
الصد عن أبواب الرؤوف الرحيم
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
من أهمّ خصائص الدين الإسلامي أنه يؤسّس أقوم علاقة بين الإنسان وبين إلهه وخالقه سبحانه وتعالى، وإبعاد كلّ ما يشوب هذه العلاقة من المنغّصات والمكدرات والخوادش؛ حيث تقوم هذه العلاقة على التوحيد والإيمان والتكامل بين المحبة والخوف والرجاء؛ ولا علاقة أرقى ولا أشرف ولا أسعد للإنسان منها ولا أقوم لحياته منها، ذلك أن قلب الإنسان لا سكون له ولا اطمئنان حتى يكون تعلُّقه بالإله الحق ومراده هو الإله الحق، وحتى يتنعّم بالإقبال عليه والتوجه إليه بقلبه وروحه.
والواقع المشاهد أن كل من تعلق بغير الإله الحق وإن اطمأن به لحظات وفترات إلا أن حاله يؤول إلى الاضطراب والقلق، وقلبه يعود إلى الفزع واللهث دونما استقرار؛ وما أشبه حال هؤلاء بحال من استمتع بمائدة شهية لذيذة مليئة بأنواع المطعومات والمشروبات، ولكنها في الوقت نفسه محشوة بالسموم والمواد القاتلة؛ فلا يكاد يتم استمتاعه بالأكل إلا بادر إليه الموت والأسقام والأضرار([1]).
ولما كان الملِك الذي عليه مدار هذه العلاقة هو القلب عُني به الدين الإسلامي وجعله المحور الذي به تقوم العلاقة بين العبد وربه، وتعاهده بالرعي والسقي؛ فإن هذه المُضغة إذا تعلقت بالمولى الخالق سبحانه تبعتها الجوارح زرافات ووحدانا، وإن تعلقت بغيره فسد حالها ولحقها العطب والقلق والاضطراب، واضطرب معها أتباعها من الجوارح وأعضاء الجسَدِ.
ولكنه في نفس الوقت من أهم ما صُنعت حوله الحوائل التي تحول بين العبد وربه، وقامت دونه المعاول لهدم علاقته بالإله الحق، وكثرت حوله المنغصات والمكدرات والخوادش، وليس العجب هنا أن تُقام الحوائل والمعاول والموانع دون هذه العلاقة من اللادينيّين، فهذا شأنهم، ولكن العجب كل العجب أن تصدر باسم الدين وعلى أيدي علمائه ورجاله.
فأكمل مثال واقعي وأجمله وأبهاه للعلاقة بين العبيد وربهم علاقة سلفنا الصالح بالله سبحانه وتعالى؛ فهي خصيصة من خصائصهم وحسب ولم تكن لغيرهم في يوم من الأيام، أما غيرهم من أهل الملل والنحل والفلسفات والمذاهب والأهواء فلم يحظوا بالعلاقة المتينة الكاملة بينهم وبين الله سبحانه، بل على العكس أقاموا الحوائل والموانع الحائلة دون علاقتهم بربهم؛ فنجد عند كل نحلة ما ينغصها ويكدرها أو يخدشها على أقل تقدير، ليس لشيء إلا لأنهم لم يدركوا ذلك الباب من أبواب العلاقة الإلهية فأنكروه، وحجروا على قلوب البشرية جمعاء لمجرد أنهم لم يعرفوه، وتارة لكونهم أعجبوا بما عرفوا من الأبواب غيره، فغَلوا فيه وأنكروا ما سواه من العلاقة بين العبد وربه.
ومن هنا حرص مركز سلف للبحوث والدراسات على بيان كمال العلاقة القائمة بين العبد وربه في دين الإسلام، واستعراض شيء من الملل والمذاهب التي حالت دون العلاقة بين العبد بربه، وكشف المنغصات والمكدرات والخوادش ليتجلّى للإنسان كمال المنهج الإسلامي ورقيه في ذلك.
مركز سلف للبحوث والدراسات
تمهيد:
على الرغم من سهولة إقامة العلاقة بين العبد وربه إلا أن البشرية لم تنعم بهذه العلاقة في كلّ عصورها، بل على العكس ابتُليت في كثير من العصور بمن يوصدون الباب أمام هذه العلاقة، ودونك نماذج من أولئك:
حيلولة اليهود بين البشر وبين التعلق بالله:
يبدو أن من أوائل الملل التي أوصدت طريق التعلق بالله سبحانه وتعالى أمة اليهود حين ادعوا أنهم شعب الله المختار، وزعموا زورًا وبهتانًا أنهم: {أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، وهي من الركائز الرئيسة في الدين اليهودي التي ألقت بظلالها على عامة جوانب الفكر اليهودي، سواء العقائد أو التشريعات أو الأخلاق، وهم يستندون في ذلك إلى ما ورد في سفر التثنية حيث جاء فيه: “لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض”([2]).
