
أصول الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
عن معاوية رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»([1]).
العلم هو أفضل ما رغب فيه الراغب، وسعى واجتهد فيه الطالب، والعلماء ورثة الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»([2]).
وأعظم أهل العلم منزلة المفتي الذي جعله الله بينه وبين الناس؛ لأنه يقوم مقام النبيين ويوقع عن رب العالمين، قال النووي: “اعْلَم أَن الْإِفْتَاء عَظِيم الْخطر كَبِير الْموقع كثير الْفضل؛ لِأَن الْمُفْتِي وَارِث الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم، وقائم بِفَرْض الْكِفَايَة، لكنه معرض للخطأ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: الْمُفْتِي موقّع عَن الله تَعَالَى، وروينا عَن ابْن المُنكدر قَالَ: الْعَالم بَين الله تَعَالَى وخلقه، فَلْينْظر كَيفَ يدْخل بَينهم”([3]).
وعن سهل بن عبد الله التستري قال: “من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء -عليهم السلام- فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان، أيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته، وهذا مقام الأنبياء فاعرفوا لهم ذلك”([4]).
لكننا وللأسف الشديد في أيام غربة قل فيها العلم، وكثر فيها الجهل، وتكلم فيها الرويبضات، واتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»([5])، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»([6]).
فوقع انحراف كبير في باب الفتوى، حدث بسببه فساد عريض في المجتمع المسلم، وكما قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: “زَلَّةُ الْعَالِمِ كَانْكِسَارِ السَّفِينَةِ، تَغْرَقَ وَيَغْرَقُ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ”([7]).
فكان لا بد من التنبيه على بعض المزالق والأخطاء في باب الفتيا التي عمت بها البلوى، وانتشرت بين الناس، فكانت هذه الورقة العلمية من مركز سلف للبحوث والدراسات، وبالله التوفيق.
أولا: تعريف الإفتاء:
الإفتاء لغة: مأخوذ من الإبانة والإجابة.
“أَفْتَاه فِي الأَمر: أَبانَه لَهُ. وأَفْتَى الرجلُ فِي المسأَلة واسْتَفْتَيْته فِيهَا فأَفْتَانِي إفْتَاء. يُقَالُ: أَفْتَاه فِي المسأَلة يُفْتِيه إِذا أَجابه، والفُتْيَا تبيين الْمُشْكِلِ مِنَ الأَحكام، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ}، أَي: يسأَلونك سؤالَ تَعَلُّم”([8]).
الإفتاء اصطلاحًا: “الإخبار بحكم الله عن الوقائع، بدليل شرعي”([9]).
ثانيا: تورع السلف عن الفتوى:
“هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السابقين والخالفين، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدفع بالجواب، أو يقول: لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري”([10]).
قال ابن القيم: “كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ، فَإِذَا رَأَى بِهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ أَفْتَى…
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا…
وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ…
وعن ابن سِيرين قال: قال حذيفة: إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: مَنْ يَعْلَمُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ أَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا، أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ. فَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَلَسْت بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ”([11]).
ثالثا: أصول الخطأ في باب الفتيا:
1- الإفتاء بغير علم:
الإفتاء بغير علم من أكبر المزالق التي تقع في الفتوى قديمًا وحديثًا، وما من عالم ألف في الفتوى إلا ونبه على أهمية العلم بالنسبة للمفتي، حتى إن ابن حمدان ألف كتابه “صفة الفتوى” من أجل وجود هذا الانحراف بين المفتين فقال: “عَظُمَ أمر الفتوى وخطرها، وقل أهلها، ومن يخاف إثمها وخطرها… وأقدم عليها الحمقى والجهال، ورضوا فيها بالقيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال، واكتفوا بزعمهم أنهم من العدد بلا عدد، وليس معهم بأهليتهم خط أحد، واحتجوا باستمرار حالهم في المدد بلا مدد، وغرهم في الدنيا كثرة الأمن والسلامة وقلة الإنكار والملامة”([12]).
والله “إنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَمَتْ الْقُلُوبَ فَأَصْمَتْ، رَبَا عَلَيْهَا الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَاُتُّخِذَ لِأَجْلِهَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا”([13]).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: “لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ: أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنْ فُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا، وَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ”([14]).
فالفتيا بغير علم مصيبة كبرى، وأمر عظيم ظهر في الإسلام؛ ذلك أن المفتي تجرأ على ربه، وتقوَّل على الله بغير علم.
والله عز وجل قد قرن بين الشرك وقبحه وبين التقوُّل عليه بغير علم، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
ونهى الله عز وجل نبيه أن يتكلم بغير علم، فقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
قال السعدي رحمه الله: “{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أدَّعي أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إليَّ”([15]).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ بِهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}”([16]).
ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين يفتون بغير علم وكانوا سببًا في موت صاحبهم، ففي الحديث عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»([17]).
ولقد كان السلف مع علمهم وورعهم ما يجرؤون أن يتكلموا في أي مسألة وإن صغرت بغير علم، ويبرؤون من ذلك، فعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَهْ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ آيَةٍ، فَقَالَ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟! وَأَيْنَ أَذْهَبُ؟! وَكَيْفَ أَصْنَعُ إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا؟!([18]).
وعَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ نَمْشِي، فَلَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَأَلْت عَنْك فَدُلِلْت عَلَيْك، فَأَخْبِرْنِي أَتَرِثُ الْعَمَّةُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: أَنْتَ لَا تَدْرِي؟! قَالَ: نَعَمْ؛ اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ فَاسْأَلْهُمْ. فَلَمَّا أَدْبَرَ قَبَّلَ يَدَيْهِ قَالَ: نِعمَّا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ: لَا أَدْرِي([19]).
وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ([20]). وَقَالَ: سَمِعْت ابْنَ هُرْمُزَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ جُلَسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ “لَا أَدْرِي”، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَيْدِيهِمْ يَفْزَعُونَ إلَيْهِ([21]). وقال: سَمِعْت ابْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: إذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ “لَا أَدْرِي” أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ([22]).
ولقد كان السلف رضوان الله عليهم يعتبرون من أقبح الأشياء القول بغير علم، مهما كانت مكانتهم، ومهما كان قدرهم، فعن أبي عَقِيلٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، فَلَا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ، وَلَا فَرَجٌ أَوْ عِلْمٌ، وَلَا مَخْرَجٌ. فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ: يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرُ ثِقَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ([23]).
وَقَالَ الْقَاسِمُ: مِنْ إكْرَامِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ. وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَاَللَّهِ لَا نَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَسْأَلُونَنَا عَنْهُ، وَلَأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلًا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ([24]).
وقال أبو وهب محمد بن مزاحم: قيل للشعبي: إنا لنستحيي من كثرة ما تُسأل فتقول: لا أدري، فقال: لكن ملائكةُ الله المقربون لم يستحيوا حيث سئلوا عما لا يعلمون أن قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}([25]).
