مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثاني- (أخطاء المخالفين في محل النزاع)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الفصل الثاني: أخطاء المخالفين في محل النزاع:
ابتكر الفخر الرازيُّ تحريرًا لمحل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسألة فقال في (المحصل): “مسألة: الحُسنُ والقبح قد يُراد بهما ملاءمةُ الطبع ومنافرَتُه، وكونُ الشيء صفةَ كمال أو نقصان، وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يُراد بهما كونُ الفعل موجبًا للثوابِ والعقابِ والمدحِ والذمِّ، وهو بهذا المعنى شرعيٌّ عندنا خلافًا للمعتزلة”([1]).
وقال في (المحصول): “الحُسنُ والقبح قد يُعنَى بهما كونُ الشيء مُلائمًا للطَّبعِ أو مُنافرًا، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليَّين. وقد يُرَاد بهما كونُ الشيء صفةَ كمالٍ أو صفةَ نقصٍ؛ كقولنا: العلمُ حسنٌ والجهلُ قبيحٌ، ولا نزاع أيضًا في كونِهِمَا عقليَّين بهذا التفسير. وإنما النزاعُ في كون الفعل متعلّق الذمِّ عاجِلًا وعِقابِهِ آجِلًا”([2]).
اعلم أولًا أنَّ هذا التَّحرير لمحل النزاع لم يسبقِ الرَّازيَّ إليه أحدٌ من طرفي النزاع -أي: المعتزلة والأشعرية-، ثم انتَشَر في كتب أصولِ الدين وأُصُول الفقهِ التي يُصنِّفُها متأخِّرو الأشعريَّة، فكان لا بُدَّ من الوقوف عند كل قسم وإيضاحِهِ، ثم بيانِ ما يُنتقد عليه، سيَّمَا أن طالبَ علمَ أصُول الفقه لا بُدَّ أن يمرَّ بهذا التَّقسِيم.
وممن نصّ على تحرير الرازي في المتون الأصولية المعتمدة في التدريس: التاج السبكي في (جمع الجوامع) حيث قال: “والحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، وصفة الكمال والنقص عقلي، وبمعنى ترتب الذم عاجلًا والعقاب آجلًا شرعي، خلافًا للمعتزلة”([3]).
وأما القاضي البيضاوي في (منهاجه) لما جاء لبحث هذه المسألة فقد أحال إلى كتابه في أصول الدين المسمى (مصباح الأرواح)، حيث قال: “الفصل الأول: في الحاكم، وهو الشرع دون العقل، لما بَيَّنَّا من فساد الحسن والقبح العقليين في كتاب (المصباح في أصول الدين)”([4])، قال الإسنوي في شرحه: “وقد أحال المصنف إبطال مذهبهم على ما قرره في كتاب (المصباح)، فإن اللائق بذلك هو أصول الدين”([5]).
ومشى تلميذه الجاربردي على خطته في شرحه (السراج الوهاج)، فأضرب عن البحث في المسألة، وقال: “والمصنف رحمه الله أحاله إلى كتابه المسمى بـ(المصباح)، فنحن نؤخره لنذكره في (شرح المصباح) إن شاء الله”([6]).
وقد تكلم شُراح (المنهاج) عن وجه تعلق المسألة بكل من العِلْمين، يقول المطيعي عند قول الإسنوي: “فإن اللائق بذلك أصول الدين”([7]): “قد علمت أن اللائق بأصول الدين هو البحث عن الحسن والقبح المتعلقين بأفعال الله تعالى، الذي يترتب عليهما وجوب الصلاح والأصلح عليه -تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا-، وأما الحسن والقبح بالمعنى الذي يتبعه الحكم الشرعي فمحل البحث عنه أصول الفقه ليتفرع عليه أن هناك حكمًا قبل البعثة، أو ليس هناك حكمٌ قبلها”([8]).
وعلى أية حال فالقاضي البيضاوي في ما كتبه في (المصباح) تبعٌ للرازي، حيث قال هناك: “الحسن والقبح قد يراد بهما الكمال والنقصان، وملاءمة الطبع ومنافرته، فيكونان عقليين، وقد براد بهما تعلق المدح والذم والثواب والعقاب، فيكونان شرعيين؛ لأن ذلك محال في أفعاله تعالى، وإلا لكان ناقصًا مستكملًا بغيره، وعلى أفعالنا، لما ثبت من الاضطرار”([9])، وكذلك مشى على تحرير الرازي في (طوالع الأنوار)([10]).
وثمة عدة محاولات قام بها الأشاعرة لتحرير محل النزاع، سبقت الرازي وتلته، منها محاولة ابن برهان في (الأوسط)([11])، وللآمدي أيضًا تحرير لمحل النزاع مضى عليه ابن الحاجب في (مختصره)، غير أن تحرير الرازي هو الأشهر، ولذا سيكون الكلام عليه.
ومما يشار إليه أن المقبلي عارض بشدة ما ذكره الرازي في تحرير محل النزاع، ونفى صحته من جهة نسبته للمعتزلة، حيث يقول: “كل عاقل يعلم الفرق بين الإحسان والإساءة والجور والعدل، بمعنى أن العقل يناسبه الرفع من شأن المحسن والعادل ويرضاه، ولا يأباه، ويأبى الوضع من شأنه، والعكس في الإساءة، بمعنى أن العقول تقبل الحط من شأن المسيء ولا تأباه، وتأبى الرفع من شأنه.
هذا تحرير محل النزاع برمته، وما زاد عليه فغلط أو لغط؛ كقولهم: يطلقُ لمعانٍ ثلاثة اتفاقًا، مع أن حكاية الاتفاق كاذبة؛ لأن كتب المعتزلة طافحة بإنكار هذه الثلاثة، وإنكار إدخالها في محل النزاع.
وليس ذلك الإطلاق المدَّعَى بلغوي، وعلى كل تقديرٍ ليس له دخلٌ في محل النزاع، وأما كونه اصطلاحَ الخصم فكذبٌ كما ذكرنا.
وكذلك ما يذكر من تفريعات المعتزلة فإن فيها ما ليس بصحيح”([12]).
وسيأتي مزيد تحرير لهذا عند الكلام عن العلاقة بين محل النزاع ومحل الإجماع.
وهذا أوان الكلام على مذهب الفريقين وأخطاء كل منهما، بالنظر في كلامهم في كلٍّ من محل النزاع ومحل الإجماع.
المبحث الأول: مذهب الأشعرية في محل النزاع وأخطاؤهم:
قالتِ الأشعريَّةُ: أما الحَسَنُ والقبيح عندَنَا فلا يُعلَمُ ولا يَثبُتُ إلا بالشرعِ، فالقبيحُ ما نهى الله تعالى عنهُ، والحسنُ ما لم ينهَ عنهُ.
قال ابن بَرهان: “وأما أهل الحق: فإن الحسن عندهم ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه، ولا يعنون بقولهم: إن الحسن ما حسنه الشرع على معنى أن الشرع كاشفٌ عن وجه الحُسن فيه، وإنما عِلَّة كونه حسنًا قولُ الشرع: افعل، وعلى كونه قبيحًا قوله: لا تفعل”([13]).
وقال القرافيُّ: “قولنا في الحسن: ما لم يُنهَ عنه، والاكتفاء بمطلق هذا السببِ أمران:
أحدهما: أن تكونَ الأفعالُ الإلهيَّةُ حَسَنَةً لصدق عدمِ النهي عليها، ويندرِجُ أيضًا فعلُ السَّاهِي والغافلِ وأفعالُ البهائم. ولو قُلنَا: الحسنُ هو المأمورُ به لم تندَرِج الأفعالُ الإلهيَّةُ لعدمِ الأمر فيها.
وثانيهما: أن ينطبِقَ على قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ مفهومُه أن الله تعالى لا يجازيهم على الحسن وهُو كذلك، إذا فسرنا الحسنَ بما ليس منهيًّا عنهُ كان أدنى رتبةً الإباحة أو أعلى رتبة المطلوب، فيكونُ المباحُ الحسن والمطلوب الأحسن، والجزاء إنما يقعُ في المطلوبِ، فالجزاءُ إنما هو في الأحسَن لا في الحسنِ، فقد عملنا بالآية مفهومًا ومنطُوقًا”([14]).
وقال السنوسي: “ليس الحسن شرعًا عند أهل الحق إلا ما قال الشرع فيه: افعلوه، وليس القبيح شرعًا إلا ما قال فيه: لا تفعلوه، وتخصيص كل واحدٍ منهما بما اختصَّ به من الأفعال لا علة له”([15]).
والشرعُ عندَهُم إذا حسَّن شيئًا أو قَبَّحَهُ لم يُكسبهُ بذلك صفةً حقيقيَّةً، فليسَ للفعل صفةٌ لا قبلَ الشَّرعِ ولا بعدَه، وهذا ما نَبَّهَ عليه أبُو المعالي الجُويني بقوله: “ومما يجبُ الإحاطةُ به قبل الخوضِ في المُحاجَّةِ أن أئمَّتَنَا تجوَّزُوا في إطلاق لفظةٍ فقالُوا: لا يُدرَك الحُسنُ والقُبحُ إلا بالشَّرعِ، وهذا يُوهِمُ كونَ الحُسنِ والقُبحِ زَائِدًا على الشَّرعِ، مع المصير إلى تَوقُّفِ إدراكِهِ عليهِ، وليس الأمرُ كذلك، فليسَ الحَسَنُ صفةً زائدةً على الشَّرعِ مُدرَكةً به، وإنما هو عِبَارَةٌ عن نفس وُرود الشَّرع بالثَّنَاءِ على فاعله، وكذلِكَ القَولُ في القَبِيح.
فإذا وصفنا فعلًا من الأفعال بالوُجُوب أو الحظر، فلسنا نعني بما نثبتُه تقديرَ صفةٍ للفعل الواجبِ يتميَّزُ بها عَمَّا ليسَ بواجبٍ، وإنما المرادُ بالواجب الفعلُ الذي وردَ الشرعُ بالأمر به إيجابًا، والمرادُ بالمحظور الفعلُ الذي ورد الشرع بالنهي عنه حَظرًا وتحريمًا”([16]).
وقال الشهرستاني: “وإذا وردَ الشرعُ بحسنٍ وقبُحٍ لم يقتض قوله صفةً للفعل، وليس الفعلُ على صفة يخبر الشرعُ عنه بحُسنٍ وقبح، ولا إذا حَكَم به ألبسه صفةً فيوصفُ به حقيقةً، وكما أنَّ العلمَ لا يُكسِبُ المعلوم صفةً ولا يكتسب عنه صفةً، كذلك القولُ الشَّرعيُّ والأمرُ الحُكميُّ لا يُكسِبُهُ صفةً ولا يكتَسِبُ عنه صِفَةً، وليس لمتعلَّقِ القولِ من القول صفةٌ كما ليس لمتعلق العلمِ من العلم صِفَةٌ”([17]).
وهذا القول منهم فَرعٌ عن قولهم بنفي الأسبَابِ، قال شيخ الإسلام: “ومن قالَ: إنَّ الأفعالَ ليسَ فيها صفاتٌ تقتضي الحُسنَ والقُبحَ؛ فهو بمنزلة قولِهِ: ليس في الأجسام صفاتٌ تقتضي التسخينَ والتبريدَ والإشباعَ والإرواءَ، فسلبُ صفاتِ الأعيانِ المُقتضية للآثار كسلبِ صفاتِ الأفعال المُقتضية للآثارِ، وأمَّا جُمهُور المُسلمينَ الذين يُثبتُون طبائعَ الأعيان وصفاتِهَا؛ فهكذا يُثبتون ما في الأفعال من حُسنٍ وقُبحٍ باعتبارِ مُلاءمَتِهَا ومُنافَرَتِها”([18]).
وهذا ما صرحوا به، يقول السنوسي: “لما حقق([19]) أن مذهب أهل السنة أن الأفعال كلها مسندة إلى الله تعالى ابتداءً من غير واسطة، لا تأثير لغيره في شيء منها، لزم أن الأفعال كلها مستوية، لا يتصف بعضها بالحسن من حيث ذاته أو صفته، ولا يتصف بعضها بالقبح من حيث ذاتُه أو صفته، فلا مجال للعقل إذًا في إدراك حكمٍ شرعي لها، إذ لا سبب لها على ما عرفت”([20]).
ويمكننا بطريقةٍ أخرى أن نقول: نفي التحسين والتقبيح يعود إلى نفي التعليل.