وبناء على اعتقادهم بأنهم شعب مختارٌ بعناية إلهيّة خاصة، متميزٌ ومختلف كل الاختلاف بجوهره -وكأنه خلق من نطفة إلهية وغيره من نطفة حيوانية كما يمثل المسيري([3])– جعلوا ديانتهم خاصة بهم دون غيرهم، وأغلقوا دون غيرهم من البشر كل سبيل للتعلق بالله سبحانه؛ بدعوى أنهم هم الشعب المختار، وأما غيرهم ففي مرتبة البهائم والحيوانات، وإنما خلق بصورة إنسان لخدمة اليهود وحسب، وحينئذ لا حق لغيرهم من البشر في التعلق بالإله بالمحبة والعبودية، ولا مكان لهم في العقائد والشرائع والأخلاق([4])، بل أهدروا كل حق لهم واستباحوا أموالهم وأعراضهم وأوطانهم([5]).
بل بلغ الأمر بهم أن جعلوا كتابهم المقدس خاصًّا بهم دون غيرهم، وحتى الإله زعموا أنه إله خاص بهم وحدهم، وأن شريعتهم خاصة بهم([6]).
فمن العجائب التي نجمت عن هذا الفكر العنصري جعلهم الإله إلها قوميًّا خاصا بهم؛ فهم يعتقدون أن الإله خاصٌّ بهم دون غيرهم؛ فإلههم لهم وحسب، وليس إلهًا ولا ربًّا للعالمين ولا إلهًا للبشرية أجمعين؛ وإلههم يتصف بالملك والتدبير ولكن لشئونهم وحسب دون غيرهم من البشرية([7])، ولا نتعجب بعد هذا أن يجد اليهود أو يوجدوا لدعواهم هذه نصوصا من التَّوْرَاة التي نسجوها حسب مقاساتهم كما يؤكد الدكتور محمد خليفة حسن([8]).
وفي العلاقة بين كل هذه الإفرازات وبين دعوى أنهم الشعب المختار يقول الدكتور حسن ظاظا: “وجعلوا هذه الظاهرة مرتبطة باختيار إلهي لهم دون سائر شعوب الأرض، وبإرادة سماوية لا قِبل للبشر بمقاومتها”([9])، ويؤكد أنهم بسبب ذلك جعلوا للإله اسمًا يختص بهم وهو: (يهوه)؛ “فيعدُّ هذا الاسم مميَّزا للمعبود السياسي والعُنصُريّ والوطني لليهود”([10]).
فإن تعجب فعجب حال هؤلاء الذين لم يقتصروا على زعم أنهم أنقى البشرية عرقا أو أعلاهم شرفا حتى تعدَّوا على غيرهم من البشر، وقطعوا دونهم كل طريق للتعلق بالإله، وجعلوا كتابهم المقدس وأنبياءهم ورسلهم وكل ما جاؤوا به من الدين والهدى خاصًّا بهم وحصرًا عليهم.
وبطبيعة الحال كان قولهم باختصاصهم بالدين دون غيرهم دافعا إلى جعله دينا مغلقا لا وجود فيه لما يسمى بالتبشير والدعوة، فهم “جعلوا من عقيدتهم دينًا وجنسية في آن واحد، لا ينفصم أحدهما عن الآخر”([11])، ولذا نصَبوا أمام كل من يروم الدخول في دينهم -مع أنهم لا يدعون إليه- جملة من العقبات يمر بها المتهوّد الجديد علَّه يصرف النظر عن الدخول في الدين الجديد!
ويتعجب المرء من الإجراءات والخطوات التعسفية التي نصبوها لكل من رام الدخول في دينهم، ومنها:
- أن يشدّد عليه الحاخام في السؤال والامتحان لعلّه يصرفه عن الدخول في الشعب المختار.
- إن نجح في تجاوز امتحان الحاخام فهو في مرتبة أدنى من اليهودي العامي، بل ولا يتمتع بكامل الحقوق والمساواة حتى مع زنادقتهم.
- يحرم عليه تولي القضاء أو القيادة السياسية أو العسكرية.
- له صيغ مخصّصة في الصلاة بحسب منزلته.
- إن مات وليس له أقارب في منزلته لم يرثه أحد.
- إن كان في تركته عبيد يُحرَّرون بوفاته.
- يجوز لهذا المتهود زواج اللقيطة وبنت الزنا ويحرم على الأصيل.
- يحرم عليه وعلى سلالته إلى يوم القيامة مصاهرة أية أسرة يهوديّة تحمل لقب (لاوي)، وهي حاليًّا (ليفي) أو (كوهين)؛ لأنها من سبط اللاويين سبط موسى وهارون، والكهانة فيهم موروثة([12]).
وقائمة شنائع اليهود تجاه الإله والحقّ الذي أنزله طويلة يصعب تعدادها، فهم لم يتركوا الإله ولا أنبياءَه ورسله دون أن يشوّهوا سيرته ويتدخلوا في سريرته؛ بل كثير من باطلهم من جملة ما يغني إيراده عن تكلُّف إبطاله، ولا شك عند كل ذي مسْكة من عقل وتمييز في بطلان هذا الادعاء، وإلا فهل سمعت بأحد منع سبُل الله عن عباده أعجب حالًا من حال هؤلاء الذين لم يحفظوا كتابهم، ولا بقي لهم شيء من دين نبيهم موسى إلا وقد نالته أصابع التحريف إلا قليلا لا زال الباحثون يحاولون تخليصه مما شابه، ومع كل هذا يضنون بدينهم على غيرهم من البشر([13]).