هذا حال سلف هذه الأمة، كانوا يعتبرون قول القائل: “لا أدري” شرفًا، فابتلينا في هذه الأيام بمن تجرؤوا على الفتيا، وتوثّبوا عليها، ومدّوا باع التكلف إليها، “يَمُدُّونَ لِلْإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْفَتَاوَى يُكَذْلِكُ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ نَصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا مُفْتٍ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ، فَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ مَنْ يَكْتُبُ الْجَوَابَ، فَيَكْتُبُ تَحْتَهُ: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ، فَقُدِّرَ أَنْ اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ فِي جَوَابٍ، فَكَتَبَ تَحْتَهُمَا: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا قَدْ تَنَاقَضَا، فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا تَنَاقَضْتُ كَمَا تَنَاقَضَا”([26]).
ومن الأمثلة على الإفتاء بغير علم في عصرنا الحاضر:
من يفتي بجواز تقبيل الشباب للفتيات معتبرا أن القبلات بين غير المتزوجين من الشباب والفتيات من الضعف البشري، ويدخل ضمن اللمم في الإسلام، أي: الذنوب الصغيرة التي تُمحى([27]).
2- الجواب عن كل ما يُسأل عنه:
ومن أصول الخطأ في الفتيا جواب المفتي عن كل ما يسأل عنه؛ فتجد من يجيب في كل شيء يسأل عنه، كأنه جمع علم الأولين والآخرين.
جاء في كتب المحاضرات أن رجلا كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل وهي “الخنفشار”، فسألوه عنها، فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت في أطراف اليمن إذا أكلته الإبل عقد لبنها قال شاعرهم اليمني:
لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار
وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان وفلان… وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوقفوه وقالوا: كذبت على هؤلاء، فلا تكذب على النبي صلي الله عليه وسلم([28]).
ولذا كان السلف يعدون الفتوى في كل شيء ضربًا من الجنون، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ”([29]).
وَقَالَ الْهَيْثَم بن جميل: شهِدت مَالِكًا سُئِلَ عَن ثَمَان وَأَرْبَعين مَسْأَلَة، فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي، وَقيل: رُبمَا كَانَ يسْأَل عَن خمسين مَسْأَلَة فَلَا يُجيب فِي وَاحِدَة مِنْهَا. وَكَانَ يَقُول: من أجَاب فِي مَسْأَلَة فَيَنْبَغِي من قبل أَن يُجيب فِيهَا أَن يعرض نَفسه على الْجنَّة وَالنَّار، وَكَيف يكون خلاصه فِي الْآخِرَة ثمَّ يُجيب فِيهَا. وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقيل لَهُ: إِنَّهَا مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة، فَغَضب وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعلم خَفِيف، أما سَمِعت قَول الله تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}؟! فالعلم كُله ثقيل، وخاصة مَا يسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة([30]).
هذا هو هدي السلف، كانوا لا يتكلمون إلا بعلم، ولا يفتون إلا بما يعرفون، ويتشرفون بقولهم: “لا ندري”، فخلف من بعدهم خلف تجرؤوا على الله، وتكلّموا في كل شيء، بعلم وبغير علم.
قال ابن جماعة الكناني: “واعلم أن قول المسؤول: (لا أدري) لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه؛ لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته، وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول: (لا أدري) من ضعفت ديانته وقلّت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه”([31]).
بل كانوا يعتبرون تلقين الطالب (لا أدري) من أصول طلب العلم، قَالَ ابْن هُرْمُزَ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ جُلَسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ (لَا أَدْرِي)، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَيْدِيهِمْ يَفْزَعُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (لَا أَدْرِي) نِصْفُ الْعِلْمِ([32]).
ولقد ساهم في حدوث هذه الظاهرة في حياة المسلمين المعاصرة برامج الفتاوى على الفضائيات، فتجد المذيع أو طالب العلم قد عقد المجلس ليجيب على المتصلين، فبعضهم يجيب على أسئلة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، ويا ليته يصيب الجواب الصحيح، إذًا لهان الخطب، ولكنه يخبط خبط عشواء، ولا يجسر أن يقول على الهواء: “لا أدري”.
ولقد أعد مركز البحوث والدراسات الفقهية بموقع الفقه الإسلامي تقريرًا عن برامج الفتاوى على بعض القنوات الفضائية لمدة ثلاثة أشهر، وذكروا أن الداعي لعمل التقرير هو ما يوصف في بعض الأحيان بالتفلّت وعدم الانضباط في بعض الفتاوى.
وذكر التقرير أن عدد الفتاوى في الثلاثة أشهر بلغ (4571) فتوى.
وذكر التقرير بعض صور عدم الانضباط في الفتوى مثل:
– عدم موافقة الجواب للسؤال.
– وجود فتاوى تحتاج إلى مراجعة.
– افتقاد الدقة في الحكم على الأحاديث([33]).
والملاحظ على هذا التقرير ما يلى:
أولًا: أنه تم عمله على بعض القنوات الدينية ولم يتطرق التقرير لغيرها من القنوات. فإذا كانت هذه الأخطاء في القنوات المتخصصة، فكيف الأمر في غيرها؟!
ثانيًا: أنه ذكر عدد الأسئلة، وأهم الملاحظات في الإجابة عليها، ولم يذكر أن أحد هؤلاء المفتين قال مرة عن جوابه: “لا أدري”، وما ترك من أسئلة دون إجابة كان غفلة من المفتي، ولم يكن اعترافًا بعدم العلم بالإجابة.
والواجب أن نُفَعِّل هذه الكلمة: “لا أدرى” في برامجنا وقنواتنا الفضائية، لا نستحيي من أحد، بل هذه سنة ينبغي أن نحييها في الأمة مرة ثانية.
3- التعجّل في الفتيا:
ومن أصول الخطأ في الفتيا التسرع والتعجل فيها، وهو تسرع المفتي في تبيين الحكم الشرعي للسائل، تسرعًا بقصد أو دون قصد؛ يؤدي إلى مخالفة حكم الشارع في المسألة.
وهذه المسالة من أخطر المزالق والأخطاء التي تقع في فتوى العالم، بل كان السلف يعدونها نوعًا من الجهل والحماقة.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخَرْقِ. قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: التَّأَنِّي مِن اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ([34]).
وكان أهل العلم يعدون التعجل في الفتوى نوعًا من التساهل الذي لا يجوز للمفتي أن يقع فيه، ويعدون هذا من الجهل وقلة النظر ورقة الدين، قال ابن الصلاح: “لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتي، وذلك قد يكون: بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيَضل ويُضل”([35]).
