
التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1].
والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا موافق لقول من قال: الميزان هو الذي توزن به الأشياء في الدنيا، كما هو قول ابن زيد وغيره[4].
وهذا مثل قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَ﴾ [الشورى: 17] وهذا يدل على أن القياس الصحيح، فهو مما أنزله الله تعالى، ومما جاءت به الرسل، فالقياس والكتاب لا يتعارضان على التحقيق؛ فإن دلائل الحق لا تتعارض.
وهذا القياس الصحيح من أعظم أسباب بقاء الشريعة الإسلامية، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، واستيعابها لجميع الحوادث المتجددة، فإن الشريعة تتضمن المقاييس والموازين التي نتمكن بها من معرفة الحق والباطل، ونفرق بها بين المصالح والمفاسد، ونوازن بها بين المصالح المتزاحمة، فنفوّت أدناها لتحصيل أعلاها، وبين المفاسد المتدافعة، فنتحمل أدناها لدفع أعلاها.
وعلى هذه الأسس وغيرها من القواعد تقوم السياسة الشرعية التي تقوم على الكتاب والميزان، ولا تُعَارضُ الشريعة بالمصالح، “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل”[5].
قال ابن القيم رحمه الله: “ومن له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح؛ تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن مَن أحاط علمًا بمقاصدها ووضعها مواضعها وحَسُنَ فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة”[6].
وقد كان هذا التقصير في إدراك سعة الشريعة من أسباب ظهور السياسات الباطلة التي يراد بها سد القصور الذي لا يفي به المنتسبون للعلم والفقه، بعد غلبة الجمود والتقليد على أكثر المتأخرين، فظهرت الشريعة كأنها قاصرة عن مسايرة الواقع الذي يتطور ويتغير تغيرًا كبيرًا.
وقد كان هذا مدخلا لتغيير الشرائع، واستبدال الشرائع الوضعية المستوردة من بلاد الغرب بالشرائع الإلهية الإسلامية في أكثر بلدان العالم الإسلامي، وهو ما كان له أسوأ الأثر على المسلمين، فإن الله تعالى بين في كتابه أن الحكم بغير ما أنزل من أصول الكفر والظلم والفسق والنفاق، والآيات في ذلك مشهورة.
ولذا نهض كثير من المسلمين من العلماء وطلبة العلم والمصلحين، وطالبوا بضرورة الالتزام بشرع الله تعالى وإقامة حكمه.
ومن هنا برزت أهمية قضية (التدرج في تطبيق الشريعة)؛ فإن إهمال هذا الأصل وإغفاله أدى لمفاسد كثيرة، وقعت فيها كثير من التيارات الإسلامية، كان من أخطرها إطلاق أحكام التكفير على كثير من حكومات العالم الإسلامي دون تفريق بين النوع والعين، ودون النظر في استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، ودون النظر في القدرة والعجز والموازنة بين المصالح والمفاسد.
وكان لغياب هذه القواعد في الممارسة الدعوية، وفي أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله أثر سلبي جدًّا على أبناء هذه الحركات نفسها، وعلى مجتمعاتهم وأمتهم.
وفي المقابل، فقد اتخذ كثير من المتحللين من الشريعة من دعوى التدرج في الشريعة تُكَأة لعدم الالتزام بشيء من حكم الشرع، ولا تهيئة الأجواء إذا كانت بالفعل غير مهيَّأة، ولا الأخذ بالأسباب اللازمة لتقريب الناس من الشريعة، ليقوم الناس بالقسط والعدل وللعمل بالكتاب والميزان.
فكانت هذه الورقة التي يصدرها مركز سلف للبحوث والدراسات لبيان معنى التدرج، وأقسامه، وضوابطه، مع ذكر الأدلة والتطبيقات على هذا الأصل المهم.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولا: معنى التدرج لغة واصطلاحا:
التدرج لغة: مشتق من الدَرَج، وهو مَراتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، والدَّرَجَةُ: الرِّفْعَةُ فِي الْمَنْزِلَةِ. والدَّرَجَةُ: المِرْقاةُ[7].
والتدرج اصطلاحا هو: تجزئة العمل المادي أو المعنوي إلى أجزاء متعددة، بحسب نسبة المسافة بين البدء والغاية، وبحسب قدرة العامل على عمله، بحيث يكون إنجاز كل مهمة موطِّئا وممهدًا للمرحلة التي بعدها، حتى الوصول للغاية المطلوبة[8].
فالتدرج يقصد به الانتقال من الأدنى للأعلى ولكن درجة درجة، وليس قفزة واحدة، فإن كثيرًا من الناس لا يتحمّل هذه القفزات، وأكثرهم يحتاجون إلى ترقيتهم خطوة خطوة.
