
رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك
المقدمة:
من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو أيضا يتّسم بالتكامل والتضافر بينها دون أي تناقض أو تضارب؛ سواء بين العقائد نفسها والشرائع نفسها، أو بين العقائد والشرائع أو بين العقائد والأخلاق.
فلا نجد في الدين الإسلامي عقيدة تناقض أختها؛ فليس فيه القول بالتثليث بعد تقرير الوحدانية والتوحيد لله سبحانه وتعالى؛ مما يجعل الإنسان في حيرة من أمره ولا يدري أيعتقد هذا أم هذا أم الاثنين معًا غاضًّا الطرف عما في ذلك من تناقض؛ هذا فيما بين العقائد نفسها.
وكذلك نجد التكامل بين العقائد والشرائع، بل وبينهما وبين الأخلاق؛ فمن أهم جوانب قوة الدين الإسلامي وحيويته ورصانته الترابط والتلازم الواقع بين أصوله والشمول والكمال الذي تتمتع به أسسه؛ فالشرائع كالصوم والصلاة مثلا تعزز الأخلاق الحسنة، وتبعد الإنسان عن الرذائل وخسيس الأخلاق.
ولما زعم من زعم أن الصوم مفسدٌ للأخلاق باعث على التخلّق بالسيئ منها بادر مركز سلف للبحوث والدراسات ببيان ما في الصوم من أثر صالح على أخلاق المسلم وتربيته وترويضه على النافع منها دون الضارّ، والحسن دون القبيح. فكانت هذه الورقة العلمية.
تمهيد:
المؤمن الحق لا بد له من تمام الانقياد والتسليم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فحاله كما أخبر الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]؛ فهو يسلّم لله حياتَه كلَّها؛ فيأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، ويجعل حياته دائرة حول مرضاة الله سبحانه؛ فهذا ديدن المسلم ومنهاجه، ولا يكاد يُتصوَّر مسلم يدَّعي الإيمان ثم هو خِلوٌ من الانقياد لأمر ربه، بعيد عن طاعته واتباع تشريعاته، بل حاله كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]؛ فهذا نبراس المسلم في حياته الدنيا؛ فخطواته يسير فيها وفق ما أمره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها، ويتوقف عن أي خطوة نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، وأيضا قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35].
وأما اللهث وراء كل ناعق والاستماع والإصغاء لكل مشكّك ومعترض على شعيرة الصيام ودعوى أنه مدعاة للكسل والخمول أحيانا، وأنه مفسد للأخلاق في أحيان أخرى وغير ذلك، فليس هذا من شأن من آمن بالله ربا وعرف رسوله صدقًا وعدلًا.
وعلى الرغم من هذه المزاعم، وعلى الرغم من أن الأصل في الإسلام الانقياد والتسليم للأمر الإلهي، إلا أن من “أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة أن أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره… كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تَمَّت النعمة عليهم، ولهذا قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]”([1]).
فمن أهم جوانب كمال الدين الإسلامي وقوته وحيويته ورصانته الترابط والتلازم الواقع بين أصوله والشمول والكمال الذي تتمتع به أسسه؛ فهو دين كامل متكامل؛ حتى إن الصحابة فرحوا فرحًا شديدا بهذا الكمال والتمام؛ وبأن أنزل الله إليهم الكتاب والسنة وجعل دينهم كافيا كل الكفاية متكاملا غاية التكامل([2])، حتى إن عمر رضي الله عنه بكى؛ لأنه أدرك أن ليس بعد الكمال إلا النقصان([3])؛ بله نجد اليهود تمنّوا أن لو أُعطوا ما أعطاه الله للمسلمين من الكمال والتكامل كما في المتفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه([4]).