ولذا كانوا يضعون منهجًا لمن تُعرض عليه الفتوى، إذا اتبعه المفتي وعمل به قلما يقع في الخطأ، وإن أخطأ بعد الدقة وتحري النظر والتريث وعدم التعجل فهو معذور مأجور بإذن الله تعالى، قال البغدادي: “فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَتَأَمَّلَ رُقْعَةَ الِاسْتِفْتَاءَ تَأَمُّلًا شَافِيًا، وَيَقْرَأُ مَا فِيهَا كُلَّهُ كَلِمَةً بَعْدَ كَلِمَةٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِهِ، وَتَكُونُ عِنَايَتُهُ بِاسْتِقْصَاءِ آخِرِ الْكَلَامِ أَتَمَّ مِنْهَا فِي أَوَّلِهِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ يَكُونُ بَيَانُهُ عِنْدَ آخِرِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يَتَقَيَّدُ جَمِيعُ السُّؤَالِ، وَيَتَرَتَّبُ كُلُّ الِاسْتِفْتَاءِ بِكَلِمَةٍ فِي آخِرِ الرُّقْعَةِ. فَإِذَا قَرَأَ الْمُفْتِي رُقْعَةَ الِاسْتِفْتَاءِ فَمَرَّ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّقْطِ وَالشَّكْلِ، نَقَّطَهُ وَشَكَّلَهُ، مَصْلَحَةً لِنَفْسِهِ، وَنِيَابَةً عَمَّنْ يُفْتِي بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَى لَحْنًا فَاحِشًا، أَوْ خَطَأً يُحِيلُ الْمَعْنَى، غَيْرَ ذَلِكَ وَأَصْلَحَهُ”([36]).
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى مَالِكٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَمَكَثَ أَيَّامًا مَا يُجِيبُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَأَطْرَقَ طَوِيلًا وَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، يَا هَذَا، إنِّي أَتَكَلَّمُ فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ، وَلَسْت أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِهِ([37]).
والتعجل في الفتوى يؤدّي إلى عدم تصور المفتي للسؤال تصورًا كاملًا، فإن أفتى على هذه الحال فقد وقع في الحرام إجماعًا، قال البهوتي: “وَيَحْرُمُ عَلَى مُفْتٍ إطْلَاقُ الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إجْمَاعًا، فَمَنْ سُئِلَ: أَيُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ أَوْ نَحْوُهُ بِرَمَضَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ؟ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: الْفَجْرُ الْأَوَّلُ أَوْ الْفَجْرُ الثَّانِي؟ وَمِثْلُهُ مَا امْتُحِنَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ وَجَحَدَهُ هَلْ لَهُ أُجْرَةٌ إنْ عَادَ وَسَلَّمَهُ لِرَبِّهِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ قَصَّرَهُ قَبْلَ جُحُودِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ جُحُودِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَرَهُ لِنَفْسِهِ”([38]).
وهذا الإجماع الذي نقله البهوتي دل عليه الحديث الصحيح، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبَتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ»([39]).
“وَكَانَ أَيُّوبُ إذَا سَأَلَهُ السَّائِلُ قَالَ لَهُ: أَعِدْ، فَإِنْ أَعَادَ السُّؤَالَ كَمَا سَأَلَهُ عَنْهُ أَوَّلًا أَجَابَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُجِبْهُ. وَهَذَا مِنْ فَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ عَدِيدَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَزْدَادُ وُضُوحًا وَبَيَانًا بِتَفَهُّمِ السُّؤَالِ، وَمِنْهَا أَنَّ السَّائِلَ لَعَلَّهُ أَهْمَلَ فِيهَا أَمْرًا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فَإِذَا أَعَادَهَا رُبَّمَا بَيَّنَهُ لَهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَسْئُولَ قَدْ يَكُونُ ذَاهِلًا عَنْ السُّؤَالِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَحْضُرُ ذِهْنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا بَانَ لَهُ تَعَنُّتُ السَّائِلِ وَأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِذَا غَيَّرَ السُّؤَالَ وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ فَرُبَّمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَأَنَّهَا مِنْ الْأُغْلُوطَاتِ أَوْ غَيَّرَ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي لَا يَجِبُ الْجَوَابُ عَنْهَا”([40]).
ولذا كان من عادة أهل العلم التثبت والتحري، فإن اشتبه عليه لفظ وقف، ولم يفتِ حتى يتثبت. ومما يروى في ذلك ما رواه الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطُ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ أَبِي مُجَالِدٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِرُقْعَةٍ فِيهَا مَسْأَلَةٌ، فَقَالَ لِي: اقْرَأْ عَلَيَّ يَا أَبَا الْحُسَيْنِ. قَالَ: فَأَخَذْتُ الرُّقْعَةَ فَإِذَا فِيهَا: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ تَمَّ وَقْفُ عَبْدَانِ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، مَا حَالُ وَقْفِ عَبْدَانِ؟ فَقَالَتْ لَهُ: لَسْتُ أَعْرِفُ وَقْفَ عَبْدَانِ. فَقَالَ لِي: أَعِدِ الْقِرَاءَةَ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كَمَا قَرَأْتُ أَوَّلًا. فَقَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، تَمَّ وَقْفُ عَبْدَانِ هَذَا أَوْ لَمْ يَتِمَّ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، مَا أَعْرِفُ وَقْفَ عَبْدَانِ. وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمُ: انْظُرُوا فِي رُقْعَةِ الْمَرْأَةِ، فَنَظَرُوا فَكُلٌّ قَالَ كَمَا قُلْتُ، ثُمَّ انْتَبَهَ لِمَا فِي الرُّقْعَةِ بَعْضُهُمْ فَإِذَا فِيهَا: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ تَمَّ وَقْفٌ عِنْدَ (إِنْ)([41]).
فانظر -رحمك الله- كيف أنه راجع المرأة مرات عديدة، وعرض الرقعة على الحضور، حتى تثبت من السؤال. قارن ذلك بما نراه اليوم في الفضائيات من الجرأة على الفتوى، والتسرع في الإجابة، وأحيانًا لا يسمع المفتي السؤال كاملًا، فيفتي بالظن والتخمين والاحتمالات، فيتسبب ذلك في أخطاء عظيمة لا تحمد عواقبها، لا سيما أنه قد يجيب على السؤال على حسب فهمه هو، ويكون المستفتي قاصدًا أمرًا آخر.
وسواء كان الخطأ من المستفتي في عدم إيضاحه للسؤال، أو من المستفتى في عدم الاستيضاح والتعجل في الإجابة، فإن هذا قطعًا سيؤدي إلى مفاسد عظيمة.
قال ابن حمدان: “يحرم التساهل فِي الْفَتْوَى، واستفتاء من عرف بذلك، إِمَّا لتسارعه قبل تَمام النّظر والفكر، أَو لظَنّه أَن الْإِسْرَاع براعة وَتَركه عجز وَنقص، فَإِن سبقت مَعْرفَته لما سُئِلَ عَنهُ قبل السُّؤَال فَأجَاب سَرِيعا جَازَ”([42]).
ولقد عد ابن القيم هذا نوعًا من الطيش الذي ينبغي أن يتنزه عنه العالم فقال رحمه الله: “فَلَيْسَ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُ إلَى الْحِلْمِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ فَإِنَّهَا كِسْوَةُ عِلْمِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِذَا فَقَدَهَا كَانَ عِلْمُهُ كَالْبَدَنِ الْعَارِي مِنْ اللِّبَاسِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا قُرِنَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ عِلْمٍ إلَى حِلْمٍ. فَالْحِلْمُ زِينَةُ الْعِلْمِ وَبَهَاؤُهُ وَجَمَالُهُ، وَضِدُّ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ وَالْحِدَةِ وَالتَّسَرُّعِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ”([43]).