يقول شيخ الإسلام: “فالحسن والقبح يعود إلى مسألة التعليل، وكلاهما يعود إلى أنه سبحانه يحب أشياء ويفرح بها، ويبغض أشياء ويغضب منها، وهو يعود إلى الفرق بين المشيئة والمحبة”([21]).
ويقول المقبلي: “مسألة تعليل أفعاله تعالى ملازمة لهذه المسألة، والمفرق بينهما مخطئ”([22]).
ويقول: “واعلم أن هذه المسألة متصلة بمسألة تعليل أفعال الباري تعالى؛ لأنا لا نريد بتعليل أفعاله إلا أنه لا يفعل إلا ناظرًا إلى كون الشيء حكمةً وأولى، ولا يجوز خلو فعله عن ذلك لأنه عبث، وفاعل العبث ليس بحكيم، وفاعل القبيح، أي: الفاعل لأجل القبح كذلك، فالحكيم من كان فعله لحكمةٍ ليس إلا، فمن فرق بين المسألتين كسعد الدين فقد أخطأ”([23]).
ويقول الشيخ مصطفى صبري في بيان رجوع مسألة التعليل إلى مسألة الأسباب: “قول الأشاعرة في نفي التعليل عن أفعاله تعالى له صلة قوية بقولهم: إن كل شيء في العالم مستند إلى الله تعالى من غير واسطة، وهذا القول منهم رضي الله عنهم أصل مهم، بل كنز عظيم من كنوز الحقائق العالية، لله درهم، ما أبعد أنظارهم الواصلة إليه غير المنخدعة بالظواهر! وهو شاهد صدق على أنهم محدَّثُون.
فعلى هذا الأصل لا علة في الكائنات ولا معلول ولا سبب ولا مسبب، ولا تأثير شيء في شيء، وإنما كل كائن معلول علة واحدة، هي إرادة الله، وإن كان الناظر في الكائنات يرى بين أجزائها تناسبًا وانسجامًا يخيلان إليه علية بعضها لبعض، وتولد بعضها من بعض، وسببية بعضها لبعض، فليست النار تحرق، ولا الثلج يبرد، ولا السيف يقطع، ولا الضرب يوجع، ولا العين ترى، ولا الأذن تسمع، ولا الماء يروي، ولا الغذاء يشبع، ولا المطر ينبت، وإنما كل هذه الأفعال والآثار يخلقها الله تعالى كما يخلق مصادرها التي تضاف إليها عادة”([24]).
ثم قال: “ومنه يعلم أنه لا يصح تعليل أفعال الناس أيضًا في الحقيقة بالأغراض، كما لا يصح تعليل أفعاله تعالى بها، وإنما يقع تعليل أفعالهم على حسب ما يخيل إليهم في أذهانهم من أن هذا الشيء علة لذاك الشيء ووسيلة إليه”([25]).
وها هنا عدة مسائل تتعلق بمذهب الأشعرية في التحسين والتقبيح في محل النزاع:
المسألة الأولى: في انسداد باب القياس والتعليل على من نفى التحسين والتقبيح:
في قول الأشعرية بنفي التحسين والتقبيح العقليين سدٌّ للقياس والتعليل في الأحكام الشرعية، فمن المعلوم أن العلَّة التي هي رُكنُ القياس لا تصلح للتعليل إلا بأن تكُون وصفًا مناسبًا، فلا تعليلَ بالأوصافِ الطَّردِيَّةِ، والوصفُ المناسب ما كان في إثباتِ الحكم عَقِبَهُ مصلحةٌ، ومن ثم فإنَّ من أنكر التحسين والتقبيح العقليين وأن في الأفعال أوصافًا ينشأُ عنها حُسن الفعل وقبحه أو مصلحته ومفسدته فهو ولا بد قد أنكر الأوصاف المناسبة.
قال ابن القيم: “ولا يمكنُ أحدًا من الفقهاء أن يتكلَّم في مآخذ الأحكام وعِلَلِها والأوصاف المؤثِّرة فيها جمعًا وفَرْقًا إلا على هذه الطَّريقة، وأمَّا طريقةُ إنكار الحِكَم والتَّعليل، ونفي الأوصاف المقتضية لحُسْن ما أُمِرَ به وقُبْح ما نُهِيَ عنه، وتأثيرها واقتضائها للحبِّ والبغض الذي هو مصدرُ الأمر والنهي، بطريقةٍ جدليَّةٍ كلاميَّة لا يُتصوَّرُ بناءُ الأحكام عليها، ولا يمكنُ فقيهًا أن يستعملها في بابٍ واحدٍ من أبواب الفقه. كيف والقرآنُ وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتَّنبيه على وجوه الحِكَم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان”([26]).
وقال: “وكلُّ من تكلَّم في عِلَل الشرع ومحاسنه وما تضمَّنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنُه ذلك إلا بتقرير الحُسْن والقُبح العقليَّين؛ إذ لو كان حُسْنُه وقُبْحُه بمجرَّد الأمر والنهي لم يتعرَّض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط، وعلى تصحيح الكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطَّردية التي لا مناسبة فيها، فيجعل الأوَّلَ ضابطًا للحكم دون الثَّاني إلا على إثبات هذا الأصل؛ فلو تساوت الأوصافُ في أنفسها لانسدَّ بابُ القياس والمناسبات والتَّعليل بالحِكَم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثِّرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها”([27]).
وقال: “والفقهاءُ لا يمكنهم البناءُ على هذه الطَّريقة البتّةَ، فكلُّهم مُجمعون -إذا تكلَّموا بلسان الفقه- على بطلانها، إذ يتكلَّمون في العلل والمناسبات الدَّاعية لشَرْع الحُكم، ويفرِّقون بين المصالح الخالصة والرّاجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك، ويقدِّمون أرجحَ المصلحتين على مرجوحهما، ويدفعون أقوى المفسدتين باحتمال أدناهما. ولا يتمُّ لهم ذلك إلّا باستخراج الحِكَم والعلل، ومعرفة المصالح والمفاسد النّاشئة من الأفعال، ومعرفة رُتَبها”([28]).
وانظر إلى كلام الشهرستاني آنف الذكر، كيف نفى صفةَ الفعل قبل الأمر وبعدَهُ، وهذا تصريحٌ بإنكارِ الأوصافِ المُناسِبَة.
ولما علم الأشعرية أن هذا الإيرادَ قويٌّ دونوه في كتبهم وسلكوا مسالك متعددة في الإجابة عنه، فذكر الشهرستاني هذا الإيراد بقوله: “لو رفعنا الحُسنَ والقُبحَ من الأفعالِ الإنسانِيَّةِ ورددناهما إلى الأقوالِ الشرعية بطلَت المعاني العقليَّةُ التي نستنبِطُها من الأُصُول الشرعيَّةِ، حتى لا يُمكِنُ أن يُقَاس فعلٌ على فعلٍ، وقولٌ على قولٍ، ولا يُمكِنُ أن يُقال: لِمَ؟ ولأنه إذ لا تعليل للذَّواتِ، ولا صفات للأفعال التي هي علَيها حتى يُربَط بها حُكمٌ مختَلَفٌ فيه ويُقَاس عليها أمر متنازعٌ فيه، وذلك رَفعٌ للشرائع بالكُليَّةِ من حيثُ إثباتُهَا، وردُّ للأحكامِ الدينيَّة من حيثُ قبولُهَا”([29]).
وقد اعترفَ الشِّهرستانيُّ بصعوبةِ هذا الإيراد فقال في مطلع جوابه عنه: “هذا لعمرِي مُشكِلٌ في المسألَة”([30]).
وقال العضد الإيجي في رد هذا الإيراد: “اهتداءُ العقلِ إلى المصالح والمفاسدِ ليس من المقصُودِ في شيء”. قال شارحه: “كما مر من أن المصلحةَ والمفسدةَ راجعةٌ إلى مُلاءمة الغرضِ ومُنافرته، ولا نزاعَ في أنه عقلي”([31]).
والحق أن معنى الحسن والقبح في محل النزاع هو معناه في محل الإجماع، كما سيأتي تقريره، فلا يستقيم جوابُه.
وقد ذكر شيخ الإسلام إشارةً مهمة إلى اختلاف قلَّ من نبّه عليه بين نفاة التحسين والتقبيح العقليين يتعلق بهذا الصدد، يقول رحمه الله: “ونفاة الحُسن والقُبح العقليين على قولين:
منهم من يقول: لم يختص شيءٌ من الأفعال بما لأجله كان مأمورًا به ومنهيًّا عنه، بل الربُّ يرجّح مِثْلًا عن مِثلٍ بمجرَّد المشيئة. وهؤلاء يقولون: عِلَل الشرع أماراتٌ محضةٌ، كما يقول ذلك الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالكٍ والشافعي وأحمدَ، ومَن قال من هؤلاء بِالمناسبة قال: لأنّا اعتبرنا الشرع فوجدناه يثبت الحكم عند الوصف المناسب لا به.
ومنهم من يقول: بل الشارع لم يخصَّ فعلًا عن فعلٍ بالأمر والنهي إلا لاختصاص ذلك الفعل بما يقتضي ذلك، لكن كون ذلك الفعل حسنًا مأمورًا به وقبيحًا منهيًّا عنه لا يثبت إلا بالشرع، فالشارع جعل ذلك الوصف المناسب موجبًا لكون الفعل حسنًا وقبيحًا، لا أنه كان حسنًا وسيئًا قبل أمر الشارع. وهذا يقوله من ينفي الحُسن والقُبح العقليين، ويقول: إن الشارع جعل الصفات عللًا، كما يقوله الغزالي وموافقوه، كأبي محمد ابن المَنِّي وأبي محمد المقدسي وغيرهما”([32]).
ولذلك فإن الغزالي يقول: “ونحنُ وإن قُلنَا: إنَّ لله سُبحانَهُ وتعالى أن يفعلَ ما يشاءُ بعبادِه، وأنه لا يجبُ عليه رعايةُ الصلاح، فلا ننكرُ إشارةَ العقول إلى جهةِ المصالِحِ والمفاسِد، وتحذيرَها المهالك، وترغيبَهَا في جلبِ المنافع والمقاصِدِ”([33]). وسيأتي أن شيخه الجويني اختار في البرهان إثبات التحسين والتقبيح العقليين في أفعال العباد دون أفعال الله.
وقد انبنَى على هذا فهمُ الأشعرية لحقيقة الاستنباط، الذي هو أحدُ مَسالك معرفةِ العلَّةِ، فقال الشهرستاني: “وليس معنى قولِنَا: إنَّ العقل يستنبِطُ من الأفعالِ أنَّها كانت موجودةً في الشيء يستخرِجُها العقلُ، بل العقلُ تردَّدَ بين إضافاتِ الأحوال بعضِهَا إلى بعضٍ ونِسَبِ الأشخاص والحركَاتِ نوعًا إلى نوعٍ وشخصًا إلى شخص… فعرف بذلك أنَّ المعاني لم ترجِع إلى الذوات، بل إلى مُجرَّدِ الخواطر الطارِئَةِ على العقل وهي مُتعارِضَة”([34]).
قال ابن القيم: “هذا كلامٌ فاسدٌ لفظًا ومعنًى؛ فإنَّ الاستنباط هو استخراجُ الشيء الثَّابت الخفيِّ الذي لا يَعْثُر عليه كلُّ أحد، ومنه: استنباطُ الماء؛ وهو استخراجُه من موضعه، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: يستخرجون حقيقتَه وتدبيرَه بفطنتهم وذكائهم وإيمانهم ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف.
ولا يصحُّ معنًى إلا في شيءٍ ثابتٍ له حقيقةٌ خفيَّةٌ يستنبطُها الذِّهنُ ويستخرجُها، فأمَّا ما لا حقيقة له فإنه مجرَّدٌ ذِهنيٌّ، فلا استنباط فيه بوجه، وأيُّ شيءٍ يُسْتَنْبَطُ منه؟! وإنما هو تقديرٌ وفَرْض، وهذا لا يسمَّى استنباطًا في عقلٍ ولا لغة.
وحينئذٍ، فيُقْلَبُ الكلامُ عليكم، ويكون من يَقْلِبُه أسعدَ بالحقِّ منكم، فنقول: وليس معنى قولنا: «إنَّ العقلَ استنبط من تلك الأفعال» أنَّ ذلك مجرَّدُ خواطرَ طارئة، وإنما معناه أنها كانت موجودةً في الأفعال، فاستخرجَها العقلُ باستنباطِه، كما يُسْتَخْرَجُ الماءُ الموجودُ في الأرض باستنباطِه. ومعلومٌ أنَّ هذا هو المعقولُ المُطابِقُ للعقل واللُّغة، وما ذكرتموه فخارجٌ عن العقل واللغة جميعًا”([35]).
