
التطبيقات الخاطئة لنصوص الشريعة وأثرها على قضايا الاعتقاد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
من الأمور المقرَّرة عند أهل العلم أنه ليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل، سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية، وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبيٌّ يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة أوسع منه في دائرة طلبة العلم، وشاهد ذلك قول عَلِيٌّ رضي الله عنه: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!»([1]).
هذا الأثر بوَّب عليه البخاري بقوله: “بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا”([2])، قال ابن حجر: “والمراد بقوله: (بما يعرفون) أي: يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: (ودعوا ما ينكرون) أي: يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود: (مَا أَنت بمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً) رواه مسلم([3])، وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم”([4]).
وممن استوعبوا المسألة -مناقشةً وبحثًا واستدلالًا- الإِمام الشاطبي في أكثر من موضع من كتابيه (الموافقات) و(الاعتصام)، فنجده يؤكد على المربي “أن لا يَذْكُرَ لِلْمُبْتَدِئِ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَظُّ المنتهي، بل يربي بصغار العلم قبل كباره، وقد فَرَضَ العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها إن كانت صحيحة في نظر الفقه… وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صَبِيغًا وَشَرَّدَ به لَمَّا كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل، وربما أوقع خبالا وفتنة، وإن كان صحيحا… إِلَى غير ذلك مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّهُ ليس كُلُّ عِلْمٍ يُبَثُّ وَيُنْشَرُ وإِنْ كان حَقًّا، وقد أَخْبَرَ مَالِكٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ عنده أَحَادِيثَ وعِلْمًا ما تَكَلَّمَ فيها ولا حَدَّثَ بها، وكان يَكْرَهُ الكلام فيما ليس تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَأُخْبِرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُمْ كانوا يَكْرَهُونَ ذلك، فَتَنَبَّهْ لِهذا الْمَعْنَى”([5]).
والشاطبي لا يترك الأمر فوضى، بل يضبطه بجملة من الضوابط فيقول: “وَضَابِطُهُ أَنَّكَ تَعْرِضُ مسألتك على الشريعة، فَإِنْ صَحَّتْ في ميزانها فانظر في مَآلِهَا بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فَإِنْ قَبِلَتْهَا فَلَكَ أَنْ تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية”([6]).
لذا الذي عليه أهل العلم أنه ليس كل ما يعلم يقال، لا سيما إذا كان سيحمل على غير وحجه، ولذا كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكتم بعض العلم؛ خشية أن يفهمه الناس على غير الوجه المقصود به.
ومن ذلك ما رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «يَا مُعَاذُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلاَثًا، قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا»، وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا([7]).
وكم من باب شر فُتح على الأمة بسبب الفهم الخاطئ لبعض الأدلة! وهل خرج من خرج على عثمان رضي الله عنه إلا بفهم خاطئ لنصوص الكتاب والسنة؟! وهل خرجت الخوارج على علي وقتلوا من قتلوا من المسلمين قديمًا وحديثًا إلا بفهم خاطئ للكتاب والسنة؟!
يقول ابن أبي العز: “وَلَا يَشَاءُ مُبْطِلٌ أَنْ يَتَأَوَّلَ النُّصُوصَ وَيُحَرِّفَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا إِلَّا وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ السَّبِيلِ مَا وَجَدَهُ مُتَأَوِّلُ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَهَذَا الَّذِي أَفْسَدَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ. وَهَكَذَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي نُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَحَذَّرَنَا اللَّهُ أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُمْ، وَأَبَى الْمُبْطِلُونَ إِلَّا سُلُوكَ سَبِيلِهِمْ، وَكَمْ جَنَى التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ مِنْ جِنَايَةٍ! فَهَلْ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ؟! وَكَذَا مَا جَرَى فِي يَوْمِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَرَّةِ، وَهَلْ خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ وَاعْتَزَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَرَفَضَتِ الرَّوَافِضُ وَافْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ؟!”([8]).
لذا لا بد أولًا من توضيح ضوابط فهم النص الشرعي، ثم بعد ذلك نسوق أمثلة لنصوص شرعية فُهمت على غير المراد منها، أو وُضعت في غير موضعها.
وهذا ما سنقوم على تقريره بمركز سلف للبحوث والدراسات، وبالله التوفيق.
المبحث الأول: ضوابط فهم النص:
إن الاستدلال بالنصوص الشرعية موضوع في غاية الأهمية؛ لأن النصوص الشرعية تقتضي أن يكون فهمها واستنباط الأحكام منها وفق ضوابط منهجية معينة، تضبط الفهم، ويُعصم بها الباحثون والدارسون من الشطط في التصور والفهم والاستنباط، ولا بد من الإدراك والوعي بالضوابط اللازمة لسلامة الاستدلال بالنصوص الشرعية وفهمها، والاستدلالُ السليم فرع عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية، وتطبيق هذه النصوص وتنزيلها على الوقائع المستجدة -وهو ركن أصيل في الاجتهاد وجانب مهمّ من ثماره- أمر غاية في الخطورة؛ لذا وجب العناية بضوابطه.
ومن أبرز الضوابط المنهجية للاستدلال بالنصوص الشرعية ما يلي:
1- تعظيم النصوص الشرعية والتسليم لها:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته: “ولا تثبُت قدمُ الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رامَ عِلمَ ما حُظِر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فَهمُه، حَجَبه مَرامُه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان”([9]).
