”([2]).
ومن أجل تلك المواسم وأعظمها شهر رمضان الذي نحن بصدد استقباله، والذي صرح المولى بفضله، وأمر أمرًا مؤكدًا بصيامه؛ ولما كان الأمر كذلك أولى السلف هذا الشهر عناية خاصة، واهتموا به اهتمامًا بالغًا؛ حتى إنهم جعلوه موطن دعائهم مدار العام؛ يدعون مولاهم ستة أشهر أن يبلغهم ذلك الشهر، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وإن من أهم ما يهتدي فيه المسلم بهدي السلف في رمضان:
أولا: استقبال الشهر بالاستعداد له:
فقد كان السلف -رضوان الله عليهم- يتهيؤون لاستقبال شهر رمضان أيما تهيؤ، وكانوا يبذلون في ذلك كل ما استطاعوا، سواء مع أنفسهم أو أبنائهم أو أهاليهم أو تلاميذهم أو مجتمعاتهم عموما، ومن الوسائل التي كانوا يبذلونها في ذلك:
- كثرة الالتجاء إلى الله وسؤاله عز وجل أن يبلغ العبد رمضان وأن يبلغه فضله ويجعل له من ثوابه أوفر الحظ والنصيب؛ قال معلى بن الفضل: “كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم”([3]).
- دعاء الله سبحانه وتعالى والتضرع إليه أن يرزقه التوفيق والمعونة والسداد لاستثمار رمضان فيما ينفعه ويستفيد منه، يقول يحيى بن أبي كثير: “كان من دعائهم: اللهم سلِّمنِي إلى رمضان، وسَلِّم لي رمضان، وتَسَلَّمه مني مُتقَبَّلًا”([4])؛ ومعنى الجزء الأول من الدعاء: التضرُّع إلى الله سبحانه أن يرزق الله العبد التوفيق ليكون منقطعًا لرمضان ومبتعدًا عمَّا يُشغِله عن استثماره من المشغلات الدنيوية بحيث لا يشغله شيء عن رمضان؛ وكأنه عبد من العبيد سُلِّم من سيده ومولاه إلى رمضان؛ فغدا رمضان سيده الذي بأمره يَأتَمِر وبِنَهيِه ينتهي، وهذا معنى: اللهم سلمني إلى رمضان. وأما الدعاء الذي يليه بأن يسلم الله له رمضان فأن يبلغه هذا الشهر ويبلغه فضله وخيره وأجره وبركاته وما فيه من الصالحات ومن الأجر والثواب؛ وأن يتسلمه منه؛ فكم من الناس من يبلغه الله رمضان ولكنه لا يستثمره فيما ينفعه ولا يستفيد منه في العمل الصالح النافع له؛ وعلى المرء المسلم أن يحذر ويخاف من حرمان ما فيه من الصالحات ومن الثواب العظيم والأجر الجزيل، وهذا ما حذَّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حذَّر من أن يبلغ المرء رمضان ثم لا يدرك ما فيه من الخيرات والعبادات وإجابة الدعوات ومغفرة الذنوب والعتق من النيران، فهذا الشهر الذي تُفتَح فيه أبوابُ الجنان، وتُغلَق فيه أبواب النيران، وتُسلسَل فيه الشياطين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»([5])، فالغبن كل الغبن أن يدرك منَّة واحدة من هذه المنن التي منَّ الله بها عليه، ثم لا يوفَّق فيه لعمل الخيرات، بل الشقيُّ مَن كان عليه يوم القيامة حسرات؛ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة عنه: «رَغِمَ أَنفُ رَجلٍ ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أَنفُ رَجلٍ دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورَغِمَ أَنفُ رَجلٍ أدرك عنده أبواه الكِبَر فلم يُدخِلَاه الجنة»([6]).
- نية القيام بما في هذا الشهر من نوافل العبادات وشرائع الطاعات، والمسابقة على فضائل شهر رمضان وصيامه وقيامه ونيل أجره، وهذا ما نجده من السلف حين يلجؤون إلى الله بالتضرع أن يبلغهم رمضان، فهم ينوون القيام بما في هذا الشهر من القربات والعبادات وألوان الفضائل والصالحات؛ فالإنسان ينوي الخير ويعزم عليه، ومن نوى أن يعمل عملًا طيبًا صالحًا مبرورًا ثم يمنعه من هذا العمل مرض أو عجز أو شغل أو نحو ذلك من الأمور، فإن الله عز وجل يثيبه على نيته ولو لم يعمل، فمن رحمة الله عز وجل بهذه الأمة على الخصوص أنهم يُؤجَرُون على نياتهم، والمسلم يوقن بأن الله سبحانه لا يضيع أجر من نوى وعزم ولكنه لم يستطع أن يأتي بالعبادة من الصيام والقيام وإعمار المساجد بالصلوات والعبادات والاعتكاف وأداء العمرة وغيرها من العبادات، وهذا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»([7])، ويدل لذلك أيضا ما حصل للصحابة -رضوان الله عليهم- في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم تستطع طائفة من الصحابة أن يشاركوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لأعذار لهم منعتهم من المشاركة في الغزوة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين كانت نيتهم صادقة في المشاركة لهم من الأجر ما للغازين، قال عليه الصلاة والسلام حين رجعَ من غزوة تبوك فدنا من المدينة: «إن بالمدينة أقوامًا ما سِرتُم مسيرًا ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينةِ؟! قال: «وهم بالمدينة؛ حبسَهم العذر»([8]).