حيلولة الكنيسة النصرانية دون المعرفة الحقة بالله:
لقد تنوّعت وتعدّدت الوسائل والآليات التي أغلق بها اليهود والنصارى طرق المعرفة الحقة بالله، وإنه لمن العسير في هذا المقال أن أستطرد بالتفصيل في تلك العقبات والعوائق التي وضعت أمام المعرفة الحقة بالله سبحانه وتعالى؛ فمن مدعٍ أنّ الله تعب واستراح، إلى قائل بأن الإله صارع عبدا من عباده وصرعه، إلى زاعم أن الله حل وتجسّد في البشر فبُصق وضرب وأهين على الرغم من أن المسيح كان بشرًا يعيش بين ظهرانيهم إلا أنهم قالوا بتجسد الكلمة([14])، وادعوا حلول الله في جسده وكونه ابن الله([15])، ومن منع الكنيسة رعاياها من قراءة الكتاب الذي يدَّعون قداسته وأنه موحًى به إليهم دون تحريف، بل والتعذيب والانتقام من كل من حاول ذلك كما فعلوا مع المترجمين للكتاب إلى اللغات المتداولة بينهم كما فُعل مثلا بـ(جون ويكلف)، إلى غير ذلك من الطوام والموبقات.
وأكتفي هنا بإيراد مثال من أشهر الأمثلة التي يصرح النصارى أنفسهم بأنهم تعبوا وكلَّت عقولهم من استشكالها مع أنها قضية القضايا في البحث في الإلهيات، ألا وهي قضية التثليث.
لقد حال النصارى دون المعرفة الصحيحة والحقة بالإله الحقّ، وغيّبوا عن البشرية العلم بالله سبحانه، وقطعوا علائقهم به عز وجل حين فرَضُوا تصوُّرا معوجًّا لا يستقيم ولا يتَّفق مع العقل والمنطق ولا مع الواقع، بل ويناقض المقدّمات الفطرية الضرورية التي لا يكاد ينفك عنها أي إنسان.
ويمكن لأي عاقل أن يمعن النظر في قانون الإيمان الذي تقوم عليه هذه العقيدة ليقف على التناقض مع العقل والواقع والفطرة، ونص وقانون الإيمان:
“بالحقيقة نؤمن بإله واحد، الله الآب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، ما يرى وما لا يرى.
نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء. هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء. تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي. تألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السموات، وجلس عن يمين أبيه، وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء.
نعم نؤمن بالروح القدس، الرب المحيي المنبثق من الآب. نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء. وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي”([16]).
إن كل من يقرأ هذا النص يدرك أن المقصود هنا ثلاثة، وليس شيئا واحدا؛ فثمة الأب ثم يسوع المسيح الابن ثم الروح القدس، وكل واحد منهم هو رب، وكما يعبر النصارى: فإن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة.
فالأب رب والمسيح رب والروح القدس رب؛ وهكذا هؤلاء الثلاثة في نفس الوقت هم رب واحد، فكيف أصبح الثلاثة ربا واحدا؟! وكيف يمكن أن يكون الرب الواحد ثلاثة؟! وهل يقبل العقل الصحيح أن يكون الواحد ثلاثة في ذات الوقت وأن يكون الثلاثة واحدا؟!
هذا هو محور الإشكال الذي تعاقب الآباء المسيحيون منذ أثناسيوس الرسولي الذي قعد قانون الأمانة، وحتى آباء الكنيسة وفي يوم الناس هذا يعانون وتعبت عقولهم وهم يحلون هذا الإشكال؛ لأنه مناقض للضروريات العقلية الفطرية من كون الواحد جزءًا من الثلاثة وكون الثلاثة غير الواحد، بل هو جمع للواحد ثلاثة مرات؛ وكثيرا ما يلبسون على الناس بتقرير أن العقل يرفض وجود أكثر من إله ويزعمون الوحدانية([17]).
ولقد حاول كثير من القساوسة عقلنة التثليث وجمعه مع التوحيد ولكن دون جدوى؛ وعامة من حاول حل هذا المشكل زاده إشكالا وغموضا، وعاد مريدوه وقد تعاظمت الإشكالية في نفوسهم وتضخمت الشبهات في أفئدتهم وازدادوا حيرة إلى حيرتهم؛ ومن أمثلة أولئك صاحب كتاب (منطق الثالوث) الذي حاول أن ينقل هذه العقيدة المناقضة للعقل والمنطق إلى كونه عقليًّا ومنطقيا، ولكنه في الحقيقة لم يزد إلا تعميق الإشكال، وزاد المحتار حيرة؛ وقد اعترف بمدى الصعوبة والحرج الذي يقع فيه وهو يناقش أهم موضوعات الألوهية عندهم وهو التثليث، يقول في فاتحة كتابه: “موضوع الثالوث الأقدس بالغ الأهمية في الإيمان المسيحي. ذلك بأن أكثر الأسئلة وأحرجها في هذا الميدان تدور حول الثالوث الأقدس، سواء أكانت من الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا أم من التي يطرحها علينا الآخرون. وعلى طول مراحل حياتنا، تلقينا الكثير في دروس التعليم الديني وسمعنا ما هو أكثر في العظات. وترسخ إيماننا بالثالوث الأقدس في حياتنا على مستوى غير واع في أغلب الأحيان، وقد نمارسه تلقائيا في حياتنا الروحية، لكننا نفاجأ، وربما إلى حد الفزع، حين نجد أنفسنا عاجزين عن إيجاد ردّ مقنع وعلى مستوى منطقي من التفكير. أسئلة كثيرة قد نفاجأ بها: لماذا التثليث ولا الوحدانية المجردة؟ وما هي الأسس الفكرية المقنعة في هذا الميدان؟ وما هي مصادر إيماننا بالثالوث الأقدس؟ وما هي انعكاسات هذا الإيمان على ممارساتنا، وعلى حياتنا العلمية وحياتنا الروحية؟”([18]).