ثانيا: أنواع التدرج:
النوع الأول: التدرج في التشريع:
ويُقصد به: التدرج في سن الشرائع، وإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات.
فإن الله تعالى -وهو الحكيم العليم- تدرّج في ما شرعه لعباده، فأمرهم أولا بالتوحيد وأصول الإيمان حتى رسخت شجرة الإيمان في قلوبهم، فسهل عليهم بعد ذلك التزام التكاليف والشرائع.
تقول عائشة رضي الله عنها: “إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا، لقَدْ نَزَلَ بمَكَّةَ علَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنِّي لَجَارِيَةٌ ألْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ إلَّا وأَنَا عِنْدَهُ”[9].
فالقرآن المكي في أغلبه ترسيخ لأصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بخلاف القرآن المدني، فأكثر الأحكام إنما جاءت في السور المدنية.
وكذلك إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات روعي فيه التدرج:
وقد ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله (ت 669هـ) عدة أمثلة لذلك، منها: “أن الله أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء لأنه لو أوجبها في ابتداء الإسلام لنفروا من ثقلها عليهم.
المثال الثاني: الصيام، لو وجب في ابتداء الإسلام لنفروا من الدخول في الإسلام.
المثال الثالث: تأخير وجوب الزكاة إلى ما بعد الهجرة لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد تنفيرا لغلبة الضنة بالأموال.
المثال الرابع: الجهاد، لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام؛ لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
المثال الخامس: القتال في الشهر الحرام لو أجّل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام.
المثال السادس: القصر على أربع نسوة، لو ثبت في ابتداء الإسلام لنفرت الكفار من الدخول فيه، وكذلك القصر على ثلاث طلقات؛ فتأخرت هذه الواجبات تأليفا على الإسلام الذي هو أفضل من كل واجب، ومصلحته تربو على جميع المصالح”[10].
وقال ابن القيم رحمه الله (ت 751هـ): “ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها تأخر فرضه [أي: الصوم] إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لمَّا توطنت النفوسُ على التوحيد والصلاة، وألِفَتْ أوامرَ القرآن، فَنُقِلَتْ إليه بالتدريج… وفُرِضَ أولًا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطْعِمَ عن كل يوم مسكينًا، ثم نُقِل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم”[11].
ومن ذلك أيضا: التدرج في تحريم الخمر:
فإنه قد تأخر تحريمه إلى بعد الهجرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت 728هــ): “فإن الخمر حُرِّمت سنة ثلاث بعد أحُد باتفاق الناس”[12].
وقال القرطبي رحمه الله (ت 671هـ): “تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها: ﴿يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡم كَبِير وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 219] أي: في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعضُ الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية: ﴿لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ﴾ [النساء: 43] فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡس مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [المائدة: 90] فصارت حرامًا عليهم”[13].
وقد أجمع العلماء على أن الخمر كانت مباحة قبل ذلك، وكان الصحابة يشربونها قبل التحريم، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما صح عن علي رضي الله عنه أنه قال: “صنعَ لنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ طعامًا فدَعانا وسَقانا منَ الخمرِ، فأخذَتِ الخمرُ منَّا وحضَرتِ الصَّلاةُ فقدَّموني فقرأتُ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ونحنُ نعبدُ ما تعبدونَ)، فأنزلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]”[14].
وعن أنس رضي الله عنه قال: “كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ يَومَ حُرِّمَتِ الخَمْرُ في بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، وَما شَرَابُهُمْ إلَّا الفَضِيخُ: البُسْرُ وَالتَّمْرُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، فَقالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، فَخَرَجْتُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إنَّ الخَمْرَ قدْ حُرِّمَتْ، قالَ: فَجَرَتْ في سِكَكِ المَدِينَةِ”[15].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (ت 852هـ): “استُدِلَّ بهذا الحديث على أنّ شرب الخمر كان مباحًا لا إلى نهاية، ثم حرِّمت، وقيل: كان المباح الشربَ لا السكر المزيل للعقل، وحكاه أبو نصر بن القشيري في تفسيره عن القفال ونازعه فيه، وبالغ النووي في شرح مسلم فقال: ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرمًا باطلٌ لا أصل له، وقد قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فإنّ مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور، ونُهُوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها، فدل على أنّ ذلك كان واقعًا… وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع ثم نسخت؟ فيه قولان للعلماء، والراجح الأول”[16].
