
مناقشة دعوى الرازي: “عدم هداية القرآن إلى العلم بالله وأنبيائه”
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
لا جرم أن الله أنزل علينا قرآنا بدأه بوصفه: {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} من إنس وجان، وتولَّى بنفسه حفظه لفظًا ومعنًى، وبَيَّنَه أتم بيان، وجعله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وحرَّر وفنَّد الشبهات التي ترِد على الفؤاد قبل أن ينطق بها لسان، فجلُّ ما استطاعه من جاء من المشككين هو الهذيان، فقد {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 81، 82].
ولكن وجد من يناقش في عموم هدى القرآن، وتحديدا في كونه هدى في أصل أصول المسائل العقدية كتقرير توحيد الله سبحانه وتعالى وتقرير النبوة.
ومن هنا بادر مركز سلف للبحوث والدراسات من خلال هذه الورقة العلمية إلى بيان كون القرآن هدى في العلم بالله ورسله وكتبه، فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
مركز سلف للبحوث والدراسات
تمهيد:
لقد أنزل القرآن الكريم هاديًا وبشيرًا وشاهدا ونذيرا؛ فما من خير إلا وقد أرشد إليه، وما من شر إلا وقد حذَّر منه، وما من نبي سبقه إلا وآمن به وصدقه؛ فجاء هاديًا لكل ما جاؤوا به من هدى وزيادة؛ ومصدقًا لا لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، بل للأنبياء كلهم من قبله؛ ومصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات.
فالقرآن أُنزِل من أجل هداية البشرية لرب العالمين، ولدينه الذي نزل به سيد المرسلين؛ ليُخرج به الناس من الظلمات إلى نور الهداية وبرد اليقين، ويُرشدهم إلى الأقوم من العقائد ومناهج التشريع، ويقوِّم حياتهم بأهدى خُلُقٍ وسمت يتصف به المهتدون، ويعلّمهم ما لم يعلموه من العلوم والهدايات والآيات للعالِمين وغير العالِمين، فهو الهادي إلى الأصلح، والواقي من مزالق الغاوين ومسالك الغارقين الماديين، ففيه الهدى للأقوم في الدين وعمرَان الآخرة كما فيه الهدى للأقوم في الدنيا وطرائق القيم والأخلاق والبناء والعمران.
يقول الشاطبي: “إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي؛ نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما؛ فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرعيل الأول”([1]).
فالقرآن هو الهادي إلى الحق في كل باب من أبواب الدين، سواء في ذلك العقيدة في الله أو ملائكته وأنبيائه وكتبه واليوم الآخر، وسواء في ذلك التشريعات المتعلقة بعبادة الله أو بمعاملة الخلق أو غيرها من الأخلاق والنظم والمنازعات والشهادات.
لم يناقش ولم يجادل ولم يختلف في هذه الحقيقة أحد من أهل الإسلام، خاصة السلف في القرون الأولى الفاضلة؛ ولما عرفوا الهدف والغاية التي نزل من أجلها القرآن وهو هداية الناس نجد أنه كان محور تناولهم للقرآن؛ فهم يتلونه ويحفظونه ويتدارسونه بينهم، لا لمجرد القراءة والحفظ وإن كان مطلوبا، إلا أن كل هذه وسائل لبلوغ الغاية، وهي الاهتداء بهديه والاستفادة من كنوزه وعلومه، والتحلي بحِكَمِه وآدَابِه؛ ولذا نجد السلف قد كانوا كذلك حيث تأثروا به تأثُّرًا واضحًا جليًّا، فكان القرآن محور حياتهم، يدورون معه حيث دار، ويأتمرون بأمره، وينتهون عند نهيه، ويحلون حلاله، ويحرّمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويردّون إليه متشابهه، ويتخلَّقون بأخلاقه؛ فنالوا الخير والسعادة في هذه الحياة قبل الآخرة، وبلغوا من المجد والسؤدد ما بلغوا حتى هابهم القاصي والداني، وسطَّر التاريخ تلك الإنجازات والفتوحات التي فتحوا فيها القلوب قبل البلدان.
يقول السيوطي: “وإن كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها، أودع فيه سبحانه وتعالى علم كل شيء، وأبان فيه كل هدْيٍ وغي، فترى كل ذي فن منه يستمد وعليه يعتمد”([2]).