ومن العجيب أن تجد من قساوسة النصارى مَن يصرح بهذا التناقض والغموض وصعوبة فهمه وشرحه كالنص السابق، وممن صرح بذلك أيضا ج. آي. باكر حيث يقول: “يصر العهد القديم دائما على أنّه يوجد فقط إله واحد، الخالق الذي أعلن عن ذاته، والذي ينبغي عبادته ومحبته بصفة حصرية (تث ٥٤٦ أش ٦: ٤٤-٢٥: ٤٥). ويوافق العهد الجديد على هذا (مر ٢٩: ١٢ – ٣٠ ٤ ١كو ٤: ٨؛ أف ٦: ٤ ٤ ١ تي ٥: ٢) ولكنه يتكلم عن ثلاثة أقانيم (أشخاص) فاعلين person agents الآب والابن والروح القدس، وهم يعملون معا بأسلوب الفريق ليحققوا الخلاص (رو؛ أف٣: ١-٤١٤ ٢تس ١٣: ٢-١٤؛ ابط ٢: ١). تسعى الصياغة التاريخية للثالوث Trinity مشتقة من الكلمة اللاتينية ترینیتاس trinitas، والتي تعني الثالوثية”) إلى تحديد وحماية هذا السر (وليس شرحه؛ فهذا يفوق قدراتنا)، ويواجهنا ربما بأصعب فكرة طُلب من العقل البشري أن يتعامل معها. فالثالوث ليس سهلا ولكنه حقيقي”([19]).
وتعالى الله أن يحتاج إلى غيره، وسبحانه وتعالى أن يوعِّر للناس طريقة معرفته حتى إن تصوره والعلم به يكون أصعب ما يُطلب من العقل البشري تصوره ومعرفته، مع أنه أهم ما ينبغي للإنسان معرفته والتعلق به، وهذا في الحقيقة من التضليل للبشرية عن معرفة الإله الحق وتصوره التصور الصحيح؛ وهو ما قطع الطريق دون التعلق بالله سبحانه، وأعرض بسببه كثير من النصارى عن التدين إلى الإلحاد؛ وكما يقول جعفر شيخ إدريس: “قد كانت الكنيسة جزءا من المشكلة، جزءا من المرض الذي كان يصيب كل معرفة بالله، لا جزءا من العلاج؛ لقد كانت الكنائس الأرض التي أنبتت الإلحاد”([20]).
ومما يتعجب منه الناظر في الدين النصراني أن التثليث الذي هو أصل الأصول في دينهم لا نجد له ذكرًا في الأناجيل فضلًا عن الاستدلال والمنافحة عنه! وأن أكثر النصوص التي نعثر فيها على عقيدة التثليث هي رسائل بولس([21]).
ولا تتعجب أيضا وأنت تتبع التاريخ النصراني فترى أنه يجب عليك الانتظار حتى القرن الرابع الميلادي ليتم الإعلان صراحة عن عقيدة التثليث على لسان القديس أثناسيوس السكندري في مجمع نيقية التي قُمع فيها الموحدون (الأريسيون) عام 325م أولا، ثم قررت خاتمته في مجمع القسطنطينية الأول 381م ثم فاتحته في مجمع أفسس الأول عام 431م([22]).
ويتضح هذا التناقض في نص أثناسيوس الرسولي حيث يقول: “إن الإيمان المسكوني هو أن نعبد إلها واحدا في ثالوث وثالوث في وحدانية غير مغشوش الأقانيم ولا مقسمي الجوهر؛ فإن أقنوم الآب آخر وأقنوم الابن آخر وأقنوم الروح القدس آخر؛ لكن للآب والابن والروح القدس لاهوتا واحدا ومجدا متساويا وعظمة متساوية في الأزلية؛ فكما هو الآب كذلك هو الابن وكذلك الروح القدس”([23]).
وليس هذا موضع الخوض في إبطال هذه العقيدة على أنها من العقائد التي يكفي تصورها لإدراك بطلانها، ويكفي أنها مستمدة من الأديان الوثنية، يقول د. محمد الشرقاوي: “توصل علماء الغرب في القرن العشرين -بعد التنقيب والفحص والموازنة- إلى أن النصرانية قد استمدت عقائدها الأساسية (التثليث، والكلمة، والتجسد… إلخ) من الديانات الوثنية القديمة السابقة على المسيحية، وبذلك قد تخلت عن ديانة عيسی التي أوحاها الله إليه وتشبهت بالوثنيات وتابعتها وآمنت بها. هذا ما أعلنه علماء الغرب المسيحيون أخيرا”([24]).