ومن مظاهر التعجل في الفتوى في حياة المسلمين المعاصرة:
ما نراه في الفضائيات من تعجُّل بعضهم في الإجابة على الأسئلة دون أن يستمع السؤال كاملًا من السائل، وهناك من الأسئلة ما يحتاج إلى تحقيق مناطاتها أولًا.
ومن أمثلة ذلك: تعجُّل بعض المفتين في الإفتاء في مسائل التعامل مع البنوك الربوية، والتعجل في الإفتاء في قضايا الطلاق والزواج، لا سيما أن المفتي قد لا يسمع من صاحب السؤال نفسه، بل أحيانًا على لسان غيره.
فأحيانا تسأل الزوجة عن مسألة في الطلاق على لسان زوجها، فيتسرع المفتي ويفتيها دون أن يعلم حقيقة اللفظ وملابسات الواقعة.
وأحيانًا نجد من يفتي في بعض قضايا المعاملات وقد لا يستمع للسؤال كاملًا، أو يكون في غير تخصصه، فيحلّ الحرام أو يحرم الحلال من حيث لا يدري. وأحيانا يكون السؤال غير واضح وينقطع الاتصال، ورغم ذلك يجيب المفتي بالظن والتخرص.
ولقد جاء في التقرير السابق الذي أعده مركز البحوث والدراسات بموقع الفقه الإسلامي بعض الصور الخاطئة نتيجة التسرع في الفتوى، مثل:
– عدم موافقة الجواب للسؤال.
– افتقاد الإجابة إلى تدقيق وتروٍّ.
– إغفال أمور أساسية في الفتوى لا بد من ذكرها([44]).
4- الإفتاء دون مراعاة الواقع ومآلات الأمور:
ومن أصول الخطأ في باب الفتيا عدم مراعاة المفتي للواقع، وعدم تقديره لمآلات الأمور. وهذا من أهم ضوابط الفتوى التي يجب أن يلتزم بها من يتصدر ليفتي الناس، لا سيما في حياتنا المعاصرة.
“فلا يكفي المفتي مجرد معرفة حكم الله في المسألة، ولا أقوال أهل العلم فيها، بل لا بد من النظر في الواقع، وفي مآلات الأمور، ومن أخل بجانب فقه الواقع فقد أضاع للناس حقوقهم، ونسب هذا إلى شريعة الله التي تأبى كل هذا، وعلى هذا فالواجب على المفتي التعرف على عادات الناس واصطلاحاتهم الخاصة ومقاصدهم وأعرافهم في أماكن عملهم ومصانعهم وشركاتهم؛ حتى تكون فتواه مبنية على فهم سليم”([45]).
قال ابن عابدين: “إن جمود المفتي والقاضي على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقرائن الواضحة والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة، وظلم خلق كثيرين”([46]).
وقال ابن القيم مبينًا ضرورة معرفة المفتي بعادات الناس وأعرافهم: “لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَيْمَانِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ بِمَا اعْتَادَهُ هُوَ مِنْ فَهْمِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ عُرْفَ أَهْلِهَا وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا، فَيَحْمِلَهَا عَلَى مَا اعْتَادُوهُ وَعَرَفُوهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِحَقَائِقِهَا الْأَصْلِيَّةِ، فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ضَلَّ وَأَضَلَّ؛ فَلَفْظُ الدِّينَارِ عِنْدَ طَائِفَةٍ اسْمٌ لِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ اسْمٌ لِاثْنَيْ عَشْرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ عِنْدَ غَالِبِ الْبِلَادِ الْيَوْمَ اسْمٌ لِلْمَغْشُوشِ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ”([47]).
ومراعاة حال السائل وتقدير مآلات الأمور أمر معروف عند سلف هذه الأمة، بل جاءت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما رواه عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ شَابٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: «لَا»، فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَالَ: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ»([48]).
وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لحال الناس، فقد قبل من هذا ما رده على هذا، وأجاز لهذا ما لم يجزه لهذا، وهذا من سماحة الإسلام، والفقه في الدعوة إلى الله تعالى، ومراعاة مآلات الأمور.
وهذا فعل ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، فعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا تَوْبَةٌ؟ قَالَ: لَا إِلَّا النَّارُ. فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: مَا هَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا! كُنْتَ تُفْتِينَا أَنَّ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا تَوْبَة مَقْبُولَة، فَمَا بَالُ الْيَوْمِ؟ قَالَ: إِنِّي أَحْسِبُهُ رَجُلٌ مُغْضَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا. قَالَ: فَبَعَثُوا فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ([49]).
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر على من نهى التتار عن شرب الخمر مراعاة للحال واعتبارًا للمآل، فلقد قال ابن القيم: “وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ- يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، فَدَعْهُمْ”([50]).
ومن المعلوم أنه ليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال يقال لكل أحد، ولا كل ما يقال لكل أحد يقال في كل وقت. ولقد بوب البخاري على ذلك فقال: “باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا”([51]). وروى عن عَلِيٌّ رضي الله عنه أنه قال: “حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!”([52]). قال ابن حجر: “وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة”([53]).
وعن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: “مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً”([54]).
وفي واقعنا المعاصر كم سببت فتاوى لم يراعِ أصحابها واقع الحال واعتبار المآل من فتن في المجتمع وتضييق على الدعوة! ترتب عليها اتهام الدعاة بالتشدد تارة، والتساهل تارة، وبالجهل تارةً أخرى؛ لأن أصحابها لم يراعوا واقع الحال ولا فقه المآل، فأضروا بأنفسهم ودعوتهم من حيث ظنوا أنهم يريدون نصرة الإسلام.
وهذا في عالم الفتاوى لا سيما على شاشات الفضائيات أكثر من أن يحصر، والمقصود أن الفتوى قد تكون بنيت على دليل شرعي صحيح؛ لكن صاحبها لم يراع حال السائل وواقع الناس، وهذا يدفع الناس إما إلى العمل بها تبعا لقول المفتي فتقع المفاسد التي تصل إلى إراقة الدماء والقتل والحبس، وإما إلى ترك كلام المفتي بالكلية مع سبه وتجهيله والطعن في دينه وعلمه ودعوته.
5- التيسير في الفتوى أو التشديد فيها:
التخفيف في الفتوى أو التشديد فيها دون ضرورة من أخطر المزالق التي تقع في الفتوى، حتى إنه وُجد علم جديد سمَّوه: “علم فقه التيسير”، وإن شئت قلت: هو علم فقه التحايل على شرع الله تعالى.
وفي المقابل ظهر فقه جديد يسمى: “الفقه الأحوطي” الذي يقوم على الاحتياط، وهو في غالبه تعنُّتٍ وتنطُّعٍ.