2- التأكّد من ثبوت النص الذي ينبني عليه الحكم:
هذا الضابط يخصّ السنة النبوية، وما أكثرَ الأحاديث التي نُسبت لخير البرية عليه الصلاة والسلام ولم تثبت ولم تصح! بل إن بعضها لم توجَد له رواية في الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، ومع ذلك بنى عليها بعض المبتدعة والجهلة أعمالًا وفضائلَ، كحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم)، قال ابن تيمية: “وهذا الحديث كذب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يَعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذَكره أحد من أهل العلم بالحديث”([10]).
3- عرض النص الذي يراد فهمه والاستدلال به على النصوص الشرعية الأخرى من الكتاب والسنة النبوية ذات العلاقة به:
لفهم النص واستنباط الأحكام منه لا بد أن يُعرض على النصوص الأخرى ذات العلاقة به، فلا يُنظر إلى نص بمفرده، فالقرآن والسنة يفسّر بعضها بعضًا، والسنة النبوية بمنزلة الشرح والتفسير والبيان لمعاني القرآن، وهذا أمر مقرر لدى العلماء([11]).
فحصر التدبّر والاستنباط في النص بمفرده، أو في جزئية من جزئيات النص دون ربطه بنصوص القرآن والسنة ذات العلاقة به وضمّه إليها يؤدّي إلى مفاهيم وأحكام خاطئة وسقيمة، وما يقع فيه كثير من الطوائف والفرق من زيغ مردُّه في بعض صوره إلى جزئية الإدراك، وكثير من المفاهيم والأحكام السقيمة التي ذهبت إليها بعض الفرق المبتدعة إنما كان أساس الخلل والانحراف فيها هو تمسّكها ببعض النصوص وإغفالها للنصوص الأخرى ذات العلاقة واجتزاؤها للنصوص عن بعضها([12]).
4- فهم ألفاظ النصوص الشرعية وفق أساليب اللغة العربية وطرق الدلالة فيها على المعاني:
فالنصوص الشرعية نزلت بلسان عربي مبين، فمدلولات ألفاظ النصوص الشرعية هي حسب قواعد اللغة العربية ودلالاتها اللغوية والشرعية والعرفية.
فالنصوص الشرعية جاءت بلسان عربي مبين، فمن البديهي أن تكون معرفة مدلولات تلك الألفاظ العربية حسب قواعد اللغة العربية وإيحاءاتها الدلالية اللغوية والشرعية والعرفية؛ لأنه لا سبيل إلى تطلّب فهمها من غير جهة لسان العرب([13]).
يقول الشاطبي: “إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا عُجْمَةَ فِيهِ، فَبِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى لسان معهود العرب فِي أَلْفَاظِهَا الْخَاصَّةِ وَأَسَالِيبِ مَعَانِيهَا، وَأَنَّهَا فِيمَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنْ لِسَانِهَا تُخَاطِبُ بِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ فِي وَجْهٍ وَالْخَاصُّ فِي وَجْهٍ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَالظَّاهِرُ يُرَادُ بِهِ غَيْرُ الظَّاهِرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَتَتَكَلّمُ بِالْكَلَامِ يُنْبِئُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ، أَوْ آخِرُهُ عَنْ أَوَّلِهِ، وَتَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ يُعْرَفُ بِالْمَعْنَى كَمَا يُعْرَفُ بِالْإِشَارَةِ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِأَسْمَاءَ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ بِاسْمٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهَا لَا تَرْتَابُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ هِيَ، وَلَا مَنْ تَعَلَّقَ بِعِلْمِ كلامها”([14]).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “ولا بدَّ في تفسير القرآن والحديث مِن أن يعرف ما يدلُّ على مراد الله ورسوله مِن الألفاظ وكيف يُفهم كلامه، فمعرفةُ العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مرادَ الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإنَّ عامّة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنّهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدّعون أنّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمرُ كذلك”([15]).
5- عدم تأويل النص بصرفه عن ظاهره إلا إذا توافرت للتأويل شروطه:
فإنه لا يجوز تأويل النص بصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر إلا إذا توافرت للتأويل شروطه المعتبرة، فيكون التأويل بذلك صحيحًا مقبولًا، وإن لم تتوافر تلك الشروط كان التأويل فاسدًا مردودًا، ومن هذه الشروط:
الشرط الأول: أن يكون اللفظ المراد تأويله قابلًا للتأويل بحسب وضعه اللغوي.
الشرط الثاني: أن يستند التأويل إلى دليل صحيح يدل على صرف اللفظ عن معناه إلى غيره، وأن يكون هذا الدليل أقوى من الظاهر؛ لأن الأصل في عبارات الشارع حملها على ظاهرها، والعمل بهذه الظواهر، إلا إذا قام دليل على العدول عنها إلى غيرها، فحمل اللفظ على حقيقته إذا تجرد عن القرائن هو الظاهر، ولا يُحمل على مجازه إلا بدليل، والعام على عمومه هو الظاهر، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلى التخصيص إلا بدليل يدل على إرادة هذا التخصيص، والمطلق على إطلاقه هو الظاهر، ولا يعدل عن هذا الظاهر الشائع إلى التقييد إلا بدليل يدل على إرادة هذا القيد، وظاهر الأمر الوجوب، فيجب العمل بالظاهر، ولا يُحمل الأمر على الندب أو الإرشاد إلا بدليل، وكذلك النهي ظاهره التحريم، فلا يتحقق مدلوله إلا بالكف عن الفعل، ولا يحُمل النهي على الكراهة إلا بدليل([16]).
الشرط الثالث: أن يكون المعنى الذي أُوّل إليه النص من المعاني التي يحتملها اللفظ نفسه ويدل عليها، أما إذا كان المعنى الذي صُرف إليه اللفظ من المعاني التي لا يحتملها اللفظ ولا يدل عليها بوجه من الوجوه، فلا يكون التأويل مقبولًا، ويُردّ على صاحبه، ومن التأويلات المرفوضة: تأويلات الباطنية، ومتأوّلي الصفات، وتأويلات المعتزلة، وفلاسفة الصوفية([17]).