المسألة الثانية: بدعية قول الأشاعرة بنفي التحسين والتقبيح العقليين وكثرة لوازمه الفاسدة:
قول الأشعرية بنفي التحسين والتقبيح العقليين له لوازم فاسدةٌ كثيرة، وهو قولٌ مُبتَدَع في الإسلام لم يقل به أحد قبل أبي الحسن الأشعري.
فمن لوازمه الفاسدة قولهم: “يجوز لله تعالى أن لا يخلق الخلق، وإذا خلق فلم يكن ذلك واجبًا عليه، وإذا خلقهم فله أن لا يكلفهم، وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجبًا عليه.
وقالوا: ندعي أن الله تعالى إذا كلف العباد فأطاعوه لم يجب عليه الثواب، بل إن شاء أثابهم وإن شاء عاقبهم، وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم، ولا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين، ولا يستحيل ذلك في نفسه، ولا يناقض صفة من صفات الإلهية”([36]).
وذلك أن الأشعرية أثبتوا صفة القدرة لله تعالى، وجعلوا تعلقها بكل ممكن، فكل ما أمكن في العقل فعله فجائز عليه تعالى فعله، فالأفعال عندهم كلها متساوية بالنسبة إلى الحق سبحانه.
قال ابن بَرهان: “ونحن نثبت بالدليل القاطع أن هذا العلم لا يُدرَك بالعقل، وإنما يعرف بالشرع، فنقول: الأفعال بأسرها بالإضافة إلى الله تعالى متساوية، والقول بأن بعضها حسنٌ يوجب الثواب وبعضها قبيح يوجب العقاب تحكُّم تأبى العقول السليمة عن قبوله.
وبيان أن الأفعال بأسرها متساوية بالإضافة إلى الله أن الله سبحانه لا غرض له أفعال العباد، فإنه لا ينفعه شكر الشاكرين، ولا يضره كفر الكافرين، بل الله غني عن العالمين، والنفع والضر بالإضافة إلى الله سبحانه مستحيلان، وإنما يعقل ذلك في حق العباد، فإنهم عرضة الأغراض والمقاصد، ومظنة المفاسد والمصالح، فالأفعال بالإضافة إليهم تختلف، أما بالإضافة إلى الله فلا اختلاف فيها، فلا نعلم منها حسنا على ما فسرناه إلا ما قال: افعلوا هذا، ولا قبيحًا إلا ما قال: اجتنبوا هذا. أما القعل فلا يعلم ذلك”([37]).
وقال السنوسي: “وإذا عرفت بما ذكر عدم رجحان بعض الأفعال على بعض بالنسبة إليه تعالى؛ عرفت جهالة من تسوَّر على الغيب، ورأى أن العقل يتوصل دون شرعٍ إلى إدراك الحسن والقبيح عنده جل وعلا”([38]).
ولشيخ الإسلام تحقيق نفيس في هذا المقام، ذكره في كتاب (النبوات)، وأنقله بطوله، قال رحمه الله: “والتحقيق أن الرب يخلق بمشيئته وقدرته، وهو موجب لكل ما يخلقه بمشيئته وقدرته، ليس مُوجبًا بمجرد الذات، ولا موجبًا بمعنى أن موجبه يقارنه، فإن هذا ممتنع، فهذان معنيان باطلان.
وهو قادر يفعل بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب كونه، وما لم يشأه امتنع كونه، ولهذا قال كثير من النظار: إن الارادة موجبة للمراد.
وعلى هذا فقولنا: يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون؛ إنما هو جواز الشيء بمعنى الشكِّ في أيهما هو الواقع، وإلا ففي نفس الأمرِ أحدُهُما هو الواقع، ليس في نفس الأمر ظنيًا مُتردِّدًا بين الوقوع وعدم الوقوع.
والإمكانُ الذِّهنيُّ قد يرادُ به عدم العلم بالامتناع، وقد يراد به الشكُّ في الواقع، وكلا النوعين عدمُ علمٍ. والإمكان الخارجي يراد به أن وجوده في الخارج ممكنٌ لا ممتنع، كولادة النساء ونبات الأرض.
وأما الجزم بالوقوع وعدمه فيحتاج إلى دليل، وفي نفس الأمر ما ثم إلا ما يقع أو لا يقع، والواقع لا بد من وقوعه، ووقوعه واجبٌ لازم، وما لا يقع فوقوعه ممتنعٌ، لكن واجب بغيره، وممتنع لغيره. وهو واجب من جهات:
من جهة علم الرب من وجهين، ومن جهة إرادته من وجهين، ومن جهة كلامه من وجهين، ومن جهة كتابته من وجهين، ومن جهة رحمته، ومن جهة عدله.
أما علمه: فما علم أنَّهُ سيكون فلا بد أن يكون، وما علم أنه لا يكون فلا يكون. وهذا مما يعترف به جميع الطوائف، إلا من ينكر العلم السابق كغلاة القدرية الذين تبرأ منهم الصحابة.
ومن جهة أنه يعلم ما في ذلك الفعل من الحكمة فيدعوه علمه إلى فعله، أو ما فيه من الفساد فيدعوه إلى تركه، وهذا يعرفه من يُقرُّ بأنَّ العلم داع، ومن يقر بالحكمة.
ومن جهة إرادته: فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومن جهة حكمته: وهي الغاية المرادة لنفسها التي يفعل لأجلها، فإذا كان مُريدًا للغاية المطلوبة لزم أن يريد ما يُوجِبُ حصولها.
ومن جهة كلامه من وجهين: من جهة أنه أخبر به، وخبره مطابق لعلمه.
ومن جهة أنه أوجبه على نفسه، وأقسم ليفعلنه، وهذا من جهة إيجابه على نفسه والتزامه أن يفعله.
ومن جهة كتابته إياه في اللوح، وهو يكتب ما علم أن سيكون، وقد يكتب إيجابه والتزامه، كما قال: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
فهذه عشرة أوجه تقتضي الجزم بوقوع ما سيكون، وأن ذلك واجب حتم لا بد منه.
فما في نفس الأمر جواز يستوي فيه الطرفان: الوجود والعدم، وإنما هذا في ذهن الإنسان لعدم علمه بما هو الواقع.
ثم من علم بعض تلك الأسباب علم الواقع فتارة يعلم لأنه أخبر بعلمه، وهو ما أخبرت الأنبياء بوقوعه كالقيامة والجزاء، وتارة يعلم من جهة المشيئة لأنه جرت به سنته الشاملة التي لا تتبدل، وتارة يعلم من جهة حكمته، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والحكمة والعدل والرحمة والعادة تعلم بالعقل، كما قد عرف من حكمة الرب وعدله وسنته، ويستدل بذلك على العلم والخبر والكتاب، كما أن العلم والخبر والكتاب يُعلم بإخبار الأنبياء ويستدل بذلك على العدل والحكمة والرحمة.
والجهمية المجبرة لا تجزم بثبوت ولا انتفاء إلا من جهة الخبر أو العادة، إذ كانوا لا يثبتون الحكمة والعدل والرحمة في الحقيقة، كما قد بسط في غير موضع.
وحكي عن الجهم أنه كان يخرج فينظر الجذمي ثم يقول: أرحم الراحمين يفعل هذا! يقول: إنه يفعل لمحض المشيئة، ولو كان يفعل بالرحمة لما فعل هذا. وهذا من جهله، لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة والرحمة والمصلحة”([39]).
وقال أيضًا في بيان اللوازم الفاسدة لنفي التحسين والتقبيح العقليين: “لو لم يكن حُسن الفعل وقبحه لمعنى يعود إليه للزم ترجيح الشارع لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، ولجاز أن يؤمر بالشرك والكذب والكفر، وينهى عن الصدق والعدل والتوحيد، ولكان لا فرق بين هذا وهذا، ولا فرق بين النهي عن المعروف والأمر بالمنكر، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بين تحليل الطيبات وتحليل الخبائث، ولا بين تحريم الخبائث وتحريم الطيبات، ولم يكن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث إلا بمنزلة أن يقال: يأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، ويحل ما يحل، ويحرم ما يحرم، ولكان يجوز أن يأمر الله تعالى بالفحشاء، ويحب الفساد، ويرضى لعباده الكفر، إذ الجميع عند النفاة سواء، لم يختص بعضها بصفةٍ يكون لأجلها، لا حسنة مأمورًا بها محبوبة، ولا سيئةً منهيًّا عنها مكروهة، وهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار عقلًا وشرعًا.
ولوازم هذا القول الفاسد أكثر من أن يمكن حصرها، فإن هذا القول مبناه على أن جميع الأعيان والأفعال سواء في نفس الأمر، ليس لبعضها صفة توجب أن يفضل بها على الأخرى حتى يحب الله تعالى هذا ويأمر به، ويبغض هذا وينهى عنه.
ومن تدبر القرآن العزيز وجده مخالفًا لهذا القول، بل هذا مخالف لما فطر الله عليه العقلاء.
ولهذا لم يعرف هذا القول عن أحد من سلف الأمة وأئمتها الأربعة ولا غيرهم، بل قد ذكر أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما من أهل الحديث والسنة أنه من البدع المحدثة في الإسلام، وأضافوه إلى أبي الحسن، وعدُّوه مما ينكر على أبي الحسن”([40]).
وقال: “ونفيُ الحُكمِ المعلوم بالعقل مما عَدَّهُ من بدع الأشعريِّ التي أحدثها في الإسلامِ عُلماءُ أهل الحديث والفقه والسُّنَّة، كأبي نصر السِّجزيِّ، وأبي القاسم سعدِ بن علي الزِّنجانيِّ، دع من سِواهُم”([41]).
وقال: “وهذا الأصلُ هو من الأصولِ المُبتدَعَةِ في الإسلام، لم يقُل أحدٌ من سلف الأُمَّةِ وأئمَّتِهِا: إن العقل لا يُحسِّنُ ولا يُقبِّحُ، أو إنَّهُ لا يُعلَم بالعقل حُسنُ فعلٍ ولا قُبحُهُ، بل النِّزَاعُ في ذلك حادثٌ في حدوث المئة الثالثة، ثم النزَاعُ في ذلك بين فُقَهاء الأُمَّةِ وأهل الحديث والكلامِ منها، فما من طائفةٍ إلا وهي مُتنازِعَةٌ في ذلك، ولعلَّ أكثرَ الأُمَّةِ تُخالِفُ في ذَلِك”([42]).
ولما أثبت الماتريدية التحسين والتقبيح العقليين والحكمة في أفعال الله تعالى خالفوا الأشاعرة في تلك اللوازم الفاسدة لنفي التحسين والتقبيح العقليين([43]).
قال الكمال بن الهمام: “واعلم أن الحنفية لما استحالوا عليه تعالى تكليف ما لا يطاق، فهم لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في الطاعة مخالفًا لهوى نفسه في رضا مولاه أمنع بمعنى أنه يتعالى عن ذلك، فهو من باب التنزيهات، إذ التسوية بين المسيء والمحسن غير لائق بالحكمة في فطر سائر العقول، وقد نص الله تعالى على قبحه حيث قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
هذا في التجويز عليه وعدمه، أما الوقوع فمقطوعٌ بعدمه، غير أنه عند الأشاعرة للوعد بخلافه، وعند الحنفية وغيرهم لذلك ولقبح خلافه”([44]).
ويقول المقبلي بعد أن بيّن تلازم هذه المسألة مع مسألة التعليل: “وقد ذيلوا هذا القول -يعني نفي التعليل- بعذرٍ أقبح منه، فقالوا: جميع أفعال الله تعالى لا تخلو من فائدة وعاقبةٍ محمودة، لكنها غير مقصودة، فلزمهم سد باب إثبات الصانع، لأن عجائب الملكوت ومحاسن الشرائع اتفاقية حينئذٍ، فلا دليل لهم على إثبات الصانع لتجويزهم تخصيصها، مع أنها تفوق الحصر كثرةً بلا مخصص، وحصول نفس العالم فردٌ واحد، فيجوز حصوله بلا مرجح، على أن من جعل ابتناء البيت اتفاقيًا لم يتلعثم أحدٌ في تكذيبه، كيف نظام العالم؟!
وأيضًا: أنكروا نعمة الله؛ لأن ما لم يقصد ليس بنعمة.