وكثير من هؤلاء المفتين يصدرون هذه الفتاوى إما تحت ضغط الجماهير، أو تحت ضغط السلطة والحكام، أو للوصول لمنصب معين أو دنيا يصيبها، أو انتصارًا لمذهب أو لفكر، أو مُحَابَاةً لقريب أو لحبيب.
قال ابن القيم: “لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَابِيَ مَنْ يُفْتِيهِ فَيُفْتِيَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ صديقَهُ بِشَيْءٍ وَيُفْتِيَ غَيْرَهُمْ بِضِدِّهِ مُحَابَاةً، بَلْ هَذَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُحَابَاةِ”([55]).
وأمثال هؤلاء كما قال ابن الجوزي: “بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالطَّرِيقِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالطِّبِّ وَهُوَ يَطِبُّ النَّاسَ، بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ”([56]).
وبعض هؤلاء يتحايل على الشرع؛ ليحل حرامًا أو ليحرم حلالًا، ظنًا منه أن هذا من باب التيسير على الناس، أو من باب التشديد عليهم.
وهذا الفعل حرام بإجماع المسلمين، قال ابن الصلاح: “وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو الكراهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه، ونسأل الله تعالى العافية والعفو”([57]). وقال ابن القيم: “وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ يَقَعُ فِيهِ الْمُفْتِي الْجَاهِلُ، فَيَغُرُّ النَّاسَ، وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُغَيِّرُ دِينَهُ، وَيُحَرِّمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَيُوجِبُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ”([58]).
بل قد يؤول الأمر بالمفتي إلى الردة والزندقة والعياذ بالله، فيبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. وهذا عبد الله بن المبارك سمع قصة امرأة أُمرت بِالِارْتِدَاد عن دينها كي تَبِين من زوجها، فحكم ابن المبارك على من أفتاها بالردة. قال ابن القيم: “إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ، فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ: أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ أَوْ هَوِيَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا أرَى الشَّيْطَانُ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ”([59]).
وعلى هذا فالْفَقِيهِ حَقَّ الْفَقِيهِ الذي يستحق فعلًا أن يتصدر للفتوى “هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْمَعْهُودِ الْوَسَطِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ؛ فَلَا يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلَا يَمِيلُ بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الِانْحِلَالِ؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ بُغِّضَ إِلَيْهِ الدِّينَ، وَأَدَّى إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ، وَأَمَّا إِذَا ذُهِب بِهِ مَذْهَبَ الِانْحِلَالِ كَانَ مَظِنَّةً لِلْمَشْيِ مَعَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا جَاءَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْهَوَى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة”([60]).
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: “أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مَكْرَ اللَّهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ، وَلَا خَيْرَ فِي فِقْهٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، وَلَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ”([61]).
وفي واقعنا المعاصر الأمثلة على التساهل أو التشديد في الفتوى كثيرة، تملأ الصحف والمجلات وشاشات الفضائيات، من متصدِّرين غرُّوا الناس بأشكالهم ودرجاتهم العلمية وجلوسِهم خلف الشاشات والفضائيات. وما أجدر أن يوصف هؤلاء بقول ابن القيم رحمه الله:
“فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ لَقَالَ النَّاسُ: يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ!
وَهَذَا الضَّرْبُ إنَّمَا يُسْتَفْتَونَ بِالشَّكْلِ لَا بِالْفَضْلِ، وَبِالْمَنَاصِبِ لَا بِالْأَهْلِيَّةِ؛ قَدْ غَرَّهُمْ عُكُوفُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَيْهِمْ، وَمُسَارَعَةُ مَنْ أَجْهَلُ مِنْهُمْ إلَيْهِمْ، تَعجُّ مِنْهُمْ الْحُقُوقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَجِيجًا، وَتَضجُّ مِنْهُم الْأَحْكَامُ إلَى مَنْ أَنْزَلَهَا ضَجِيجًا”([62]).
6- تتبُّع الرخص والأخذ بالأقوال الشاذة:
من أصول الخطأ في باب الفتوي: تتبع المفتي للرخَص، والأخذ بالأقوال الشاذة في المذاهب، فيختار من كل مذهب الأهونَ والأسهلَ حتى ولو كان قولًا شاذًّا في هذا المذهب.
فنجد البعض يتتبع زلات العلماء وهناتهم، ويأتي بالأقوال الشاذة والضعيفة في كل مذهب باسم الترخّص والتيسير، ويصل الأمر أحيانًا إلى التلفيق بين هذه الأقوال؛ ليخرج بقول جديد لم يأتِ به أحد قبلَه.
قال ابن القيم: “لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، وَلَا تَتَبُّعُ الرُّخَصِ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ، فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ فَسَقَ، وَحَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ”([63]).
أما التيسير المحمود في الفتوى فله شروط وضوابط وضعها أهل العلم منها:
أ- أن يكون التيسير وفق أصول الشريعة وأدلتها.
ب- أن يكون المقتضي للتيسير متحققًا من دفع مشقة عامة أو خاصة.
ت- ألا يفضي إلى ترك الواجبات وانتهاك المحرمات([64]).
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ([65]).
فالشريعة كلها يسر وسماحة، ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج، ولم يكلفنا فوق ما نطيق، ولم يحرم علينا ما فيه مصلحة راجحة لنا. فالتيسير هو الأخذ بما جاءت به الشريعة السمحة، القائمة على اليسر ورفع الحرج، وليس بتحليل المحرمات، أو التحلل من الواجبات، وإنما هو الأخذ بالدليل: تخفيفًا في موضع التخفيف، وتكليفًا في موضع التكليف.
وأما ترك الراجح البيّن في المسائل الخلافية، والأخذ بالأقوال المرجوحة الشاذة الموافقة لأهواء الناس وانحرافاتهم، والزعم بأن هذا أيسر على الناس، وأن دين الله يسر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فهذا تلاعب بدين الله، واتباع للهوى، وترك للحق والهدى والشريعة([66]).
قال الذهبي: “وَمَنْ تَتَبَّعَ رُخَصَ المَذَاهِبِ وَزَلاَّتِ المُجْتَهِدِيْنَ فَقَدْ رَقَّ دِيْنُهُ، كَمَا قَالَ الأَوْزَاعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ: مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ المَكِّيِّيْنَ فِي المُتْعَةِ، وَالكُوْفِيِّيْنَ فِي النَّبِيذِ، وَالمَدَنِيِّينَ فِي الغِنَاءِ، وَالشَّامِيِّينَ فِي عِصْمَةِ الخُلَفَاءِ، فَقَدْ جَمَعَ الشَّرَّ. وَكَذَا مَنْ أَخَذَ فِي البُيُوْعِ الرّبَوِيَّةِ بِمَنْ يَتَحَيَّلُ عَلَيْهَا، وَفِي الطَّلاقِ وَنِكَاحِ التَّحْلِيْلِ بِمَنْ تَوسَّعَ فِيْهِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلانحِلالِ، فَنَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وَالتَّوفِيْقَ”([67]).
