
لا يفتي أهلُ الدثور لأهل الثغور -تحليل ودراسة-
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
في خِضَم الأحداث المتتالية والمؤلمة التي تمرُّ بها أمة الإسلام، وكان لها أثر ظاهر على استقرارها، ومسَّت جوانبَ أساسيّة من أمنها وأمانها في حياتها، برزت حقيقةٌ شرعيّة بحاجة لدراسة وتمييز، ورغم قيام العلماء من فجر الإسلام بواجبهم الشرعيّ في البيان وعدم الكتمان، إلا أنَّ ارتباطَ هذه الحقيقة بأحداث عامّة تخلَّلتها فتن وأهوال ومحَن أملَت بعض المواقف والتصرُّفات صدَرت عمن شارك فيها دون أن يكتمل النظر الشرعيّ فيها حينَها، وتولى أهلُ الأهواء كِبَر تحريكها تارة، والمشاركة فيها أخرى، والتحريض عليها تارات، وبقيت بسبب ذلك بعضُ الشبهات تُثار بين الفينة والأخرى، تتراوح بين أصل صحيح أُسيء فهم معناه، أو هوى أعمى صاحَبَه وأهواه، أو خَلْط بينهما صَرَفَه عن الحقّ وأرداه.
ومما كان له الأثر الواضح على جملة من الفتن في الأمّة أفعالٌ وأقوال رُويت عن بعض السلف أساء أهلُ الأهواء استعمالها، وحرَّفوا صياغَتها، وأنزلوها فوق منزلتها، وعارضوا بها الشريعةَ وأدلتَها، وشاركهم بعضُ المنتسبين للعلم الصحيح دون التحقيق فيها والتفطّن لمواطن الخلَل منها، فأوقع كثيرًا من عوامّ المسلمين وغير المتخصّصين في ويلات الأحداث، فكانوا لها وقودًا؛ ومن ذلك الأثر المروي عن ابن عُيَينة وغيره: (إذا اختلفتم في أمرٍ فانظروا ما عليه أهلُ الجهاد)، فقد استُدلّ به لمقولة: (لا يفتي أهلُ الدثور -أو القصور- لأهل الثغور)، وتعاد صياغتها بألفاظ مختلفة تؤدّي نفسَ المعنى مثلَ قولهم: (لا يفتي قاعِد لمجاهدٍ)، و(لا شأن لربّات الحِجال بمعارك الرجال)، ويزيد بعضُهم غلوًّا وضلالًا فينسب لابن تيميةَ زورًا وبهتانًا عبارةَ: (أخطاء أهل الثغور خيرٌ من صواب أهل الخدور)، وهي جزء من تغريدات شهيرةٍ ملأت وسائلَ التواصل واغترّ بها الكثير.
فعملًا بما يَهدف إليه مركز سلف للبحوث والدراسات من كشف الشبهات وتبيينها ورد الأباطيل وتفنيدها رأينا أن نتناول هذه المقولة بالدراسة العِلمية ومقارنتها بنصوص الكتاب والسنة وقواعد العلوم الشرعية، وبيان مدى صلتها بالأثر المذكور.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولا: نصُّ الأثر وتخريجُه والحكم عليه:
قال ابن القيم رحمه الله: (من خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد -رواية المروزي عنه، رواية أبي بكر أحمد بن عبد الخالق عنه، رواية أبي بكر أحمد بن جعفر بن سالم الحنبلي، رواية أبي الحسين أحمد بن عبد الله السوسنجردي- قال المروزي: … قرئ عليه -يعني الإمام أحمد-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، قال: الذي قال سفيان: إذا اختلفتم في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر؛ يتأوَّل الآية)([1]).
وهذا إسناد صحيح، رواتُه ثقات مشاهير. وعبارةُ الإمام أحمد رحمه الله: (الذي قال سفيان…) فيها -والله أعلم- إشارةٌ لتصحيحه لفظةً على أخرى.
وروى ابن أبي حاتم([2]) هذا الأثر عن أبيه، عن يعقوب بن إسحاق البغدادي، عن حماد قال: سمعته يقول: قال لي ابن عيينة:… اختلفوا فيه… وأهل الثغور؛ فإن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. وفي هذا المتن نقصٌ، وظاهر عبارته يفيد أن هناك غيرَ أهل الثغور ممن يُرجع إليهم عند الاختلاف، ويبدو أيضًا أن في السند تحريفًا؛ فيعقوب وحماد الواردان في الإسناد لم أعرفهما.
ورواه أيضًا ابن عدي([3]) عن الحسين بن بندار بن سعد، عن الحنبلي الحسن بن أحمد الإسفرائيني، عن أحمد بن حنبل به، ولفظه: (فانظروا ما عليه أهل الجهاد). وفي السند شيخُ شيخِ ابن عديّ لم أجد له ترجمة.
ورواه الثعلبي([4]) عن ابن فنجويه، عن ابن شنبة، عن عبد الله بن محمد بن وهب، عن إبراهيم بن سعيد، عن سفيان بن عيينة به. وفي السند متَّهمان بالوضع.