ومن أقبح تفريعاتهم: قولهم: يجوز أن يبدل الله الشرائع بنقائضها، فيحرّم الصدق، ويوجب الكذب، ويحرّم عبادة الرحمن وشكره، ويوجب عبادة الشيطان، وعلى الجملة: يوجب كل قبيح، ويحرم كل حسن، وهو تفريع صحيح على أصلٍ خبيث([45]).
وقد فرع عليها البيضاوي في (منهاجه) جواز التكليف بالمحال لذاته، قال: لأن حكمة الله تعالى تستدعي غرضًا، فلا تستدعي التكليف بالفعل الإتيان به، وهذا منه تعطيل لمعنى الطلب، فتعطل جميع التكاليف، ولم أر غيره اجترأ على ذلك، وهو من المخلصين لأصول الأشعري، وحاصلها التعطيل كما ترى.
وكذلك من ذيولها مسألة الجبر وعدمه؛ لأن تعذيب زيد على أنه جعل محلًّا لخلق الله في المعصية ظلم قبيح، كتعذيبه على لونه، ومن فرق بين المسألتين كالماتريدية فقد أخطأ في التفريع”([46]).
المسألة الثالثة: تهافت استدلالات الأشعرية على نفي التحسين والتقبيح العقليين:
وللأشعرية على مقالتهم عدد من الاستدلالات، أجاب ابن القيم عنها في (مفتاح دار السعادة)([47])، وقد أحسن ابن عرفة تلخيصها في (المختصر الكلامي)([48]).
منها ما ذكره الفخر الرازي في كتبه وبناهُ على مذهب الأشعرية في القدر، وهو القول بالجبر، حيثُ بنى بُرهَانَهُ على مُقدِّمتَين: الأُولى: أنَّ العبدَ مجبورٌ على أفعالِه، والثانية: أنَّ من هذا حالُه لا توصفُ أفعالُهُ بحُسنٍ ولا قُبحٍ([49]).
إلا أن هذا الدليل لم يرتضِه عددٌ من الأشعريَّةِ، قال الآمديُّ: “يلزمُ أن يكُونَ الربُّ تعالى مُضطرًّا إلى أفعالِهِ غيرَ مختارٍ فيها؛ لتحقُّق عينِ ما ذكرُوه من القسمة في أفعالِه، وهو محالٌ.
ويلزمُ أيضًا منها امتناعُ الحكم بالحُسنِ والقُبح الشرعيِّ على الأفعال، والجوابُ يكونُ مشتركا”([50]).
قال شيخ الإسلام: “وعمدةُ إمام المتأخرين ابن الخطيب الاستدلالُ على ذلك بالجبر، وهو من أفسد الحجج، فإن الجبرَ سواء كان حقًّا أو باطلًا، كما لا يبطل الحكم الشرعي؛ لا ينفي ثبوت أحكام معلومة بالعقل، كما لا ينفي الأحكام التي يثبتها الشارع”([51]).
ولما تفطَّنَ أبو الحسن الآمدي لغلط الدليل الذي أقامه من تقدمه من الأشعرية على نفي التحسين والتقبيح العقليين -كدليل الجبر وغيره- جنح إلى مسلك آخر، هو في البطلان من جنس ما قبله([52]).
قال شيخ الإسلام: “وعمدة الآمدي بعد ابن الخطيب أن الحسن والقبح عَرَض، والعرض لا يقوم بالعرض. وهذا من المغاليط التي لا يستدِل بها إلّا جاهل أو مخالط، فإنه يقال في ذلك ما يقال في سائر صفات الأعراض، وغايته أن يكون كلاهما قائمًا بمحل العرض”([53]).
وقال اليوسي بعد أن ذكر هذا الدليل: “وهذا ضعيف”([54]).
المسألة الرابعة: في قول من ذهب من الأشعرية إلى إثبات التحسين والتقبيح في أفعال العباد دون أفعال الله:
من أئمَّةِ الأشعرية من رَغِبَ عن قولهم المشهورِ في هذه المسألة، وَصَارَ إلى إثبات الحُسنِ والقُبح العقليَّين في أفعالِ العباد دُون أفعال الله تعالى، وإلى ذلك ذهب الجويني في (البرهان)، والفخر الرازي في (معالم أصول الدين) و(المطالب العالية)([55]).
وقد ذكر فخر الدين دليلين على إثبات التحسين والتقبيح في أفعال العباد، وهما يعودان على مذهب الأشعرية في المسألة بالإبطال، ولذلك تعقبه فيهما ابن التلمساني([56]).
وقال تقي الدين المقترح: “ولكل مذهب سيئة وحسنة، فمذهب الأشعرية أنهم نفوا الحسن في حق الله تعالى وفي حقوقنا، فحسنتهم كونهم نفوه في حق الله تعالى، وسيئتهم كونهم نفوه في حقوقنا.
ومذهب المعتزلة إثبات الحسن في حق الله وفي حقوقنا، فسيئتهم كونهم أثبتوه في حق الباري تعالى، وحسنتهم كونهم أثبتوه في حقنا.
فاختار إمام الحرمين مذهبا بين مذهبين وهو الجامع لمحاسن المذاهب، فأثبته في حقنا ونفاه في حق الباري”([57]).
وقال فخر الدين: “والمختار عندنا أن تحسين العقل وتقبيحه بالنسبة إلى العباد مُعتبَرٌ، وأما بالنِّسبَةِ إلى الله فَهُو باطلٌ”([58]).
وقال: “اعلم أن مذهبنا أن الحسن والقبح ثابتان في الشاهد بمقتضى العقل، وأما في حق الله تعالى فهو غير ثابت البتة”([59]).
وهذا فيه تسليمٌ للمعتزلة بأن الفاعل المختار يفعل بداعٍ لا يعود إلا إلى غيره، كما سيأتي بيان مذهبهم في ذلك عند البحث في الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة، وإنما قالوا بمنعه في حق الله تعالى تنزيهًا له بزعمهم عن تحصيل المنفعة واللذة والغرض.
قال شيخ الإسلام: “وليس لمثبتي التحسين والتقبيح دليل يدل على حسن وقبح بغير اعتبار الملاءمة للفاعل والمنافرة له، بل كل ما يذكرونه على إثبات حسنٍ وقبح بدون ذلك فهو باطل، وليس لهؤلاء دليل على أنه يفعل بداعٍ لا يعود إلا إلى غيره؛ ولهذا لما عاد معنى الحسن والقبح إلى هذا أثبتت طائفةٌ الحُسنَ والقبح العقلي في أفعال العباد دون أفعال الله، وهو اختيار أبي عبد الله الرازي في آخر عمره”([60]).
وقال ابن التلمساني: “واختار الإمام في (البرهان) ما اختاره الفخر ها هنا، وهو التفصيل بين الشاهد والغائب، فحكم بأن العقول تحسن وتقبح في الشاهد دون الغائب، وبناه على أن العقلاء إنما حسَّنوا وقبحوا باعتبار النفع والضر، وذلك يتحقق بالنسبة إلى البشر، وأما الباري تعالى فلا يتضرر ولا ينتفع، فاستوت الأفعال بالنسبة إليه، فلا يحسن شيء ولا يقبح في حقه باعتبار ذلك عقلًا”([61]).
ونفي التحسين والتقبيح في أفعال الله تعالى إنما هو بناء على نفي الصفات الاختيارية، فإن الأدلة من الكتاب والسنة واعتقاد سلف الأمة قد دلت على أن الله تعالى يُحبُّ ويُبغِض ويرضى ويسخط، فيكون التحسين والتقبيح بحسب ما يحبه وما يبغضه، وإن لم يكن تعالى ينتفع بذلك أو يتضرر، فمن نفى صفة المحبة نفى التعليل والتحسين والتقبيح، أو أثبتهما مع إثبات حكمةٍ لا تعود إلى الله تعالى، كما قالته المعتزلة والماتريدية كما سيأتي.
قال أفضل الدين الخونجي في شرحه لمذهب الرازي في التفريق بين التحسين والتقبيح في أفعال الله تعالى وأفعال العباد: “ولما كانت أفعال الله تعالى وأحكامه منزهة عن كونها وسيلةً إلى جلب المنافع ودفع المضار استحال حكم العقل عليها بالتحسين والتقبيح، فعلم أن التحسين والتقبيح بهذا المعنى لا يتصور في حقه، لما أنه سبحانه وتعالى مقدس عن صحة النفع والضر عليه، اللهم إلا أن يفسر الخصم التحسين والتقبيح بشيء آخر غير ما ذكرناه، ثم يدعي ثبوتهما في حق الله تعالى، وحينئذٍ ننظر في أنه هل يمكن إثباته في حق الله تعالى أم لا”([62]).
ونحن ندعي معنى آخر غير النفع والضرر، وهو المحبة والبغض، ونثبتهما لله تعالى، وندعي دلالة العقل والنقل على ثبوته.
قال شيخ الإسلام: “فإذا قيل: الحُسنُ والقبح بهذا الاعتبار لا يعقل في حق الله تعالى.
قيل: بلى؛ فإنه إذا كان الحسن ما هو محبوب، والقبيح ما هو مكروه؛ فإنه سبحانة يحب الأمور المحمودة كالعدل والإحسان، ويكره الظُّلمَ والكذب، ونفسه المقدسة أحق الذوات بتنزيهه عن الكذب والظلم، كما أنه أحق الذوات بتنزيهِهِ عن الجهل والموت، وكما أن فَرضَ ذلك في حقه يستلزم نفي صفات كماله، وهو ممتنع لذاته، فكذلكَ فرضُ ذلك حقه.
وقد وصفه سبحانه رسولُه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يفرح بتوبة التائب أعظم مما يفرح فاقد طعامه وشرابه ومركوبه في الأرض المهلكة إذا وجد ذلك بعد اليأس.
فالحسن والقبح يعود إلى مسألة التعليل، وكلاهما يعود إلى أنه سبحانه يحب أشياء، ويفرح بها، ويبغض أشياء، ويغضب منها، وهو يعود إلى الفرق بين المشيئة والمحبة”([63]).
ولا يضر في هذا أن يقال: إن إثبات المحبة يستلزم إثبات اللذة أو الانتفاع.
يقول شيخ الإسلام: “وقد نطق الكتاب والسنّة بأنّه يُحِبّ المتقين، والمحسنين، والصابرين، والتوابين، والمتطهرين، والذين يُقاتلون في سبيله صفًّا، فإذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضا لأنّ ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب؛ قيل لكم: إن كان هذا لازمًا، فلازم الحق حقّ، وإن لم يكن لازمًا بطل نفيكم، والفرح في الإنسان هو لذّة تحصل في قلبه بحصول محبوبه”([64]).
وقد ألزمهم شيخ الإسلام أن ينفوا صفة الإرادة؛ لأنه يمكن أن يقال فيها ما قالوه في نفي الحكمة من استلزام الحكمة للذة.
قال شيخ الإسلام: “يُقَالُ لمن أثبتَ الإرادةَ ونفى الحكمةَ من المنتسبين إلى إثباتِ القَدَر، والمنتسِبينَ إلى السُّنَّةِ والجماعة: لم نفيتُم الحكمَةَ؟ فإذا قالُوا: لأنَّا لا نعرفُ من يفعلُ لحكمةٍ إلا من يفعلُ لغرضٍ يعودُ إليه، وهذا لا يكونُ إلا في من يجوزُ عليه اللَّذَّةُ والألمُ والانتفاعُ والضَّررُ، واللهُ منزَّهٌ عن ذلك!
فيقالُ لهم ما قالهُ نفاةُ الإرادة: وأنتُم لا تعقلُونَ إرادة إلا في من يجوزُ عليه اللذَّةُ والألمُ والانتفاعُ والضررُ، وقد قُلتُم: إن الله تعالى مريدٌ، فإمَّا أن تطردوا أصلكم النافي فتنفُوا الإرادةَ، أو المثبِتَ فتثبتوا اللَّذَّة، وإلا فَمَا الفرق؟!”([65]).
وقد ذهب الزركشي إلى إثبات التحسين والتقبيح العقليين في أفعال العباد حيث قال: “وتوسَّط قومٌ فقالوا: قُبحها ثابت بالعقل والعقاب يتوقف على الشرع، وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا، وهو المنصور؛ لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد، وسلامته من الوهن والتناقض.
فهاهنا أمران:
أحدهما: إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها.
والثاني: أن ذلك كاف في الثواب والعقاب، وإن لم يرد شرع.
ولا تلازم بين الأمرين؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾؛ أي: بقبيح فعلهم، ﴿وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾؛ أي: لم تأتهم الرسل والشرائع، ومثله: ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: من القبائح، ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ [القصص: 47]”([66]).