رَوَى أَبُو العَبَّاسِ بن سُرَيْج عَنْ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى المُعْتَضِد، فَدَفَعَ إِليَّ كِتَابًا، فنظرتُ فِيْهِ، فَإِذَا قَدْ جَمَعَ لَهُ فِيْهِ الرُّخَص مِنْ زلل العُلَمَاء، فَقُلْتُ: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيْقٌ. فَقَالَ: أَلم تَصِحَّ هَذِهِ الأَحَادِيْث؟! قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ المُسْكر لَمْ يُبح المُتْعَة، وَمَنْ أَبَاحَ المُتْعَة لَمْ يُبِحِ الغِنَاء، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّة، وَمن أَخَذَ بِكُلِّ زَلَل العُلَمَاء ذهبَ دِينُه؛ فَأَمَرَ بِالكِتَابِ فَأُحْرِق([68]).
وكما أنه يحرم على العالم تتبع الرخص عندما يفتي الناس، فكذلك يحرم على العامي تتبع الرخص والبحث عنها في فتاوى العلماء، فهذا يؤدي إلى الزندقة والرقة في الدين. قال المرداوي: “يحرم على الْعَاميّ تتبع الرُّخص، وَهُوَ أَنه كلما وجد رخصَة فِي مَذْهَب عمل بهَا وَلَا يعْمل بغَيْرهَا فِي ذَلِك الْمَذْهَب، بل هَذِه الفعلة زندقة من فاعلها، كَأَن الْقَائِل بِهَذِهِ الرُّخْصَة فِي هَذَا الْمَذْهَب لَا يَقُول بِالرُّخْصَةِ بِتِلْكَ الرُّخْصَة الْأُخْرَى”([69]).
7- الفتوى بما يخالف النص الشرعي:
ومن أصول الخطأ في الفتوى: أن يفتي المفتي بما يخالف النص؛ إما إعمالًا لعقله مع النص، أو استحسانًا، أو اتباعًا للهوى.
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره الشاطبي قال: “حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ أنه وطئ فِي نهار رَمَضَانَ، فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَّارَتِهِ. فَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: يُكَفِّرُ ذَلِكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَلَمَّا بَرَزَ ذَلِكَ مِنْ يَحْيَى سَكَتَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ. فَقَالُوا لِيَحْيَى: مَا لَكَ لَمْ تُفْتِهِ بِمَذْهَبِنَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ فَتَحْنَا لَهُ هَذَا الْبَابَ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ كُلَّ يَوْمٍ وَيُعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَكِنْ حَمَلْتُهُ عَلَى أَصْعَبِ الْأُمُورِ لِئَلَّا يَعُودَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ”([70]).
قال ابن القيم: “لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ”. ثم ساق العديد من الأمثلة على هذه القاعدة مثل: “أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ: هَلْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فَيَقُولَ: لَا يُتِمُّهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ»([71]). وَمِثْل أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا: هَلْ يُتِمُّ صَوْمَهُ؟ فَيَقُولَ: لَا يُتِمُّ صَوْمَهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»([72]). وَمِثْل أَنْ يُسْأَلَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ: هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ فَيَقُولَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ»([73]). وَمِثْل أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْوَاهِبِ: هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا أَوْ قَرَابَةً فَلَا يَرْجِعُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ»([74]). وَمِثْل أَنْ يُسْأَلَ: هَلْ يَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَيَقُولَ: لَا يَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا خَشِيَتْ الصُّبْحَ فَأُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ»([75])… وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَلَا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ”([76]).
8- الفتوى بالهوى:
من أصول الخطأ في باب الفتوى: أن يتبع المفتى هواه في الترجيح بين الأقوال المختلفة والآراء المتباينة بغير مرجح من دليل نقلى، أو نظر عقلي، أو اعتبار مصلحي، إلا مجرد الميل النفسي إلى ذلك القول، موافقة لمذهبه، أو قول شيخه، أو تشديدًا أو تخفيفًا على من يفتيه؛ ولذا حذر العلماء من هذا الاتجاه واعتبروه زيغًا عن الحق وانحرافًا عن المنهج واتباعا للهوى.
قال ابن القيم: “لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ مِنْ التَّرْجِيحِ وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ، بَلْ يَكْتَفِي فِي الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ قَوْلًا قَالَهُ إمَامٌ أَوْ وَجْهًا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَيَعْمَلُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْوُجُوهِ وَالْأَقْوَالِ حَيْثُ رَأَى الْقَوْلَ وَفْقَ إرَادَتِهِ وَغَرَضِهِ عَمِلَ بِهِ، فَإِرَادَتُهُ وَغَرَضُهُ هُوَ الْمِعْيَارُ وَبِهَا التَّرْجِيحُ، وَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا حَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ زَمَانِهِ مِمَّنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَوْ فُتْيَا أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ. وَقَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَأَفْتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِيَيْنِ بِمَا يَضُرُّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا حَضَرَ سَأَلَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَقَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا لَكَ، وَأَفْتَوْهُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُوَافِقُهُ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ وَالْإِفْتَاءُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالتَّشَهِّي وَالتَّخَيُّرِ وَمُوَافَقَةِ الْغَرَضِ، فَيَطْلُبُ الْقَوْلَ الَّذِي يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَغَرَضَ مِنْ يُحَابِيهِ فَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُفْتِي بِهِ، وَيَحْكُمُ بِهِ، وَيَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ وَيُفْتِيهِ بِضِدِّهِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَقِ الْفُسُوقِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ”([77]).
9- عدم تحري أهل العلم الموثوق منهم للإجابة على الفتوى:
من أصول الخطأ التي يقع فيها الكثير من الناس: عدم تحري أهل العلم الموثوق فيهم للإجابة على فتواهم، والبعض قد يغتر بمظهر من يستفتيه.
روي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك! فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا بن أخي، الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: “والله لأن يقطع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا علم لي به([78]).
والعامي فرضه سؤال أهل العلم، لكنه يجب أن يتحرى في اختيار من يسأله منهم، فلا يسأل إلا من ظهر علمه، وبان للناس ورعه، واستفاضت شهرته بالفتوى بين الناس، ولم يعرف عنه مداهنة ولا مجاملة.
قَالَ ابْنِ عَوْنٍ: “إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ دِينَكَ”([79]).
وقال يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ: “إِنَّ الْعَالِمَ حُجَّتُكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَانْظُرْ مَنْ تَجْعَلُ حُجَّتَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”([80]).
مع ملاحظة عدم الاغترار بالمناصب أو الرتب العلمية عند الاستفتاء، فليس كل من حصل شيئًا من المراتب كان فقيهًا. قال شيخ الإسلام: “وَالْمَنْصِبُ وَالْوِلَايَةُ لَا يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا عَالِمًا مُجْتَهِدًا، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِالْوِلَايَةِ وَالْمَنْصِبِ لَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ”([81]).
والله عز وجل أمرنا بتحري أهل العلم عند السؤال وجوبًا، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وأهل الذكر هم أهل العلم المشهود لهم بالفضل والورع والفقه والدين. قال البغدادي: “أَوَّلُ مَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَنْ يَطْلُبَ الْمُفْتِيَ، لَيَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ نَازِلَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلَّتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِدُهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِ لَزِمَهُ الرَّحِيلُ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، فَقَدْ رَحَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي مَسْأَلَةٍ”([82]).
