ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ
أحد عشر ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ.
مما يتكرر كثيراً ذكرُ المستشرقين والعلمانيين ومن شايعهم أساميَ عدد ممن عُذِّب أو اضطهد أو قتل في التاريخ الإسلامي بأسباب فكرية وينسبون هذا النكال أو القتل إلى الدين ،مشنعين على من اضطهدهم أو قتلهم ؛واصفين كل أهل التدين بالغلظة وعدم التسامح في أمورٍ يؤكد كما يزعمون مبدأُ حرية الرأي على وجوب التسامح معها كالردة عن الدين أو القول بوحدةٍ الأديان أو الحلول و الاتحاد ؛ بل لا يرون أن يُلامَ أصحاب هذه الأقوال .
وفي هذه الأيام رأينا تغير اللهجة ،وأصبح من يُرمَون بعدم التسامح ليس المتدينون بل نوع واحد منهم ،وهم كما يُعبر هؤلاء عنهم :المتطرفون دينياً؛ و كلمة التطرف الديني كلمة غير مُعَرَّفَة يستطيعون الاعتذار عن كل أحد عندما يُخالفهم بأنهم لم يقصدوه ، فإذا تكلم السلفي قالوا لا تقصدكم وإذا تكلم الأشعري قالوا مثل ذلك ؛ ولهذا نرى هذه التهمة تصدر اليوم عن أناس يُعدون من أهل الدين ، أو لنقل من أناس لا يعدون مناوئين للدين ، وإن كانوا بمثل هذه المقالات وترديد هذه الأسماء قد يضربون أهل الدين في مقتل عند من يكتفون بقراءة المختصرات ويفرحون بها كالكثير من متفذلكة هذه الأيام الرقمية.
وسوف أذكر عدداً ممن ذكروهم مبيناً لمن لا يقرأون من قتلهم وسبب قتلهم ﴿لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢]
فأول أولئك غيلان الدمشقي[١٠٦هـ] وقد قتله هشام بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ورأس دولة المسلمين ، وقد ثبت نفيه للقَدَر أمام الخليفة ؛ وهو ـ أي قوله ـ أن الله لم يخلق الشر ولا يريده ، وهذا كلام خاطئ ؛ إذ إن الله خالق كل شيء كما قال تعالى ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ وَكيلٌ﴾ [الزمر: ٦٢] فقد خلق الخير والشر ، وعلم أن من عباده من سيعمل الخير ومن عباده من سيعمل الشر ، فكتبه عليهم ؛ وقد أيد علماء تابعي صحابة رسول الله كلهم فعل الخليفة ، وكاتبوه بذلك ، وهؤلاء هم أعلم الناس بالإسلام بعد صحابة نبيهم ، وليس لأحد أن يقول في الإسلام بعد هؤلاء قولاً يخالفه .
وثاني هؤلاء الجعد بن درهم [١٢٤هـ]وقد قتله خالد بن عبد الله القسري بأمر الخليفة ، وذلك أنه أنكر أسماء الله تعالي وأنكر صفاته وجَمَعَ بين الإرجاء والجبر ، فقال بالإرجاء حتى قال إن من أقر بالله ولم يطعه كفرعون وإبليس مؤمن ؛ وقال بالجبر حين قال إن الإنسان مجبر على أفعاله كالريشة في مهب الريح ؛ وهو حقيقةً كما بين الأمير مقولتَه حين قتله قال : إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ؛ وهذا تكذيب للقرآن الكريم ؛ ولم يخالف في قتله جميع التابعين إذ ذاك ؛ فدلنا إجماعهم أن قتله كان صحيحاً وذلك لشناعة قوله .
وثالثهم عبد الله بن المقفع [١٤٢هـ ]وقد قُتِل في حملة أقامها الخليفة المهدي على من اتُهِم بالزندقة ، ويقول معاصروه : إنه بدر منه ما يؤكد تهمته ، فإن كان قد أُخذ بشبهة فنسأل الله أن يرحمه ويسامح الخليفة المحسن الذي أزعجه تآمر الزنادقة منكري الرسالة والبعث على الدولة ، فأقام هذه الحملة عليهم ؛ وإن كان قد قُتِل حقاً وليس اشتباهاً ، فالواجب علينا الدعاء للخليفة المهدي الذي قمع الزنادقة في ذلك الحين ، ولو نجحوا في تآمرهم في وقته لزادت مصائب الافتراق التي نعانيها اليوم مصيبة كبيرة في الدين والدنيا.
ولمزيد من المعرفة ، فإن ابن المقفع ترجم قبل إسلامه سيرة مزدك ، وترجم بعد إسلامه كتاب المدخل إلى المنطق لأرسطو طاليس المعروف بإيساغوجي ، وهو أول من أدخل فن المنطق إلى اللغة العربية ، وهذه وإن ذُكِرت في محامده فليست في رأيي بمحمدة .