قال محمد بخيت المطيعي معلقًا على كلام الزركشي: “فالدليل على قوة هذا المذهب هو الدليل السمعي، لا ما قاله الرازي، فإن هذه الآيات دلَّت على أمرين:
الأول: أن الأفعال في ذاتها منها ما هو قبيح، ومنها ما هو حسن.
الثاني: أن الباعث على إرسال الرسل والشرائع إقامة الحجة على العباد، وأنه لا يليق به تعالى أن يهلك قومًا ويؤاخذهم بقبيح أعمالهم إلا بعد إرسال الرسل وإنزال الشرائع؛ قطعًا لمعاذيرهم.
فأفاد هذا أن قبح الأفعال وحسنها وإن كانا في الأفعال قبل نزول الشرع وإرسال الرسل، إلا أن العباد لا يؤاخذون إلا بعد إنزال الشرائع وإرسال الرسل، وهذا صريحٌ بحسب ظاهره على هذا المذهب الوسط”([67]).
هذا مع أن المطيعي ينفي التحسين والتقبيح في أفعال الله تعالى، ويدعي ترتب القول بالصلاح والأصلح عليهما، وهذا فيه نظر سيأتي.
وذهب الحسن بن مسعود اليوسي إلى ما ذهب إليه الزركشي، وأنكر على معاصريه نفي التحسين والتقبيح مطلقًا، خلافًا لما قرره في حواشيه على (شرح الكبرى) للسنوسي، حيث وافق هناك عامة الأشعرية، مع أنه لم يخرج عما يقرره عامة الأشعرية في مسألة الفاعل المختار([68]).
قال: “مما ينبغي أن يُعلم في هذا المقام أن كون أشياء يستحسن العقل طلب الرب تبارك وتعالى من عبيده فعلها، أو الاتصاف بها، كالانقياد لأمره، والإيمان به، وتعظيمه بما يليق بجلاله، وأشياء يستحسن النهي عنها كأضداد ما ذكر، أمرٌ تدركه العقول، وتشهد به الفطر، ولا ينبغي لعاقلٍ أن ينازع فيه، وأنه مما يجده العاقل في نفسه مع قطع النظر عن الشرع.
إلا أنا نقول: إنا بعد أن ندرك حسن ذلك نقول: إذا ورد الشرع كان له أن يحكم بما نستحسن، وكان له أن يخالف فينهي عما نستحسنه ويأمر بغيره، ولا حجر عليه في ذلك إذ هو الفاعل المختار.
فإن أراد أهل الاعتزال القدر الأول؛ فلا وجه للإنكار عليهم، كيف وذلك هو الواقع؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأن أتمم مكارم الأخلاق». وقال هرقل لأبي سفيان: بم يأمركم؟ فقال: يأمرنا بالصدق والعفاف… إلى آخر ما قال، فكان ذلك آيةً للنبوءة عنده. وقال الآخر: إنه مما دلني على هذا النبي أنه لم يكن يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوبٍ فيه. إلى غير ذلك من أقوال العرب وغيرهم.
وإن أراد أهل الاعتزال الأمر الثاني -وهو الإيجاب- منعناهم بالبراهين الدالة على أنه تعالى الفاعل المختار.
ثم ليس في تركه تعالى شرع ما نستحسنه لو وقع بطلانٌ لحكمته تعالى؛ لأن حكمته تعالى تتنوع، فمن الحكمة أن يرغم أنوفنا بما يخالف عقولنا لنعبده لمحض ألوهيته، كما نفهم ذلك في الأحكام التعبدية.
وإنما قررنا هذا المعنى لأنا شاهدنا كثيرًا من عوام المتعاطين لهذا العلم من أصحابنا يتوهمون أن العقل لا يستحسن شيئًا في هذا الباب، ولا يستقبحه رأسًا، ويرون أن ذلك تنزُّه عن مذهب الاعتزال في زعمهم، وإنما هو جمودٌ قبيح وجهل صريح.
وقد نُقل عن جماعةٍ من أئمة الحنفية وغيرهم أنهم قالوا: إن قبح الأشياء بالعقل، والعقاب عليها متوقف على الشرع، وهذا مذهب صحيح، وهو يرجع إلى معنى ما قررنا أولًا؛ لأن توقف العقاب على الشرع وكذا الثواب إنما هو لكون الشارع مختارًا، إن شاء حكم به، وإن شاء حكم بمخالفه أو لم يحكم أصلًا”([69]).
المبحث الثاني: مذهب المعتزلة في محل النزاع:
ينبغي أولًا ذكرُ التعريف المختارِ عند القاضي عبدِ الجبَّار المعتزلي -وهُو من محققيهم- للقبيح لترى هل هو مطابقٌ لنقل الأشعريَّةِ عن المعتزلة أم لا.
قال: “وجملةُ ما نُحصِّلُهُ في حدِّ القبيح: أنه ما إذا وقع على وجهٍ من حقِّ العالمِ بوقُوعه كذلك من جِهَتِه، المُخلَى بينه وبينه أن يستحقَّ الذمَّ، إذا لم يمنع منه مانعٌ”([70]).
وأنت ترى أنه لم يذكر العقابَ العاجلَ في تعريفه كما ينقُلُون عنهم، بل لم يذكُرهُ أحدٌ من المُعتزِلَةِ، قال المقبلي: “وأما ذكرُ الأشعريَّةِ العاجلَ والآجلَ عند المعتزلة فمن أكيَاسِهِم، والمعتزلةُ لا ينظُرُون إلى عاجلٍ ولا آجلٍ؛ لأنهم يحكمُون بلزومِ الرفع الذي منهُ المدحُ وكونُهُ مُعرَّضًا للثواب، والوَضعِ الذي منه الذمُّ وكونُهُ مُعَرَّضًا للعِقَاب؛ للطاعة والمعصية من حالِ فعلهما، وإنما منعَ الاتصالُ التكليفَ لأن المكلَّفَ يصير باتِّصَال الثواب والعقاب مُلجَأ إلى فعل الطاعة وتركِ المعصية، وعدمُ الإلجاء عندهم شرطُ في التكليف، وهذا أيضًا عندهم في التكليفِ، وهو أخصُّ مما نحن فيه، وأما ما نحنُ فيه؛ فلا يقولُون بلُزُوم الثواب والعقاب فيه.
فالغلطُ عليهم من جهتين: ذكرُ الثَّواب والعِقَاب وهُمَا من لوازم التكليف لا من لوازم التَّحسينِ والتقبيح، والتكليف أخصُّ”([71]).
وها هنا عدة مسائل تتعلق بمذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح:
المسألة الأولى: هل الحُسنُ والقبح عند المعتزلة معنيان إضافيان أم ذاتيان:
قال الأشاعرة: “مما يدل على بطلان قولهم أنا نجد الفعل الواحد يجب مرةً ويحرم مرةً أخرى، ولو كان وجوبه لحسنٍ في ذاته لما تخلف، ومثال ذلك: شرب الخمر، يجب حالة الاغتصاص بلقمة، ولا مخلص إلا بشربها، ويحرم في ما سوى ذلك، وكذا الكذب يجب إذا كان فيه عصمة نفسٍ زكية من القتل العدوان، كما لو كان كفار يريدون قتل نبي، وقد اختفى منهم بموضع، فسألوا عنه من علم اختفاءه: هل اختفى في ذلك الموضع؟ لوجب على المسؤول أن يجيبهم بالكذب، ولو كان الكذب قبيحًا لذاته لما حسن في هذه الحالة”([72]).
لكن هل ما ذكره الأشاعرة من لوازم تلزم المعتزلة؟
قال العضد: “ذهب الأوائلُ من المعتزلة إلى أن حسنَ الأفعال وقبحَهَا لذواتها لا لصفاتٍ فيها تقتضِيهِمَا.
وذهبَ بعضُ من بعدَهم من المتقدمين إلى إثباتِ صفةٍ حقيقيةٍ تُوجِبُ ذلك مطلقًا -أي: في الحسن والقبح جميعًا- فقالُوا: ليس حُسنُ الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدَّمنا من أصحابنا، بل لما فيه من صفةٍ مُوجبَةٍ لأحدهما.
وذهبَ أبو الحسين من مُتأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح مقتضية لقبحه دُونَ الحسن، إذ لا حاجة به إلى صفةٍ مُحسِّنة له، بل يكفيه لحسنه انتفاء الصِّفَةِ المُقبِّحَة.
وذهب الجُبَّائيُّ إلى نفيه -أي: نفي الوصف الحقيقي- فيهما مُطلقًا، فقال: ليس حُسن الأفعال وقبحها لصفاتٍ حقيقية فيها، بل لوجُوهٍ اعتبارية وأوصافٍ إضافية تختلفُ بحسب الاعتبار، كما في لطمَةِ اليتِيم تأديبًا وظُلمًا”([73]).
وقد وقفتُ على كلامٍ للفخرِ الرَّازي في (المطالِب العالية) -الذي صنَّفَهُ في آخر حياته- صرَّح فِيه بوقُوع أولئك الأكابر من أئمَّة الأشاعرة في الغلط على خُصُومهم وعدمِ فهمهم لمُرادِهم، فقالَ: “واعلم أنَّ جماعة عظيمةً من أصحاب أبي الحسن الأشعري رحمه الله احتجُّوا على إبطال القولِ بتحسين العقل وتقبيحِهِ بأن قالوا: لو قَبُح القتلُ لذاته لوجب أن يقبُحَ كلُّ قتلٍ، وكان يجبُ أن يقبح القتل على سبيلِ القصاص، ولو حسُنَت المنفعةُ لذاتها لحسُنَت كلُّ منفعةٍ ولذَّةٍ، فكان يجب حسن الزِّنَا واللِّواطَة، ولما لم يكُن الأمرُ كذلك علمنا أنَّ القول بأن الحَسَن حسنٌ لذاته وأنَّ القبيح قبيحٌ لذاته قولٌ باطل.
وقالتِ المعتزلة: هذا الكلامُ غير وارد علينا، لأنَّا لا نقول: إن الحسن إنما كان حَسَنًا لذاته، ولا أن القبيحَ إنما كان قبيحًا لذاته، وإنما نقولُ: إن الحسن يحسن لوجُوهٍ عائدةٍ إليه، وإن القبيح يقبح لوجوهٍ عائدة إليه”.
ثم قال: “فظهر بهذا أن الذين عَوَّلُوا على هذه الحجة في إبطال كلامِ المعتزلة لم يعرفُوا مذهبهم، ولم يحيطُوا بمقالَتِهم عِلمًا، والله أعلم”([74]).
وقد اعترف بعض متأخري الأشاعرة أن ما ذكروه من أدلةٍ على إبطال التحسين والتقبيح العقليين لا تشمل جميعها جميع أقوال المعتزلة.
قال اليوسي: “وقد احتج أهل الحق بحجج بعضها تمنع كون الحسن والقبح لذوات الأفعال، أو لصفاتها أو وجوهها، وبعضها يمنع الأول فقط”([75]).
المسألة الثانية: هل يقول المعتزلة بالحسن والقبح العقليين بمعنى ترتب الثواب والعقاب:
الأشعرية كثيرًا ما يحتجُّون على المعتزلة بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾.
قال العَضُد مُحتجًّا عليهم بها -وأمزِجُ كلامَه بكلام شارحه-: “نفى الله سُبحَانَهُ وتعالى التَّعذيبَ (مُطلقًا دُنيويًّا كان أو أُخرَويًّا) قبلَ البعثةِ، وهو من لوازمِ الوُجُوب (بشرطِ ترك الواجب) عندَهُم، (إذ لا يجوِّزُون العفو)، فينتفي الوُجُوبُ قبلَ البعثة (لانتفاء لازمه)، وهو ينفي كونه بالعقل (إذ لو كان الوجوبُ بالعقل لكان ثابتًا معه قبلَ بعثة الرسل، ومحصولُه: أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبلَ البعثة، ولا شُبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذٍ فيلزم أن يكونُوا معذبين قبلَها، وهو باطل بالآية)”([76]).
ونسبة القول بعدم تجويز العفو للمعتزلة قاطبةً فيها نظرٌ، وإنما هو قولُ طائفةٍ من البغداديِّينَ منهُم، قال المقبلي جوابًا على هذه الحُجَّةِ: “هذه مُصادَرَةٌ عن المطلوب؛ لأن النزاع في جواز التعذيب لا في وقوعه، وكم من جائز غير واقع.