ثانيا: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} دراسة تحليلية:
ذكر المفسرون لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] عدةَ أقوال في معنى {جَاهَدُوا} بما خلاصته أن كلمة الجهاد أوسعُ من معناها الاصطلاحي الذي هو بمعنى القتال في سبيل الله، وإن كان هذا المعنى داخلا فيها دخولًا أوَّليًّا؛ لأنه ذروة سنام الإسلام، حتى إن الطبري رحمه الله لم يذكر سواه في تفسير الآية([5]).
ويتضح هذا من جهتين:
الجهة الأولى: أن الآية نزلت في مكة قبل فرضِ جهاد القتال على الراجِح من أقوال العلماء، قال الزركشي: (كل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنيّة سوى العنكبوت… واختلفوا في آخِر ما نزل بمكة؛ فقال ابن عباس: العنكبوت… فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة وعليه استقرت الرواية من الثقات)([6]). واستثنوا العشر الآيات الأولى، قال ابن عطية: (هذه السورة مكّية إلا الصدر منها العشر الآيات؛ فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة، وفي هذا الفصل اختلافٌ، وهذا أصح ما قيل فيه)([7]). ورجحه الزرقاني بقوله: (والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الإحدى عشرة الأولى منها فإنها مدنية، وهي التي ذكر فيها المنافقون)([8]).
ومن قال: إنها مكية كلّها أجاب عن ذكر المنافقين فيها، قال ابن عثيمين: (لا إشكال؛… يذكر الله المنافقين في السور المكية تحسّبًا لما يقع واستعدادًا لهم، قال الله U في سورة العنكبوت: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}، وهي مكية وعليه فلا إشكال)([9]).
فإذا كانت السورة كلها مكية فالمراد بالجهاد معناه الأوسع، ويدخل فيه القتال استعدادًا وتأهّبًا، وإذا كانت العشر الأولى فقط مدنية فالمراد بالجهاد هو القتال، ولا يمنع دخول غيره؛ فالعموم حاصل في الحالين، كلٌّ باعتبار، ويوضَّحه الجهة الثانية.
الجهة الثانية: أن تفسير {جَاهَدُوا} ليس خاصّا بالقتال، ولذلك لخص ابن عطية معاني الجهاد المروية عن السلف بقوله: (قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال؛ قال الفقيه الإمام القاضي: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عامّ في دين الله وطلب مرضاته… ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله U وهو الجهاد الأكبر، قاله الحسن وغيره)([10])، وقال صديق حسن خان: (ظاهر الآية العموم، فيدخل تحته كلّ ذلك، قال النسفي: أطلق المجاهدة ولم يقيّدها بمفعول، ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين)([11]).
فالجهاد في الآية هو مطلق المجاهدة، وأعظمُها القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته، ولا وجه لتخصيصها بأهل الثغور دون غيرهم معنى وفعلًا وثوابًا، أو إخراج العلماء غير المتواجدين في الثغور من أقسام المجاهدة، فهي قسيمة لقتال العدو، وتندرج جميعُها تحت مُقَسَّم واحد هو المجاهدة، وخلاف هذا خطأٌ ظاهر يأباه عمومُ الآية وتفسيراتُ السلف المتعدّدة.
ثالثا: قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} دراسة تحليلية:
إنّ فهم المراد من قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} موقوفٌ على ما سبق من تفسير {جَاهَدُوا}؛ فإذا كان الجهاد يشمل كل أنواع المجاهدة؛ فإن هداية السبيل تكون لجميع من جاهد في سبيل الله بأيّ نوعٍ؛ ولذلك تعدّدت تفاسير العلماء لقوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} بحسب ذلك؛ فقيل:
1- (الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ لِنُصْرَةِ دِينِنَا… لنثبتنَّهم على ما قاتلوا عليه، وقيل: لنزيدنهم هدى، وقيل: لنوفقنَّهم لإصابة الطريق المستقيمة).
2- وقيل: (الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْعَمَلِ بِهِ)، وقيل: (الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي إِقَامَةِ السُّنَّةِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْجَنَّةِ).
3- وقيل: (الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَاعَتِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ ثَوَابِنَا)([12]).
وقد أوضح ابن القيم رحمه الله هذا المعنى فقال: (عَلَّقَ سبحانَه الهدايةَ بالجهادِ؛ فأكملُ الناسِ هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفرضُ الجهادِ جهادُ النفس وجهادُ الهوى وجهادُ الشيطان وجهادُ الدُّنيا؛ فمنْ جاهدَ هذه الأربعةَ في الله هداه الله سُبلَ رضاهُ الموصلة إلى جنَّتِهِ، ومن تركَ الجهادَ فاتَهُ من الهُدى بحسب ما عطَّلَ من الجهاد، قال الجنيدُ: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتوبةِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُل الإخلاص، ولا يتمكَّنُ من جهادِ عدوِّهِ في الظاهرِ إلَّا من جاهدَ هذه الأعداءَ باطنًا؛ فمن نُصِر عليها نُصِرَ على عَدُوِّهِ، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدُوُّهُ)([13]).