الشرط الرابع: أن لا يتعارض التأويل مع النصوص القطعية الدلالة، أو مع القواعد الشرعية الكلية المقررة المعلومة من الدين بالضرورة؛ لأن التأويل طريقه الاجتهاد الظني، والظني لا يقوى على معارضة الدليل القطعي([18]).
الشرط الخامس: أن يكون التأويل مقتصرًا على نصوص الأحكام الشرعية العملية، فالنصوص المتعلقة بأمور العقائد وأصول الدين وكل ما يتّصل بعالم الغيب وأحوال الآخرة، فالذي عليه السلف ألا نخوض في تأويلها بغير بيّنة ونكلها إلى عالمها، ولا نتكلف علم ما لم نعلم([19]).
6- فهم النص في ضوء دلالة سبب نزوله أو وروده:
فالكثير من نصوص الكتاب والسنة النبوية أحاطت بها ظروف وشروط ومناسبات، ولا بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع، ومراعاة تلك الأسباب التي ورد النص لأجلها؛ لأن ذلك يساعد على سداد الفهم واستقامته، ولأن النص إذا بُتر عن سبب وروده قد يضطرب مفهومه، ويترتب عليه نتائج خاطئة([20]).
7- فهم النصوص بفهم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين:
ومن الأصول النافعة والواجبة في فهم النصوص: فهمها والتعامل معها على طريقة السلف الأولين من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان من الأئمة المتبوعين، وهذا أصل عظيم في التعامل مع النصوص الشرعية.
وقد جاءت النصوص المتواترة المتكاثرة في الكتاب والسنّة والآثار تدعو إلى الالتزام بمنهج الصحابة عِلْمًا وعَمَلًا، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم النجاةَ في اتّباع منهج الصحابة رضي الله عنهم، فقال صلى الله عليه وسلم في بيان المنهج الواجب الاتباع: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»([21]).
والله سبحانه وتعالى قد رضي عن الصحابة وعمّن اتبع سبيلهم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
كما أنّه قد غضب على من انحرف عن سبيلهم فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «من كان منكم مُسْتَـنًّا فليستنَّ بمن قد مات؛ فإنّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمّة، وأبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضْلَهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسّكوا بما استطعتم مِن أخلاقهم ودينهم، فإنّـهم كانوا على الهدى المستقيم»([22]).
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: “إذا صحّ عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء لَزِمَنَا الأخذُ به، فإن لم نجد عنه ووجدنا عن الصحابة فكذلك، فإذا جاء قول التابعين زاحمناهم”([23]).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: “قد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنّأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدَّوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كلّ علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من رأينا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنّة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول ولم نخرج من أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله”([24]).
8- لا تُعارَض النصوصُ بالرأي أو بالعقل:
لا يجوز معارضة النصوص بالرأي المجرّد مهما كان قائله، وخاصّة حين التنازع، فالردُّ حينئذ للوحي المعصوم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وقد أجمع أئمة المذاهب وغيرهم على تقديم النصّ على أقوالهم، ودَعَوا أتباعهم إلى ترك أقوالهم إذا عارضت النصوص.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: “إذا قلتُ قولًا يخالف كتابَ الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي”([25]).
وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكلُّ ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”([26]).
وقال ابن أبي العز: “وَهَذَا -أي: تعارض العقل مع النقل- لَا يَكُونُ قَطُّ، لَكِنْ إِذَا جَاءَ مَا يُوهِمُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَذَلِكَ الَّذِي يُدَّعَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِنَّمَا هُوَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ لَظَهَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ غَيْرَ صَحِيحٍ فَلَا يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَارَضَ عَقْلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ أَبَدًا”([27]).
المبحث الثاني: أمثلة على التطبيق الخاطئ لنصوص الكتاب والسنة:
1- الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
قالوا: فقد علَّق الله تعالى قبول استغفارهم باستغفاره عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك صريح دلالة على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وقبول المتوسل به، كما يفهم من قوله تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}؛ فالآية تدل على الاستشفاع به في حالتي حياته ووفاته([28]).
وهذا من الفهم الخاطئ للآية، وقد ردَّه علماء الأمة، ولم يعمَل بهذا الفهم أحد من السلف.
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في رده على السبكي: “فالكلام في الآية في مقامين: أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبه، الثاني: بيان دلالتها على نقيضه. وإنما يتبين الأمران بفهم الآية، وما أريد بها، وسيقت به، وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه، وهم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم. ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم.
وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء، إذ ظلم نفسه، وأخبر أنه من المنافقين، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]. وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، حيث لم يجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فإن المجيء إليه يستغفر له توبة وتنصل من الذنوب.
وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله إني فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، وهذا كان فرقًا بينهم وبين المنافقين. فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي. ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، وافترى على الصحابة والتابعين وهم خير القرون على الإطلاق…
فكيف أغفل هذا أئمةُ الإسلام وهداةُ الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير، ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضّوا عليه، ولم يرشِدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة؟! بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاةَ فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك، الجفاةَ عما يحبّه ويأمر به من التوحيد والعبودية.