ومهما يكن من أمر فإن الله سبحانه وتعالى شرع شرائع متلازمة ومترابطة بالعقائد والأخلاق؛ والدين قائم على هذه الأسس الثلاثة؛ ولله في كل أمر حكمة، وفي كل فعل حكمة وغاية، فالصوم مثلا لم يشرعه الله تعالى فقط لامتحان صبر الإنسان على الجوع والعطش، بل الصيام شُرع لغايات حميدة جليلة، وجعله الله باعثا للأخلاق العالية مهذبًا للنفوس، مُحيِيًا التقوى في القلوب، ومزكيًا للإنسان، ومهيئًا لإقبالها وانكسارها بين يدي الله سبحانه، وبهذا صرَّح المولى سبحانه وتعالى حيث قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فالتقوى غاية الغايات ومقصد المقاصد بالنسبة للصيام([5])، “فالصوم وخلوة الإنسان وانصرافه عن الشواغل والصوارف من أهم ما يعين الإنسان على تحقيق هذه العبادة الجليلة”([6])، فالتقوى أساس الدين وحياته، وهو الأساس الذي ينطلق منه المسلم في التخلّق بالأخلاق الحسنة؛ ولذا جعله الله أمرا “عاما لجميع الأمم”([7]).
فلئن كان مؤدى الصوم تقوى الله سبحانه وتعالى ومخافته في السر والعلن فهو من أهم البواعث على التخلق بجميل الأخلاق والاتصاف بالحسن من الأعمال، “فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية، وفي الحديث الصحيح: «الصوم جنة»([8])“([9])، وعلى هذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام أن غايته التقوى، وهي التي تهذّب اللسان وتؤدبه، ويكون صومه سببا في حمله على سعة الصدر وكريم الخُلُق، كما في الحديث: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»([10]).
ومن أهم الأخلاق الحسنة التي يهذبها ويروّض المؤمن عليها ما يأتي:
أولا: المراقبة الذاتية والخوف من الله سبحانه وتعالى:
فحريٌّ بالمؤمن بالله سبحانه أن يحيي عبادة الخوف من الله تعالى، وهي من أجلّ العبادات القلبية في نفسه، فيخضع لربه، ويخاف من عذابه وبطشه إن هو عصاه ولم يتبع أمره، ويؤوب إليه، ويلجأ إليه بالتوبة والاستغفار والذكر والطاعة، قال ابن قدامة: “اعلم أن الخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى. والخوف له إفراط، وله اعتدال، وله قصور. والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فإن الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة، ولا التقاصر عن الخوف أيضا محمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية، أو سبب هائل، فيورث البكاء”([11]).
وما أحوجنا في هذا الشهر إلى ما قال الشاعر:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل النوم في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع
وخرسٌ بالنهار لطول صمت عليهم من سكينتهم خشوع
ثانيا: الصبر:
وهو من أهم الأخلاق التي يربي عليها الصوم؛ فالصبر لوحده درس كبيرة من دروس الصيام، وعليه مدار هذه العبادة الجليلة، والصبر في الأصل من أهم الأخلاق التي حثَّ عليها الإسلام ورغب فيها؛ ولذا نجد ربنا ذكر الصبر قريبًا من تسعين مرة في كتابه الكريم، ورتَّب عليه الأجور والحسنات العظيمة، ورتب عليه ألوان الفضائل وأجزل الثواب وأحسنه، فوصف الصابرين بأوصاف وخصّهم بخصائص لم تكن لغيرهم، فأخبر أنه معهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وجعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]، وجعل أجر الصابرين بغير حساب، فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
إذن الصيام مدرسة كبيرة من مدارس الصبر بالنسبة للمسلم؛ إذ الصيام يربِّي الإنسان ويُروّضه على أنواع الصبر كله:
- ففيه صبرٌ على أنواع الملذات والرغبات والمتع التي أباح الله له التمتع بها في غير شهر الصيام؛ فيتربى بذلك على الصبر.
- وفيه كذلك صبر على طاعة الله سبحانه وتعالى لما في رمضان من الطاعات الكثيرة المتكاثرة مع الصيام من القيام والصدقات والعمرة ومواسم الدعاء وغيرها من أنواع القربات.
- وفيه أيضا صبر عن أنواع المعاصي والمحرمات التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، فإن كان على المسلم الصبر عنها في غير وقت الصيام فهو في وقت الصيام آكد.
- وفيه أيضا الصبر على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب أثناء صومه.