ورجَّح العلامة الشنقيطي أن إباحتها كانت إباحة شرعية، واستدل عليه بقوله تعالى: ﴿وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرا وَرِزۡقًا حَسَنًا﴾ [النحل: 67] قال: “لأن إباحة الخمر قبل التحريم دلت عليها هذه الآية الكريمة، وما دلت على إباحته آية من كتاب الله لا يصح أن يقال: إن إباحته عقلية، بل هي إباحة شرعية منصوصة في كتاب الله، فرفعها نسخ”[17].
وعلى كلا القولين فتحريم الخمر بعد الإباحة -العقلية أو الشرعية- هو من باب التدريج لهم في قبول الأحكام، خاصة فيما اعتادوا عليه، وصعب عليهم تركه مرة واحدة، فكان من المناسب للحكمة التدرج بهم في التحريم.
ومن ذلك أيضا: التدرج في تحريم الربا:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنَّ آخرَ ما نزَلَت آيةُ الرِّبا”[18]. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا»[19]. يقصدان قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة: 278].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “المراد بالآخرية في الربا تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة، وأمّا حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة، على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران في أثناء قصة أحد: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفا مُّضَٰعَفَة﴾ [آل عمران: 130]”[20].
ومن ذلك أيضا: التدرج في إيجاب الجهاد:
فمن المتفق عليه أن الجهاد -بمعنى القتال في سبيل الله تعالى- لم يفرض مرة واحدة، بل مر بمراحل في تشريعه، وقد ذكر كثير من العلماء ذلك، أو أشاروا إليه في كتبهم، ودأب أغلب المفسرين على ذكره عند تفسيرهم لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190][21]، وقرره الإمام الشافعي رحمه الله كذلك[22]، ذاكرًا مُبْتَدَأ أمره صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى فرض الجهاد، وتابعه على هذا السياق ابن القيم رحمه الله مع شيء من التفاوت والاستطراد[23].
ويتحصل مما ذكروه أن الجهاد مر بأربع مراحل في تشريعه:
المرحلة الأولى: كف الأيدي، والعفو والصفح، والموادعة، ونحوها من الأوامر التي حرَّمت مقاتلة المشركين إِبَّان الفترة المكية، وأوجبت الصبر على إيذائهم. وهي آيات كثيرة أوصلها ابن حزم رحمه الله إلى أربعَ عشرة ومائة آية[24]، على خلاف بين العلماء في كثير من الآيات، هل تدل على المنع من القتال أم لا تتعارض معه؟
المرحلة الثانية: الإذن بالقتال وإباحته بعد أن كان ممنوعًا، ويدل عليها قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. فأباحت الآيةُ القتالَ ولم تفرضه.
المرحلة الثالثة: الأمر بقتال من قاتلهم، والكف عمن لم يقاتلهم، ويدل عليها قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. وهذا على أحد الوجهين في التفسير، والوجه الآخر: أنها محكمة لا نسخ فيها، وأن الاعتداء المنهي عنه هو: التجاوز في القتال؛ كقتل من لا يحل قتلهم من النساء والذراري ونحوهم[25].
المرحلة الرابعة: البدء بقتال المشركين كافة، وبدأت بسورة براءة، قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]. وغيرها من الآيات التي يسميها العلماء آيات السيف والقتال.
قال ابن عطية رحمه الله (ت 542هـ): “آية السيف نسخت جميع الموادعات”[26].
ومن المعلوم أن هذا التدرج في التشريع كان مراعيًا لقوة المسلمين وضعفهم، فلما كانوا في مكة ولم تكن لهم دولة ولا شوكة أُمِروا بالصفح والعفو والكف عن القتال، ثم لما صارت لهم شوكة أُذن لهم في القتال، ثم لما تمت الشوكة نزلت آيات السيف والقتال.
- تنبيهان حول التدرج في التشريع:
التنبيه الأول: أن التدرج في التشريع كان في زمن النبوة وتَتَابُعِ الوحي، أما بعد اكتمال الشريعة فقد نُسِخ التدرج في التشريع، وأغلق باب التشريع، ولم يَجُزْ لأحد أن يترك المحكم ويعمل بالمنسوخ بحجة التدرج.
فلا يجوز لأحد أن يبيح شرب الخمور للمسلمين الجدد في الغرب وأوروبا بحجة التدرج معهم كما حصل في أول الإسلام.
ولا يجوز لأحد أن يسقط وجوب الصلاة، والاكتفاء بصلاة أول النهار وآخرها بحجة التدرج، أو التخيير بين إيجاب الصوم والفدية بحجة التدرج.
فكل هذه الأحكام منسوخة، ولا يجوز العمل بها باتفاق العلماء. وفتح هذا الباب يؤدي للانسلاخ من الشريعة، وتحليل المحرمات والفواحش.