وأئمة السلف حين جعلوا القرآن مصدر الهدى والرشاد لم يكن ذلك منهم اجتهادا أو اعتباطا، بل كان انقيادا واستجابة لما أرشد إليه الله سبحانه في كتابه وأرشد إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته،
الأدلة على هداية القرآن الكريم:
هناك نصوص كثيرة دلت على أن القرآن هدى، ومنها:
- قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1، 2]:
فالله سبحانه وتعالى افتتح كتابه ببيان الغاية منه، وهو كونه هدى للمتقين؛ تقول: هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه، ودللته عليه، وبينته له، فالقرآن نور للمتقين، وتبيان لهم، وهدى من الضلالة([3]) كما يقول الشعبي، فهو هدى لمن يحذَر اللهَ وعقوبتَه في الدنيا والآخرة ويرجو رحمة ربه بالتصديق بما جاء به([4]).
والمقصود بكونه هدى كونه دالا على الحق مرشدًا إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل([5]).
ولما وصف الله سبحانه كتابه هنا بكونه (هدى) بصيغة المصدر دلَّ على كونه هدى في عامة أبواب الدين ويشمل ذلك العبادات ومعاملات الناس والأخلاق، ولا شك أن العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من أهم ما يشمل هذا العموم، “فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين”([6]).
- قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]:
وفي هذه الآية مدح الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن بأنه يهدي ويرشد ويسدد من اهتدى به للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، ففيه الهدى والرشاد لا إلى الطريق الصواب وحسب بل إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل الذي لا طريق أقوم منه، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جل ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به([7]).
يقول الشيخ الشنقيطي في تفسير الآية: “هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا، يهدي للتي هي أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب… وللحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله. وهذه الآية الكريمة أَجْمَلَ اللهُ جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبَّعنَا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة”([8]).
- قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23]:
وفي هذه الآية أيضا مَدحٌ من المولى سبحانه وتعالى للقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم بجملة من الأوصاف، فهو أحسن الحديث وأفضل الأقوال لفظا ومعنى، واشتمل على أفضل ما يمكن أن تشتمل عليه من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان، والتشريع، والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم، وعجائب تكوين الإنسان، والعقل، وبث الآداب وغيره، وهو متشابه يشبه بعضه بعضا فلا اختلاف فيه ولا تضاد، بل هو مثاني؛ فيه ترديد القول الذي يصدق بعضه بعضًا؛ ليفهموا عن ربهم عز وجل؛ فينتج عنه قشعريرة في قلوبهم خشية مما فيه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد، وطمأنينةً وانشراحًا رغبة فيما فيه من البشارات والأجور؛ وكل هذه السمات التي امتاز بها القرآن ينتج عنها وعن غيرها لا كونه هدى وحسب، بل كونه أهدى كتاب يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم، فهذا القرآن فيه الهدى المرشد والدال على الحق، وفيه البيان الكافي والدلائل المرشدة والوعظ المقنع للحق والخير؛ لكن ليس كل أحد يهتدي به؛ وإنما هو سبب والهداية الحقيقية بيد المولى الحق؛ يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده([9]).
قال القاضي عياض: “قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، لا يزال غضا طريا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواء من الكتب لا يوجد فيها ذلك حتى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا”([10]).
ويقول الطاهر ابن عاشور: “فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها وابتنائها على الحق وتبكيت الخصوم وكونها صلاحا للناس وهدى، وألفاظه متماثلة في الشرف والفصاحة والإصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظما، وبذلك كان معجزا لكل بليغ عن أن يأتي بمثله، وفي هذا إشارة إلى أن جميع آيات القرآن بالغ الطرف الأعلى من البلاغة وأنها متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها… وقد اقتضى قوله: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره”([11]).
- قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]:
فحين زعمت اليهود والنصارى أن الهدى فيما عندهم من صحائف أبطل الله سبحانه وتعالى باطلهم، وبيَّنَ أن بيان الله هو البيان المقنع الهادي لكل من طلب الهدى الكامل التام منه، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه فيما سبقه من كتب كالتوراة([12])، فهو إبطال لما عند أهل الكتاب بأن القرآن هو الهدى وما هم عليه ليس من الهدى؛ لأن أكثره من الباطل؛ فهدى القرآن هو الهدى الكامل في الهداية، وأما هدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن فهو كَلَا هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل([13]).
قال قتادة في قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى}: “خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة”([14]).
- قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]:
ففي هذه الآيات نجد المولى سبحانه وتعالى يمدح القرآن المنزَّل ويثني عليه صراحة بأنه هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه، ومرشد إلى سبيل الحق وقصد المنهج، وأن فيه {بَيِّنَاتٍ} أي: دلائل وحججًا بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به، وكاشفة عن حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه، ومفرقة بين الحق والباطل([15]).
ويؤكد بعض أهل العلم أن الهدى الأول في الآية غير الهدى الثاني وأنه لا تكرار في الآية، وأن “المراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة. وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية([16]).
- قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52]:
وهنا نجد المولى يُخبرنا خبرًا قد أقسم عليه، وهو أن هذا القرآن مفصَّل واضح مبيّنٌ فيه الحق من الباطل، وأكد على التنزيل الرباني مبينًا أنه سبحانه وتعالى على علم ودراية بما في هذا الكتاب من إحقاق الحق وإبطال الباطل والهدى والرشاد والبيان المقنع الهادي لكل من طلب الحق والهداية الكاملة التامة منه؛ فبه يهدي الله ويرحم من آمن به وعمل بما فيه من أوامر ونواهي وأخبار ووعد ووعيد، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى([17]).
يقول الطاهر ابن عاشور: “ووصف الكتاب بالمصدرين هدى ورحمة إشارة إلى قوة هديه الناس وجلب الرحمة لهم”([18]).
- {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1، 2]:
الله سبحانه وتعالى هنا يخبرنا أن القرآن واضح سهل فهمه، يتبيَّن لكل من تدبّره أنه كتاب إلهي نازل من عند رب العالمين، وليس من جنس كتابات البشر؛ وفي نفس الوقت هو هدى يهدي من قرأه وتدبره إلى الحق وسبل الرشاد والسلام، بل وتبشر من آمن به وعمل([19])، وفي هذا الموضع وغيره يشير أهل العلم إلى نكتة لطيفة وهي أنه جاء (حالا)، وجعل الحال مصدرا مما يفيد المبالغة بقوة تسببه في الهدى وتبليغه البشرى للمؤمنين([20]).
يقول ابن كثير: “إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة، وآتى الزكاة المفروضة، وآمن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال، خيرها وشرها، والجنة والنار، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، وقال: {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]”([21]).
وقريب من هذه الآية آية لقمان التالية.
- قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 2، 3]:
فالمولى سبحانه وتعالى يخبرنا أنه جعل هذا القرآن هدى، فيه البيان الكافي والدلائل المرشدة والوعظ المقنع للحق والخير كما أنه في الوقت ذاته شفاء ورحمة للمحسنين الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة؛ فأقاموا الصلاة المفروضة وآتوا الزكاة، ووصلوا قراباتهم وأرحامهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة([22]).
ولئن كان سبب نزول هذه السورة هو سؤال قريش عن لقمان وابنه فإنها بمنزلة مقدمة مبينة أن مرمى القرآن من قصّ القصص ما فيها من هدى ورشاد موصل إلى الحق مبين عنه وما فيها من علم وحكمة([23]).
- قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ} [النمل: 77]:
فالقرآن هدى، أي: أنه يهدي المؤمنين إلى طريق الرشاد، ومرشدٌ لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة؛ كالتوحيد والحشر والنبوَّة وصفات الله الحسنى، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر، وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة، وإنما يهتدي بكتابه من آمن به واهتدى به؛ وعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وطبقوا على أنفسهم أحكامه، وآدابه، وتشريعاته([24]).
- قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: 44]:
بعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى في سباق هذه الآية كفر المشركين عنادًا رغم فصاحة القرآن وبلاغته أكَّد أنهم متمادون في كُفرِهم وغيِّهم مهما جاءتهم الآيات البينات، حتى ولو أُنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا: هَلَّا أُنزل مفصَّلا بلغة العرب، وهَلَّا بُيِّنَت أدلَّتُه وما فيه من آية، فنفقهه ونعلم ما هو وما فيه ؛ فمع أنه نزل مفصَّلا مبينًا واضحا بلسان عربي مبين وسهل فهمه إلا أنهم تمادوا في كفرهم وعاندوا؛ فليس من قصور في هُدَى القرآن وبيِّنَاته، بل فيه البيان التام والسبيل الأقوم الواضح للحق والخير، فمن اهتدى به كان هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب([25])، كما ورد عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) قال: “جعله الله نورا وبركة وشفاء للمؤمنين”([26]).
والله سبحانه وتعالى يسَّر هذا القرآن وجعله هدى واضحا وسهلا ميسرًا يهتدي به كل من طلب الهدى، عربيا كان أو أعجميا، عالمًا كان أو جاهلًا، قارئًا كان أو أُمِّيًّا، فالقرآن يمتاز عن غيره من الكتب بأن عامة ما فيه يفهمه عامة الناس، وبإمكانهم تدبُّره في الجملة، وإن كان فيه ما لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وما لا يعلم تأويله على الحقيقة إلا الله، يقول سعيد بن جبير: “ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن”([27]).
والآيات والنصوص الدالة على كون القرآن هدى للناس أكثر من أن تحصر في هذه الورقة، وهي دالة على شمول هذه الهداية لكل ما يحتاج إليه المسلم في دينه ليهتدي به.