رابعًا: ما المراد بأهل الثغور في الأثر؟
المقصود بهذه المسألة تحديدُ من يعتبر قوله مِن الناس عمومًا، ومِن أهل الثغور خصوصًا؛ إذ لا شك أن الجهاد في سبيل الله بالنفس والرباط على الثغور من أعظم القربات، ولكن الفتوى والقول في دين الله يحتاج إلى أهليّة علميّة، ولا يجوز للمرء القول على الله بغير علم ولو كان أعبدَ الناس وأقومَهم بأمر الله؛ فقد يكون العبد صالحا تقيًّا مجاهدًا لنفسه ومقاتلا في سبيل الله، ولكن لا يؤخذ عنه العلم لأنه ليس أهلا له، فضلا عن ترجيح قوله، ولهذا اهتمّ العلماء ببيان شروط المفتي، ولم أجد من اشترط كونَه من أهل الثغور حتى يُفتي في مسائل الجهاد([14]).
فمما ورد في عموم المجاهدة على الطاعات وترك المعاصي ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي الزناد قال: (أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث؛ يقال: ليس من أهله)([15]). يوضحه ما روي عن مالك رحمه الله قال: (لقد أدركتُ في هذا البلد -يعني المدينة- مشيخةً، لهم فضل وصلاح وعبادة يحدِّثون، ما سمعتُ من أحد منهم حديثًا قط)، قيل له: ولم يا أبا عبد الله؟! قال: (لم يكونوا يعرفون ما يحدِّثون)([16]). فعدم الأهلية العلمية تمنع الفتوى ولو كان لصاحبها أهليةُ فضل وصلاح وعبادة وأمانة.
ومما ورد في الجهاد خاصّة ما روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم المسلمين غناءً عنهم، فقال: «من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا»، فتبعه رجل، فلم يزل على ذلك حتى جرُح، فاستعجل الموتَ، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليعمل -فيما يرى الناس- عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار…»([17]). فليس كل من حضر قتالا مشروعًا مجاهدًا في سبيل الله، ولا يلزم من حضوره صحةُ كلِّ أفعاله بنصّ هذا الحديث، ولذلك ورد في الحديث قول الراوي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ الَّذِى ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأعْظَمَ النَّاسُ ذلِكَ؛ قال القاضي عياض: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما دلّ على سوء عُقباه وخاتمته، وسوء سريرته بكونه من أهل النار، وخبره صادق لا شك فيه، وكان ظاهره غيرَ ذلك من نصر الدين وحسن البصيرة فيه، فأراد معرفة السبب الموجب لكونه من أهل النار ليزداد يقينًا وبصيرة)([18])، وقال أبو العباس القرطبي: (وإنما كان ذلك لأنَّهم نظروا إلى صورةِ الحال، ولم يعرفوا الباطنَ ولا المآل)([19])؛ ولذلك تعجّبوا من قول النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه سؤال تعجب؛ إذ المعلومُ أن الصادق لا يُستثبت، فكيف يجعل قوله حجة على أهل الاختصاص بالعلم الشرعي الموثوق بدينهم وعلمهم ولو لم يحضروا ساحة المعركة أو يوجدوا بالثغور؟!
خامسا: نماذج من رجوع أهل الثغور (شيوخا وفقهاء) لأهل العلم:
إنّ التاريخ الإسلاميّ مليء بنماذج من رجوع أهل الثغور من العلماء خاصّة -فضلا عن عوام المسلمين- لإخوانهم من أهل العلم الموثوق بهم الذين كان لهم لسان صدق في الأمة، حتى إن أجوبتهم دُوِّنت في كتب يُفصح عنوانها عن هذه الحقيقة، ولعل أشهر مثال وأقدمه كتاب: (رسالة لأهل الثغر بباب الأبواب) لأبي الحسن الأشعري، وقد بدأ جوابه لهم بقوله: (أيها الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر بباب الأبواب)([20])، وهذا نصّ مهمّ وعزيز في بابه، وأن أهل الثغر -وكانوا شيوخًا وفقهاء- رجعوا إلى من يوثق بعلمه، رغم بُعد المسافة بينهما، وهي حوالي 6000 كم (من داغستان إلى بغداد)، يؤكّده أن المجاهِد قد يكون مخالفا للشرع في جهاده كما قال ابن تيمية: (المجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون، وقد يكون فيه فُجور كما قال النبي r: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم»)([21])، فكلٌّ من أهل الثغور وأهل العلم مجاهِد في مجاله، وكل منهما قد يكون مصيبًا محسنًا وقد يكون مخطئًا مسيئًا، والترجيح بينهما يكون بالحجة والدليل العلمي، ومصداق هذا في عصرنا الحزبُ المسمَّى زورًا وبهتانًا: حزب الله، الذي انخدع به كثير من العوام وجملة من أهل العلم المعاصرين؛ بحجة أنه يمثل ما يسمَّى محورَ المقاومة، فدافعوا عنه، حتى رأوا عينَ اليقين ما علِمه غيرُهم من العلماء قبلهم علمَ اليقين، قال الشيخ القرضاوي: (وقفتُ ضدَّ المشايخ الكبار في السعودية داعيًا لنصرة حزب الله، لكن مشايخ السعودية كانوا أنضجَ مني وأبصرَ مني؛ لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم)، فصار حينئذ أشدَّ إنكارًا وتحذيرًا من هذا الحزب؛ فقال: (… حقيقة حزب الله وشيعته الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله… هم كذبة… حسن نصر الشيطان وحزب الطاغوت)([22])، فمن ظهر له الحقّ ابتداءً من أصحاب البصيرة العلمية أو لاحقا من أصحاب البصيرة الواقعية لا يجوز له السكوتُ عن أهل الثغور إذا كان فيهم ما يخالِف شرعَ الله مع مراعاة ضوابط الفتوى وطريقتها والمصالح والمفاسد؛ أما السكوت المطبِق أو التأييد المطلَق بحجّة أنهم أهل الثغور فهو يناقض الميثاقَ الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب من وجوب البيان.