حيلولة الجهمية دون محبة الرب لعبده والعبد لربه:
من أجمل ما يكون من العلاقات بين العبيد وربهم علاقة المحبَّة؛ فالله سبحانه تعالى أخبرنا صراحة في آيات قرآنية كثيرة بأنه يحب أصنافا من عباده المتصفين ببعض صفات الكمال البشري؛ كما أخبر أنه ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، و﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 76] و﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، و﴿يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
بل الواقع أنه “لا يكون أحد مؤمنا حتى يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأن يعبد الله مخلصا له الدين”([25])، وقد أخبر المولى سبحانه أن من أكمل عباده وأرفعهم منزلة وأقربهم إليه سبحانه أولئك الذين بدأ وصف العلاقة التي بينهم وبينه بأنه يُحبهم وهو أيضا يُحبونه؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]، فمن المحاور الرئيسة في العلاقة بين العبد وربه المحبَّة من كل منهما؛ فالله سبحانه يحب من عباده من ارتقى عن الحيوانية إلى الصفات الملائكية كالتقوى والإحسان والتطهر والتوبة وغيرها من الخصائص العلية والفضائل والمكرمات؛ ومن أولئك الأنبياءُ والشهداء والصابرون والصالحون والعابدون.
والعبيد أيضا يحبون مولاهم سبحانه؛ وإلا فقل لي بربك: كيف لا يحبُّ العبد ربه ومولاه وهو من أوجده بعد عدم، وسخَّر له السماوات والأرض وما فيهما، أم كيف لا يحبُّه وهو من ميّزه عن غيره من المخلوقات بتسخير السماوات والأرض وما بينهما له وأعطيت له الخلافة والسِّيادة في الكون، وهُيِّئت له الأرض يعمرها ويشيِّد فيها الحضارات، وكُرِّم بحمله في البر والبحر، وخَلقه على أكمل صورة وأعدل خِلقة، وأرشده إلى مبدئه ومنتهاه والغاية التي خُلق من أجلها؛ وخصَّه بإرسال رسله وأنبيائه وإنزال كتبه وشرائعه؛ وجعلهم أنموذجًا وقدوة يُمثِّلون أرقى نماذج المحبة بين العبيد وربهم فالله له الكمال المطلق في الإحسان والإنعام، ولكمال إنعامه على العبيد يحبونه.
أم كيف لا يحبونه وهو خالقهم الذي له الكمال المطلق في كل أسمائه وصفاته وأفعاله وإحسانه وإنعامه؟! وإلا فهل هناك علاقة للإنسان المخلوق أشرف من هذه العلاقة؟! أليس الإنسان المخلوق أحوج ما يكون إلى التعلُّق بربِّه وخالقه ومحبته والشوق إليه؟! بل هذه العلاقة ضرورية بالنسبة للبشر؛ لأن مراداته كلها لغيره حتى يكون مراده الذي هو المراد لذاته، وهو الله سبحانه؛ فإنه في الحقيقة لا يجوز أن يكون غير الله محبوبا مرادا لذاته؛ فإنه لا إله معبود بحق إلا هو، والله “سبحانه فطر القلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه إلا الله وحده وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور وملموس يجد من نفسه وإن قلبه يطلب شيئا سواه ويحب أمرا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه”([26]).
ولا شك أن المحبة هي الحبل المتين والقوة الباعثة على تعلق القلب بالمحبوب شوقًا وخضوعا وطاعة وإنابة وأوبة؛ والتزاما لما يحبه سبحانه وانتهاءً عما ينهى عنه؛ ولما كانت هذه المحبة هي المحبة الحقة قال تعالى عنه سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، ومع كل ذلك: “ليس الشأن أن تِحب، إنما الشأن أن تحَب”([27]).
ومن المتقرر أن “الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له… وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام”([28]).
ولكن على الرغم من هذه المنزلة السامقة التي تبوأتها محبة الله لعباده إلا أنه وُجِد من ينصب للناس العقبات الوهمية دونها، ويبعد العبيد عن ربهم ومولاهم؛ فكثير من المتكلمين أنكروا محبة الله لعباده بناء على منهج التعطيل وإنكار صفات الله سبحانه الذي سلكوه؛ وزعموا أنها مجرد إرادة؛ لتعليلات ليس هذا محل بيانها؛ ولكنهم لم ينكروا أن العباد يحبُّون ربَّهم، ولكنهم خسروا خسرانًا حين حرموا أنفسهم من محبة الله لهم وقطعوا على البشرية طريق محبة الله لعباده.