والحذرَ الحذرَ منِ استفتاء من ليس بأهل للفتوى، فإذا استُفتي من ليس بأهل فقد ظهر في الإسلام أمر عظيم وثلمة لا تسدّ، وحقّ لنا أن نبكي بكاء ربيعة، قال مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ وَارْتَاعَ لِبُكَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَمُصِيبَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ رَبِيعَةُ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسَّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ([83]).
“قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا، وَإِقْدَامُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَى الْفُتْيَا وَتَوَثُّبَهُ عَلَيْهَا، وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إلَيْهَا، وَتَسَلُّقَهُ بِالْجَهْلِ وَالْجُرْأَةَ عَلَيْهَا، مَعَ قِلَّةِ الْخِبْرَةِ وَسُوءِ السِّيرَةِ وَشُؤْمِ السَّرِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُنْكَرٌ أَوْ غَرِيبٌ، فَلَيْسَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ نَصِيبٌ، وَلَا يُبْدِي جَوَابًا بِإِحْسَانٍ، وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدْرُ فَتْوَاهُ كَذَلِكَ يَقُولُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ”([84]).
ونحن نقول: هذا قاله ربيعة في زمانه، فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وقد ظن الناس أن كل من لبس العمامة عالمٌ، وأن كل من ظهر على الشاشة كان أهلا للفتيا. بل إن التساهل في هذا الأمر وصل لدرجة أن الناس يفتي بعضهم بعضًا، وفي مسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، فيفتي بعضهم بعضا في الطلاق، وفي الحدود، وفي المواريث، وأصبحت الفتيا صناعةَ من لا صناعةَ له.
والعلماء لم يجيزوا للمستفتي العمل بالفتوى التي سمعها من عالم إذا لم تطمئن نفسه إليها، فما بالك إذا كان المفتي ليس أهلا للفتوى؟! قال ابن القيم: “لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذَا لَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ مِنْ قَبُولِهِ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا”([85]).
بل البعض قد يعلم بجهل المفتي، أو أنه قد جانبه الصواب في الفتوى، أو أن الأمر بخلاف ذلك، ورغم ذلك يعمل بفتواه؛ فقط لأنها توافق هواه! فإن سألته: لماذا فعلت كذا؟ يقول: أجابني فلان.
قال ابن القيم: “وَلَا يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أَنَّ مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ لَهُ مَا سَأَلَ عَنْهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ فِي الْبَاطِنِ، سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أَوْ حَاكَ فِي صَدْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِشَكِّهِ فِيهِ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ جَهْلَ الْمُفْتِي أَوْ مُحَابَاتِهِ فِي فَتْوَاهُ أَوْ عَدَمَ تَقْيِيدِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَلِ وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا”([86]).
وفي مثل هؤلاء المستفتين والمفتين قال ابن القيم: “وَكَانَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ لِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ: أَجعلت مُحْتَسِبًا عَلَى الْفَتْوَى؟! فَقُلْتُ لَهُ: يَكُونُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَالطَّبَّاخِينَ مُحْتَسِبٌ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْفَتْوَى مُحْتَسِبٌ؟!”([87]).
10- الإفتاء في مسألة ليس له فيها إمام:
من أصول الخطأ في الفتوى: أن يتكلم المفتي في مسألة ليس له فيها إمام، وهذا ما حذر منه السلف رضوان الله عليهم.
قال سفيان الثوري: “إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَحُكَّ رَأْسَكَ إِلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ”([88]).
قال البربهاري رحمه الله: “كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء؟ فإن وجدت فيه أثرا عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء، ولا تختار عليه شيئا فتسقط في النار”([89]).
فهذا كلام البربهاري لأهل زمانه، فكيف الحال في زماننا وقد غلب على الناس الجهل والفتيا بالهوى؟!
ولكن هل يطالب أن يكون للمفتي سلف في كل مسالة؟
والجواب: هناك مسائل علمية من أصول الاعتقاد، لا يجوز للمفتي أن يتكلّم فيها إلا إذا كان له فيها سلف، كالكلام في الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته.
فإذا كانت الفتوى في أمر عملي، وليست من مسائل الاعتقاد: فإما أن يكون المفتي من أهل الاجتهاد، فيجوز له الاجتهاد فيها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»([90]).
فإذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يجوز أن يفتي في مسألة ليس له فيها إمام؛ لأن مثل هذا غايته النقل عن أهل العلم.
قال ابن القيم: “إذَا سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ تَقَعْ، فَهَلْ تُسْتَحَبُّ إجَابَتُهُ أَوْ تُكْرَهُ أَوْ تَخَيَّرَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا سَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ: هَلْ كَانَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَكَلَّفَ لَهُ الْجَوَابَ، وَإِلَّا قَالَ: دَعْنَا فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيهَا إمَامٌ.
وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُكْرَهْ الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةَ الْوُقُوعِ أَوْ مُقَدَّرَةً لَا تَقَعُ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهَا غَيْرَ نَادِرٍ وَلَا مُسْتَبْعَدٍ، وَغَرَضُ السَّائِلِ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهَا لِيَكُونَ مِنْهَا عَلَى بَصِيرَةٍ إذَا وَقَعَتْ اسْتُحِبَّ لَهُ الْجَوَابُ بِمَا يَعْلَمُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ السَّائِلُ يَتَفَقَّهُ بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُ بِهَا نَظَائِرَهَا، وَيفرعُ عَلَيْهَا، فَحَيْثُ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْجَوَابِ رَاجِحَةً كَانَ هُوَ الْأَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ”([91]).
11- استعمال الرأي في مقابلة النص:
من أصول الخطأ في باب الفتوى: تقديم الرأي على النص، فيقدم المفتي عقله مع وجود النص، فيتكلم في الدين بالظن والتخمين، وهذا هو الرأي المذموم الذي كثر كلام السلف في النهي عنه، كما قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: “إيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ”([92]).
ولقد ذكر ابن القيم أنواع الرأي الباطل، فذكر منها الرَّأْيُ الْمُخَالِفُ لِلنَّصِّ، ثم قال فيه: “وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاء”([93]).
بل لخطورة معارضة النصوص بالرأي في الفتوى كان السلف رضوان الله عليهم يقدمون الحديث الضعيف على القول بالرأي، وعلى استحسان العقل.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرَّأْيِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ بِبَلَدٍ لَا يَجِدُ فِيهِ إلَّا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ وَأَصْحَابَ رَأْيٍ، فَتَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ، فَقَالَ أَبِي: يَسْأَلُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ الرَّأْيِ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ([94]).
قال ابن القيم: “وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السَّلَفَ جَمِيعَهُمْ عَلَى ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ لَا فُتْيَا وَلَا قَضَاءً”([95]).