وفي تاريخنا المعاصر وثورة التحرير المجيدة في الجزائر استفتى المجاهدون الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله -وبينهما ما يقارب 6000 كم كذلك- في مسألة علمية هي من صميم الجهاد العمَلي وأدقّ مسائله الاجتهادية التقديرية، فكان جوابه رحمه الله: (الفرنساويون… إذا استولوا على واحد من الجزائريين ليعلمهم بالذخائر والمكامن، ومن يأسرونه قد يكون من الأكابر فيخبرهم أنّ في المكان الفلاني كذا وكذا، جاءنا جزائريون ينتسبون إلى الإسلام يقولون: هل يجوز للإنسان أن ينتحِر مخافة أن يضربوه بالشرنقة، ويقول: أموت أنا، وأنا شهيد، مع أنهم يعذبونهم بأنواع العذاب، فقلنا لهم: إذا كان كما تذكرون فيجوز…إلا أن فيه التوقف من جهة قتل الإنسان نفسه، ومفسدة ذلك أعظم من مفسدة هذا، فالقاعدة محكمة، وهو مقتول ولا بد)([23]). ويلاحظ هنا مراعاة الشيخ رحمه الله لجانبين في فتواه: الجانب الشرعي العلمي، والجانب الواقعيّ الجهاديّ، فذكر تعارض أمرين شرعا: قتل الإنسان نفسه، وإخبار العدو بالمكامن والذخائر، لا سيما إذا كان الأسير من الأكابر، مع تيقن شيء واحد أن الأسير مقتول ولا بدَّ، فاختار الشيخ أخفَّ الأضرار؛ فرغم أنه لم يكن في الثغور استطاع -بفضلٍ من الله ومِنة، ثم ببصيرته العلمية، وصدق السؤال وتوضيح الحال من المجاهدين الصادقين- الوصولَ لحكمٍ يُرضي اللهَ وينفع المجاهدين، وهذا هو الأصل في الأمة الإسلامية التعاونُ على البر والتقوى والتآزر والتآخي والولاء والبراء، وليس إحداث فجوات بين العلماء الربانيين والمجاهدين المرابطين، ولم ينقطع سؤال المجاهدين والمرابطين لأهل العلم، ويصعُب استقصاء فتاوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وغيرهم من علماء المسلمين في مسائل الجهاد فرادى أو في مجامعهم الرسمية.
سادسًا: علاقة أهل الثغور بالعلم بين الماضي والحاضر:
إنّ المتأمّل في الأثر المروي عن ابن عيينة وغيره يحتاج للرجوع إلى سياقه الزماني والمكاني لفهم حيثياته ومناطاته (تنقيحًا وتخريجًا وتحقيقًا)، حتى يتمكّن من تحقيق هذا المناط تحقيقًا صحيحًا، ولا يقع في تناقض بين حقائق الشريعة اليقينية والمنهجية العلمية الصحيحة، والأثر المروي عن بعض السلف له سياقاته واعتباراته، كي لا يقع في فهم خاطئ يجرُّ إلى مفاسد كثيرة، ويتضح ذلك بوجوه:
الوجه الأول: أن ثغور المسلمين في الفترة الزمنية التي قيل فيها الأثر وامتدت من بداية فترة الخلفاء الرشدين حتى الدولة العباسية -كما سيأتي- كانت عامرة بأهل العلم والفضل من الصحابة والتابعين وكبار علماء الأمة؛ وكانوا يتناوبون عليها، قال ابن تيمية: (ما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط، وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن (كذا) وغيره مرابطين، وكان عمر من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس، ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة)([24]). وبيَّن طريقتهم في إعمار هذه الثغور موضّحًا وجود كبار العلماء في هذه الثغور القريبة والبعيدة معا، ففي تمام كلامه قال: (كان أصحاب مالك كابن القاسم ونحوه يرابط بالثغور المصرية... كان عبد الله بن المبارك يَقدُم من خراسان فيرابط بثغور الشام، وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يرابط بها ومشايخ([25]) الشام كالأوزاعي وحذيفة المرغشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم… وطرسوس كانت من أسماء الثغور، ولهذا تذكر في كتب الفقه، وتولَّى قَضاءها أبو عُبيد الإمامُ وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما)([26])، بل قال: (لهذا كثر ذكر طرسوس في كتب العلم والفقه المصنفة في ذلك الوقت؛ لأنها كانت ثغر المسلمين حتى كان يقصدها أحمد بن حنبل والسري السقطي وغيرهما من العلماء والمشايخ للرباط)([27]). فالثغور وأهلها سابقًا ليست كالثغور وأهلها في العصر الحاضر، فقد كان فيهم العلماء الأجلاء، محدثون وفقهاء، عباد وأتقياء، قضاة وأمراء، ومن علو كعبهم وعظيم شأنهم صاروا يُذكرون في كتب الفقه، ويُعتنَى بأقوالهم وترجيحاتهم، وأحكامهم في قضائهم، في هذا السياق ذكر ابن تيمية قول ابن المبارك وأحمد؛ لأنه يتكلّم عن واقع معيَّن اقتضى ذلك، وليس حكمًا عامًّا مرتبطًا بمكان خاص يُناط الحكم به، ففي تتمة كلامه: (وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}).