ثالثا: الشكر:
والمقصود به: أن يظهر على الإنسان أثر نعمة الله عليه؛ فيشكره بقلبه إيمانًا، وبلسانه ذكرًا وحمدًا وثناءً، وبجوارحه عبادة وطاعة، وقد تكرر الأمر به مرات ومرات في النصوص كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقال تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66].
والشكر من أهم الأخلاق الحسنة في مدرسة الصيام، فهو من أهم الأخلاق التي يُروض عليها المسلم نفسه حين يصوم؛ ذلك أن العبد حين يصوم ويُمسك عن المتع والملذات التي أُمر في رمضان بالانتهاء عنها يُدرك ما أنعم الله به عليه طيلة العام؛ من التمتع بالمطعومات والمشروبات والمناكح، وحينئذ يبادر بشكر الله وحمده سبحانه عليها.
أضف إلى ذلك أن من بلَّغه الله الشهر صحيحا معافى يحمد الله تعالى أن بلَّغه الشهر الفضيل في صحة وعافية، يستطيع أن يؤدِّي فيها عباداته وطاعته، ويبلغ الدرجات والمنازل الرفيعة التي خصَّ الله بها شهر رمضان المبارك، قال ابن القيم: “لله سبحانه على عبده أمر أمره به، وقضاء يقضيه عليه، ونعمة يُنعم بها عليه؛ فلا ينفك من هذه الثلاثة… وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها، فأحبُّ الخلق إليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقَّها، فهذا أقرب الخلق إليه… وعبوديته في قضاء المصائب الصبر عليها، ثم الرضا بها وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضا، وهذا إنما يأتي منه إذا تمكن حبّه من قلبه وعلم حسن اختياره له وبره به ولطفه به”([12]).
رابعًا: الأمانة:
وهذا من أهم الأخلاق وأعظمها في الدين الإسلامي، وقد جاء الحثّ عليها كثيرا والتحذير من ضدها وهو الخيانة، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيانة من صفات المنافقين، وأن الأمانة من أعز الأخلاق وأندرها، وورد عن أبي هريرة أنه قال: (أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة، فسلوها الله)([13])؛ ومن هنا كانت الأمانة في المقام الأعلى بين الأخلاق الإسلامية، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة)([14]).
والمقصود بالأمانة في الإسلام حفظ جميع أوامر الشرع ونواهيه؛ فالمسلم يحفظ جميع ما ائتمنه الله عليه، بدءا بنفسه وحتى جوارحه؛ وكل ما استودعه الله وأمره بحفظه، سواء حفظ الإنسان نفسه وقلبه واللسان والجوارح من كل ما لا يرضي الله، أو حفظ ما ائتمن عليه من حقوق الناس، وهذا هو المعنى الذي رجحه أهل التفسير في قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]([15]). قال الإمام الطبري: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عنى بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين، وأمانات الناس، وذلك أن الله لم يَخُصّ بقوله: {عَرَضْنَا الأمَانَةَ} بعض معاني الأمانات لما وصفنا”([16]).
وأما الصيام فإنه عبادة خاصّة بين المرء وربه، ولا يتعلق أمره وحاله بأحد من الناس، بل هو أمر بين الإنسان وربه، فمع أن الإنسان بيده أن يختلي ويأكل ويشرب ما لذّ وطاب، إلا أنه يترك ذلك لوجه الله سبحانه وتعالى، ويراقب ربه في كل أحواله سرّا وعلنًا، وهذا يورث فيه مراقبة الله سبحانه، والأمانة في كل عمل يعمله، سواء علم به الناس أم لا، ولذا رتب المولى عليه الأجر الجزيل والثواب العظيم، فمن تمام الأمانة في المسلم أن ينقاد لما أمره الله، ولا يعترض ولا يقحم عقله فيما ليس من مجاله، ولا يقول: لماذا أصوم ويأتيني الكسل ويفسد الأخلاق؟! بل يردُّ على الملبِّسين والمشكِّكين والطاعنين بامتثاله لأمر ربه واتباعه وتسليمه لمولاه؛ وهذا السر في كون جزاء الصوم بين العبد وربه؛ إذ هي فريضة تمثّل الأمانة وتجلّيها في أجمل صورة؛ قال الله عز وجل في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»([17]).