دعوى الرازي عدم شمول هداية القرآن لكل أبواب العقيدة:
في مقابل هذه الآيات والنصوص الكثيرة والمتضافرة التي تؤكد أن الهدى هدى الله الذي أنزله الله على رسوله في كتابه الكريم، وأن من لم يهتد به لم يهتد؛ نجد من يناقش في كون القرآن هدى في أصل أصول المسائل العقدية كتقرير توحيد الله سبحانه وتعالى، سواء وجوده أو ربوبيته أو ألوهيته أو ما له من الأسماء والصفات، وكذلك تقرير النبوة وجودها وحجيتها.
وليس من الصواب أن ننهي القول هنا بجرَّة قلم؛ بل لا بد من إيراد كلام الفخر الرازي وتأمله حيث ادعى عدم شمولية هدى كلام الله سبحانه وتعالى لأبواب العقيدة، يقول الفخر الرازي وهو يفسر آية الهداية في فاتحة سورة البقرة: “قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]: فيه مسائل:
…
السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه؛ فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟!
الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم“([28]).
ويمكن مناقشة هذه الدعوى بما يأتي:
أولا: أن آيات القرآن تضافرت على كون القرآن هدى، والأصل في ذلك أن يكون هدى في الدين كله؛ سواء في توحيد الله أو في تصديق أنبيائه، ولقد أخبر الله سبحانه وتعالى في مواضع متعددة أخبارًا مؤكدة بالقسم وغيره بأن هذا القرآن هدى وبيان مفصَّل واضح مبيّنٌ فيه الحق من الباطل في أبواب الدين عمومًا في آيات كثيرة؛ فقد اشتمل على أفضل ما يمكن أن تشتمل عليه من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان، والتشريع، والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم، وعجائب تكوين الإنسان، والعقل، وبث الآداب وغيره([29]).
وقد سبق إيراد طرف منها، ولا شك أن أصول مسائل العقيدة أَوْلى المسائل بالتوضيح والبيان والتدليل والاحتجاج والبرهنة.
ولئن كان المولى سبحانه وتعالى قد أكد أن القرآن أحسن الحديث وأنه يهدي للتي هي أقوم، أي: أفضل وأجود وأكمل من كل هداية من سواه ولا طريق أكمل منه، فإن ذلك هو “دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام”([30])، ولا شك أن أصول مسائل العقيدة من أولى ما يدخل في الدين كالإيمان بالله ورسله، فكيف يقال: إن القرآن ليس هدى في توحيد الله والتصديق بأنبيائه ورسله؟!
ثانيًا: أن استقراء النصوص -وسبق إيراد شيء منها- يبين أنها تدل على العموم القطعي المستغرق لكل أفراد الدين، سواء المتعلقة بالعبادات أو المتعلقة بالمعاملات أو غيرها، فالآيات الدالة على كونها هدى ليست آية أو آيتين، بل آيات كثيرة جدًّا تؤكد أن العموم هنا عموم شمولي لا عموم بدلي، فمن استقرأ النصوص أيقن أن القرآن هدى في كل مطالب الدين، ومن أهم ما يدخل في العلم بالله ورسله من أولى هذا.
ثالثًا: أننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا الصحابة إلى الإيمان بالله وبنبوته لم يدعُهم إلا بالقرآن والسنة، ولم يدعهم بشيء من الكلاميات والفلسفيات التي يعتقد الرازي أنها سبيل الهدى في العلم بالله ورسوله، بل دعاهم بالقرآن والسنة وما فيهما من حجج، كما أن من علماء السلف من صرَّح تفصيلًا بكونه هاديا في توحيد الله والتصديق برسله، قال الزجاج والكلبي والفراء: “للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله”([31]).
رابعًا: القول بعموم هداية القرآن لكل أبواب الدين عقائده وشرائعه هو المعروف عند أهل العلم عامة والمفسرين خاصة، ولم أجد من قال بهذا التخصيص، ففيه البيان المقنع والهدى الكامل التام([32])، وفي تأكيد هذا العموم، يقول ابن كثير وهو يفسر قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]: “قل يا محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل”([33]).
خامسا: على فرض صحة دعوى أن العلم بالله والتصديق برسوله لا يدخل في هذا العموم أو هذا المطلق الذي يهتدي فيه المرء بالقرآن لا بد من دليل مقيِّد يقيِّد هذا الإطلاق، وليس ثمة دليل.