والأشنع من هؤلاء (غلاظ الأكباد) الذين قطعوا كل طريق للمحبة بين البشرية وخالقهم وزعموا أن الله لا يُحِب ولا يُحَب، وهؤلاء الجهمية الذين قطعوا كل طريق يمكن أن تقوم بين العبيد وربهم؛ وسماهم السلف (غلاظ الأكباد)؛ لأنهم بلغوا من القسوة مبلغا لم يأنفوا معه أن ينفوا محبة الله لعباده ومحبة عباده له، وقد وافق الجهمية بعض متأخري أهل الكلام كالفخر الرازي (606هـ) ومن ذلك قوله -غفر الله عنه-: “واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة، لكنهم اختلفوا في معناها، فقال جمهور المتكلمين: إن المحبة نوع من أنواع الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته، فإذا قلنا: نحب الله، فمعناه نحب طاعة الله وخدمته، أو نحب ثوابه وإحسانه، وأما العارفون فقد قالوا: العبد قد يحب الله تعالى لذاته، وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة”([29]).
والواقع أن “المحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوّئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها. وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله -يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة- أن المرء مع من أحب. فيا لها من نعمة على المحبين سابغة!”([30]).
وهذا الإنكار من هؤلاء غريب عجيب، خاصة إذا علمنا أنه حتى اليهود والنصارى لم ينكروا هذه العلاقة بين الرب والعباد، بل كان من “أعظم الوصايا فيها أن تحب الله بكل قلبك وعقلك وقصدك، وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة والإنجيل والقرآن”([31]).
ومن الشواهد الباقية على ذلك في كتابهم المقدس قول الربي يهوذا: “إذا التمست أو طالبت شيئًا من رئيسٍ بشريٍّ فاستجابة طلبك كثيرًا ما تتوقَّف على وساطة ومساعدة وسيط الرئيس؛ كاتبًا كان أو صديقًا، خادمًا أو حبيبًا. ولكن بينك وبين الله تعالى لا يلزم وساطة ميخائيل أو جبرائيل، بل افتح قلبك وضميرك له، واطلبه في أي وقت كان. وهو يستجيب دعاءك، كما قال بلسان نبيه: (ويكون أن كلَّ من يدعو باسم الرب ينجو)”([32]).
ومن أحسن من وصف حال هؤلاء وهدمهم لعمودي الإسلام ابن القيم (751هـ) رحمه الله حين قال: “كان من قولك أيها الجبري: إن العبد لا قدرة له على هذا البتة… مع قولك: إنه لا يحب ولا يحب، فلا تتألهه القلوب بالمحبة والود والشوق والطلب وإرادة وجهه؛ والتوحيد معنى ينتظم من إثبات الإلهية وإثبات العبودية؛ فرفعت معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبا مودودا تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه، ورفعت حقيقة العبودية بإنكار كون العبد فاعلا وعابدا ومحبا. فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك، فضاع التوحيد بين الجبر وإنكار محبته وإرادة وجهه”([33]).
ولا أدري أين عقول هؤلاء حين يستاؤون مما طار به صحابة رسول الله فرحًا؛ فقد وردت عشرات النصوص في المحبة، ومنها في المتفق عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ فقال: «وماذا أعددت لها؟» فقال الرجل: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بما فرح الصحابة أجمعون وفرح به من بعده المسلمون كلهم حيث قال له: «أنت مع من أحببت».
ويصور لنا راوي الحديث هذا الفرح والاستبشار فيقول أنس: فما فرحنا بشيء فرحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت»، وقال: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم([34]).
حيلولة المتكلمين دون التَّنعُّم برؤية الله سبحانه:
إن من أعظم ما يتلذذ به أهل الإيمان في دار النعيم تنعمهم برؤية الله سبحانه؛ فهو من أشرف الملذات الأخروية وأكملها وأعلى أنواع النعم قدرًا وأقرها لهم عينًا؛ “فالمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه”([35])، وفي هذا تنافس المتنافسون وشمر المشمرون الذين أيقظ الإيمان بالرؤية في نفوسهم شوقًا عميقًا للقائه، وغمر قلوبهم محبة عظيمة له سبحانه، يتضرعون إليه أن لا يحرمهم لذة النظر إلى وجهه الكريم؛ فقد جاء عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟!» قال: «فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل». وفي رواية: ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]([36]).
ومن هنا نعلم أن رؤيته سبحانه ولذة النظر إلى وجهه الكريم أعلى من كل لذة، ويفوق كل نعيم غيره، حتى نعيم الجنة نفسها؛ إذ تنسي أهلها كل ما هم فيه من نعم، فرؤية الله عز وجل هي أعظم أنواع النعيم في الجنة، “أجمع عليه سلف الأمة وأخرجه بضعة عشر من الصحابة بألفاظ مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم”([37])، وهي الزيادة التي بشر الله بها أهل الإحسان([38])؛ حتى إن هناك من يرى الله يوميًّا مرتين في الجنة، وهذا شرف عظيم لا يُنال إلا بكثرة العمل الصالح؛ يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، فهي ناضرة؛ أي: مسرورة طلقة هشة بشة، ومتنعمة “بالنظر إلى الله تعالى بالأعين، وهو ثابت للمؤمنين في الجنة بوعد الله تعالى وبخبر الرسول”([39].
يقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “أي: تراه عيانا… وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها… وهذا -بحمد الله- مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام”([40]).