خامسًا: التربية على تمام الانقياد لله سبحانه:
فالمسلم في غالب عامه يتمتع بأنواع المتع والمأكولات والمشروبات والمناكح وغيرها من المتع الكثيرة، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أحل له ذلك؛ فمحياه ومماته وحركاته وسكناته تبع لأمر الله سبحانه ، وحين ينهاه المولى عن تلك المتع والشهوات التي كان يتمتع بها ينتهي بمجرد أمره دون أن يتساءل ويبحث: كيف؟ ولم؟ وإنما هو التسليم لأمر الله سبحانه وشرعه، ولا غرابة أن يتساءل من لم يفهم هذه الشعيرة العظيمة ممن لم يمنَّ الله عليه بالهداية عن سبب الامتناع عن المتع التي كانت من قبل حلالا زلالا يتمتع بها المسلم، ولكنه التسليم المطلق لأمر الله سبحانه وخالقه ورازقه الذي أنعم عليه بنعمةِ وُجوده ونعمةِ تربيته ونعمة تيسير الأكل والشرب والمتع له، فيا له من ربٍّ عظيم كريم!
سادسًا: تنقية القلب من الران والانغماس في المتع والماديات:
من المعلوم أن الإغراق في الماديات والشهوات والملذات والمتع من أكبر سبل الشيطان لإغواء بني آدم، وفي الصيام إضعاف للشهوات وتضييق لسبلها، فبالصيام يصفو قلبه وتسمو نفسه وتسكن شهوته وتتحرك في قلبه مشاعر التعظيم والإجلال لله سبحانه وتعالى، قال ابن تيمية رحمه الله: “ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم»([18])، ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين… ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»([19])، فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل: إنهم قتلوا ولا ماتوا، بل قال: «صفدت» والمصفد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعا لا يدفعه دفع الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل”([20]). ولما في الصيام من كبح لجماح الشهوة البشرية أمر النبي صلى الله عليه وسلم العاجز عن النكاح أن يستعين به على نفسه وشهوته.
سابعا: رقة القلب وأوبته إلى الله سبحانه:
فإن الإنسان كلما ابتعد عن شهوات الدنيا وملذاتها خشع قلبه إلى الله تعالى، وهو ما يستنبطه المتأمل في تعقيب الله عز وجل لفريضة الصيام بكثرة اللجأ إلى الله سبحانه والخضوع له، فبعد أن ذكر فرض الصيام في سورة البقرة أرشد المسلمين إلى الدعاء والالتجاء إليه سبحانه بألطف ما يكون من الحث، فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وبمثل هذا المعنى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه «يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين»([21]).
ثامنا: حفظ اللسان:
من أهم الأخلاق التي يربي عليها الصيام حفظ اللسان من السباب والفسوق والفحش فضلا عن الكفر والشركيات، وهو ما نجده في كثير من المجتمعات الإسلامية واقعا مجسدا، وحفظ اللسان لا شك أنه من أهم الواجبات والآداب والأخلاق الإسلامية الرفيعة كما وصى بذلك نبي الإسلام معاذًا رضي الله عنه، وبين له أنه ملاك أمر الدين كله؛ فيجب على المسلم أن يحفظ لسانه، ويبتعد عن الفحش والبذاءة والصخب والسباب والشتائم، وقبائح الألفاظ، والخوض في أعراض المسلمين، والغيبة والنميمة، ونحوِ ذلك.
وأما عند صيام المؤمن فقد أكد النبي عليه الصلاة والسلام أنه مهذّب للسان مؤدب له، وأنه من أهم الجوارح التي يروّضها على الخير والحق، ويهذّب أقواله حتى لا ينطق إلا بما هو خير، فلا يصخب ولا يصرخ، بل يعامل الناس بالحلم والأناة، ويُعرض عن الجاهلين، ويكون صومه سببا في حمله على سعة الصدر وكريم الخُلُق، وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»([22]). وهذا توضيح وتجلية للغاية والمقصد الأعظم من الصوم ومشروعية هذه العبادة الجليلة، فإن الله تعالى لم يشرع الصيام لأجل امتحان الصبر عن الجوع والعطش وحسب، بل شُرع الصيام لحكمةٍ عظيمة وغاية نبيلة كما بينها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وهو التقوى الباعث على حفظ اللسان خصوصا والجوارح عموما عما حرم الله.