ومما يدل على بطلانه قطعًا: أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وقد ظلم نفسه ليستغفر له، فأعرض عن المجيء وأباه مع قدرته عليه، كان مذمومًا غاية الذمّ مغموصًا بالنفاق، ولا كذلك من دُعي إلى قبره ليستغفر له، ومن سوَّى بين الأمرين وبين المدعوَّين وبين الدعوتَين فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق. ولم ينقل عن أحد منهم قط -وهم القدوة- بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكا إليه، ولا سأله”([29]).
2- الاستدلال بقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»([30]) على جواز شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
استدل به السبكي تحت عنوان: “فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالًّا على فضل الزيارة، وإن لم يكن فيه لفظ الزيارة”([31]).
وهذا فهم خاطئ للحديث، بل هذا ينافي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»([32])، وهذا نهي، والنهي يقتضي التحريم، فلا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذُكر.
وأيضًا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ»([33]). فنهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدًا، وذلك بشدّ الرحال إليه. ثم أعقب النهي عن اتخاذه عيدًا بقوله: «وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ»، يشير بذلك إلى أنه يناله صلاتهم عليه مع قربهم من قبره وبُعدهم عنه، فلا حاجة إلى اتخاذه عيدًا. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وعلى عهد الصحابة كان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يأتون فيصلّون في مسجده ويسلّمون عليه في الصلاة، ويسلّم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو مدفون في حجرة عائشة رضي الله عنها، فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجًا عنها في المسجد عند السور، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق، وهم الذين قال الله فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، ويصلون في مسجده كما ذكرنا، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة([34]).
3- الاستدلال بقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» على الاحتفال بالمولد النبويّ:
حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: سُئِلَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فقَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ: أُنْزِلَ عَلَيَّ- فِيهِ»([35])؛ استُدلّ به على تعظيم اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم والاحتفال به، فقالوا: هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظّم يوم مولده، وكان يعبر عن هذا التعظيم بالصوم، وهذا من معاني الاحتفال به([36]).
وهذا فهم خاطئ للحديث؛ وذلك من وجوه، منها:
أولًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع أول -على قول-، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات أو خمس. وبناء على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون الاثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكًا على الشارع، وتصحيحًا لعمله، وما أقبح هذا إن كان!([37]).
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخصّ يوم الاثنين بالصيام، بل كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، وقال صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»([38]).
وعلى هذا فالاستدلال بصوم يوم الاثنين على جواز الاحتفال بالمولد النبوي في غاية التكلّف والبعد([39]).
ثالثًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضف إلى الصيام احتفالًا كاحتفال أرباب الموالد، من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب، أفلا يكفي الأمة ما كفى نبيَّها ويسعها ما وسعه؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
رابعًا: إذا كان المراد من إقامة الموالد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه به، وهو الصوم وعليه فلنصم كما صام.
غير أن أرباب الموالد لا يصومونه؛ لأن الصيام فيه مقاومة لشهوات النفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب، وهم يريدون ذلك الطعام والشراب، فتعارض الغرضان، فآثروا ما يحبون على ما يحب الله، وهذا بعينه أعظم الزلل عند أهل البصيرة([40]).
4- الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهذا فهم خاطئ للآية، يدل على ذلك فهم السلف رضوان الله عليهم.
قال ابن كثير: “يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصْلِحُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَفْعَلُوا الْخَيْرَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَهُ لَا يَضُرُّهُ فَسَادُ مَنْ فَسَدَ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ بَعِيدًا”.
ثم قال رحمه الله: “وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مسْتَدَلٌّ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِذَا كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ مُمْكِنًا؛ فعن قَيْس قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} -إِلَى آخَرِ الْآيَةِ-، وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ أَوْشَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعُمَّهُمْ بعِقَابه»([41]).
وعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْباني قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِي فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: أيَّة آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سألتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطاعًا، وهَوًى مُتَّبعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرة، وإعجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مثلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ كَعَمَلِكُمْ»([42]).
وعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا، إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ. وَلَكِنَّهُ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانُهَا، تَأْمُرُونَ فَيُصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا -أَوْ قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ- فَحِينَئِذٍ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ}([43]).
5- الاستدلال بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] على حرية الردة والكفر، وإبطال حد الرِّدَّة:
وهذا من الفهم الخاطئ لكتاب الله تعالى، فإن قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} جاء في معرض التهديد والوعيد، لا في معرض التخيير.
قال ابن كثير: “يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أَيْ: أَرْصَدْنَا {لِلظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أَيْ: سُورُهَا”([44]).
وقال الشنقيطي: “ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَسَبَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. وَالتَّهْدِيدُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّخْيِيرُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ لَمَا تَوَعَّدَ فَاعِلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى”([45]).
أما قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} فليس معناه حرية الردة عن الدين، وإنما معناه عدم الإكراه ابتداءً على الدخول في الدين، فإذا دخل في الإسلام ثم ارتد لا بد أن يطبق عليه حد الردة الذي جاءت به نصوص القرآن والسنة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
قال ابن عشور: “وَقَدْ أَشَارَ الْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: {فَيَمُتْ} بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ يَعْقُبُ الِارْتِدَادَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُعْظَمَ الْمُرْتَدِّينَ لَا تَحْضُرُ آجَالُهُمْ عَقِبَ الِارْتِدَادِ، فَيَعْلَمُ السَّامِعُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعَاقَبُ بِالْمَوْتِ عُقُوبَةً شَرْعِيَّةً، فَتَكُونُ الْآيَةُ بِهَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ”([46]).
وكان حد الردة معروفًا بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم ينكره منهم أحد، وكانوا يصرّحون بذلك.
فعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّه»، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»([47]).