التنبيه الثاني: النسخ في مراحل الجهاد لا يراد به النسخ بالمعنى الاصطلاحي، وهو إزالة العمل بهذه الأحكام بالكلية، وإنما يراد به التقييد والتخصيص وبيان المجمل. وهذا صحيح في الاستعمال، باعتبار أن الحكم الأصلي لم يَبْق على حالته الأولى من العموم أو الإطلاق أو الإجمال.
قال علم الدين السخاوي رحمه الله (ت 643هـ): “قولنا: تخصيص واستثناء اصطلاح وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يسمي ذلك نسخًا”[27].
وقال ابن القيم رحمه الله (ت 751هـ): “مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد”[28].
وقال الشاطبي رحمه الله (ت 790هـ): “الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين؛ فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المجمل والمبهم نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا”[29].
فنسخ آيات العفو والصفح هو من هذا الباب، من باب التقييد بحالة الضعف وعدم القدرة على جهاد الكفار.
وقد نص الزركشي رحمه الله (ت 794هـ) على ذلك، فقال في ذكر ضروب النسخ: “الثالث: ما أُمِر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله، ونحوهما من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نَسَخَه إيجابُ ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء، كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِئْهَا} فالمنْسَأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا التحقيق تبيَّن ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك؛ بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلةٍ تُوجِب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر”[30].
والمتتبع لتقريرات الفقهاء في أبواب المعاهدات والصلح ونحوها لا يختلجه شك في كونهم متفقين في حقيقة الأمر، وأن الخلاف في النسخ من عدمه خلاف لفظي لا حقيقي، وأنه لا تعارض بين الآيات أصلًا حتى نلجأ للحكم بالنسخ، بل يُعْمِلُ الفقهاءُ جميعَ الأدلة شريطة تحقق مناطاتها.
قال ابن قدامة رحمه الله: “وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم، فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه، وهو مذهب الشافعي؛ لأن فيه صغارًا للمسلمين. وهذا محمول على غير حالة الضرورة، فأما إن دعت إليه ضرورة -وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر- فيجوز؛ لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال، فكذا ها هنا، ولأن بذل المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه، وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم”[31].
فانظر كيف تصور الفقهاء دفع المال للكفار، وليس مجرد ترك أخذ الجزية فقط، ولم يحتجّ المانع بدعوى النسخ، أو أنه لا يجوز العمل بهذه الأحكام، بل اتفقوا على جوازه عند الاضطرار.
وقد استدل ابن قدامة على جواز ذلك في حالة الضرورة بعَرْضِ النبي صلى الله عليه وسلم على غطفان ثلث ثمار المدينة، لفض تحالفهم مع مشركي قريش في غزوة الخندق، ولو لم يكن جواز ذلك متصورًا لما عرضه النبي صلى الله عليه وسلم[32]. وفي مغازي الواقدي[33] أنه صلى الله عليه وسلم صالحهم على تمر خيبر سنة.
وبمثل هذا استدل الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: “وإنما تكون الموادعة بين المسلمين وأهل الشرك إذا خاف الإمام غلبة منهم على المسلمين، ولم يأمن على هؤلاء أن يضعفوا، أو يكون يريد بذلك كيدًا، فإذا لم يخف ذلك فلا. وكذلك لو خاف من العدو استعلاءً على المسلمين فاحتاج أن يتقيهم بمال يردهم به عن المسلمين، فعل ذلك، كما صنع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وإنما الإمام ناظر للمسلمين”[34].
وفي هذا النص بيان لحالة الضرورة، وأنها تشمل تحقيق مصلحة المسلمين المعتبرة، ودرء المفسدة عنهم، بحسب نظر الإمام ومن معه، كما يقرره بشكل أوضح الإمام محمد بن الحسن (ت 189هـ)، ففي السِّيَر الصغير: “قلت: أرأيتَ قومًا من أهل الحرب طلبوا إلى المسلمين الموادعة سنين معلومة بغير جزية، أينبغي للمسلمين أن يعطوهم ذلك؟ قال: نعم، ينبغي لإمام المسلمين أن ينظر في ذلك، فإن كانت لهم شوكة لا يستطيعهم وكانت موادعتهم خيرًا للمسلمين وادعهم”[35].
وأوضح منه في الدلالة ما جاء في (شرح السير الكبير) للسرخسي الحنفي (ت 483ه) مستدلًّا على جواز موادعة المشركين إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك حسب قوتهم وضعفهم، قال: “واستدل على جواز الموادعة بمباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمين بعده إلى يومنا هذا. فقد قال محمد بن كعب القُرَظيُّ: “لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وادعته يهودها كلها، وكتب بينه وبينها كتابًا…”[36].