سادسًا: قوله: “كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه”، وهو يقصد بها الأصول الكلامية التي جعلوا العلم بالله والتصديق بالرسول متوقفًا عليها، وهو قول باطل ليس هذا محل التفصيل في بطلانه، ويكفي أن النبي وصحابته لم يحتاجوا إلى تلك الأصول حتى يتعرفوا على الله سبحانه ويؤمنوا به ويؤمنوا برسله.
سابعًا: نجد من المفسرين من جعل يؤكد عموم هداية القرآن لعامة أبواب الدين وأبواب التوحيد على وجه الخصوص كما فعل الشيخ الأمين الشنقيطي حيث قال: “هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم… يهدي للتي هي أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب…
وهذه الآية الكريمة أَجْمَلَ اللهُ جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبَّعنَا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة.
ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة”([34]).
وبعدها جعل يعدِّدُ القضايا التي يهدي القرآن فيها إلى الأقوم والأحسن والأكمل، وأول ما ذكره هو: “فمن ذلك توحيد الله جل وعلا، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته، وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته“([35]).
ثم ذكر أمورًا أخرى كقضايا المرأة التي كانت محل تشكيك من المغرضين ومنها: جعله الطلاق بيد الرجل، وتعدد الزوجات، وأن للذكر مثل حظ الأنثيين في الإرث، وملك الرقيق، والقصاص، قطع يد السارق، وغيرها من المسائل.
كذلك فإن أئمة الإسلام صرحوا بعموم هدى القرآن، ومن ذلك قول ابن تيمية: “والمقصود هنا: أنّ الهدى، والبيان، والأدلة، والبراهين في القرآن؛ فإنّ الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأرسله بالآيات البيّنات؛ وهي الأدلة البينة الدالة على الحق، وكذلك سائر الرسل. ومن الممتنع أن يرسل الله رسولاً يأمر الناس بتصديقه، ولا يكون هناك ما يعرفون به صدقه. وكذلك من قال إني رسول الله، فمن الممتنع أن يجعل مجرد الخبر المحتمل للصدق والكذب دليلاً له، وحجة على الناس. هذا لا يُظنّ بأجهل الخلق، فكيف بأفضل الناس؟! وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أُعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»([36]).
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ للنَّاسِ في الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ}؛ فالبيّنات: جمع بيّنة؛ وهي الأدلة والبراهين التي هي بينة في نفسها، وبها يتبيّن غيرُها؛ يُقال: بيّن الأمر: أي تبين في نفسه، ويقال: بيّن غيره؛ فالبين: اسمٌ لما ظهر في نفسه، ولما أظهر غيره. وكذلك المبين؛ كقوله فاحشة مبيّنة؛ أي: متبينة.
فهذا شأن الأدلة؛ فإنّ مقدماتها تكون معلومة بنفسها؛ كالمقدمات الحسية، والبديهية. وبها يتبيّن غيرها؛ فيستدل على الخفي بالجلي.
والهدى: مصدر هداه هُدَى، والهدى: هو بيان ما ينتفع به الناس، ويحتاجون إليه، وهو ضدّ الضلالة؛ فالضالّ يضلّ عن مقصوده وطريق مقصوده.
وهو سبحانه بيّن في كتبه ما يهدي الناس؛ فعرفهم ما يقصدون، وما يسلكون من الطرق؛ عرَّفهم أنّ الله هو المقصود المعبود وحده، وأنّه لا يجوز عبادة غيره، وعرَّفهم الطريق؛ وهو ما يعبدونه به.
ففي الهدى: بيان المعبود، وما يعبد به. والبينات فيها بيان الأدلة والبراهين على ذلك. فليس ما يخبر به، ويأمر به من الهدى قولاً مجرّداً عن دليله ليؤخذ تقليداً واتباعاً للظنّ، بل هو مبيّن بالآيات البيّنات؛ وهي الأدلة اليقينية، والبراهين القطعية”([37]).
ثامنا: من أبرز ما يدل على هذا العموم ووفرة الأبواب التي هو فيها هدى -والعلم بالله وتوحيده وأنبيائه من أولى ما يدخل فيها- أنه جاء بالهداية بصيغة المصدر في كثير من الآيات دون غيره من الصيغ، يقول الطاهر ابن عاشور: “ووصف الكتاب بالمصدرين هدى ورحمة إشارة إلى قوة هديه الناس وجلب الرحمة لهم”([38])، وقد فصَّل القول في موضع آخر حيث قال: “حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وصف باسم الفاعل فقيل: هاد للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين… فإن قصر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن”([39]).
تاسعًا: هنا نكتة مهمة يشير إليها الطاهر ابن عاشور وقد أكد عليها غيره من أهل العلم، وهو أن عدم الاهتداء بالقرآن ليس سببه أن القرآن نفسه ليس هدى، وإنما الإشكال في الإنسان؛ إما لعدم طلب الهدى منه أو إشكال في سبيل الاهتداء به ونقص فيه وفي طريقته للاهتداء سواء بتقديم غيره عليه أو تحكيم غيره فيه وجعل القرآن محكوما به، وهو ما يبدو أن الرازي وقع فيه.
