مصادر التشريع وأثرها في وحدة الأمة (محاضرة مفرغة ومقابلة)
للتحميل كملف pdf اضغط هنا
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أصحاب المعالي والفضيلة، أيها الإخوة العلماء والباحثون المشاركون في مهرجان الجنادرية الثاني والثلاثين، أيها الإخوة الحضور جميعًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وإني بادئ ذي بدء أحمد الله تعالى على جليل نعمه وتواتر آلائه وحسن عطائه وكثرة مغفرته ورحمته ومَنِّه وعفوه لعباده المؤمنين، كما أني بهذه المناسبة أشكر لوزارة الحرس الوطني ممثلة في سمو الوزير ومعالي النائب وجميع الإخوة الذين أعدوا لهذه الفعاليات الثقافية والفكرية في مهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة في دورته الثانية والثلاثين، كما أني أشكر لأخي وزميلي وصديقي فضيلة الأستاذ الدكتور: توفيق بن عبد العزيز السديري كَرَمَهُ بهذه الكلمات التي لو وصلنا منها إلى أن نكون جميعا طلاب علم ونبحث عن الحقيقة ونراها في نهضة الأمة لكنا على خير، فنرجو الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا وأن يوفقنا وأن يجنبنا العثار في القول والعمل.
كما أسأله سبحانه أن يجزي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين خير الجزاء على ما بذلوه من الخير في عزّ الإسلام والمسلمين وقوة هذه الأمة وفائدة عباده.
أيها الإخوة الكرام، هذه المحاضرة عنوانها: “مصادر التشريع وأثرها في وحدة الأمة“، والموضوع لم يكن من اختياري، إنما عرضت علي ثلاثة موضوعات، ثلاثة عناوين، واخترت هذا العنوان، وحين اخترته لم يكن في بالي أين سيكون الاتجاه؟ لكن يتضمن مفردتين مهمتين أحبُّهما؛ المفردة الأولى: مصادر التشريع، والمفردة الثانية: وحدة الأمة.
فمصادر التشريع يهتم بها كل طالب علم، وكل فقيه، وكل باحث في الفقه وأصوله؛ لأن مصادر التشريع هي المرجع الذي به يكون الحكم عند الفقهاء وعند أهل الديانة في ما اختلف فيه الناس من أمور.
والمفردة الثانية: وحدة الأمة، وحدة الأمة مطلب عزيز عظيم، كلُّ مخلص لله عز وجل ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين ولعامتهم، فإنه يطلب هذه الوحدة؛ لأن الخير في الاتحاد والقوة في الوحدة، والتفرق فيه الضعف وفيه قوة الأعداء.
فالمفردتان مهمتان لكن إلى أين سنتجه في عرض هذا الموضوع، هل سنأخذه مأخذًا أصوليًّا؟ فندخل في مباحث مصادر التشريع ونعددها، والأدلة المتفق عليها والأدلة المختلف فيها والمذاهب في ذلك، وما اتفقوا عليه منها وما اختلفوا فيه منها، وندخل في دليل القرآن ودليل السنة وكيف يكون الاستدلال؟ إلى آخره، أم نذهب إلى عرض مصادر التشريع كليًّا ونأخذ الحصيلة؛ النتيجة، المآل، من كونها حجة.
نفترض افتراضًا أن مصادر التشريع الإسلامي مقبولة عند المتلقي الذي يسمع هذا الكلام، لا يناقش في أن القرآن حجة والسنة حجة والإجماع حجة، والقياس حجة على نحو ما، ونحو ذلك، نفترض القبول، مع أن هناك الفكر العلماني المتطرف –وهو موجود- يقول: ليس القرآن بحجة، ولا السنة بحجة، ولا الإجماع بحجة، إلى آخره.
فنفترض افتراضًا مبدئيًا أننا سنتناول من يهتم بنهضة الأمة وبوحدة الأمة من جهة شرعية؛ هناك من ينظر إلى الوحدة من جهة لغوية، ومن ينظر إلى وحدة الأمة من جهة قومية -الأمة العربية أو أمم أخرى- ومنهم من يفترض أن تكون وحدة الأمة على نحو التفكير العلماني، بالعلمانية الشاملة، وهناك آراء كثيرة.
وحدة الأمة ومصادر التشريع نعرضها في البداية بإيجاز؛ في أن العلاقة بين مصادر التشريع ووحدة الأمة علاقة فقهيًا سليمة؛ لأن وحدة الأمة كانت من أسباب وجودها وحدة منهج التلقي، وحدة أدلة التشريع، لذلك إذا كان هناك في مقام الاستدلال عند تقرير الحاضر النظرة لما حولك، النظرة للكون، النظرة لتعامل الإنسان مع ا لإنسان، النظرة لتعامل الإنسان مع الموافق، مع المخالف، مع دولته، تعامله مع الكون، مع البيئة، ما هي المرجعية في تحديد علاقة الإنسان بما حوله من جهة كلية، المرجعية في هذا الطرح هي مصادر التشريع؛ يعني: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والقواعد الشرعية، ومقاصد الشريعة الكلية.