فانظر كيف استدل على جواز الموادعة مع الكفار بمعاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود أول قدومه للمدينة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام مع اليهود دون قتال أو جزية، بل كان بمقتضى الوثيقة والتي خلت من ذكر مدة محددة، وهو ما يعرف بالعهد المطلق. والبعض قد يتصور أن هذا منسوخ بالكلية، فلا يعمل به، وليس كذلك؛ بل يعمل به إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك.
ومن ذلك أيضًا ما بوبه البخاري رحمه الله في صحيحه معنونًا: “الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره”. وذكر الحافظ في شرحه كلامًا قريبًا مما سبق ضَمَّنَه قاعدةً تلخص المقصود، فقال رحمه الله: “الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظُّ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرًا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا”[37].
ونقل القرطبي رحمه الله عن مالك جواز الصلح المطلق الخالي عن المدة، فقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]: “وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية، وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرًا من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم”[38]، ونَقَلَ عن ابن حبيب عن مالك قوله: “تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة”[39].
والغرض المقصود من هذا أن نبين أن هذه المراحل ليست منسوخة بالكلية، بمعنى أنه لا يعمل بها، بل يعمل بها إذا وجد سببها وهو الضعف، ويعمل بآيات القتال لمن كان قادرًا مستطيعًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت 728هـ): “فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعَف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح عمّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”[40].
النوع الثاني: التدرج في التبليغ والتعليم:
ويقصد به مراعاة حال المخاطب، وتعليمه ما يصلحه، والبدء بالأهم فالمهم.
وأدلة هذا كثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79].
قال الإمام البخاري رحمه الله (ت 256هـ): “وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]: حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ، وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ”[41].
وفي حديث معاذ المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»، فقال له معاذ: أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا»[42]. وقال علي رضي الله عنه: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!»[43]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»[44].
ومن أدلة التدرج في البلاغ: حديث معاذ حينما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لليمن: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى اليَمَنِ قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»[45].
مع أن بعث معاذ كان في السنة العاشرة قبل حجة الوداع[46]، أي: بعد شرع الشرائع وفرض الحج وغيره من واجبات الإسلام، ولكنّه أمره أن يبدأ بالتوحيد ثم الصلاة ثم الزكاة وأن يتدرج معهم في التعليم والبلاغ.
ومن ذلك أيضا: تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته كيفية الصلاة، فعلمه ما لا تصحّ صلاته إلا به دون السنن والمستحبات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَرَدَّ وقالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَرَجَعَ يُصَلِّي كما صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا، فَقالَ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقالَ: «إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وافْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا»[47].
قال الإمام النووي رحمه الله (ت 676هـ): “هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة، وليعلم أولا أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن”[48].
وقال أيضا: “وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته وإيضاح المسألة وتلخيص المقاصد والاقتصار في حقه على المهمّ دون المكمّلات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها”[49].
ومن هذا الباب أيضا: جواز السكوت عن إنكار المنكر إذا ترتب على الإنكار في حينه مفسدة أعظم.
ومن أدلة ذلك: ما صح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ[50].
فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الإنكار عليه حين بوله؛ لما يترتب على ذلك من مفسدة التنفير، وزيادة البول في المسجد، إذا قام إليه الصحابة فزجروه.
- تنبيهات تتعلق بالتدرج في البلاغ:
التنبيه الأول: التدرج في البلاغ محكم وباق، وليس منسوخًا كالذي قبله، فالمشروع في التعليم البدء بالأهم فالمهم، ومراعاة أحوال المخاطب.
التنبيه الثاني: التدرج في البلاغ ليس من تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل هو من تأخير البيان إلى وقت الحاجة، والأول ممنوع، والثاني مشروع.
التنبيه الثالث: التدرج في البلاغ لا يعني الكذب على الله تعالى، أو تحليل الحرام وتحريم الحلال بحجة مراعاة حال المخاطب، بل غايته أن يسكت عن أشياء لحين الحاجة إلى بيانها، لا أن يحرف الشريعة ويبدل الأحكام.
التنبيه الرابع: تخصيص بعض الناس بالعلم ليس معناه وجود علم للخاصة لا يعرفه العامة كما تدعيه الباطنية وغلاة الصوفية الذين يكتمون دينهم عن العامة، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرّ لعلي بهذا العلم، وأسرّ به علي لأبنائه من بعده، وهكذا يتناقله المريدون عن شيوخهم بعد أخذ العهد عليهم.
وقد نفى علي رضي الله عنه ذلك، فعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ[51].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة استدل العلماء على أنّ كل ما يذكر عن علي وأهل البيت من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذبٌ عليهم، مثل ما يذكر منه الجفر والبطاقة والجدول وغير ذلك، وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كُذِب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يُكْذَبْ على غيره… ومما يبين هذا: أن في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم بايعه وقال: «أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه؟!» فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، هلا أومأت إلي؟ فقال: «ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين»[52]، فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوي ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم”[53].