وهذا أيضًا فعل ابن مسعود رضي الله عنه فيمن ارتدّ، فعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ حِنَةٌ، وَإِنِّي مَرَرْتُ بِمَسْجِدٍ لِبَنِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا هُمْ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْد اللَّهِ فَجِيءَ بِهِمْ فَاسْتَتَابَهُمْ غَيْرَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ، قَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ»، فَأَنْتَ الْيَوْمَ لَسْتَ بِرَسُولٍ. فَأَمَرَ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فِي السُّوقِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَتِيلًا بِالسُّوقِ([48]).
6- تكفير المجتمعات الإسلامية استدلالًا بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]:
يُستدَلّ بمثل هذه الآية على الحكم بكفر المجتمعات الإسلامية؛ بحجة أن هذه المجتمعات تُحكم بغير شرع الله عز وجل، وهذا من الجاهلية، حتى قال بعضهم: “إن جاهلية المجتمعات الآن فاقت الجاهلية الأولى”([49]).
وما علم هؤلاء أن الحكم على مجتمع ما أنه تحوّل من الإسلام إلى الكفر حكم شرعي يترتب عليه مفاسد خطيرة، ولا يجوز الإقدام عليه إلا ببرهان واضح كشمس النهار، ولا يتكلم في هذا الأمر إلا العلماء الثقات العدول، الذين عُرف في الناس علمهم، وبان في الناس فضلهم.
قال ابن القيم في الشافية الكافية:
الكفر حق الله ثم رسوله *** بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده *** قد كفَّراه فذاك ذو الكفران
فهلم ويحكم نحاكمكم *** إلى النصين من وحي ومن قرآن([50])
ونسي هؤلاء أن دار الإسلام لا تتحوّل إلى دار كفر بمجرد ظهور أحكام الكفر فيها أو بمجرد استيلاء الكفار عليها ما دام سكانها المسلمون يدافعون عن دينهم، بل ما داموا يقيمون بعض الشعائر وخصوصا الصلاة.
قال الدسوقي: “إن بلاد الإسلام لا تصير دار حرب بمجرد استيلائهم عليها، بل حتى تنقطع إقامة شعائر الإسلام عنها، وأما ما دامت شعائر الإسلام أو غالبها قائمة فيها فلا تصير دار حرب”([51]).
ويقول الإمام الإسبيجابي -وهو من أئمة الحنيفة من القرن السابع الهجري- في بيان حكم البلدان التي استولي عليها الكفار: “وقد تقرر أن بقاء شيء من العلة يبقي الحكم، وقد حكمنا بلا خلاف بأن هذه الديار قبل استيلاء التتار عليها كانت من ديار الإسلام، وأنه بعد الاستيلاء عليها بقيت شعائر الإسلام كالأذان والجمع والجامعات وغيرها، فتبقي دار إسلام”([52]).
7- الاستدلال بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] على تكفير من لم يكفّر حكام المسلمين:
يستدل بعضهم بهذه الآية على كفر حكام المسلمين، ثم بعد ذلك ينتقلون على حكم آخر وهو أن من لم يكفّر حكام المسلمين فهو كافر، بحجة أن القاعدة: “من لم يكفر الكافر فهو كافر”.
ووقع أصحاب هذا الاستدلال في الكثير من الأخطاء؛ فكفَّروا المسلمين، واستحلوا الدماء، وشوهوا صورة الدعوة والدعاة، وأعطوا الفرصة لأعدائهم للهجوم عليهم بحجة الحرب على الإرهاب، ونسي هؤلاء أو جهلوا أنه لا يلزم من فعل الكفر تكفير صاحبه، وأن قاعدة: “من لم يكفر الكافر فهو كافر” لا تنطبق إلا على الكافر الأصلي الذي دان بغير ملة المسلمين. والمقصود بهذا أن من لم يكفر الكفار الذين علم عنهم الكفر المعلوم من الدين بالضرورة -كاليهود والنصارى والبوذيين- فهو كافر، وأما تكفير المسلم المعين لقول قاله أو لفعل فعله “فأهل السنة يفرقون بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يطلق القول بتكفير صاحبه الذي تلبس بالكفر، فيقال: من قال كذا أو فعل كذا فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله لا يحكم بكفره إطلاقًا حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها”([53]).
قال شيخ الإسلام: “إنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ وَيُقَالُ: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا”([54]).
ويقول أيضًا: “هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى”([55]).
أما قولهم: “من لم يكفر الكافر فهو كافر” فهذا حق أريد به باطل.
يقول الهضيبي: “لقد ابتدع أهل التكفير قاعدة تكفير من لم يكفر الكافر، وأرادوا بها تكفير من خالفهم في الرأي، وكانت حجتهم أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وبعض شيوخه يرون كفر من لم يكفر الكافر المعين، وهذا حق أريد به باطل، والكافر المعين المجمع على كفره لا يحل ادعاء أنه مؤمن؛ لأن في هذا إنكارًا لحكم الله عليه بالكفر، ومثاله اليهود والنصارى ومن على غير ملة الإسلام، أما إن كان الحكم بكفر شخص ليس محل إجماع كما هو الحال في كفر تارك الصلاة فلا يجوز استخدام هذه القاعدة في هذا الموضع”([56]).
قال القاضي عياض عند ذكره لما هو كفر بالإجماع: “وَلِهَذَا نكفّر من لم يكفر مَنْ دَانَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِلَلِ.. أَوْ وَقَفَ فِيهِمْ، أَوْ شَكَّ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ.. وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ وَاعْتَقَدَ إِبْطَالَ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَاهُ.. فَهُوَ كَافِرٌ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ”([57]).
وفي الإقناع وشرحه -وهما من كتب الحنابلة- في باب المرتد: “أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر؛ لأنه مكذّب لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]”([58]).