ومن أصح أحاديث الدنيا التي تلقاها أئمة الحديث بالقبول([41]) ما في المتفق عليه من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: “أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها”([42]).
قال ابن رجب (795هـ) رحمه الله: “هذا الحديث نص في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة”([43]).
وفي ذات الوقت جعل المولى سبحانه الحجاب عنه من أقسى أنواع العذاب وأشدها وأنكى ما يعذب الخاسرون من صنوف العقاب، حتى إنه أشد عليهم من عذاب الجحيم ذاته، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، قال الإمام مالك (179هـ) رحمه الله: “لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه”([44]).
ولكن هذا الحجب وإن عذَّب الله به أهل الكفر إلا أنه وجد من نصب العقبات وكاد أن يجعله حجبًا عن الناس كلهم، ويحرمون العباد من التلذذ والتنعم برؤية ربهم ومولاهم سبحانه؛ فالمتكلمون ومن وافقهم أنكروا رؤية المؤمنين ربهم بعلل وقضايا كلامية نسبوها إلى العقل، لسنا بصدد حشو هذا البحث بفلسفاته وتعقيداته؛ ولكن المقصود أنهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم عن هذا النعيم العظيم؛ وقطعوا على البشرية سبيل التنعم برؤية ربهم وخالقهم سبحانه، فمنهم من صرح بأن الله لا يُرَى يوم القيامة بالعين، وزعم أن المراد بنصوص الرؤية مجرد الازدياد من معرفة الله كالمعتزلة، أو سماه الإدراك العقلي والشعور النفسي والفكري فقط دون نظرٍ بعين الرأس، أو أن الله يخلق في عين العبد رُؤيةً له، وهو في الحقيقة لم ير الله عزَّ وجلَّ([45]).
ختاما:
لئن أرهق العقول وأوجع القلوب تلك العقبات التي وضعها هؤلاء أمام تعلق العبد بربه، فإن مما يفرح به أهل الإيمان أن العلاقة التي بينهم وبين مولاهم أقوم علاقة؛ فالعلم به أشرف العلوم؛ وليس دون الإيمان بالإله الإيمان الحق ما يناقض عقلا أو فطرة أو منطقا أو واقعا، ولا يحول دون التعلق به ومحبته ورجائه والخوف منه أي حائل؛ بل من أهم ما منعت الشريعة منه نصب وسائط بين الله وبين العبيد في العبادة والطاعة، سواء من الأصنام أو الأفكار أو حتى من الملائكة المقربين أو الرسل المبشرين.
ولله الحمد والمنة والثناءُ الحسن الجميل؛ إِذ لم يجعلنا عبيدًا لا نعرف ربنا حق المعرفة، ولم يجعلنا عنصريين محجرين نمنع البشرية دون التعلق به سبحانه ومحبته والأنس به ورجائه والخوف منه؛ ولم يجعلنا ننكر أسماءه الحسنى ولا صفاته العلى ونزعم أن “ليس لنا رب نقصده، ولا صمد نتوجه إِليه ونعبده، ولا إِله نعوّل عليه، ولا رب نرجع إليه، بل قلوبنا تنادي في طرق الحيرة: من دلنا وجمع علينا ربًّا ضائعًا لا هو داخل العالم ولا خارجه… ولا نزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أَحدًا ولا يكلمه أَحد… فللَّه العظيم أَعظم حمد وأَتمه وأَكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العلى وأَسمائه الحسنى، وإِقرار قلوبنا بأَنه الله الذي لا إِله إِلا هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين قيوم السموات والأرضين إِله الأَولين والآخرين، ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، منزهًا عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال. فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأْخذه سنة ولا نوم…
ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إِذنه إِليه، ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأَرض، ولم تسعه أَرضه ولا سماواته ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط… وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أَحب إِليهم منه ولا أشوق إليهم من لقائه ولا أَقر لعيونهم من رؤيته ولا أحظى عندهم من قربه”([46]).
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 99).
([2]) تث: (7: 6 – 7)، وينظر: تث: (14: 2).
([3]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 72 وما بعدها).
([4]) ينظر: مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية، رقية العلواني وآخرون، دار الفكر – دمشق 2008م (ص: 51)، العنصرية اليهوديَّة وآثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها، أحمد عبد الله الزغيبي، مكتبة العبيكان – الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ – 1998م (1/ 24 وما بعدها).
([6]) ينظر: القتل والسرقة في اليهودية والمسيحية والإسلام، عناد نجر العجرفي العتيبي، بدون دار طباعة، الطبعة الأولى، 1419هـ – 1998م (ص: 204)، الشخصية الإسرائيلية، حسن ظاظا (ص: 6 وما بعدها، 36 – 38، 50)، الصهيونية العالمية وإسرائيل، حسن ظاظا وعائشة راتب ومحمد فتح الله الخطيب (ص: ٤١).
([7]) ينظر: علاقة الإسلام باليهودية، محمد خليفة حسن (ص: 156).