وما قاله العضُدُ وجرى عليه السعد وقلَّدَهُما الناس: أنه إنما لَزِمتهم الحُجَّةُ لمنع العفو عقلًا عند المعتزلة فغلطٌ على غلطٍ؛ لأن هذه الحجة ذُكِرَت لردِّ المذهب -أي: مذهب التحسين والتقبيح العقليين-، وقد عرفت أن القائل به أعمُّ من ذلك، ولا مُلازمة بينَهُ وبين منعِ العَفوِ عقلًا.
والقائلُ بعدَمِ العَفوِ عقلًا شِرذِمَةٌ من البغدَادِيَّةِ، وسائرُ أهل هذه المقالة قائلُون بجواز العفوِ عقلًا، وكثيرٌ منهم يقولون بجوازه سمعًا، ونحنُ منهُم”([77]).
وقد نَصَر القاضي عبدُ الجَبَّارِ القَولَ بجوازِ العفو وردَّ على البغداديين القائلين بمنعه قالَ: “من مذهبِنَا أنه يحسُن من الله تعالى أن يعفُوَ عن العُصَاة وأن لا يُعاقبهم، غيرَ أنه أخبرنا أنه يفعلُ بهم ما يستحقُّونَه، وقال البغدادِيُّون: إن ذلك لا يحسُنُ من الله تعالى إسقاطُه، بل يجبُ عليه أن يُعاقِبَ المُستحقَّ للعقوبةِ لا محالة”([78]). ثم ذكر الأدلة على فساد مذهبِهِم وصحَّةِ مذهبِهِ.
وأجابَ بعض شُرَّاح (مُسلَّم الثبوت) على استدلالَ الأشاعرةِ هذا -أعني استدلالَهُم بقولِهِ تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾-: بأنَّ المُعتزلَة مع قولِهِم بالحُسنِ والقبح العقليين لا يَرُونَ العذاب قبلَ بعثة الرسول، بناءً على أن إلزامَ الحُجَّةِ التامَّةِ إنما يكونُ ببعثةِ الرسول([79]).
والقولُ بأن إلزام الحُجَّةِ التامَّةِ إنما يكونُ ببعثة الرسول صرَّحَ به الزمخشري فقال: “فكان إرسالُهم إزاحة للعلَّةِ وتتميمًا لإلزامِ الحُجَّةِ”.
وقال: “﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾: وما صحّ منَّا صحةً تدعو إليها الحكمة أن نعذِّب قومًا إلا بعد أن ﴿نَبْعَثَ﴾ إليهم ﴿رَسُولًا﴾ فتلزَمُهُم الحجةُ.
فإن قلتَ: الحجة لازمةٌ لهم قبل بعثة الرُّسل، لأنّ معهم أدلةَ العقل التي بها يُعرف الله، وقد أغفلُوا النظرَ وهم متمكِّنُون منه، واستيجابُهُم العذابَ لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعملُ بها لا يصح إلا بعد الإيمان.
قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظِ من رقدة الغفلةِ؛ لئلا يقُولوا:كُنَّا غافلين، فلولا بعثت إلينا رسولًا يُنبِّهُنا على النظر في أدلَّةِ العقلِ”([80]).
قال المقبلي مُعقِّبًا على كلامه: “وإذا كان لا يليقُ بالحكيم ولا يلائمُ شأنَهُ التعذيبُ قبل البعثة، فهو معنى أن الحجة لا تقومُ قبل الشرع، إذ لو قامتْ حينئذٍ لكان التعذيبُ مُلائِمًا”([81]).
وقد ذكر بعضُ الأشعرية إتمامًا لهذا الاستدلالِ على تقدير جوازِ العفو، قال المراغي في (شرح منهاج الأصول): “لا حاجةَ إلى جعل الدليل إلزاميًّا، بل يجوزُ إتمامُهُ على تقدير جواز العفو أيضًا بأن يُقال: وقوعُ العذابِ وإن لم يكن لازمًا للوُجُوب لكن عدمُ الأمن من وقوعه لازمٌ له ضرورة، إذ يجوزُ العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب، وهذا اللازم أعني عدمَ الأمن منتفٍ لدلالة الآيةِ على عدم وقوعه فينتفي الملزوم”.
قال الألوسي: “ورد ذلك أولًا: بمنع أنَّ عدمَ الأمن من وقوعِ العذابِ من لوازم تركِ الواجِبِ مُطلقًا، بل عدمُ الأمن إذا لم يتيقَّن عدمَ وقوعِ العذاب بدليلٍ آخر.
وأما ثانيًا: فبأنَّ انتفاءَ عدم الأمن إنما هو بالآيةِ، إذ قبل ورودها كان العقابُ جائزًا، ولا شكَّ أن انتفاءه بها انتفاءُ بالعفو، لأنَّ معنى العفو عدمُ العقاب والآيةُ تدلُّ عليه.
فلم يتم الدليل على تقديرِ جواز العفو، وهو كما ترى”([82]).
قال ابن القيم: “وأمَّا المعتزلةُ فقد أجابوا عن ذلك -أي: عن الاستدلال بالآية- بأن قالوا: الحُسْن والقُبح العقليُّ يقتضي استحقاقَ العقاب على فعل القبيح وتركِ الحسن، ولا يلزم من استحقاق العقاب وقوعُه؛ لجواز العفو عنه.
قالوا: ولا يَرِدُ هذا علينا حيث نَمْنَعُ العفوَ بعد البعثة إذا أوعَد الربُّ على الفعل([83])؛ لأنَّ العذابَ قد صار واجبًا بخبره، ومستَحقًّا بارتكاب القبيح، وهو سبحانه لم يحصُل منه إيعادٌ قبل البعثة، فلا يقبُح العفو؛ لأنه لا يستلزم خُلْفًا في الخبر، وإنما غايتُه تركُ حقٍّ له قد وجب قبل البعثة، وهذا حسن.
والتحقيقُ في هذا أنَّ سببَ العقاب قائمٌ قبل البعثة، ولكن لا يلزمُ من وجود سبب العذاب حصولُه؛ لأنَّ هذا السَّببَ قد نَصَبَ اللهُ له شرطًا وهو بعثةُ الرُّسل، وانتفاءُ التَّعذيب قبل البعثة هو لانتفاء شرطه، لا لعدم سببه ومقتضِيه.
وهذا فصلُ الخطاب في هذا المقام، وبه يزولُ كلُّ إشكالٍ في المسألة وينقشعُ غَيْمُها ويُسْفِرُ صُبْحُها، والله الموفق للصَّواب”([84]).
وقال في موضعٍ آخر: “وأمَّا العقابُ فلهم فيه اختلافٌ وتفصيل، ومن أثبتَه منهم لم يُثْبِته على الوجوب الثَّابت بعد البعثة، ولكنهم يقولون: إنَّ العذابَ الثَّابتَ بعد البعثة، ولكنَّهُم يقولون: إن العذابَ الثابتَ بعد الإيجاب الشرعيِّ نوعٌ آخرُ غيرُ العذاب الثَّابت على الإيجاب العقليِّ. وبذلك يجيبون عن النُّصوص النَّافية للعذاب قبل البعثة”([85]).
وبعد هذا يتبيَّنُ لك أن ما شاعَ عن المعتزلة من أنهم جميعًا يقولُون بأن التعذيب يحصلُ بدون إرسال الرُّسُل غيرُ صحيح، ولعلَّ الأشعريَّةَ هُم من أشاعَه.
وقد بيَّن المقبلي أنَّ هذا من الأشعريَّة جهلٌ بمذهب خصومِهِم، وهو مما لا ينبغي لطالبِ الحق، قال: “مثلُ هذه الأشياءِ أصلُها عدمُ الإحاطة بمذهبِ الخصم لعدمِ صَرفِ الهِمَّةِ إليه، فيجهلُ فيجهَلُ عليه، شَنشَنَةٌ من عدمِ الإنصافِ، الذي هو أصلُ الخلاف، فهذا شيءٌ كثيرٌ جرَّبنَاهُ في نقلِ الأشاعرةِ عن المعتزلة، والعكسِ، بحيث يمتنعُ المنصفُ من قبول قول أحدهم على الآخر، والغلطُ على المعتزلَةِ أكثرُ منه في العَكسِ”([86]).
المسألة الثالثة: نفي التلازم بين القول بالتحسين والتقبيح العقليين وقول المعتزلة بوجوب الصلاح والأصلح على الله تعالى:
حاصل هذه العقيدة التي صارت إليها المعتزلة: أن العقل إذا أدرك مصلحة في فعل وجب على الله تعالى رعياتها.
قال ابنُ القيم في بيان أخطاء المعتزلة في هذه المسألة: “الموضع الثَّاني: أنهم وضعوا لتلك الحكمة شريعةً بعقولهم، وأوجبوا على الرَّبِّ تعالى بها وحرَّموا، وشبَّهوه بخلقه في أفعاله، بحيث ما حَسُنَ منهم حَسُنَ منه، وما قَبُحَ منهم قَبُحَ منه، فلَزِمَتْهم بذلك اللوازمُ الشَّنيعة، وضاق عليهم المجال، وعَجَزوا عن التَّخلُّص عن تلك الإلزامات، ولو أنهم أثبتوا له حكمةً تليقُ به لا يُشْبِهُ خلقَه فيها، بل نسبتُها إليه كنسبة صفاته إلى ذاته، فكما أنه لا يُشْبِهُ خلقَه في صفاته فكذلك في أفعاله، ولا يصحُّ الاستدلالُ بقُبح القبيحِ وحُسْن الحسَن منهم على ثبوت ذلك في حقِّه تعالى.
ومِنْ ها هنا استطال عليهم النُّفاة، وصاحوا عليهم مِنْ كلِّ قُطر، وأقاموا عليهم ثائرةَ الشناعة”([87]).
وفسادُ القولِ يظهرُ بالنَّظرِ في لوازِمِه، وحسبُكِ لمعرفةِ فسادِ هذا القول زعمُ جمهورِ المعتزلة أن ليس في مقدورِ الله تعالى لُطفٌ لو فُعِل بالكفار لآمنُوا، ولو كان ذلك في مقدوره ولم يفعلْ ولم يُعطِهِم ذلك كان سفيهًا بخيلًا جائِرًا ظالمًا مانِعًا حقًّا مُستحقًّا، وغايةُ ما يقدرُ الله عليه مما به صلاحُ الخلقِ واجبٌ عليه، وفَعلَ بكُلِّ عبدٍ مؤمنٍ أو كافرٍ غايةَ ما هو في مقدُورِه ومصلحتِه([88]).
وردُّ هذا القول لا يحتاجُ إلى تطويلٍ، فمناقضتُهُ لصريحِ القرآن وإجماع الأمة ظاهرة، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: 13]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل: 149].
وهذا القولُ القبيح ليسَ إلا فَرعًا من فُرُوع عدلهمُ المزعوم الذي مضمونُهُ نفيُ القدر، وهو أصلٌ من أصولهم الخمسةِ، قال ابن القيم في النونية عن هذهِ الأصول:
تلك الأصُول للاعتزال وكم لها فرع فمنه الخَلقُ للقُرآنِ
ونفَوا قضاء الربِّ والقدَرِ الذي سبق الكتاب به هما شيئانِ
من أجل هاتيك الأصول وخلّدوا أهلَ الكبائرِ في لظَى النيرانِ
ولأجلِهَا حَكَمُوا على الرَّحمنِ بالشـ ـرعِ المُحالِ شريعةِ البهتانِ
ولأجلها هم يوجبونَ رعايةً للأصلحِ الموجُودِ في الإمكانِ
حقًّا على رَبِّ الوَرَى بعقُولِهم سُبحانَك اللهمّ ذا السُّبحانِ([89])
قال شيخ الإسلام رحمه الله في سياق كلامه عن المعتزلة: “ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه على كل شيء قديرا، ولا يقولون: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، ولا يقرون بأنه خالق كل شيء، ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه”([90]).
وقد عقد أبو المعين النسفي فصلًا في (تبصرة الأدلة) لإبطالِ هذا القول، قال في آخرِهِ في بيان لوازِمِ هذا القولِ ومُقتضياته: “ثم حاصل هذه المسألةِ عندَهُم: أنَّ الله تعالى لا مشيئةَ له في فعلِهِ ولا اختيارَ، بل هو مجبورٌ على أن يفعل ما هو أصلحُ لعبادِهِ، وليسَ له أن يفعلَ سِوَى ما فعلَ، وليس بمُحسنٍ ولا مُتفضِّلٍ ولا مفضل ولا جوادٍ؛ لأنه لم يفعل فعلًا إلا قَضَى به حقًّا مُستَحقًّا عليه على وجهٍ يصير بمنعهِ ظالمًا، ومن هذا وصفُ فعلِه لا يوصفُ بالإفضال والإحسان، وأنَّهُ كاذبٌ بقوله: ﴿واللهُ ذُو الفَضْلِ العظِيمِ﴾، وليس بمُستوجبٍ على أحدٍ شُكرًا ولا عبادةً، إذ القاضي حقَّ الغَير لا يستوجبُ ذلِك.