- ولئن كان الصحابة والسلف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون على تعلم كل شيء خاصة أفضل الأعمال وأهمها في كل شأن، فإننا نجدهم قد عُنوا أشد العناية بتعلم أحكام شهر رمضان، وهو ظاهر في القضايا التي كثر الكلام فيها كليلة القدر وما ظهر من حرصهم على معرفة فضلها ووقتها، ومن هنا فإن من أهم ما ينبغي للمسلم تعلم أحكام رمضان وتدارسها قبل دخول الشهر، سواء بحضور الدروس أو قراءة الكتب أو الاطلاع على المحتوى الصوتي والمرئي على الإنترنت والمنصات الالكترونية.
- عُرف عن السلف الإكثار من الصيام والقيام وإطعام الطعام والعبادات في شعبان تهيئة لرمضان، وكيف لا يفعلون ذلك وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث تقول عائشة: “وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان”([9]).
ثانيا: الاجتهاد في العبادات والطاعات الواردة كما كان حال السلف:
ومن أبرز ذلك:
- الإكثار من ختم القرآن أو الإكثار من قراءته والاستماع إليه، وللسلف في ذلك قصص وأحوال، فقد كان السلف يكثرون من قراءة القرآن في رمضان، وكيف لا يُكثرون منه وهو الشهر الذي أنزل فيه؟! وكيف لا يُكثرون منه وجبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من لياليه([10])؟! ومن ذلك ما كان عليه الزهري رحمه الله حيث إنه كان إذا دخل رمضان يترك ما كان يداوم عليه من أعمال الخير طوال العام ويتفرغ للقرآن، ويقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وعُرف عن الإمام مالك والثوري رحمهما الله أنه إذا دخل رمضان تَرَكَا جميع العبادة وأَقبَلَا على قراءة القرآن([11])، ونجد من السلف من كان يختم في كل يوم كعثمان بن عفَّان رضي الله عنه، وسعيد بن جبير والإمام الشافعي رحمهما الله وغيرهم، ناهيك عمَّن كان يختم في كل يومين أو ثلاث أو كل أسبوع([12]).
ولم تكن قراءة القرآن لدى السلف مقتصرة على النهار كما يظن البعض، بل للَّيل حظُّه ونصيبه، فقد كانت مدارسةُ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل([13])، ومن صنيع جبريل ومن قول الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] أخذَ العلماء استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلًا؛ إذ الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر([14]).
- الاجتهاد في صيام رمضان وقيامه، وهو أعظم الأعمال في شهر رمضان والذي من أجله كان السلف يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى أن يبلغهم هذا الشهر.
- وكانوا أحرص ما يكونون على أن يكون صيامهم اعتقادًا منهم أنه “حقّ معتقدين فضيلته، وأنه إنما يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص”([15])، كما أرشد إلى ذلك الإمام النووي (676هـ) رحمه الله، وهو يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه»([16])، فالصوم هي الفريضة الأولى التي كتبها على أهل الإسلام في رمضان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؛ وفيه “بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع”([17]) وهو التقوى، وكيف لا يتنافس السلف في هذه العبادة العظيمة والله سبحانه جعل جزاء الصوم بين العبد وربه؛ كما جاء في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»([18])، وقد كان السلف يضعون نَصبَ أعينهم هذه الحكمة، ولذا نجد منهم من يحرص على بلوغه وعلى شرحه وبيانه؛ فهذا أبيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه يجلي لنا التقوى في صورة واقعية محسوسة حيث يبيّن أنها التوقِّي من كل ما يخدش سلامة الإيمان والتوحيد، وضرب لذلك مثلًا فقال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قيل: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى([19]).
- وأما قيام رمضان فقد كان قدوة السلف فيه هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يطيل القيام في الليل، وقد صلَّى معه حذيفة رضي الله عنه ليلة فوصف حاله، فقال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبًا من قيامه([20]).