عاشرًا: منشأ هذا القول أن الرازي وإن كان منتميًا إلى بيئته الأشعرية التي نشأ فيها، إلا أنه كان قد تأثر بالفلسفة؛ حيث درسها أولا على شيخه مجد الدين الجيلي، ثم انكبَّ بعد ذلك على الكتب الفلسفية انكبابًا، وقضى عمرًا من عمره يخوض غمارها ويفكُّ عويصها مع ما كان يتمتع به من وفور الذكاء وحدة الذهن؛ فنتج عنه اعتبار الأدلة الفلسفية والميل إليها وتبني آرائها خاصة آراء ابن سينا، ولذا نجد المادة الفلسفية غزيرة في مؤلفاته لا الفلسفية فحسب، بل حتى الكتب غير الفلسفية كالكتب الكلامية بدءًا بالمطالب العالية وانتهاء بالمحصَّل بل وحتى الكتب التي عارض فيها الفلسفة كـ (نهاية العقول) بل تفسيره للقرآن الكريم (مفاتيح الغيب) لم يخل من ذلك فهو مشحون بالكتب الفلسفية([40])؛ ومن عوامل هذا أن الرازي اتسم بشخصيته المكتفية بالتحصيل الشخصي والاعتماد على ذكائه وقدراته العقلية دون التكثُّر من التلقي والأخذ عن الشيوخ وميله إلى النقد والتشكيك في المسائل الواضحة، وجرأته على الخروج عما هو سائد حتى في مذهبه وبيئته، بل حتى في الثوابت الشرعية التي صرّح بها القرآن كما في هذا النص، وفي ذلك يقول الذهبي: “له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين”([41]).
حادي عشر: أن علماء الإسلام انتقدوا على الرازي هذا التأثر الفلسفي، بل حتى الأشاعرة أنفسهم نجد منهم من حذر من كتب الرازي لما فيها من مادة فلسفية مع ولع وهوس بها وميل إليها وقوة في عرضها وضعف في نقدها، ومبالغة في نقل كلامهم، وعامة من أولع بكلام الفلاسفة قل أن يفلح، وأن يبقى نور الإيمان في قلبه، ومن ذلك قول السنوسي: “وليحذر المبتدئ جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشیت بكلام الفلاسفة، وأولع مؤلفوها بنقل هوسهم مما هو كفر صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما ينبههم على كثير من اصطلاحاتهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء يلا مسميات وذلك ككتب الرازي في علم الكلام، وطوالع البيضاوي ومن حذا حذوهما، وقل أن يفلح من أولع بصحبة كلام الفلاسفة أو يكون نور إيمانه في قلبه”([42]).
بل إن الفلسفة لم تدخل علم التفسير وكتبه إلا عن طريق الفخر الرازي، يقول الدكتور عبد الله بن أحمد الأنصاري: “اشتهر تفسيره، وقد أدخل فيه مادة فلسفية واسعة -كما سيتضح في ثنايا هذا البحث وكان لما أدخله في التفسير تأثير على بعض المفسرين الذين جاءوا بعده على اختلاف مذاهبهم، حتى صار كثير من كتب التفسير بعد الرازي مكاناً لبحث المسائل الفلسفية، وممن اشتهر بذلك: النيسابوري، والألوسي، والبيضاوي ، وأبو السعود، وغيرهم، وهذا ما أكده الدكتور بكار محمود الحاج جاسم في دراسة له بعنوان: (الأثر الفلسفي التفسير)، وقال في نتائج البحث: ثبت لنا من خلال هذا البحث أن تفسير الرازي كان هو المصدر الأول الذى أفاد منه جمهور المفسرين الذين جاؤوا من ،بعده فتأثروا به تأثرا واضحا ، وهذا الأثر لا يقتصر على مسائل الفلسفة فحسب بل له امتداد واسع في كثير من المسائل”([43]).