ومن أمثلة الفتاوى المعاصرة التي قدم أصحابها الرأي على النص:
فتاوى من يجيز مساواة المرأة بالرجل في الميراث؛ حتى لا يقال: إن الإسلام ظلم المرأة.
وفتاوى من يبيح للمرأة خلع الحجاب؛ حتى لا تتَّهم بالتشدّد والتطرف.
وفتاوى من يبيح الربا بحجة التوافق مع النظام الاقتصادي العالمي([96]).
12- الغلو في استعمال المقاصد:
لا شك أن الإسلام جاء برعاية مصالح الخلق، ورفع الحرج عنهم، وهذا مقصد من مقاصد الشريعة، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
بل جعل الله عز وجل من أسباب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، رفع الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
“وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الدِّينُ: (الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ) لِمَا فِيهَا مِنَ التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ”([97]).
فرفع الحرج والتيسير على الناس مقصد عام من مقاصد الشريعة، لكن بعض المفتين يغالى في اعتبار المقاصد، فيقدم في فتواه الكثير من المقاصد الملغاة في الشريعة، بحجة أن هذا فيه مصلحة للناس.
كمن يفتي بجواز التعامل بالربا لمصلحة تنمية المال.
وبمساواة الأنثى لأخيها في الميراث لاعتبار مصلحة الأنثى.
وبترك العمل بالحدود؛ لعدم تنفير الكفار من الدخول في الإسلام.
وبجواز حلق اللحية؛ لمجاراة العرف والعادة.
ولا شك أن المصلحة المعتبرة في حال الفتوى هي المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار؛ كتشريع القصاص لمصلحة النفس، وتشريع الجهاد لحفظ الدين، فإذا لم يشهد لها الشرع فهي مصلحة ملغاة.
قال الشاطبي رحمة الله: “الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ شَرْعًا وَالْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تُقَامُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِهَا الْعَادِيَّةِ، أَوْ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا الْعَادِيَّةِ”([98]).
“وعلى هذا فالواجب على المفتي عدم مجاراة الظروف الواقعة صحيحها وفاسدها وقبولها والإفتاء بصحتها وشرعيتها، وإن خالفت في معظم الأحوال الحكم الشرعي؛ تأثرًا بشدة سطوة الواقع، ويأسًا من محاولة تغييره لصعوبته، وأن ينسى المفتي وظيفة الشرع الذي جاء لإصلاح ما فسد من الأحوال والعادات. وأن الواجب تطويع الواقع للنصوص، لا تطويع النصوص للواقع؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يجب أن يحتكم إليه ويعتمد عليه”([99]).
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) رواه الترمذي (2682)، وصححه الألباني.
([3]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي (ص: 14).
([4]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص: 74).
([6]) رواه أحمد (7912)، وابن ماجه (4036)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).
([7]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 27).
([9]) انظر: صفة الفتوى لابن حمدان (ص: 4).
([10]) أدب المفتي والمستفتي (ص: 74).
([11]) إعلام الموقعين (1/ 27-29) بتصرف.
([14]) إعلام الموقعين (1/ 45).
([16]) انظر: إعلام الموقعين (2/ 127).
([17]) رواه أبو داود (336)، وحسنه الألباني.
([18]) انظر: جامع بيان العلم (1561)، ط: الزهيري.
([19]) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 144).
([20]) انظر: جامع بيان العلم (1574).
([21]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 173).
([22]) انظر: إعلام الموقعين (2/ 128).
([23]) انظر: مقدمة صحيح مسلم (1/ 16).
([24]) انظر: إعلام الموقعين (2/ 128).
([25]) انظر: تاريخ دمشق (25/ 366).
([26]) انظر: إعلام الموقعين (4/ 159).
([28]) انظر: التعالم، بكر أبو زيد (ص: 16).
([29]) انظر: إعلام الموقعين (1/ 29).
([30]) انظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص: 7-8)، أدب المفتي والمستفتي (ص: 75).
([31]) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (ص: 23).
([32]) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 128).
([33]) http://www.iso-tec-demos.com/al-fikr/container.php?fun=nview&id=76
([34]) انظر: إعلام الموقعين (2/ 128).
([35]) أدب المفتي والمستفتي (ص: 111).
([36]) الفقيه والمتفقه (2/ 387).
([37]) انظر: إعلام الموقعين (2/ 128).
([38]) شرح منتهى الإرادات (3/ 484).
([39]) رواه أبو داود (3657) وابن ماجه (53)، وحسنة الألباني في صحيح الجامع (6069).
([40]) إعلام الموقعين (2/ 129).
([41]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 384).
([43]) إعلام الموقعين (4/ 153).
([44]) http://www.iso-tec-demos.com/al-fikr/container.php?fun=nview&id=76
([45]) فوضى الإفتاء لأسامة الأشقر (ص: 37).
([46]) مجموعة رسائل ابن عابدين (1/ 47).
([47]) إعلام الموقعين (4/ 175).
([48]) رواه أحمد (6739)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1606).
([49]) رواه ابن أبي شيبة (27753).
([50]) إعلام الموقعين (3/ 13).
([54]) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11).
([55]) إعلام الموقعين (4/ 161).
([56]) انظر: إعلام الموقعين (4/ 167).
([57]) أدب المفتي والمستفتي (ص: 111).
([58]) إعلام الموقعين (4/ 167).
([59]) إعلام الموقعين (3/ 140).
([61]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 339).
([62]) إعلام الموقعين (4/ 160).
([63]) إعلام الموقعين (4/ 171).
([64]) انظر: مجلة البحوث الإسلامية (99/ 265).
([65]) رواه البخاري (3560)، ومسلم (2327).
([66]) انظر: مجلة البحوث الإسلامية (99/ 265).
([67]) سير أعلام النبلاء (8/ 90).
([68]) انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 465).
([69]) التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (8/ 4090).
([71]) رواه البخاري (556)، ومسلم (608).
([74]) رواه أحمد (2/ 27 و78)، وأبو داود (3539)، والترمذي (1299).
([75]) رواه البخاري (472، 473)، ومسلم (749).
([76]) إعلام الموقعين (4/ 184-188) بتصرف.
([77]) إعلام الموقعين (4/ 162).
([78]) انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص: 78).
([79]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 378).
([80]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 378).
([81]) مجموع الفتاوى (27/ 296).
([82]) الفقيه والمتفقه (2/ 375).
([83]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 1225).
([84]) إعلام الموقعين (4/ 159).
([85]) إعلام الموقعين (4/ 195).
([86]) إعلام الموقعين (4/ 195).
([87]) إعلام الموقعين (4/ 167).
([88]) انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 142).
([91]) إعلام الموقعين (4/ 170).
([92]) انظر: إعلام الموقعين (1/ 44).
([93]) إعلام الموقعين (1/ 54).
([94]) انظر: إعلام الموقعين (1/ 63).
([95]) إعلام الموقعين (1/ 61).
([96]) http://gololy.com/2012/09/30/37619/%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D9%81%D8%AA%D8%A7%D9%88%D9%89-%D9%85%D8%AB%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%84-%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%AC%D9%85%D8%B9%D8%A9.html