8- تعميم القتل دون مراعاة ضوابط الجهاد الصحيح، لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، والاستدلال بالآية أيضًا على وجوب قتل الكفار الموجودين في ديار الإسلام:
استدل بهذه الآية وغيرها من الآيات بعض من يجيز قتل جميع الكفار دون التفريق بين كونهم محاربين، أو غير محاربين([59]).
وهذا الإطلاق غير صحيح، فقد دلت نصوص الشرع على أن الأمر بالقتال إنما هو للكافر الحربي الذي ليس بيننا ولا بينه صلح ولا عهد ولا أمان ولا ذمة، والقتال هو ما كان من وراء إمام وبإذنه، والأمر بالقتال إنما هو بعد إعداد العدة، ووجود القدرة على القتال، وتحت راية واضحة، لإعلاء كلمة الله([60]).
وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمثلوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ: خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ»([61]).
وأما قتل الكفار الموجودين في بلاد المسلمين الذين دخلوا بلاد الإسلام بعهد أمان وذمة فهو من أعظم الجرم، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([62]).
وَمَرّ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى نَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ -وفِي رواية: وصب على رؤوسهم الزَّيْتُ-، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ فَقَالَ: يُحْبَسُونَ فِي الْجِزْيَةِ. فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا». وزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا([63]).
فإذا كان هذا فيمن يعذّب في الجزية، فكيف بمن يقتل الذميين في بلاد الإسلام بغير حق، بشبهة أنهم كفار؟!
9- الاستدلال بقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] على كفر الدول الإسلامية التي تتعامل بالربا:
يستدل البعض بهذه الآية على كفر المجتمعات الإسلامية التي تتعامل بالربا، فإن قيل لهم: إن الربا من الكبائر وهو غير مكفّر بإجماع العلماء، قالوا: هو كذلك، ولكن كتابة العقود المحرمة المشتملة على الربا دليل على الاستحلال.
وهذا الاستدلال غير صحيح، فإن القاعدة عند العلماء، “أن اليقين لا يزول بالشك”، واليقين أن هذه المجتمعات وإن كانت تتعامل بالربا إلا أنها ما زالت على الإسلام لم تخرج منه.
“ولقد بين أهل العلم أن دار الإسلام لا تتحول إلى دار كفر بمجرد ظهور أحكام الكفر فيها ما دام سكانها المسلمون يدافعون عن دينهم وبظهور الشعائر وذلك لما يلي:
أولًا: أن الأصل في الشرع بقاء ما كان على ما كان، وأنه لا ينتقل عن حكم الأصل حتى يثبت ما ينقله بيقين، فالبلد الذي فتح وأصبح دار إسلام لا ينتقل عن هذا الأصل إلا بتحول واضح.
ثانيًا: أنه يترجح جانب الإسلام في مثل هذه الأحوال لأحد مبررين: الأول: لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. والثاني: الاحتياط للدماء والأموال([64]).
ثالثًا: أنه إذا وجدت في الدار مظاهر الإسلام دل على أن شيئًا من العلة قد بقي، وبقاء شيء من العلة يُبقي الحكم([65]).
وفي الدر المختار: “لَا تَصِيرُ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ حَرْبٍ إلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَبِاتِّصَالِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ عَلَى نَفْسِهِ”([66]).
أما القول أن كتابة العقد دليل على الاستحلال، فهذا جاء من جهلٍ، وعدم التحقيق لكثير من هذه المسائل؛ فإن فعل المعصية وكتابتها وتوثيقها ليس دليلا على الاستحلال، فإن الاستحلال ضابطه أن يقوم لدى الشخص العلم بأن هذا الشيء حرمه الله تعالى ثم هو يعتقد أنه حلال.
قال شيخ الإسلام: “إن من فعل المحارم مستحلّا لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها بغير فعل، والاستحلال يكون بـاعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم، فهذا أشد كفرا ممن قبله”([67]).
10- الاستدلال بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] على أنه لا تصح طاعة من صاحب معصية:
فيستدل الغلاة من الخوارج والمعتزلة على تكفير مرتكب الكبيرة بهذه الآية، يقولون: إن صاحب الكبيرة ليس من المتقين، فلا يتقبل الله منه عملًا، وهذا دليل على أن صاحب المعصية مخلَّد في النار([68]).
وهذا استدلال خاطئ، فالذي عليه أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرّون أحدًا بذنب ما لم يستحله.
قال الطحاوي: “وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ”([69]).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في رده على الخوارج والمعتزلة في تكفيرهم مرتكب الكبيرة: “ثُمَّ قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُكَذِّبُ مَقَالَتَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي السَّارِقِ بِقَطْعِ الْيَدِ وَفِي الزَّانِي وَالْقَاذِفِ بِالْجَلْدِ، وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ يُكَفِّرُ صَاحِبَهُ مَا كَانَ الْحُكْمُ عَلَى هَؤُلَاءِ إِلَّا الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»([70]).
أَفَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمَا كَانَتْ عُقُوبَاتُهُمُ الْقَطْعُ وَالْجَلْدُ؟! وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فِيمَنْ قَتَلَ مَظْلُومًا: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، فَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ كُفْرًا مَا كَانَ لِلْوَلِيِّ عَفْوٌّ وَلَا أَخَذَ دِيَةً، وَلَزِمَهُ الْقَتْلُ”([71]).
أما قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فليس معناه ما فهمه هؤلاء، وإنما معناه: من اتقى الله في ذلك العمل، فعمله على الوجه الأكمل والأصوب.
قال ابن كثير: “قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: مِمَّنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ”([72]).