ورابعهم الإمام الجليل ذو القدر الرفيع والمكانة العظمى في الإسلام وبين المسلمين ، أحمد بن حنبل الشيباني[٢٤١هـ ]ولم يكن المستشرقون ، ولا من حذا حذوهم من أبناء المسلمين يذكرونه حين سردهم لمن قُتِلوا أو عذبوا بسبب آرائهم الفكرية ، لا هو ، ولا أحمد بن نصر الخزاعي[ ٢٣١هـ]الذي قَتَله الخليفة الواثق ؛ وذلك لكون محنتهما مَحْمَدَةً في تاريخ الفكر السلفي ، وسوأةً في تاريخ الفكر المعتزلي التي يرومون سترها ؛ وذَكَرَهما حديثاً بعض المخرفين ، إما لأنه لا يعرف ، وإما رغبة في تشويه تاريخ الإسلام وأهله.
وسبب محنة أحمد بن حنبل وقتل ابن نصر :قولهما بكلام الله تعالى ورؤيته عز وجل ، كما جاءت به النصوص ، ولم يكونا رادين للدين أو زائدين عليه أو ناقصين منه ؛ كما أن ما سُمِّي بالمحنة آن ذاك لم يقتصر شره على الإمام أحمد ، بل كان شراً عظيماً على علماء الدين كُلِّهم سواء منهم من كان بالعراق أو في مصر أو في الشام أو المغرب ؛ وقد أورد كثيراً منهم الباحث فوزي فطاني في بحثه في مركز سلف : أشهر من امتحنوا في مسألة خلق القرآن ، ولكنها اشتهرت بالإمام أحمد لصلابة موقفه ، وطول فترة عنائه .
وكان خلفاء بني العباس قبل المأمون وبعد الواثق ، كلهم على ما كان عليه الإمام أحمد ، ولهم عقائد مؤلفة بأسمائهم كعقيدة الخليفة القادر ، وذلك حتى آخرهم الخليفة المستعصم بالله الذي قتله المغول سنة ٦٥٦هـ
وخامسهم الإمام محمد بن جرير الطبري[٣١٠هـ] صاحب التفسير الذي لم يؤلف مثله ، وصاحب أبي كتب التاريخ وأمها ، تاريخ الرسل والملوك.
وهو كالإمام أحمد وأحمد الخزاعي ، لا يكثر المستشرقون من ذكره ولا مَنْ حذا حذوهم من أبناء المسلمين ، لأن أذاه رحمه الله لم يكن بأيدي الحكام ولا أيدي العلماء ؛ وإنما هاجت عليه العامة حين ألّف كتابه اختلاف الفقهاء ولم يذكر أحمد بن حنبل محتجا بأنه يراه من أهل الحديث لا من أهل الفقه ؛ وهي محنة يتعرض لها جميع العلماء وليست خاصة بالإمام الطبري.
سادسهم الحسين بن منصور الحلاج[٣٠٩هـ] وهو من رؤوس الفتنة والإفساد في الأرض ، وقد قُتِل قضاءً ، أي بحكم حاكم في الدولة ، ولم يُقتل حتى أُخِذَت البينات عليه ، فبان من خلال المحكمة أنه حلولي اتحادي ، يؤمن بوحدة الأديان ولا يرى دينا واحداً ، ويبيح المحرمات المقطوع بتحريمهن ؛ وقد أجمع فقهاء بغداد وقت محاكمته على صحة ما حُكِمَ به عليه ، وحين شاع نبأ قَتله أجمع من عرف الحلاج على صحة ذلك ، وكذلك أكثر الصوفية في وقته ، ولم يخالف فيه إلا الصوفية المؤمنون بالحلول ، والذين جاءوا من بعد الصوفية الأوائل ؛ وحُكْمُ هؤلاء حكم من عاصر الأمر وخبره ، وهم مصدقون فيما خبروه مؤيدون فيه .
سابعهم أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان [٤٤٩هـ] قيل حديثاً : إنه حُبِس ، ولا أعلم من أين أُتِيَ بهذه المعلومة ؛ والذي نعلمه : أنه لم يمسسه ضر من قِبَلِ الناس ولا من قبل الدول ، وعاش ستاً وثمانين سنةً وسافر قليلاً ، وله في شعره أبيات إن صحت له ففيها إلحاد صريح ، وله كُتُبٌ طويلة في الوعظ ككتاب الفصول والغايات ، كما له كتاب زجر النابح ، وهو يرد فيه على من اتهمه بالإلحاد.