النوع الثالث: التدرج في التطبيق:
أوجب الله تعالى الحكم بالشريعة، فقال تعالى: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ * أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡما لِّقَوۡم يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 49، 50].
ولكن التكليف بالواجبات منوط بالقدرة والاستطاعة، قال تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16]، وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[54].
قال النووي رحمه الله: “هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيها ما لا يحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرةُ جماعةٍ مَنْ تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك وأمكنه البعضَ فَعَلَ الممكنَ، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة”[55].
والاستطاعة ليست منحصرة في الاستطاعة الحسية، وهي سلامة الآلات والتمكن من الفعل، بل تشمل الاستطاعة المعنوية، وهي الأمن من عواقب الفعل ومآلاته، بأن تترتب عليه مفسدة أعظم من الحسنة الحاصلة.
فإذا كان الفعل يترتب عليه فساد أعظم من الحاصل بتفويته فلا يدفع فساد بفساد أعظم، ولا تفوّت مصلحة أعظم بتحصيل مصلحة أدنى؛ فإن الله تعالى لا يحب الفساد، وأمر بالإصلاح، فكل مسألة خرجت من الصلاح للفساد فهي ليست من الشريعة وإن نسبت إليه بتأويل أو جهل.
ومن أدلة ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الغَزْوِ»[56].
قال الترمذي رحمه الله: “والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، منهم الأوزاعي، لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه”[57].
فلما كان تطبيق الحد يترتب عليه مفسدة أعظم احتمل تأخير ذلك لحين الرجوع وانتفاء المفسدة.
قال ابن القيم رحمه الله: “فهذا حَدٌّ من حدود اللَّه تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى اللَّه من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا”[58].
وقال أيضا: “وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخيرُ الحدِّ لعارضٍ أمرٌ وردت به الشريعة، كما يؤخَّر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحَرّ والبرد والمرض؛ فهذا تأخير لمصلحة المحدود؛ فتأخيره لمصلحة الإِسلام أولى”[59].
ومن أدلة ذلك: ترك النبي صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم؛ لعلمه أن قريشًا لا تحتمل هذا الأمر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائِشَةُ، لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، فألْزَقْتُها بالأرْضِ، وجَعَلْتُ لها بابَيْنِ: بابًا شَرْقِيًّا، وبابًا غَرْبِيًّا، وزِدْتُ فيها سِتَّةَ أذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فإنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْها حَيْثُ بَنَتِ الكَعْبَةَ»[60].
قال القاضي عياض رحمه الله (ت 544هـ): “أراد استئلافهم وتسكين الأمور وتركها، حتى يتمكنَ الإيمانُ في قلوبهم”[61].
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتح الله عليه مكة، ودانت له العرب، ومع ذلك يراعي النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفسدة الحاصلة ببناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فاحتمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفسدة؛ دفعًا لمفسدة أعظم، وفوت مصلحة أدنى وهي تصحيح بناء الكعبة؛ لتحصيل مصلحة أعظم وهي تمكّن الإيمان في قلوبهم، وعدم فتنتهم في دينهم، وهم بعد حديثو عهد بشرك.
ومن أدلة ذلك: لما قال عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول: وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي -يَا رَسُولَ اللَّهِ- أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ؛ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[62].
قال الخطابي رحمه الله (ت 388هـ): “في هذا الكلام باب عظيم من سياسة أمر الدّين والنظر في عواقب أموره، وذلك أن الناس إنما يدخلون في الدين ظاهرًا، ولا سبيل إلى معرفة ما في نفوسهم، فلو عُوقب المنافق على باطن كفره، وظاهرُ حالِهِ الإسلامُ؛ لَوَجَدَ أعداءُ الدين سبيلًا إلى تنفير الناس عن الدخول فيه والقبول له، بأن يقولوا لإخوانهم وذويهم: ما يؤمنكم إذا دخلتم في دين هذا النبي وحُصِّلتم في كفِّه وأنتم مؤمنون به ومخلصون له، أن يدَّعي عليكم كفر الباطن وجحد السريرة وأن يقول لكم: قد أوحي إليَّ في أمركم وجاءني الخبر عن سرِّكم أنكم منافقون، فيستبيح بذلك دماءكم وأموالكم، فلا تُغرِّروا بأنفسكم ولا تُسلّموها للهلاك، فيكون ذلك سببًا لنفور الناس عن الدين وزهادتهم فيه”[63].