الوجه الثاني: أن بلاد الثغور كانت من حواضر الإسلام بكل مقوِّمات الدولة المسلِمة، بل احتلَّت من ذلك المكانةَ المرموقةَ، قال ابن تيمية واصفًا حال الثغور وقتئذ: (كانت الثغور معمورةً بالمسلمين علمًا وعملًا، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحبّ التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على الثغور)([28])، وكانوا يستوطنون فيها كما فعل أحمد بن حرب الذي (كَانَ فاضلا ورعا، ورحل عَنِ الموصل إِلَى ثغر أَذَنة رغبةً فِي الجهاد، فأوطن هناك)([29])، فهذه هي الثغور الوارد فيها الأثر.
الوجه الثالث: أحكام الثغور أمور نسبيّة تختلف باختلاف سكّانها وصفاتهم، والمقصود هنا زيادة بيان ما في الوجهين السابقين، وهو أن مدح الثغر أو عكسه ليس مرتبطا بالمكان فقط، بل بصفات وحال أهله، قال ابن تيمية: (كون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها لا اللازمة لها؛ بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر أو دار حرب أو دار سلم أو دار علم وإيمان أو دار جهل ونفاق؛ فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم)([30])، وعليه فإنّ الأثر المروي يجب أن يُنظر إليه في ذلك الإطار الذي قيل فيه، فهو يختلف باختلاف سكان الثغر وصفاتهم، فمن أراد أن يعمّم الكلام أو يقيس الشاهد على الغائب فليراع هذه القاعدة فهي مهمّة جدًّا، وهذا ما يستوجب على طلاب العلم قراءة الآثار قراءة متفحّصة بمراعاة مناطاتها، وليس بالنظر لألفاظها فقط دون فقهٍ في سياقاتها؛ فسهولة الوصول للمعلومة الذي أتاحته التقنية الحديثة لا يجعل العلم حمًى مستباحًا لكل أحد بضغطة زرٍّ، بل هناك مفاوز أخرى يجب قطعُها بالجهد البشري في النظر بمراعاة قواعد الشريعة، مع المنهجية والأمانة العلميتين، والخشية من الله والتجرّد من العواطف غير المنضبطة بالشرع.
يؤكّده أن وضع الثغور لم يستمرّ على ما كان، بل حدث فيه تغيُّر في ذلك الزمان المبكر، ولهذا اختلف الحكم حينها؛ ففي تتمة كلام ابن تيمية قوله: (فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك… وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض ليس فيه من الفضيلة شيء، ولا يشرع بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه)([31]).
سابعًا: قول أهل الثغور بين الاستشهاد والقبول والردّ والمخالفة:
لا شكَّ أن قول أهل الثغور له ميزة على غيره إذا صدَر من أهله، وقد استشهد علماء الإسلام بقولهم في مواطن أصابوا فيها الحقَّ وكان لهم ميزة فيه، فقد أخرج ابنُ عدي الأثر في مقدمة كتابه (الكامل في الضعفاء) ونقل عقِبَه عن شيخه الحسين بن بندار قولَه: (أجمع أهل الثغر أن اللفظية كلّهم الجهمية)([32]). ومن أقوال أهل الثغور التي رجَّحها بعضُ علماء المالكية على قول إمام المذهب ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله فقال: (قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْبَابِ: لَا أَرَى أَنْ يُسْهَمَ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ…؛ فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ… واختاره مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ الْمَالِكِيُّ، وَقَدْ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ الثُّغُورِ يُسْهِمُونَ لِفَرَسَيْنِ…)([33]).