وأنه حيثُ أمر عباده بالرَّغبةِ إليه في ذلك أمرهُم بالسُّخرية به والهُزء! أو طلب منهُ أن يتسفَّهَ أو يجورَ عليهم ويظلِم، أو أمرَهَم أن يطلُبوا منه ألا يظلِمَهُم بمنعهم حقَّهم المستحقَّ.
وأنه تعالى أحبَّ أن يُحمَد بما لم يفعلْ من الإحسان والإفضالِ، وأمرَ أن يشكرُوه على ما لم يفعل، إذ ليس شيءٌ من فعله بإفضَال.
وأنه عاجزٌ عمَّا به صلاحُ خلقِهِ وغيرُ قادرٍ على دفع الفسادِ عن أحدٍ، وأن قُدرتَهُ انتهت إذ لم يقدِر على أصلحَ مما فعل بكُلِّ أحدٍ!
وأنه أنعمَ على إبليسَ وفرعونَ وهامانَ وأبي جهلٍ وغيرِهِم من الكَفَرَةِ حَسبَ ما أنعم على جميعِ الأنبياءِ والمُرسلينَ والملائكةِ المُقرَّبينَ، وأنهُ ما اصطفى هؤلاءِ بشيءٍ لم يصطفِ أولئك بمثلِهِ، فكُلُّ كافرٍ مُوفَّقٌ معصومٌ مُنعَمٌ عليه مُصطفى!
وقد بيَّنَا خلال كتابنا مجموعَ هذه المعاني التي ذكرنَاهَا، عَصَمَنا اللهُ عن قولٍ هذا عُقباه”([91]).
ولذلك قال ابنُ الهمام في (المسايرة) بعد ذكر الخلاف بين الحنفية في التحسين والتقبيح: “ثم اتَّفقُوا على نفي ما بنتهُ المعتزلة على إثبات الحسن والقبح للفعل من القول بوجوب الأصلح”.
وهذا القولُ كثيرًا ما يقرنُ الأشعريَّةُ بين إبطالِه ونفي التحسين والتقبيحِ العقليَّينِ، ونفي الحكمة والتعليل، بل إن السَّنُوسيَّ جعل القول بالتحسين العقلي من أُصُول الكُفرِ والبِدَع، وفسَّرَ كونَهُ من أصول البدعِ بأنَّ المُعتزِلَةَ بنوا عليه القولَ بالصَّلاحِ والأصلح.
قال: “ونشأ عن هذا الأصلِ الفاسِدِ بدعةُ المعتزلة في إيجابِهِمُ مُرَاعَاةَ الصَّلاحِ والأصلَحِ للعِبَادِ في حَقِّهِ تعالَى، وكونَ الأحكام الشرعيَّة تابعةً لتحسينِ العقل وتقبيحِه، ونحو ذلك من بدعَتِهِم”([92]).
ولذلك قال في موضعٍ آخر: “دخول العقل إلى طلب أحكام الله تعالى في الأفعال بميزان التحسين والتقبيح دخولٌ بميزانٍ مختل، ينقلب صاحبُه خاسئًا وهو حسير”([93]).
وقال المنشليلي في (شرحه للمنظومة الجزائرية) عند كلامه عن التحسين والتقبيح العقليين: “وهذا الذي أوقعهم في الضلالات، كإيجاب الثواب، وفعل الأصلح عليه تعالى”([94]).
وقال الشيخ محمد جعيط التونسي بعد أن نقلَ مذاهب المعتزلة في التحسين والتقبيح: “ظهرَ لكَ من بعضِ النُّقُول أنَّ المعتزلة في مسألة التحسينِ بنوا قولهم على أساسٍ واحدٍ غيرِ متين، وهو إثباتُ الحُسن والقُبح الذاتيِّ، الذي سيتبين لك سقوطُهُما بالبداهة من غير نظرٍ وتخمين.
ومن بعضها -أي: بعض النقولِ لتي ذكرها- أنَّهُم بنَوا قولهم في المسألة على أساسين يتَّضِحُ هدمُهُما لمن أمعن النظر وتصفَّح، هما: كونُ الأفعال حُسنُهَا وقُبحُهَا لذواتِهَا.
ووجوبُ رعاية الصلاح والأصلح، فإذا أدركتْ عُقُولهم حسنَ الإحسان للمُحسنِ قالُوا بوُجُوبه، لقياسٍ مُؤلَّفٍ من مُقدِّمتين؛ نظمُهُ هذا: الفعلُ -أعني الإحسانَ للمُحسنِ- حسنٌ لذاته، وكلُّ ما كان كذلِكَ فيجبُ على الله فِعلُهُ لوجُوب رعاية المصالح، فيُنتِجُ هذا: الفعل يجب على الله فعلُه.
فالمقدِّمَةُ الصُّغرى مبنيَّةٌ على إثبات الحُسن الذَّاتِيِّ، والكُبرى مبنيَّةٌ على وُجُوب رعايةِ الأصلَح”([95]).
وقال ابن عاشور: “ويترجَّحُ عندي أن هاتِهِ المسألةَ اقتضاها طردُ الأصُول في المناظرة، فإن الأشاعرَةَ لما أنكَرُوا وجوبَ فعلِ الصلاح والأصلح أوردَ عليهِمُ المُعتزلَةُ -أو قدَّرُوا هم في أنفُسِهم أن يورَد عليهِم- أنَّ الله تعالى لا يفعلُ شيئًا إلا لغرضٍ وحكمةٍ، ولا تكون الأغراضُ إلا المصالحُ، فالتزمُوا أنَّ أفعالَ الله تعالى لا تُنَاطُ بالأغراضِ، ولا يعبَّرُ عنها بالعلَلِ، ويُنبئ عن هذا أنهم لما ذكرُوا هذه المسألةَ ذكرُوا في أدلَّتِهم الإحسانَ للغيرِ ورعيَ المصلحةِ”([96]).
وليس القصد الآن إلا بيانُ أنَّه لما كان قولُ أهلِ السُّنَّةِ في الحكمَةِ والتَّعليلِ والتحسين والتقبيح مباينًا لقولِ المعتزلة، فإن ما يلزَمُ المعتزلةَ من اللوازمِ التي ألزمهم بها الأشاعرة لا يلزمُ أهلَ السُّنَّةِ.
فمن تلك اللوازم ما ذكره الشهرستاني بقوله: “الكلام وقع في حق الله تعالى: هل يجب عليه أن يمدح ويذم ويثيب ويعاقب على ذلك الفعل؟ وذلك غيب عنا، فبم يعرف أنه يرضى عن أحدهما ويثيبه على فعله، ويسخط على الثاني ويعاقبه على فعله، ولم يخبر عنه مخبر صادق، ولا دل على رضاه وسخطه فعل، ولا أخبر عن محكومه ومعلومه مخبر، ولا أمكن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد؟”([97]).
قال ابن القيم في جوابه على كلامه: “فيقال: هذا لازمٌ للمعتزلة ومن وافقهم، حيث يُوجِبون على الله تعالى ويحرِّمون بالقياس على عباده، ولا ريب أنَّ هذا مِن أفسد القياس وأبطلِه، ولكن مِن أين ينفي ذلك إثباتَ صفاتٍ لأفعالٍ اقتضت حُسْنَها وقُبحَها عقلًا ولم يُعْلَمْ ترتُّبُ الثَّواب والعقاب عليها إلا بالرسالة كما نصَرناه؟!
فأنتم -معاشرَ النفاة- سلبتُم الأفعالَ خواصَّها وصفاتها التي لا تنفكُّ عنها ولا تُعْقَلُ مجرَّدةً عنها أبدًا، وظننتم أنَّ قولَ المعتزلة الباطل في إيجابها وتحريمها على الله لا يتمُّ إلا بهذا النفي، فأخطأتم في الأمرين معًا، فإنَّ بطلان قولهم لا يتوقَّفُ على نفي الحُسْن والقُبح، ونفيُهما باطل.
وخصومُكم من المعتزلة أثبتُوا لله شريعةً عقليَّة أوجبوا عليه فيها وحرَّموا بمقتضى عقولهم، وظنُّوا أنهم لا يمكنُهم إثباتُ الحُسْن والقُبح إلا بذلك، فأخطؤوا في الأمرين معًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يقاسُ بعباده في أفعاله كما لا يقاسُ بهم في ذاته وصفاته، فليس كمثله شيءٌ في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإثباتُ الحُسْن والقُبح لا يستلزمُ هذا الإيجابَ والتحريمَ العقليَّين”([98]).
قال شيخ الإسلام: “وقد ظن بعض الناس أن من يقول بتحسين العقل وتقبيحه ينفي القدر ويدخل مع المعتزلة في مسائل التعديل والتجوير، وهذا غلط بل جمهور المسلمين لا يوافقون المعتزلة على ذلك. ولا يوافقون الأشعرية على نفي الحكم والأسباب؛ بل جمهور طوائف المسلمين يثبتون القدر ويقولون: إن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها. ويقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن”([99]).
يقول المقبلي: “جميع العقلاء يعلمون تحقق ماهيتي الإحسان والإساءة ونحوهما، وخاصَّةَ كل منهما، والفرق بينهما، وأن الإحسان تقبل العقول الرفع من شأن المتصف به ولا تأباه، وتأبى الحط من شأنه ولا تقبله، والعكس في الإساءة.
هذا تحرير محل النزاع، فمن أنكر القدر الذي ذكرناه فقد كابر، فلا يستحق المناظرة، وما زاد على هذا فليس من محل النزاع، بل بعضه تفريع غير صحيح، ككثير من كلام المعتزلة الذي زعموه تفريعًا على هذه المسألة، ومنعوا أشياء وأوجبوا أشياء، وتحكموا على الله كثيرًا، وتعسفوا في تأويلات آيات وأحاديث، كما قد حققنا بعض ذلك مفصلًا في (العلم الشامخ) وزوائده”([100]).
المسألة الرابعة: هل العقل حاكم عند المعتزلة:
نقل فخر الدين الرازي عن المعتزلة مذهبهم، فإنهم قالوا: “هُمَا عقليان، لكونِ الفعل واقعًا على وَجهٍ مخصوصٍ لأجله يستحقُّ فاعلُهُ الذمَّ، وذلك الوجه قد يستقلُّ العقل بإدرَاكِهِ وقد لا يستقِلُّ.
أما الذي يستقلُّ فقد يعلَمُه العقل ضرورةً كالعلم بحُسنِ الصدق النافعِ وقُبح الكذب الضارِّ، وقد يعلمُهُ نظرًا كالعلمِ بحسن الصِّدقِ الضارِّ وقُبح الكذبِ النَّافعِ.
والذي لا يستقل العقل بمعرفته فكحُسن صَومِ آخرِ يومٍ من رمضان وقُبحِ صومِ الذي بعده، فإن العقل لا طريقَ له إلى العلم بذلك، لكنِ الشرعُ لما ورد به علِمنَا أنَّه لولا اختصاصُ كُلِّ واحدٍ منهُمَا بما لأجلِهِ حَسُن وقَبُح، وإلا لامتنع ورودُ الشّرعِ به”([101]).
وقال أبو العباس القرافي: “ليس مراد المعتزلة بأن الأحكام عقلية أن الأوصاف مستقلة بالأحكام، ولا أن العقل هو الموجب والمحرم، بل معناه: أن العقل عندهم أدرك أن الله أوجب هذا وحرم هذا”([102]).
قال الطوفي بعد نقل كلام القرافي: “وهو الحقُّ الذي لا يجوز عنه العُدُول، ولم أرَ هذا التحقيق لغيرِهِ، وأنتَ إذا قابلت بين هذا التقرير وبين ظاهرِ عبارات الأُصُوليِّين، وجدتهم قد أحالوا المعنى، ونقلُوا عن المعتزلة ما لا ينبغِي لعاقلٍ ويتسنَّى”([103]).
وقال بدر الدين الزركشي عقب ذكر كلام القرافي: “والأصوليون الناقلون لهذه المسألة قد أحالوا المعنى، ونقلوا عن المعتزلة ما لا ينبغي لقائل أن يقوله”([104]).