ثم إن من بعده من السلف كالصحابة كانوا أحرص ما يكونون على قيام الليل والإطالة فيه، ففي إحدى ليالي رمضان قام بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى شطر الليل، فقال الصحابة: يا رسول الله، لو نفَّلْتنا قيامَ هذه الليلة، فقال: «إن الرجُلَ إذا صَلَّى مع الإمام حتى يَنصِرِفَ حُسِبَ له قيامُ ليلة»([21]).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع مع الصحابة على قيام رمضان دومًا خوفًا من أن يُفرض على الناس، وإنما أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقومَا للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كانوا يعتمدون على العُصيّ من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في فُرُوع الفجر([22]).
ومن إطالة السلف للقيام أنهم كانوا لا يكادون ينصرفون حتى يستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر([23])، بل إن أحدهم كان يقوم بسورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة فيتكلم الناس أنه قد خفّف عنهم([24])، وكان كثير منهم يصلي مع الناس العشاء، ثم يرجع إلى بيته فيصلي فيه القيام، ثم يخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يغادره حتى يصلي فيه الصبح([25]).
وليس معنى إطالة القيام في رمضان والاجتهاد فيه التفريط في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها جماعة، بل كثيرًا ما تسمع عن السلف وتقرأ في تراجمهم أنه “كان مواظبا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم”([26])، فإن كان هذا في أيام العام فلا شك أنهم أشد حرصًا في رمضان، ولا يليق بالمسلم الحصيف أن يجتهد في أداء النوافل ثم يقصِّر في الفروض، فأفضل الأعمال بعد الشهادتين الصلاة أول وقتها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم([27])، وإليه أشار المولى سبحانه بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقد ورد الوعيد الشديد على من ينام عن الصلاة المكتوبة ويؤخرها عن وقتها([28]).
- الجود والصدقة والإحسان في رمضان، ولقد كان السلف يحرصون على أن يكونوا أجود ما يكونون في رمضان؛ سواء بإخراج الصدقات والزكاة أو بإطعام الطعام وإفطار الصائمين، فقد كان كثير من السلف لا يُفطر إلا مع اليتامى والمحتاجين([29])، ومِن السلف مَن عُرف عنه أنه لا يُفطِر على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه([30])، وأما ذَوُو السعة والخير من السلف فمن تأمل سيرهم وجد منهم من يطعم ويجود على الناس بأعظم أنواع الجود في رمضان سواء في الصدقات الخفية أو الزكوات أو إطعام الطعام أو غيرها من المفطرات، فيفطِّر المئات والألوف من الناس؛ كحماد بن أبي سليمان الذي ورد أنه كان يفطِّر في شهر رمضان خمسمائة إنسان([31])، وهكذا نجد أن إطعام الطعام له مكانة عظيمة لدى السَّلف في رمضان، ولذا كانوا يقولون: “إذا دخل رمضان إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام”([32])، وكيف لا يكون للإطعام مكانته وهو من الصدقة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم أجوَد ما يكون بها في رمضان([33])؟!
- الإكثار من الدعاء والتضرع والخضوع لله سبحانه وتعالى، وللسلف مع الدعاء والتضرع إلى الله صولات وجولات، فقد كان السلف يكثرون من الدعاء إذ هو مخ العبادة وأساسها، وكل العبادات مردها إلى الدعاء والالتجاء إلى الله والتضرع إليه، وفي ذلك يقول مطرف بن عبد الله بن الشخّير رحمه الله: “نظرت في بدء الأمر ممن هو، فإذا هو من الله، ونظرت على من تمامه، فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه، فإذا ملاكه الدعاء”([34])، ويقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: “ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار”([35])، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى حَثَّ عباده على الدعاء بعد أن ذكر فرض الصيام في سورة البقرة بألطف ما يكون من الحثّ فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فإن الملك الكريم سبحانه «يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين»([36])، وكيف لا يدعونه ويلتجئون إليه ويتضرعون وهو من ناداهم بقوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؟!
والأوقات التي يستحب الدعاء فيها كثيرة في هذا الشهر، فقبل الفطر وفي السحر وبين الأذان والإقامة وحال السجود وغيرها من الأوقات التي يتحين المسلم الدعاء فيها.