وفي المقابل إذا كان لأهل الثغور أقوال مخالفة كتب فيها علماء الأمصار، وردُّوا عليهم ونصروا الحقَّ، بل وهجروا بعضَهم، قال الخطيب البغدادي: (أحْمَد بن حَرْب المَوْصِليّ… تكَلَّم في مَسْألةِ اللَّفظ الّتي وقَعَت إلى أهْلِ الثُّغُور([34])/ فقال فيما ذُكِرَ لي [بِقولِ]([35]) مُحَمَّد بن دَاوُد المِصِّيْصيّ، فهَجَرهُ عليّ بن حَرْب لذلك، وتَرَكَ مُكَاتبَتَهُ)([36])، وأخَذَت هذه المسألةُ بُعدًا أكبر، فوقع اشتباه فيها حصل بسببه فتنة بين كبار علماء أهل السنة في ذلك العصر: البخاري والذهلي ومن سانده، فبعد (موت أحمد وقع بين بعض أصحابه وبعضهم وبين طوائف من غيرهم بهذا السبب، وكان أهل الثغر مع محمد بن داود المصيصي شيخ أبي داود يقولون بهذا، فلما ولي صالح بن أحمد قضاء الثغر طلب منه أبو بكر المروذي أن يظهر لأهل الثغر مسألة أبي طالب([37])؛ فإنه قد شهدها صالح وعبد الله ابنا أحمد والمروذي وفوران وغيرهم)([38]). وأوضح شيخ الإسلام سبب خطأ أهل الثغور وتقديم قول أهل الأمصار (العراق) على قولهم فقال: (أهل خراسان لم يكن لهم من العلم بأقوال أحمد ما لأهل العراق الذين هم أخصّ به، وأعظم ما وقعت فتنة اللفظ بخراسان، وتعصّب فيها على البخاري -مع جلالته وإمامته- وإن كان الذين قاموا عليه أيضا أئمةً أجلاءَ، فالبخاري رضي الله عنه من أجلّ الناس)([39]).
ثامنًا: ضوابط التعامل مع أثر (عليكم بأهل الثغر) وأمثاله:
تبيَّن من خلال العرض السابق أن الأثر ليس على إطلاقه، ولا يمكن أن يُتّخذ قاعدة عامّة أو مطلقة؛ فقد يُعمل به أحيانًا وفقَ ضوابط وسياقات خاصّة، وقد لا يُعمل به أخرى لا سيما عند الإطلاق وعدم التفصيل، وكان هذا منهجَ أهل العلم قديمًا وحديثًا من أهل الثغور وغيرهم، وأختِم هذه الورقة العلمية بذكر تنبيهاتٍ وضوابطَ علميةٍ في التعامل مع هذا النوع من الآثار:
الأول: بين الأثر المرويّ وإطلاقات بعض المغرضين بونٌ شاسعٌ كالذي بين الإسلام والباطل الذي يقابله؛ لأن الأقوال المروَّج لها تهدم الإسلام من أساسه وتخالف القرآن في لفظه ومعناه بالردّ لله ورسوله، وسؤالِ أهل الذكر، والميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب، كما تُصادم السنةَ النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين والتاريخ الإسلامي، فجميعها يؤكد على دور أهل العلم في الفتوى لجميع الأمة، وضرورة الرجوع إليهم سواء كانوا في الثغور أو في غيرها، والألفاظ المبتدعة في هذه المقولة أو المحرفة من الأثر تفوح منها رائحة الحزبية المقيتة وتعمُّد الإضلال وتبرير الانحراف والضلال؛ لذلك لا يرفع لكلامهم رأسٌ لظهور بطلانه، وينظر للأثر في سياقه ومختلف حالاته.
الثاني: مجال العمل بالأثر هو حالات خاصّة وطارئة، تلتبس فيها الأدلة ويحتاج لترجيح بينها، أو تتداخل فيها المصالح مع المفاسد ولا يمكن الجزم بحكم الله في الواقعة، كما سبق عن الشيخ ابن إبراهيم في تأييده فعل المجاهدين لرجحان المصلحة العامة على الخاصة.
ويؤكد ابن القيم رحمه الله المسار الصحيح لاستعمال الأثر وحيثياته فيقول: (إنَّ الصادق يتحرَّى في سلوكه كلِّه أحبَّ الطُّرق إلى الله، فإنّه سالكٌ به وإليه، فيعترضه طريقان لا يدري أيّهما أرضى لله وأحبُّ إليه… فإن تساوى عندهم الأمران، قدَّموا أرجحهما مصلحةً. ولترجيح المصالح رُتبٌ متفاوتةٌ؛ فتارةً تترجَّح بعموم النفع، وتارةً تترجَّح بزيادة الإيمان، وتارةً تترجَّح بمخالفة النفس، وتارةً تترجَّح باستجلاب مصلحةٍ أخرى بها لا تحصل من غيرها، وتارةً تترجَّح بأمنها من الخوف من مفسدةٍ لا تؤمَن في غيرها؛ فهذه خمس جهاتٍ من التّرجيح، قلَّ أن تُعدَم واحدةٌ منها… فهذا نهاية ما في مقدور الصَّادقين، ولأهل الجهاد في هذا من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة، ولهذا قال الأوزاعيُّ وابن المبارك: إذا اختلف الناس في شيءٍ فانظروا ما عليه أهل الثغر -يعني أهل الجهاد- فإنَّ الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا})([40]).