تاسعًا: الإحسان إلى الفقراء والمساكين:
فمن طبيعة الإنسان أنه لا يشعر بقيمة النعمة إلا إذا فقدها، فلا يعرف قيمة ما فيه من صحة وعافية إلا إذا مرض وعاش معاناة المرض، ولا يشعر بقيمة الغنى والكفاف إلا إذا افتقر وفقد ما كان يملكه من النعم والخيرات، وفي فريضة الصيام يحس المسلم الغني المتعافي ما يعيشه غيره من المسلمين الفقراء والمرضى من ألم الجوع والعطش والفقر، فمن إخوته المسلمين من لا يجد ما يسد به جوعه طول عامه، ومنهم من لا يستطيع التلذذ بالطيبات وأنواع الأطعمة طوال عامه لما به من مرض وبأس، فإذا صام الغني المتعافي أحس وشعر بمعاناة إخوانه المسلمين، ولان قلبه وأشفق على حالهم، وجاد عليهم ممن جاد الله به عليه.
وفي ذات الوقت يستطيع أن يخصص شيئًا من ماله للصدقة ويجود به على الفقراء والمساكين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجوَد ما يكون في رمضان([23])، وقد كان السلف يحرصون على هذه العبادة الجليلة في رمضان، وكان كثير منهم لا يُفطر إلا مع اليتامى والمحتاجين([24])، ومنهم من عُرف عنه أنه لا يفطر على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه([25])، وكان ذوو السعة والخير منهم من يطعم ويجود على الناس في رمضان خاصة، فيفطِّر المئات والألوف من الناس؛ كحماد بن أبي سليمان الذي ورد أنه كان يفطِّر في شهر رمضان خمسمائة إنسان([26])، ومن أقوالهم المعروفة: “إذا دخل رمضان إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام”([27]).
ختاما:
لم يكن الصوم مفسدًا للأخلاق، ولا باعثا على التخلّق بالسيئ منها، بل الصوم له أثر عظيم على صلاح أخلاق المسلم وتربيته وترويضه على النافع منها دون الضار، والحسن دون القبيح، بل الصيام شُرع لغايات حميدة جليلة، وجعله الله باعثا للأخلاق العالية، مهذبًا للنفوس، مُحيِيًا التقوى في القلوب، ومزكيًا للإنسان، ومهيئًا لإقباله وانكساره بين يدي الله سبحانه، سواء بالصبر أو الشكر أو المراقبة أو الخوف من الله والإحساس بالضعفاء والإحسان إلى الفقراء؛ فالصوم لا تقتصر منافعه على مجرد الجوع والعطش، بل فيه حِكم عظيمة جدًّا، ولله الحمد.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) تفسير ابن كثير (3/ 26) بتصرف.
([2]) ينظر: تفسير السعدي (ص: 220).
([3]) ينظر: جامع البيان (6/ 52).
([4]) أخرجه البخاري (45) ومسلم (3017).
([5]) التحرير والتنوير (2/ 158).
([6]) تفسير ابن كثير (1/ 497).
([9]) الزهد والورع والعبادة لابن تيمية (ص: 85).
([11]) مختصر منهاج القاصدين (ص: 303).
([13]) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (ص: ١٧٨).
([14]) أخرجه البيهقي في الكبرى (١٣٠٠٩).
([15]) ينظر: الفوائد لابن القيم (ص: 112).
([16]) جامع البيان (19/ 204-205)، وينظر: تفسير ابن كثير (6/ 489)، وتفسير القرطبي (17/ 244).
([17]) أخرجه البخاري (5927)، ومسلم (1151).
([18]) أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2174).
([19]) أخرجه البخاري (1898)، ومسلم (1079).
([20]) مجموع الفتاوى (25/ 246)، وينظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص: 155).
([21]) أخرجه أبو داود (1488)، والترمذي (1488)، والحاكم (1830) وصححه.
([24]) ينظر: لطائف المعارف (ص 178).
([25]) ينظر: الكرم والجود للبرجلاني (ص: 53).
([26]) ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 530).
([27]) ينظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 111)، لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).