فالعمل الذي يتقبله الله عز وجل هو ما جمع شروط القبول، كما قال ابن كثير: “{لِيَبْلُوكُمْ} أَيْ: لِيَخْتَبِرَكُمْ، {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وَلَمْ يَقِلْ: أَكْثَرُ عَمَلًا بَلْ {أَحْسَنُ عَمَلا}، وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ حَسَنًا حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَتَى فَقَدَ الْعَمَلُ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ بَطَلَ وَحَبِطَ”([73]).
وكما قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْعَمَلُ الْحَسَنُ هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: مَا كَانَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: مَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ([74]).
ولا يجوز أن يراد بالآية: أن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد التوبة ليس متّقيًا، فإذا كان قبول العمل مشروطًا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل([75]).
11- الاستدلال بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ»([76]) على جواز الاغتيال:
يستدل البعض على جواز الاغتيالات بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف([77]).
وفي الحقيقة هذا استدلال خاطئ؛ وذلك لوجوه منها:
أن كعب بن الأشرف حالة خاصة؛ لأنه قد آذى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد علل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله: «فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ».
ومنها أن القتل بالاغتيال منهي عنه؛ لأنه ينافي الإيمان، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ»([78]).
قال العظيم آبادي: “والفتك هُوَ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَشُدُّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ، ومَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنَ الْفَتْكِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْأَمَانِ غَدْرًا كَمَا يَمْنَعُ الْقَيْدُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْخَبَرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَيَجُوزُ جَزْمُهُ عَلَى النَّهْيِ، وَقَتْلُ كَعْبٍ وَغَيْره كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ هُوَ مَخْصُوصٌ”([79]).
ويدل على ذلك: أن هناك من هو أشد عداءً للإسلام من كعب بن الأشرف، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتيالهم، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس من صفاته الغدر.
وكذلك قد يكون هذا الأمر خاصًّا بحالة الحرب، لذا بوب البخاري على قصة كعب بن الأشرف بقوله: “بَابُ الفَتْكِ بِأَهْلِ الحَرْبِ”([80]).
12- الاستدلال بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] على عدم قبول قول أي عالم في النوازل إلا إذا كان يجاهد الأعداء على الجبهة([81]):
وهذا فهم خاطئ للآية، فإن هذه الآية مكية، والجهاد بمعنى القتال لم يشرع في مكة، فدل ذلك على أن للآية معنى آخر، وهو جهاد النفس والهوى.
قال ابن كثير: “{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يَعْنِي: الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، أَيْ: لنُبَصرنهم سُبُلَنَا، أَيْ: طُرُقَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وقال أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَواري: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْهَمْدَانِيُّ أَبُو أَحْمَدَ مِنْ أَهْلِ عَكَّا فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، يَهْدِيهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ فَأَعْجَبَهُ وَقَالَ: لَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ فِي الْأَثَرِ، فَإِذَا سَمِعَهُ فِي الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ حِينَ وَافَقَ مَا فِي نَفْسِهِ”([82]).
وقال ابن عطية: “فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل، وهو الجهاد الأكبر، قاله الحسن وغيره”([83]).
13- الاستدلال بقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] على جواز تقبيل قبره صلى الله عليه وسلم والتمسح والتبرك به:
قالوا: إن تقبيل قبر النبي صلي الله عليه وسلم والتمسح به من تعظيم شعائر الله، واستدل بهذه الآية محمد أمين الكردي فقال: “وما يفعله العامة من تقبيل الأولياء والتابوت الذي يحمل فوقهم فلا بأس به إن قصدوا بذلك التبرك، ولا ينبغي الاعتراض عليهم”([84]).
والجواب عن ذلك: أن شعائر الله المقصودة في الآية هي ما يتعلق بالحج من مناسك، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبُدْنُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى: الْوُقُوفُ وَمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ وَالرَّمْيُ وَالْبُدْنُ وَالْحَلْقُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْظَمُ الشَّعَائِرِ الْبَيْتُ([85]).
والشعائر تطلق أيضًا على أوامر الله ونواهيه.
فإن قيل: المسح والتقبيل من شعائر الله؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قلنا: هل فهم السلف من الآية أن المسح والتقبيل للقبور والأضرحة من تعظيم شعائر الله؟!
قال بن جرير: “يقول تعالى ذكره: هذا الذي ذكرت لكم -أيها الناس- وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور حنفاء لله، وتعظيم شعائر الله، وهو استحسان البُدن واستسمانها وأداء مناسك الحجّ على ما أمر الله -جلّ ثناؤه- من تقوى قلوبكم، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”([86]).
وقال ابن كثير: “يقول تعالى: هذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي: أوامره، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، كما قال الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها، و… عن ابن عباس: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسمّنون”([87]).
وقال البغوي: “قال ابن عباس: {شعائر الله}: البدن والهدي، وأصلها من الإشعار، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي، وتعظيمها: استسمانها واستحسانها”([88]).
وقال الشيخ سيد طنطاوي: “فشعائر الله: إعلان دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن. والاهتمام بأمرها… والمعنى: ذلك الذي أمرناكم به أو نهيناكم عنه عليكم امتثاله وطاعته، والحال أن من يعظم شعائر الله التي من بينها الذبائح التي يتقرب بها إليه تعالى يكون تعظيمه إياها عن طريق تسمينها، وحسن اختيارها يكون دليلا على تقوى القلوب، وحسن صلتها بالله سبحانه وخشيتها منه، وحرصها على رضاه عز وجل”([89]).