الضابط الثالث: العلاقة بين الجهاد والمجاهدة هي علاقة تكاملية ومتلازمة، وقد يحصل بينهما تعارض؛ فكلما كانت مجاهدة النفس مجاهدةً صحيحة وفق المنهج الرباني القائم على الكتاب والسنة واتباع سلف الأمة الصالحين الذين جاهدوا في الله حق جهاده وزكاهم رّب العزة بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}؛ كان جهاد العدو والقتال في سبيل الله أيسرَ والنصر عليه أقرب، ومن الجهاد جهاد النفس على اتباع أوامر الله وإن كان يعارضها داعي الجِبِلَّة من عدم الرضا بالهون والمذلَّة؛ قال ابن عثيمين: (كلنا يعرف كيف كانت شروط صلح الحديبية، حتى قال عمر بن الخطاب t: يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: «بلى»، قال: فلم نرضى الدَّنِيَّةَ في ديننا؟! فظن هذا خِذلانًا، لكن الرسول r لا شك أنه أفقه من عمر t… وإن كان ظاهر الصلح أنه خذلان للمسلمين، وهذا يدلنا على مسألة مهمة، وهي: قوة ثقة المؤمن بربه، فهذا محمد رسول الله r في هذه الحال الحرجة يقول: «وهو ناصري»، وفي قصة موسى… قال: كَلَّا، ما يُمكِن أن نُدرَك، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}؛ سيهديني لشيء يكون فيه الإنقاذ، وبالفعل حصل الإنقاذ لموسى u وقومه، وحصل هلاك فرعون وقومه)([41])، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله معارضة الحال للأمر الشرعيّ عند أرباب الأحوال فقال: (تعرِض لهم أحوالٌ لا يمكنهم الجمع بينها وبين أحكام الأمر كما تقدَّم، فلا يجدون بدًّا من القيام بأحكام الأمر، ولا بدَّ أن يحدث لهم نوع اعتراضٍ خفيٍّ أو جليٍّ بحسب انقطاعهم عن الحال بالأمر، فيحزنون لوجود هذه المعارضة، فإذا قاموا بأحكام الأمر ورأوا أنَّ المصلحة في حقِّهم ذلك وحمدوا عاقبته حزنوا على تسرُّعهم إلى المعارضة([42])، فالتسليم لداعي العلم واجبٌ([43])، ومعارضة الحال من قبيل الإرادات والعلل، فيحزن على بقيتها فيه)([44])؛ فعلى المؤمن تعلُّم التعامل مع هذه المعارضات التي تعرض له -من مقتضيات الطبيعة البشرية- فيستصحب بيان النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة الصديق رضي الله عنه في الاستسلام لمقتضى النص الشرعي، كما يستصحب موقف الفاروق رضي الله عنه بالاستغفار لمعارضته ابتداء، ويبقى هذا الفقه الصحيح والسلوك القويم منهجًا متبعًا في حياة المسلمين؛ فليس كلّ قتال ممدوحًا، وليس كل تارك له مخذِّلًا أو خائنًا، وهذا ما قرَّره الشاطبي رحمه الله عند كلامه على أوصاف العالم الذي يؤخذ قوله فقال: (الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ رَبَّاهُ الشُّيُوخُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ لِأَخْذِهِ عَنْهُمْ، وَمُلَازَمَتِهِ لَهُمْ؛ فَهُوَ الْجَدِيرُ بِأَنْ يَتَّصِفَ بِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ… وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ… فَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ الْمُلَازَمَةِ، وَالِانْقِيَادِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْإِشْكَالِ؛ حَتَّى لَاحَ الْبُرْهَانُ لِلْعِيَانِ)([45]).