ثاني عشر: أن قضية القضايا التي منها يبدئ ولها يعيد وعليها مدار تحكيمه للمسائل والقضايا هي مسألة إثبات الصانع بدليل الحدوث الكلامي، فهذه القضية الأساسية التي يتكرر تقريرها في كتبه، ومن أجلها يرفض كل قضية عارضها، ويدافع وينافح عن كل قضية أيدها؛ ذلك أن إثبات الصانع هو أصل أصول الاعتقاد “واختلاف رأيه في كثير من المسائل المتعلقة بهذا الأصل كثيراً ما يكون راجعاً إلى هذا ؛ فيرى أن أمراً ما يتعارض مع إثبات الصانع فيرده، ثم يظهر له في موضع آخر أنه لا يتعارض مع إثبات الصانع فلا يمنعه، وربما انتصر لرأي؛ لأنه يرى أنه أبلغ في إثبات الصانع”([44])، ولما كان تقرير كون النصوص القرآنية هادية للحق في العلم بالله ورسوله قد يعترض به على هذا الدليل وجدناه منع كونه هدى في هذا الباب، كما أنه قرر القانون الكلي الذي انتصر فيه للعقل -الذي هو مستند دليل الحدوث- بعد أن اعتبره معارضًا للنصوص، وقرر ظنية الدلائل اللفظية وقطعية الدلائل العقلية([45]).
وبهذا يتبين أنه لم يكن المنطلق والدافع عنده الوصول إلى مراد الله بقدر ما هو الانتصار لدليل الحدوث الكلامي والاتساق معه.
ثالث عشر: أن القرآن ليس مجرد خبر سمعي خالٍ عن الدلائل خاوٍ من الحجج والبينات؛ بل في القرآن أمتن الآيات وأقوى الحجج وأحكم البينات؛ خاصة قضايا العقيدة الرئيسة كالتوحيد والنبوة، ولما كان الرازي يتعامل مع القرآن بتذبذب ففي بعض المسائل يميل إلى أنه خبر جاعلًا العقل حاكمًا عليه والعكس في مسائل أخر أوصله هذا المنهج إلى هذه النتيجة، إذ العلم بالله وتوحيد والتصديق برسوله من المسائل التي كان يرى الرازي -متأثرًا بالفلاسفة ومعتبرا بأدلتهم- أن مصدرها هو العقل وأما القرآن والسنة فهي مصادر للتلقي في بعض قضايا الدين السمعية لا كلها، وهو في ذلك ليس سائرًا على منهج مطرد بل مضطرب.
يقول د. عبد الله بن محمد القرني: “الموقف من قاعدة التسليم بالنصوص الشرعية هو المعيار الذي يتحقق به التمييز بين المناهج المنتسبة للإسلام، فبينما يقوم منهج أهل السنة والجماعة على التسليم المطلق بدلالات النصوص والتقيد بهدي السلف الصالح، والحرص على الثبات عليه وعدم العدول عنه، فإن منهج من يُطلَق عليهم وصف الفلاسفة الإسلاميين يقوم في المقابل على القول باستقلال العقل وكفايته، وأنه يتحقق به الوصول إلى الحق في ذاته في المطالب الإلهية وما دونها، مع عدم الحاجة في ذلك إلى الوحي، وعلى هذا فمنهجهم هو في حقيقته خروج عن قاعدة التسليم بالنصوص، وإعراض عن الوحي بالكلية.
وأما أصحاب المنهج الكلامي فلم يُحقِّقوا التسليم المطلق بدلالات النصوص الشرعية، كما لم يقعوا فيما وقعت فيه الفلاسفة من إطلاق القول باستقلال العقل عن الوحي؛ بل قسموا أصول الدين إلى عقليات يستقل العقل بالدلالة عليها، وإلى سمعيات يستدلون عليها بالنصوص ما لم تعارض ما قرروه من أصول عقلية.
والذي أوقع المتكلمين في شراك القول باستقلال العقل بالدلالة على ما أطلقوا عليه وصف العقليات ومشابهة الفلاسفة من هذا الوجه هو ما ظنوه من أن الوحى خبر محض، وأنه لا يمكن التسليم بالنصوص إلا إذا كان التسليم بها مؤسساً على أصول عقلية لا يكون لدلالات النصوص اعتبار في تقريرها، وإلا لزم الدور حسب زعمهم، حيث يلزم توقف التصديق بالعقليات على السمعيات، مع كونه قد فرض أن السمعيات متوقفة على تلك العقليات، ومن هنا حصل لهم الإشكال المنهجي، وترتب على ما قرروه أن يبتدعوا في دين الله تعالى أصولاً يسلمون أن اعتقادها لا يتوقف على الوحي، وادعوا أن التسليم بالنبوة متوقف على التسليم بتلك الأصول، ثم رتبوا على ذلك القول بأن ثبوت النبوة هو مستند ما أطلقوا عليه وصف السمعيات، فكان ثبوت النبوة على قولهم هو نتيجة العقليات ومبدأ السمعيات، ثم إنهم لم يقفوا عند مجرد ابتداعهم لتلك الأصول حتى جعلوها حاكمة على دلالات النصوص، وسلكوا مسلك التأويل في فهم دلالاتها، وإن لم يمكنهم التأويل اكتفوا بتفويض معاني النصوص، وألغوا اعتبار معانيها الظاهرة”([46]).