الخاتمة:
التطبيق الخاطئ لنصوص الشريعة قولًا وعملًا مرجعه إلى عدم مراعاة الضوابط التي ينبغي التعامل بها مع النص الشرعي.
وضوابط فهم النص تشمل مجموعة من القواعد والمبادئ التي توجه عملية استيعاب النص وتحليله بشكل صحيح، تهدف هذه الضوابط إلى ضمان فهم دقيق للنص، وتجنب سوء التفسير والانحراف في الفهم.
ومخالفة هذه الضوابط يؤدي إلى الفهم السقيم والتطبيق الخاطئ لنصوص الشريعة، فيؤدي ذلك إما إلى الوقوع في الانحراف والبدع بل وإلى الكفر أحيانًا، أو إلى تشويه صورة الإسلام في عين أعدائه والمتربصين به.
ومعرفة هذه الضوابط والتعامل مع النص بمقتضاها هو سفينة النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، والأمثلة على ذلك كثيرة في جميع أبواب الاعتقاد والفقه وغيرها من أبواب الشريعة، ذكرنا أمثلة لها في هذه الورقة البحثية، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع بها وبمن نشرها وقام عليها.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([7]) رواه البخاري (128)، ومسلم (32).
([9]) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 231).
([10]) الفتاوى الكبرى (2/ 433).
([11]) انظر: المنهج العلمي عند المحدثين، الخير آبادي (ص: 39).
([12]) انظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 177-178).
([13]) انظر: الموافقات (2/ 375).
([15]) مجموع الفتاوى (7/ 116).
([16]) انظر: التمهيد في أصول الفقه، أبو الخطاب الكلوذاني (1/ 381).
([17]) انظر: الضوابط المنهجية للاستدلال بالسنة النبوي (ص: 149).
([18]) انظر: أصول الفقه، محمد أبو زهرة (ص: 138).
([19]) انظر: مجموع الفتاوى (3/ 58).
([20]) انظر: الضوابط المنهجية للاستدلال بالسنة النبوية (ص: 151).
([21]) رواه الترمذي (2641)، وحسنه الألباني.
([22]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1810).
([23]) انظر: الحجة في بيان المحجة (ص: 402).
([24]) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 442).
([25]) انظر: الإيقاظ للفلاني (ص: 50).
([26]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 32).
([27]) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 227).
([28]) التأمل في حقيقة التوسل، عيسى عبد الله الحميري (ص: 101).
([29]) الصَّارِمُ المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي (ص: 317).
([30]) رواه أبو داود (2041)، وأحمد (10815)، وصححه الألباني في الصحيحة (2266).
([32]) رواه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
([33]) رواه أبو داود (2042)، وهو في صحيح الجامع (7226).
([34]) انظر: الصَّارِمُ المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي (ص: 36).
([36]) انظر: المدخل لابن الحاج (2/ 3)، والرد القوي، حمود التويجري (ص: 61).
([37]) انظر: الإنصاف للجزائري (ص: 372) -ضمن رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي-.
([38]) رواه أبو داود (2436)، والترمذي (742)، وهو في صحيح الجامع (2959).
([39]) انظر: الرد القوي لحمود التوجري (ص: 62).
([40]) انظر: الإنصاف (ص: 372) -ضمن رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي-.
([41]) رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وابن ماجه (4005)، وهو في صحيح الترغيب (2317).
([42]) رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، قال الألباني في تحقيق سنن الترمذي (3058): “ضعيف، لكن بعضه صحيح”.
([43]) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 212).
([44]) تفسير ابن كثير (5/ 154).
([46]) التحرير والتنوير (2/ 335).
([48]) رواه أبو داود (2762)، وأحمد (3708)، وهو في صحيح السنن.
([49]) انظر: معالم في الطريق، سيد قطب (ص: 6).
([50]) الشافية الكافية (ص: 177).
([51]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 188).
([52]) انظر: أحكام الذميين، عبد الكريم زيدان (ص: 51).
([53]) انظر: نواقض الإيمان القولية والعملية (ص: 52).
([54]) مجموع الفتاوى (23/ 345).
([55]) مجموع الفتاوى (3/ 229).
([58]) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (4/ 289).
([59]) انظر: تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، مراجعات قادة الجماعة الإسلامية في مصر (ص: 61).
([60]) المحكم والمتشابه في التكفير والجهاد محمد عمر بازمول (ص: 343).
([62]) رواه أبو داود (3052)، وهو في السلسلة الصحيحة (445).
([64]) انظر: الغلو في الدين، اللويحق (ص: 340).
([65]) انظر: الغلو في الدين اللويحق (ص: 340).
([66]) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (4/ 175).
([67]) الصارم المسلول (ص: 521).
([68]) انظر: الغلو في الدين، اللويحق (ص: 340).
([72]) تفسير ابن كثير (3/ 85).
([73]) تفسير ابن كثير (4/ 308).
([74]) انظر: مدارج السالكين (1/ 105).
([75]) المحكم والمتشابه في التكفير والجهاد (ص: 222).
([76]) رواه البخاري (2510)، ومسلم (1801).
([77]) انظر: الخروج من بوابات الجحيم، ماهر فرغلي (ص: 44).
([78]) رواه أبو داود (2769)، وأحمد (1426)، وهو في صحيح الجامع (2802).
([81]) انظر: الخروج من بوابات الجحيم (ص: 78).
([82]) تفسير ابن كثير (6/ 296).
([83]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (4/ 326).
([84]) تنوير القلوب (ص: 543). وانظر: الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنة والإمامية (ص: 67).
([85]) انظر هذه الآثار في: تفسير ابن كثير (5/ 423).
([86]) تفسير الطبري (16/ 539).
([87]) تفسير القرآن العظيم (5/ 420).