الخاتمة:
بعد هذا العرض لمقولة: (لا يفتي أهلُ الدثور لأهل الثغور) وما شابهها، ومقارنتها بالأثر المروي عن بعض السلف: (إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر)، مع نصوص الكتاب والسنة وقواعد العلم الشرعي ومنهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة، يتبين أن لا علاقة بين الأثر والمقولة المذكورة، وأنها لا تخلو من ضلال ظاهر، وقلب لحقائق الدين، ومعارضة صريحة للكتاب والسنة والسيرة النبوية العملية والتاريخ الإسلامي والمنهج العلمي السليم، ولذلك لم يقل بصِيَغها المنشورة أحدٌ من أهل العلم المعروفين من السابقين والمعاصرين، ولم تُذكر ضمن القواعد الفقهية أو الأصولية أو مناهج البحث العلمي لمعارضتها لكل ذلك وغيره، فالفتوى تؤخذ من أهلها وهم العلماء الذين أخذ الله عليهم ميثاق بيان الكتاب وعدم كتمانه، والله أمر بسؤال أهل الذكر، ولا فتوى لغيرهم مهما بلغ من الإيمان والتقوى والصلاح ومجاهدة الهوى والنفس والشيطان وجهاد الأعداء وقتالهم، فإن الفتوى منصب شرعيّ له أدواته وضوابطه، ومن فقَد هذه الأدوات والضوابط فواجبه كما قال ابن القيم: (إِذَا لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ أَهْلِيَّةٌ قَطُّ فَفَرْضُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَقَوْلُ النَّبِيِّ r: «أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»([46]))([47])، وأما كون المجاهدة والجهاد له أثر على الهداية وإصابة الحق فهو من جهة ليس خاصًّا بجهاد الأعداء، بل يشمله وغيره من أنواع المجاهدة، ومن جهة أخرى ليس على إطلاقه، بل هو أمر يُستأنس به في حالات خاصّة -سبق بيانها- ولا يهدم به قاعدة الشريعة المطردة في سؤال أهل العلم، ولو اشتُرط جهاد العالم حتى يفتي في مسائل الجهاد للزم منه الكفر الصريح وتعطيل العقل الصحيح؛ لأن مقتضاه أن لا يفتي في الحيض والنفاس إلا حائض نفساء، وهكذا في الزواج إلا متزوّج، بل في الكفر والإلحاد إلا كافر ملحِد، وفي البدعة إلا مبتدع، وهكذا دواليك بمقتضى نفس العلَّة، وهذا مُحالٌ، ولم يقل به أحد يَعرف ما يخرج من رأسه.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) بدائع الفوائد -ط. عطاءات العلم- (2/ 1023). وفي ط. دار الكتاب العربي (3/ 110): (فانظروا ما عليه أهل التقوى)!
([2]) تفسير القرآن العظيم (17452).
([3]) الكامل في الضعفاء (1/ 185).
([5]) تفسير الطبري (18/ 444)، وذكر غيرُه أقوالا أخرى مسنَدة إلى أصحابها؛ انظر: تفسير ابن أبي حاتم (9/ 3084)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 174).
([6]) البرهان في علوم القرآن (1/ 188، 194)، وانظر أقوال السلف في تفسير البغوي (6/ 256).
([7]) تفسير ابن عطية (4/ 305).
([9]) تفسير ابن العثيمين (148).
([10]) تفسير ابن عطية (4/ 326).
([11]) فتح البيان في مقاصد القرآن (10/ 219).
([14]) يوجد مبثوثا في كتب أدب الطلب والآداب الشرعية عموما أو كتب الفقه والحديث لا سيما في بعض المقدمات.
([15]) مقدمة صحيح مسلم (1/ 15).
([16]) ينظر: تحرير علوم الحديث (1/ 252).
([20]) رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب -ت: الجنيدي- (74-75).
([22]) وقال د. عصام تليمة -مدير مكتب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ القرضاوي سابقا-: (إن علماء السنة جميعا خُدعوا في حزب الله). انظر: موقع الشيخ يوسف القرضاوي.
([23]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم عبد اللطيف آل الشيخ (6/ 207-208).
([24]) جامع المسائل (5/ 356-257).
([25]) كذا، ولعلها بدون الواو.
([26]) مجموع الفتاوى (27/ 53).
([29]) ينظر: تهذيب الكمال (1/ 289).
([30]) مجموع الفتاوى (27/ 54).
([31]) مجموع الفتاوى (27/ 55).
([32]) الكامل في الضعفاء (1/ 185).
([34]) وهذا يؤكد أن أهل الثغور ليسوا بمنأى عن الخطأ أو مخالفة السنة على وجه الإطلاق.
([35]) في المصدر: (يقول)، والمثبت هو الأقرب المناسب للسياق.
([36]) المتفق والمفترق (1/ 175-176).
([37]) يعني إنكار الإمام أحمد نقلَ أبي طالب عنه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق.
([38]) مجموع الفتاوى (12/ 207).
([39]) المصدر السابق (12/ 208).
([40]) مدارج السالكين (2/ 176-177).
([41]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (25/ 318).
([42]) هذا حال الأوَّابين كالفاروق رضي الله عنه حين قال: (مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا) مسند أحمد (31/ 217) وحسنه محققوه .
([43]) وهو حال أهل التعبُّد المطلق، وبه نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه منزلة الصديقية، فقد نقل النووي عن العلماء قولهم -بعد الاعتذار لفعل عمر رضي الله عنه وتوجيهه-: (وأما جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لِعُمَرَ بِمِثْلِ جَوَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِهِ وَبَارِعِ عِلْمِهِ وَزِيَادَةِ عِرْفَانِهِ وَرُسُوخِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَزِيَادَتِهِ فِيهِ كُلِّهِ عَلَى غَيْرِهِ رضي الله عنه) شرح صحيح مسلم (12/ 141)، وانظر: منهاج السنة (8/ 407).
([44]) مدارج السالكين (2/ 178).