([8]) ينظر: خروج: (3: 1 – 10)، (5: 1 – 5)، وينظر: بذل المجهود في إفحام اليهود، السموأل المغربي، تحقيق: الشرقاوي، دار الجيل – بيروت، الطبعة الثالثة، 1410هـ – 1990م (ص: 128)، التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي، صبري جرجس، عالم الكتب – القاهرة، الطبعة الأولى 1970م (ص: 52 وما بعدها)، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر عيسى، دار طيبة للطباعة – الجيزة، الطبعة الأولى 2009م (ص: 78)، مفصل العرب واليهود في التاريخ، أحمد سوسة، الوراق للنشر – بغداد، الطبعة الأولى 2014م (ص: 93)، اليهوديَّة واليهوديَّة المسيحية، فؤاد حسنين علي، دار العالم العربي – القاهرة، 2016م (ص: 25 وما بعدها).
([9]) الشخصية الإسرائيلية (ص: ٣٦).
([10]) مقال: لغة التوراة، ظاظا، الفيصل (ع: 249/ ص: 21)، وينظر: الفكر الديني اليهودي، ظاظا (ص: ٢٩).
([11]) مقال: الدولة الصهيونية والتعصب العنصري، ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: 109-110)، وينظر: مقال: اللغة والفكر، ظاظا، الفيصل (ع: 17/ ص: 62)، مقال: الدراويش مهدوا للصهيونية، ظاظا، الفيصل (ع: 206/ ص: 6).
([12]) ينظر: مقال: بنوة الفكر اليهودي للإسلام، ظاظا، الفيصل، (ع: 220/ ص: 19)، مقال: لغة التوراة، ظاظا، الفيصل، الفيصل (ع: 249/ ص: 22)، مقال: اللغة والفكر، ظاظا، الفيصل (ع: 17/ ص: 62).
([13]) ينظر: مقال: اليهود الإصلاحيون والمسيرة الشاقة، ظاظا، الفيصل (ع: 245/ ص: 20).
([14]) ينظر: الملل والنحل (2/ 25).
([15]) ينظر: إظهار الحق (3/ 681).
([16]) قانون الإيمان، البابا شنودة الثالث، الكلية الإكليريكية بالقاهرة، مطبعة الأنبا رويس الأوفست – الكاتدرائية، الطبعة الأولى، يوليو 1997م (ص: 9 وما بعدها)، وينظر: الأرثوذكسية قانون إيمان لكل العصور، الأب أنتوني م. كونبارس، دار يوسف كمال للطباعة، الطبعة الأولى 2005م (ص: 26)، قانون الإيمان عقيدة وحياة، جرجس عبد المسيح إبراهيم، طبع بعناية أسرة الدكتور جرجس عبد المسيح، عام 2008م (ص: 17 وما بعدها).
([17]) ينظر: إيماننا المسيحي صادق وأكيد، د. سامح حلمي (ص: 42).
([18]) منطق الثالوث، الأب هنري بولاد اليسوعي، دار المشرق – بيروت، الطبعة الخامسة 2007م (ص: 5).
([19]) موجز علم اللاهوت – دليل إلى المعتقدات المسيحية (ص: 59).
([20]) الفيزياء ووجود الخالق (ص: ٢٥).
([21]) ينظر: الأصول الوثنية للمسيحية، أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين، منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية (ص: ٤3).
([22]) ينظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (2/ 554)، محاضرات في النصرانية لأبي زهرة (ص: 122).
([23]) كنيستي عقيدة وإيمان، القمص مينا جاد جرجس (ص: 62).
([24]) مقدمة د. محمد الشرقاوي لكتاب: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية للتنير (ص: 25 وما بعدها).
([25]) درء تعارض العقل والنقل (6/ 62).
([26]) أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 71).
([27]) تفسير ابن كثير (2/ 32).
([28]) مجموع الفتاوى (2/ 354).
([29]) مفاتيح الغيب (4/ 176). وينظر: التحرير والتنوير (6/ 5)، تفسير أبي السعود (1/ 295)، شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 44)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 62)، أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 70 وما بعدها).
([30]) مدارج السالكين (3/ 8-9).
([31]) أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 71).
([33]) أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 71).
([34]) أخرجه البخاري (3688)، ومسلم (2639).
([37]) إكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 540)، وينظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي (3/ 15).
([38]) ينظر: البداية والنهاية (20/ 363).
([39]) تفسير السمعاني (6/ 106)، وينظر: تفسير البغوي (5/ 185).
([40]) تفسير ابن كثير (8/ 279).
([41]) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 421).
([42]) أخرجه البخاري (573)، ومسلم (633).
([44]) ونقل مثله عن الإمام الشافعي: تفسير البغوي (5/ 225)، وينظر: تفسير السمعاني (2/ 132)، تفسير ابن كثير (8/ 351)، فتح الباري لابن رجب (3/ 133)، لمعة الاعتقاد (ص: 22).
([45]) ينظر: إحياء علوم الدين (1/ 108)، المنهاج شرح صحيح مُسلم بن الحجاج (3/ 15)، التدمرية (ص: 35)، بيان تلبيس الجهمية (ص: 415- 418)، بغية المرتاد (ص: 473)، شرح حديث النزول (ص: 122)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 265)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص: 129).