وهذه المفسدة -التنفير عن الإسلام وتشويه صورته- قد لا يحسبها بعض الجهال مفسدة معتبرة، فيرتكب باسم الجهاد أو الشريعة ما يكون بسببه أعظمُ الصدّ عن سبيل الله تعالى، مع أن الجهاد إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا، فكيف يرتكب باسمه ما يؤدّي لنقيض ذلك، وأن تشوّه كلمة الله في نفوس الناس ويصدون عن سبيل الله تعالى؟!
والبعض يتصور أن الحاكم قد وصل لذروة التمكين، ولذلك لا يسعه ترك شيء قدر عليه، دون إدراك لاتساع مفهوم الوسع والقدرة، وأنها تشمل القدرة المعنوية، وهي التي تتعلق بمآلات الفعل، وليس فقط وجود الآلة لتنفيذه.
بل قد يكون الحاكم عاجزًا عن محاربة بعض المفسدين في الأرض، أو حتى طوائف من الزنادقة والمرتدين، فيتركهم أو يوادعهم؛ وذلك لأن القدرة مناط التكليف، والقتال إذا لم يكن مقدورًا عليه صار قتال فتنة، حتى ولو كان القتال لطائفة يجب قتالها بأصل الشرع، فمراعاة هذه الأحوال واجب، والإخلال بها يؤدّي لفساد عظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أنّ ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانًا هي التألف بالمال والمسالمة والمعاهدة كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة… ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم ونهى عن قتالهم لأن ذلك غير مقدور؛ إذ مفسدته أعظم من مصلحته؛ كما نُهي المسلمون في أول الإسلام عن القتال كما ذكره بقوله: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ﴾ [النساء: 77] وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي الله بأمره”[64].
وقال ابن القيم رحمه الله: “فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يُزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأُولَيانِ مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشِّطْرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى اللَّه ورسوله كَرَمي النشَّاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكَاء وتَصْدِية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة اللَّه فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكُتُب المجنون ونحوها وخِفْتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسّحر فَدَعْهُ وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية قدّس اللَّه روحه ونوّر ضريحه يقول: مررت أنا وبعضُ أصحابي في زمن التَّتَار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَنْ كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلت له: إنما حرم اللَّه الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسَبي الذرية وأخذ الأموال فَدَعْهم”[65].
وهذا باب واسع جدًّا، وتطبيقات العلماء في أبواب السياسة الشرعية في أبواب الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الشريعة كثيرة جدًّا[66].
- تنبيهات مهمة حول التدرج في تطبيق الشريعة:
التنبيه الأول: التدرج المقبول هو ما كان مبنيًّا على القدرة والعجز، والمصلحة والمفسدة المعتبرة شرعا، وليس التدرج القائم على التشهي والهوى، أو مراعاة المصالح الوهمية المهدرة.
والفرق بين المصالح المعتبرة والمهدرة يعرفه الراسخون في العلم، فلا بد من الرجوع للراسخين في العلم في هذه الأبواب.
التنبيه الثاني: أن القاعدة الشرعية: أن الميسور لا يسقط بالمعسور، فالعجز عن بعض الشريعة لا يسقط العمل بما نقدر عليه منها.
التنبيه الثالث: علامة التدرج الصادق هو الأخذ بالأسباب المعينة على استكمال الحال، وتهيئة الناس لقبول ما يشق عليهم من شرع الله تعالى، فإذا ما تغير الحال بادرنا بتطبيق ما كنا عاجزين عنه.
وقد ثبت أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان قد بنى الكعبة على وفق ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم محتجًّا على ذلك بتغير الحال، وزوال المفاسد التي خافها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وإنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «لَوْلَا أنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بكُفْرٍ، وَليْسَ عِندِي مِنَ النَّفَقَةِ ما يُقَوِّي علَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فيه مِنَ الحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ منه، وَبَابًا يَخْرُجُونَ منه». قالَ: فأنَا اليَوْمَ أَجِدُ ما أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ[67].
فالتدرج لا يعني التكاسل أو إهمال تطبيق الشريعة.
الخاتمة:
- التدرج من خصائص التشريع الإسلامي.
- التدرج في التشريع نُسخ باكتمال الشريعة، فلا يجوز لأحد أن يدّعي مثلا أنه يجب إعطاء المرأة مثل الرجل في الميراث؛ بحجة أن إعطاءها النصف كان من باب التدرج، حيث كانوا في الجاهلية يمنعونها الميراث بالكلية، وهذا في الحقيقة عبث بل كفر وزندقة؛ لأنه تكذيب للشرع، ومخالف للمعلوم من الدين بالضرورة.