- الاجتهاد في الالتزام بالسنن الواردة في هذا الشهر كتأخير السحور كما ورد ذلك عن أنس بن مالك أن زيد بن ثابتٍ حدَّثه: أنهم تسحروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قاموا إلى الصلاة، قال: قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين، يعني آية([37]). وهذا يبين لنا ما كان عليه سلف الأمة من الحرص على تعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ما كانوا عليه من التسابق إلى امتثاله والاهتداء به تطبيقًا عمليًّا؛ كيف لا وقد قال عليه الصلاة والسلام: «تسحَّروا فإن في السحور بركة»([38])، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحضُّ أصحابه عليه ويقول لهم: «هلمُّوا إلى الغداء المبارك»([39])، وفي يوم من الأيام دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحَّر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إنها بركةٌ أعطاكم الله إياها، فلا تدَعوه»([40])، وقد كان السلف يمتثلونه خاصة وأن فيه مخالفة لأهل الكتاب كما في الحديث: «فَصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر»([41])، قال النووي رحمه الله: “الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور؛ فإنهم لا يتسحرون ونحن يستحب لنا السحور”([42]).
ومثله تعجيل الفطر، وكان السلف من أحرص ما يكونون على ذلك، خاصة وأن فيه مخالفة لمن تنطع من الأمم السابقة، وقد كان السلف يفطرون على الرطب والتمر والماء كما ورد ذلك عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام([43])، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعجيل الفطر فقال: «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم منهم»([44])، وشهد بالخيرية لمن عجَّل بالفطر فقال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر»([45])، إلى غير ذلك من النوافل والسنن الواردة كالإكثار من الاستغفار في الأسحار والدعاء، والحرص على سنة الفجر والسنن الرواتب، وجلسة الإشراق، وما أحسن أن يمكث المرء في مصلَّاه بين الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والإنابة والدعاء، وعبادة الله في السحر ودعاؤه له فضل عظيم خاصة وقت النزول الإلهي، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المستغفرين في الأسحار بقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18].
ختاما:
نكون قد وقفنا في نهاية هذا التطواف العجل على عبادات السلف في رمضان وما كانوا عليه من المسارعة إلى الخيرات والتسابق في الطاعات والتنافس على ما فيه من الأجور والدرجات.
وفي هذا تذكير للمؤمن ليُشمِّر عن ساعد الجد في هذا الشهر الفضيل ويهتدي بهدي النبي والسلف الصالح فيه من الاجتهاد في الصيام والقيام والدعاء والتضرع والخشوع والخشية وغيرها من ألوان العبادات.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، وتقبلها منا إنك أنت السميع العليم.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 99).
([3]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148).
([4]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148).
([5]) رواه البخاري (1898)، ومسلم (1079)
([6]) أخرجه مسلم (2551) مختصرًا، والترمذي (3545).
([7]) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131).
([9]) رواه البخاري (1969)، ومسلم (1156).
([11]) ينظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 111)، لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).
([12]) ينظر: التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 61)، ثم علَّق الإمام النووي قائلًا: “والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص؛ فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولًا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة”.
([13]) ينظر: صحيح البخاري (3220).
([14]) ينظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص: 169).
([15]) شرح النووي على مسلم (6/ 39) بتصرف يسير.
([17]) التحرير والتنوير (2/ 158).
([18]) أخرجه البخاري (5927)، ومسلم (1151).
([19]) ينظر: تفسير القرطبي (1/ 162).
([21]) أخرجه أبو داود (1375)، وصححه الألباني.
([22]) السنن الكبرى للبيهقي (2/ 698) برقم (4287)، وصحح إسناده الألباني في صلاة التراويح.
([23]) موطأ مالك (382)، وصححه الألباني في هداية الرواة.
([24]) السنن الكبرى للبيهقي (2/ 701) برقم (4296).
([25]) السنن الكبرى للبيهقي (2/ 696) برقم (4280)، وانظر: مختصر قيام الليل، وقيام رمضان وكتاب الوتر، لأحمد بن علي المقريزي (ص: 230).
([26]) سير أعلام النبلاء (20/ 562).
([27]) رواه البخاري (7534)، ومسلم (85).
([29]) ينظر: لطائف المعارف (ص 178).
([30]) ينظر: الكرم والجود للبرجلاني (ص: 53).
([31]) سير أعلام النبلاء (5/ 530).
([32]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 111)، لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).
([34]) الإبانة الكبرى لابن بطة (4/ 195).
([35]) أمراض القلوب وشفاؤها، لابن تيمية (ص: 12).
([36]) رواه أبو داود (1488)، والترمذي (1488)، والحاكم (1830) وصححه.
([39]) رواه أبو داود (2344) والنسائي (2163)، وصححه الألباني.
([40]) رواه النسائي (2162)، وصححه الألباني.
([42]) شرح صحيح مسلم (7/ 207).
([43]) رواه أبو داود (2356)، الترمذي (703)، وحسنه الألباني في الإرواء (922).