وهذا النص من الرازي بمثابة سف التراب على وجوه أولئك الذين يزعمون أن الرازي لم يجعل الاستدلال أمرًا ثانويًّا بالقرآن والسنة وأن الحاكم هو العقل، وأن الرازي إنما يستمد العقائد الكبرى من غير القرآن والسنة.
خاتمة:
لا جرم أن الله أنزل جبريل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن؛ فجاء بالهدى ودين الحق من رب العالمين، ميسرًا للذكر، فيه معتبر لكل مدكر، فكان كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فهذا الوحي المنزل هو النواة الجوهرية الذي على أساسه يعتبر الدين هدى ونورًا للبشرية جمعاء؛ يخرج الناس من الظلمات إلى نور الهداية وبرد اليقين، ويُرشدهم إلى الأقوم من العقائد ومناهج المشرِّعين، ويقوِّم حياتهم بأهدى خلقٍ وسمت يتصف به المهتدين، ويعلّمهم ما لم يعلموه من العلوم والهدايات والآيات للعالِمين وغير العالِمين، فهو الهادي إلى الأصلح والأكمل في العقيدة والإيمان بالله ورسله وكتبه، بل هدى إلى الأكمل في الدنيا وطرائق القيم والأخلاق والبناء والعمران.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) الإتقان في علوم القرآن (1/ 16).
([3]) ينظر: جامع البيان (1/ 230).
([4]) جامع البيان (1/ 230)، وينظر: تفسير ابن كثير (1/ 163).
([5]) ينظر: التحرير والتنوير (1/ 225).
([6]) التحرير والتنوير (1/ 226).
([7]) ينظر: جامع البيان (17/ 392)، تفسير ابن كثير (5/ 48).
([9]) ينظر: جامع البيان (21/ 280)، تفسير ابن كثير (7/ 93)، التحرير والتنوير (23/ 385).
([10]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 276).
([11]) التحرير والتنوير (23/ 386) بتصرف.
([12]) جامع البيان (2/ 563) بتصرف.
([13]) التحرير والتنوير (1/ 693).
([14]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 402).
([15]) ينظر: جامع البيان (3/ 448)، تفسير ابن كثير (1/ 502).
([16]) التحرير والتنوير (2/ 173).
([17]) ينظر: جامع البيان (12/ 477).
([18]) التحرير والتنوير (8-ب/ 153).
([19]) ينظر: جامع البيان (19/ 422).
([20]) ينظر: التحرير والتنوير (19/ 218).
([21]) تفسير ابن كثير (6/ 178).
([22]) ينظر: جامع البيان (20/ 124)، تفسير ابن كثير (6/ 330).
([23]) ينظر: التحرير والتنوير (21/ 140).
([24]) ينظر: التحرير والتنوير (20/ 31).
([25]) ينظر: جامع البيان (21/ 483)، تفسير ابن كثير (7/ 184).
([26]) ينظر: جامع البيان (21/ 483).
([27]) ينظر: تفسير القرطبي (17/ 134).
([28]) مفاتيح الغيب (2/ 266-268).
([29]) ينظر: جامع البيان (21/ 280)، تفسير ابن كثير (7/ 93)، التحرير والتنوير (23/ 385).
([31]) ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/ 17).
([32]) ينظر: جامع البيان (2/ 563).
([33]) تفسير ابن كثير (1/ 402).
([36]) أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152).
([37]) النبوات (2/ 639 وما بعدها).
([38]) التحرير والتنوير (8-ب/ 153).
([39]) التحرير والتنوير (1/ 226).
([40]) ينظر: الأثر الفلسفي على آراء الرازي العقدية، عبد الله محمد الأنصاري (ص: 57 وما بعدها).
([41]) ميزان الاعتدال (3/340)، وينظر: الأثر الفلسفي على آراء الرازي العقدية، عبد الله محمد الأنصاري (ص: 53).
([42]) شرح أم البراهين للسنوسي -مع حاشية الدسوقي- (ص: ٧٠-۷۱)، وينظر: الأثر الفلسفي على آراء الرازي العقدية، عبد الله محمد الأنصاري (ص: 74).
([43]) الأثر الفلسفي على آراء الرازي العقدية (ص: ٦٨-٦٩).
([44]) الأثر الفلسفي على آراء الرازي العقدية، عبد الله محمد الأنصاري (ص: 100).
([45]) ينظر: تأسيس التقديس (ص:٢١٧)، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (ص: 45).
([46]) ينظر: الأثر الفلسفي على آراء الرازي العقدية، عبد الله محمد الأنصاري (ص: ١٢).