ثامنهم : إخوان الصفا وخلان الوفاء[القرن الرابع] وهؤلاء لم يُظهِروا أسماءهم في رسائلهم المشهورة ، وإلا فأسماؤهم معروفة ، وقد أثَّرت رسائلهم في الفلسفة في عصرهم ؛ وكانوا امتداداً للحركة الباطنية ، وأرادوا تغيير طريقة الناس في النظر إلى الفلسفة ، فجاؤوا برسائلهم التي احتوت على أشياء جميلة وأشياء مما يوجد عند غيرهم ويمكن الاستغناء عنه وأشياء باطلة ؛ ولم يجبرهم أحد على كتمان أسمائهم ، وكانت رسائلهم تنتشر في ظل الدولة البويهية والقرمطية والفاطمية والأخيرتان اسماعيليتان ، ويذكر البعض أن أحمد بن عبد الله التقي حفيد إسماعيل بن جعفر الصادق هو من كتب الرسالة الجامعة ، وهذا خطأ وادعاء محض إذ إنه توفي سنة ٢٦٠ هـ و زيد بن رفاعة وهو رئيس إخوان الصفا توفي سنة ٣٢٠.
تاسعهم محمد بن أحمد بن رشد الحفيد[٥٩٠ هـ]وهو عالم جليل في فقه مالك وأصول الفقه وفقه الخلاف ، ويعد إمام الفلاسفة في وقته.
ولا يُعلم أنه قُتِل ، وقيل بل غضب عليه المنصور يعقوب بن يوسف ، وهو ملك الموحدين في المغرب،ونفاه ثم عفا عنه ، لكنه مات قبل أن يستفيد من العفو.
والموحدون هم من أدخل المذهب الأشعري إلى المغرب، وكانوا في بدايتهم يقتلون المالكية ومن لا يقول بالأشعرية ، ولا بكتاب المرشدة لمحمد بن تومرت مؤسس دولتهم ، وليس ابن رشد بشيء عند جرائم عهدهم الأول ، أما عهد الخليفة المنصور فكان عهد عمارة وجهاد والله سبحانه أعلم منا بهم .
وعاشرهم: الحسين بن عبد الله البلخي الشهير بابن سينا [٤٢٨هـ] وكان طبيباً ماهراً وفيلسوفاً كبيراً ؛ ويقر له المسلمون بالتقدم في الطب والبراعة فيه ؛ ولم يصبه من المشتغلين بالدين ولا عوام المسلمين أي ضرر ، وإنما أصابه الضرر من توليه الوزارة لملك همدان ؛حيث حسده بعضهم فأوغروا صدر الملك عليه ونهبوا داره ، ثم مرض الملك فطلبه واعتذر منه ووزره ثانية .
وكفره العلماء لأقواله الفلسفية الكفرية ،ومع ذلك لم يُجَنِّحُوا من أخذ من علمه الصحيح النافع وهو الطب؛كما إنه تاب آخر عمره ، وتصدق بماله وأعتق مماليكه وأخذ يختم القرآن كل ثلاثة أيام ، فرحمه الله .
والحادي عشر :هو علي بن محمد بن العباس أبو حيان التوحيدي[٤١٤هـ ]ولم أر أحداً من الناس أزرى به أو عابه في حياته ،وإنما شكا هو من الوزيرين الصاحب بن عباد وابن العميد ،حيث اتصل بهما ولم يبلغاه ما أراد ، ولم يُحرق كتبه إلا وهو في التسعين من العمر ، وهذا إما أن يكون ضناً من بالكتب على الناس ، أو تراجعاً عن بعض ما كتب ، أو أنه بلغ من الكبر عتياً فجاءه من التَّغَيُّر ما يكون لأمثاله.
أما ذم تدينه ومدحه فلم أقرأ ذلك إلا بعد وفاته ، وكان أول من ذكر قلة دينه ابن الجوزي فيما لا أزال أعتقده ، والله أعلم.
هذه أسماءٌ اعتدنا على تكرار بعضها عند المستشرقين والعلمانيين ؛ والبعض الآخر أضافه بعض المحدثين.
ولا يذكرون ما أصاب مئات العلماء زمن محنة خلق القرآن ، ولا يذكرون ما أصاب أحمد بن تيمية شيخ الإسلام وأخواه ، زمن إعلانهم بصفات الله تعالى وإنكارهم الاستغاثة بالمخلوقين ، وكذلك تلاميذ شيخ الإسلام كابن القيم وابن كثير ، وتلاميذهم كابن أبي العز الحنفي ، وكذلك لا يذكرون خوف العلماء من الجهر بعقيدتهم في الصفات ، كي لا يصيبهم ما أصاب ابن َ تيمية وذلك كالمقريزي صاحب الخطط الذي ألّف كتاب التوحيد ملخصاً عن ابن القيم ، وابن حجر العسقلاني الذي ينقل كلام ابن تيمية كثيراً ، وكثيراً ما يرجحه ، لكنه لا يتكلم في باب الصفات، وأني له أن يتكلم .