- ما شُرع لسبب، ثم زال سببه فتغير الحكم، يُعمل به إذا رجع سببه، كمرحلة كف الأيدي والعفو والصفح للمستضعفين.
- التدرج في البلاغ محكم وسنة ثابتة، بتعليم الناس ما يصلحهم ويحتاجونه، والبدء بالأهم فالمهم، ومراعاة حال المخاطب.
- التدرج في البلاغ لا يعني وجود أسرار في الدين لا يعرفها إلا الخاصة كما يدعي ذلك الزنادقة.
- التدرج في التطبيق المبني على القدرة والعجز والمصلحة والمفسدة هو تدرج مشروع، وموافق لقواعد الشريعة.
- القدرة نوعان: حسية ومعنوية، والعجز نوعان: حسي ومعنوي، فإذا ترتب على الفعل مفسدة أعظم في المآل صار في حكم غير المقدور عليه.
- لا يجوز أن يتخذ التدرج تكأة لتعطيل الشريعة.
- التدرج يستلزم الأخذ بالأسباب المعينة على تطبيق شرع الله تعالى، وإزالة العقبات، والعمل بما نقدر عليه، فالميسور لا يسقط بالمعسور.
والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] تفسير الطبري (22/ 425).
[2] تفسير ابن كثير (8/ 59).
[3] مجموع الفتاوى (28/ 37).
[4] انظر: تفسير الطبري (22/ 424).
[5] إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 11).
[6] الطرق الحكمية (ص: 7).
[7] لسان العرب (2/ 266)، والقاموس المحيط (ص: 1289).
[8] انظر: التدرج، عبد الرحمن حسن حبنكة (ص: 11).
[9] أخرجه البخاري (4993).
[10] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 63).
[11] زاد المعاد (2/ 29).
[12] مجموع الفتاوى (14/ 117).
[13] تفسير القرطبي (6/ 286).
[14] أخرجه أبو داود (3671)، والترمذي (3026). وصححه الألباني.
[15] أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980).
[16] فتح الباري (10/ 40).
[17] أضواء البيان (2/ 406).
[18] أخرجه ابن ماجه (1860). وصححه الألباني.
[19] أخرجه البخاري (4544).
[20] فتح الباري (8/ 205).
[21] انظر مثلا: تفسير الطبري (3/ 561)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 319).
[22] الأم (4/ 169).
[23] زاد المعاد (3/ 143).
[24] الناسخ والمنسوخ (ص: 12).
[25] انظر: تفسير الطبري (3/ 561).
[26] المحرر الوجيز (5/ 182).
[27] جمال القراء وكمال الإقراء (ص: 337).
[28] إعلام الموقعين (1/ 29).
[29] الموافقات (3/ 344).
[30] البرهان (2/ 42).
[31] المغني (9/ 298).
[32] انظر في ذلك: سيرة ابن هشام (2/ 223).
[33] مغازي الواقدي (2/ 443).
[34] الأموال لابن زنجويه (ص: 399).
[35] السير الصغير (ص: 165).
[36] شرح السير الكبير (1/ 1690).
[37] فتح الباري (6/ 276).
[38] تفسير القرطبي (8/ 41).
[39] تفسير القرطبي (8/ 41).
[40] الصارم المسلول (ص: 221).
[41] صحيح البخاري (1/ 24).
[42] أخرجه البخاري (128).
[43] أخرجه البخاري (127).
[44] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11).
[45] أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).
[46] قال البخاري رحمه الله: «بَابُ بَعْثِ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ». صحيح البخاري (5/ 161).
[47] أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397). وهذا لفظ البخاري.
[48] شرح صحيح مسلم (4/ 107).
[49] شرح صحيح مسلم (4/ 108).
[50] أخرجه البخاري (6025)، ومسلم (284).
[51] أخرجه البخاري (111).
[52] أخرجه أبو داود (4359).
[53] مجموع الفتاوى (2/ 218-219).
[54] أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1377).
[55] شرح صحيح مسلم (9/ 102).
[56] أخرجه أبو داود (4408)، والترمذي (1450) واللفظ له، والنسائي (4979). وصححه الألباني.
[57] سنن الترمذي (4/ 53).
[58] إعلام الموقعين (4/ 340).
[59] إعلام الموقعين (4/ 345).
[60] أخرجه البخاري (1586)، ومسلم (1333).
[61] إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 431).
[62] أخرجه البخاري (4907)، ومسلم (2584).
[63] أعلام الحديث (3/ 1586).
[64] مجموع الفتاوى (4/ 442-443).
[65] إعلام الموقعين (4/ 339-340).
[66] انظر لمزيد من الأمثلة والتطبيقات: الغياثي للجويني، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.
[67] أخرجه البخاري (126) مختصرا، ومسلم (1333) وهذا لفظه.