وقال: “المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للأحكام، وإنما يقولون: إن العقل يدرك أن الله شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها، فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي، والحكم الشرعي تابع لهما، لا عينهما، فما كان حسنًا جوزه الشرع، وما كان قبيحا منعه”([105]).
وقال أبو زرعة العراقي عند قول البيضاوي: “الفصل الأول: في الحاكم، وهو الشرع دون العقل“: “يوهم أن المعتزلة قائلون بتحكيم العقل، وهم لم يقولوا ذلك، بل اتفق الناس على أن الحاكم هو الشرع، والمعتزلة قالوا: العقل له صلاحية الكشف عن حكم الشرع، ونحن نمنع ذلك”([106]).
وقال اليوسي: “المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الحاكم الشارع للأحكام، وإنما يقولون: إن العقل طريقة إلى معرفة الحكم، بمعنى أنه يستبدُّ بإدراك أن الله تعالى قضى بذلك، وإن لم يسمعه من الوحي”([107]).
ومن الحنفية الماتريدية من ينقلُ عن المعتزلة أنَّهُم يقولون: إن العقل حاكمٌ، ليصحَّ لهُم فرقٌ بينهم وبين المعتزلة في المسألة([108]).
يتلوه الجزء الثالث…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) المحصول (1/ 123-124)، وذكر ذلك في غيره من كتبه، فذكره في الإشارة في أصول الكلام (ص: 206-207)، والأربعين (ص: 237)، ونهاية العقول (1/ 247)، وأما في المطالب العالية ومعالم أصول الدين فقد ذهب إلى إثبات التحسين والتقبيح العقليين في أفعال العباد دون أفعال الله تعالى، كما سيأتي.
([7]) ومع قول الإسنوي هذا فقد استدرك على البيضاوي هذه المسألة في زوائد الأصول على منهاج الوصول (ص: 195)، وانظر: الفوائد شرح الزوائد للأبناسي (1/ 263-264).
([8]) سلم الوصول لشرح نهاية السول -بهامش نهاية السول للإسنوي- (1/ 260).
([9]) مصباح الأراوح (ص: 174-175).
([10]) طوالع الأنوار (ص: 202).
([11]) قطعة من الأوسط (ص: 330-331).
([12]) نجاح الطالب على مختصر ابن الحاجب (ص: 131).
([13]) قطعة من الأوسط (ص: 320).
([14]) شرح تنقيح الفصول (ص: 214).
([15]) شرح العقيدة الكبرى (ص: 536)، شرح العقيدة الوسطى (ص: 293).
([17]) نهاية الإقدام في علم الكلام -حرره وصححه ألفرد جيوم- (ص: 370).
([19]) يعني نفسه في متن الكبرى، وسيأتي كلامه.
([21]) شرح العقيدة الأصبهانية (1/ 563).
([22]) الأبحاث المسددة (ص: 487).
([23]) الأبحاث المسددة (ص: 491).
([24]) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين (3/ 18-19).
([25]) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين (3/ 20).
([26]) مفتاح دار السعادة (2/ 913).
([27]) مفتاح دار السعادة (2/ 965).
([28]) مدارج السالكين (1/ 377).
([29]) نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 374-375).
([30]) نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 387).
([31]) شرح المواقف في علم الكلام (8/ 194).
([32]) جامع الفصول (1/ 221-222).
([33]) شفاء الغليل (ص: 162-163).
([35]) مفتاح دار السعادة (2/ 1119).
([36]) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 221).
([37]) قطعة من الأوسط (ص: 331).
([38]) شرح العقيدة الكبرى (ص: 535).
([40]) شرح الأصبهانية -ط. دار العمرية- (2/ 534-535).
([41]) التسعينية (3/ 909-910).
([43]) انظر: شرح نونية السبكي لنور الدين الشيرازي (ص: 238-248). وقد حاول الشارح أن يهون من الخلاف بين الأشعرية والماتريدية في المسألة بأن الفريقين متفقان على عدم وقوع تعذيب المطيع!
([44]) المسامرة بشرح المسايرة (ص: 203-204).
([45]) المقصود صحة التفريع لا صحّة الفرع، أي: أن هذه الأصول الفاسدة أنتجت هذه الفروع إنتاجًا صحيحًا؛ لأن الأصول ملزوم، وهي لازم، فتعلقها بها تعلق اللازم بالملزوم.
([46]) الأبحاث المسددة في فنون متعددة (ص: 491-492).
([47]) مفتاح دار السعادة (2/ 918-962).
([48]) المختصر الكلامي (ص: 911-917). وانظر كذلك تلخيصها في لباب الأربعين للأرموي (ص: 244-245).
([49]) هذا الدليل -كما قال ابن القيم- يصول الرازي به ويجول، لذا ذكره في كثير من كتبه. انظر مثلًا: المحصول (1/ 124-126)، والأربعين (ص: 246) ولباب الأربعين للأرموي (ص: 244).
([50]) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 109). وممن تعقبه ابن الحاجب في مختصره الأصولي (1/ 276)، والقرافي في نفائس الأصول (1/ 350) وما بعدها، والمطيعي في تعليقه على نهاية السول (1/ 260-263)، ونقضه شيخ الإسلام في شرح الأصبهانية -الطبعة الجديدة- (2/ 541-551)، وابن القيم أيضًا في مفتاح دار السعادة (2/ 919-924) من اثني عشر وجهًا. وإن كان هذا الوجه الذي نقلته عن الآمدي قد أجاب عنه الرازي في الأربعين بأن إرادة الله تعالى قديمة بخلاف إرادة العبد فهي حادثة، فلا يلزم الجبر في حقه. انظر: الأربعين (ص: 238)، المختصر الكلامي لابن عرفة (ص: 915).
([52]) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 109)، وأبكار الأفكار (1/ 552-553)، وتعقبه ابن الحاجب في مختصر المنتهى (1/ 276)، ونقضه ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/ 924-926) من ثلاثة أوجه.
([54]) حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي (3/ 267).
([55]) انظر: المختصر الكلامي (ص: 910)، والعزو للمطالب العالية زيادة مني.
([56]) انظر: شرح معالم أصول الدين (ص: 473-476).
([57]) النكت على البرهان (ص: 105)، ونقله في البحر المحيط (1/ 144).
([58]) المطالب العالية من العلم الإلهي.
([59]) انظر: شرح معالم أصول الدين (ص: 471).
([60]) جامع الفصول (1/ 223). وقد تقدّم كلام الرازي في ذلك في كتابه المطالب العالية.
([61]) شرح معالم أصول الدين (ص: 472).
([62]) شرح معالم أصول الدين (ص: 430).
([63]) شرح الأصبهانية -ط. دار العمرية- (2/ 562-563).
([64]) شرح الأصبهانية -ط. دار العمرية- (1/ 447-448).
([66]) تشنيف المسامع (1/ 561-562)، والبحر المحيط (1/ 145-146).
([67]) سلم الوصول لشرح نهاية السول -بهامش نهاية السول للإسنوي- (1/ 262).
([68]) وهم يذكرون عن اليوسي تضلّعًا في العلوم العقلية، جاء في ترجمته: “وكان أبو علي رحمه الله تضلع بالعلوم العقلية، وبرز فيها على أبناء وقته، حتى قال في تأليفه المسمى بالقول الفصل في الفرق بين الخاصة والفصل: إنه قد بلغ درجة الشيخ سعد الدين التفتازاني وأضرابهما، بحيث يقبل من كلام العلماء ويردُّ. وسأله يومًا سائل بدرسه عن مسألة فقال له: اسمع ما لم تسمعه من إنسان، ولا تجده محررًا في ديوان، ولا تراه مسطّرًا ببنان، وإنما هو من مواهب الرحمن”. ينظر: صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الثاني عشر، للإفراني (ص: 347).
([69]) البدور اللوامع في شرح جمع الجوامع (1/ 189-190).
([70]) المغني في أبواب التوحيد والعدل.
([71]) العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ (ص: 162).
([72]) انظر: الإحكام (1/ 115)، وأبكار الأفكار للآمدي (1/ 558)، والوسيلة بذات الله وصفاته للعقباني (ص: 85)، وهو تبع للآمدي في ما قاله، والنص المذكور هو له. قال ابن عرفة عن هذا الدليل: (وصوبه في الأربعين كابن الحاجب). المختصر الكلامي (ص: 911).
([73]) المواقف في علم الكلام (3/ 270).
([74]) المطالب العالية (3/ 338-339). وتعقبه صاحب رسالة الفخر الرازي وآراؤه الكلامية (ص: 518) بدعوى أن متقدمي المعتزلة قالوا بالقبح والحسن الذاتيين بالمعنى المنطقي، فتلزمهم هذا الإلزامات. والحق أن تعقبه غير وجيه، لأن هؤلاء المتقدمين قلة، وقول هؤلاء القلة لا يبطل قول من سواهم، سيما أن هذه الأقوال كلها موجودة منذ زمن قديم عند المعتزلة، وانظر اعتذار عبد الجبار عن أبي علي الجبائي في فصل عقده في مُغنِيه (6/ 77-79): “في أن الفعل لا يحسن ولا يقبح لجنسه أو وجوده أو حدوثه أو انتفاء معنى غيره”.
([75]) حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي (3/ 266).
([77]) العلم الشامخ (ص: 192-193).
([78]) شرح الأصول الخمسة (ص: 644)، وانظر تمام الرد على البغداديين بعدها.
([79]) سلم الوصول المطبوع مع نهاية السول (1/ 268-269).
([80]) الكشاف (2/ 653). ومن العجيب قول ابن المنير في حاشيته: “هذه الآية يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه، وتسد طرق الحيل بين يديه، لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. وها هو كلام الزمخشري أمامك فأين التحريف؟!
([83]) بناء على أحد أصولهم الخمسة البدعية، وهو أصلهم الشهير الذي حكموا بمقتضاه بتخليد مرتكبي الكبائر في النار، المسمى: “إنفاذ الوعيد”.
([84]) مفتاح دار السعادة (2/ 956-957).
([85]) مفتاح دار السعادة (2/ 1122-1123).
([87]) مفتاح دار السعادة (2/ 1010).
([89]) نونية ابن القيم (ص: 84).
([91]) تبصرة الأدلة (ص: 755-756).
([93]) شرج العقيدة الكبرى (ص: 540).
([94]) شرح المنظومة الجزائرية (ص: 317).
([95]) منهج التحقيق والتوضيح (1/ 325).
([96]) التحرير والتنوير (1/ 380-381).
([97]) نهاية الإقدام (ص: 379).
([98]) مفتاح دار السعادة (2/ 1145)، ونقل السفاريني كلامه في لوامع الأنوار البهية (1/ 332-333).
([99]) مجموع الفتاوى (8/ 428-429).
([100]) الأبحاث المسددة (ص: 481).
([102]) نفائس الأصول (1/ 353-354)، ونقله حلولو في الضياء اللامع (1/ 153).
([103]) درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح (ص: 83).
([104]) البحر المحيط (ص: 145). قال في المسائل المشتركة بين أصول الدين وأصول الفقه (ص: 75): “وذكر الزركشي أن الأصوليين الناقلين لهذه المسألة -ومنهم القرافي- قد أحالوا المعنى، ونقلوا عن المعتزلة ما لا ينبغي لقائل أن يقول به”. وذكرُه القرافي هنا غير صحيح، كيف والقرافي هو معتمد الزركشي في تخطئة أولئك النقلة من الأصولين، لا أنه واحدٌ من المخْطئين.
([105]) تشنيف المسامع (1/ 561).
([106]) التحرير لما في منهاج الأصول من المنقول والمعقول (ص: 98). وانظر: معراج المنهاج للجزري (1/ 111-112).
([107]) البدور اللوامع (1/ 189).
([108]) حاول الماتريدية القائلون بتعذيب من لم يرسل إليه رسول أن يفرقوا بين مذهبهم ومذهب المعتزلة بأن نقلوا مذهب المعتزلة على غير ما هو عليه، قال ابن الهمام: “ونقل هؤلاء مذهب المعتزلة على خلاف المهيع الأول، قالوا: العقل عندهم إذا أردك الحسن والقبح يوجب بنفسه على الله وعلى العباد مقتضاهما، وعندنا: الموجب هو الله تعالى، والعقل آلة يعرف به ذلك الحكم بواسطة اطلاعه على الحسن والقبح الكائنين في الفعل”. وهذا فيه بحث ومناقشة، انظر مناقشة المقبلي لابن تاج الشريعة في نسبته هذا الكلام للمعتزلة في العلم الشامخ (ص: 168) وما بعدها.