لذلك نهضت الأمة، حين نهضت واتحدت، حينما كانت متمسكة بالمرجعية في منهج التلقي وفي مصادر التشريع؛ يعني الحجة في مصادر التشريع التي أقرتها الأمة على اختلاف مناهجها، أقرت بالقرآن، وأقرت بالسنة على نحو ببعض الاختلاف، وأقرت بالإجماع على نحو من الاختلاف؛ وأقرت بالقياس أيضًا بخلاف، وأقرت يعني باختلاف في بعض صوره، بعض مسائله، أقرت بكثير من القواعد، خاصة القواعد الكلية العامة، وترتب على هذا الإقرار أن يكون الاختلاف في الأمة محدودًا حتى انقضى القرن الأول، دخلنا في القرن الثاني زاد النقاش في موضوع الاحتجاج بالمرجعيات كيف يحتج بهذا، ثم ظهرت الكثير من التفاصيل الفقهية في نوعية الاحتجاج، زادت الفِرَق.. كلما صار هناك بُعْد عن منهج التلقي الواضح في القرن الأول الهجري، زادت الخلافات وصار هناك بحث في الموضوعات حول ذلك.
بالتالي زادت الفِرَق زادت الأطروحات الفلسفية، الأطروحات الكلامية، زادت المذاهب السلطوية، اتجاهات الحكم، وتعددت الدول إلى آخره، حتى ضعفت الأمة بذلك.
في وقتنا الحاضر، لا شك أن الوضع -وضع الأمة في تفرقها- وضعٌ لا تحسد عليه، فهي في أشد حالات ضعفها فيما مر، ولا نقول: إنها في فترة سابقة كانت أضعف والآن صارت أقوى، ليس الأمر كذلك، الآن هي أضعف ما يكون، لماذا؟ لأن الوحدة المطلوبة -وحدة الأمة المطلوبة- الآن تضرب في صميمها، بطرح المفاهيم الكبرى الجديدة التي هي منوطة بالفكر الماسوني العام وتفريعاته في العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
كذلك الفرق ما بين الدين والثقافة، سلطة الدين وميادين الثقافة، وأن لا يكون هناك علاقة بين الدين والثقافة، وأن لا يكون هناك علاقة بين الدين والدولة، وأن لا يكون هناك علاقة بين الدين والقِيَم، وأن لا يكون هناك علاقة بين الدين وسلوك الناس.
كذلك البعد الاقتصادي، وأثر هذا البعد الاقتصادي في تكوين البعد الثقافي، والعولمة مثال كبير لذلك؛ حيث إن سيطرة العولمة في فكر العولمة في أساسها فكرة اقتصادية بامتياز.
بالتالي فإننا حين نتحدث عن وحدة الأمة؛ فنتحدث عن أمر صعب جدًّا على الحقيقة، والتحدّي فيه كبير جدًّا، بل إن الأمة الآن يراد لها أن تكون متفرقةً شذر مذر إلا أن تجتمع على مصلحتها الدنيوية بمفهوم العلمانية الجزئية ومفهوم العلمانية الشاملة.
العلمانية الجزئية ماذا تعني؟ العلمانية على مستويين، العلمانية الجزئية تعني: فصل الدين عن الدولة، بمفهوم “لا علاقة للدين بالدولة”.
الدولة، ما هي؟ الدولة هي عبارة عن حكم وأرض وناس وتشريع، هذه العلاقة بين هذه الأشياء لا دخل للدين فيها، وبالتالي فلا يمكن أن تتوحد الأمة على منظور ديني، لماذا؟ لأن الفكرة السائدة الآن: لا بد أن تدخل الأمة في العولمة، تطرح وتبعد عن تميزها الثقافي أو خصوصياتها، وهناك علاقة متينة جدًّا ما بين موضوع العلمانية وموضوع الخصوصية، وموضوع العولمة وموضوع الخصوصية.
النوع الثاني من العلمانية، هي العلمانية الشاملة، يعني: “انفصال الإنسان عن الدين” بكل الإنسان، يعني انفصال في قيمه، في ثقافته، في فكره، في طريقة تعامله مع نفسه، تعامله مع من حوله، فالعلمانية الشاملة والعولمة -المطروحة حاليًّا- هي سلب لسيطرة أو لمرجعية أو لمنهج التلقي، يعني لا وجود لمرجعية لمصادر التشريع، مصادر التشريع تبقى في دائرة العلماء، في بحوثهم الفقهية فيما يتسامرون به ويؤلفون ويناقشون في الجامعات، لكن يجب ألا يكون هناك دخل وصلة ما بين هذا المنهج -منهج التلقي الرباني- وما بين حياة الناس.
لذلك المعركة أيها الإخوة اليوم معركة كبيرة، أشد ما يكون في التاريخ؛ المعركة ما بين الإسلام وما بين الأفكار الأخرى هي في هذا الوقت في العالم، وهذه المعركة الكبيرة هي: معركة في الأساس فلسفية، ثم نزلت من الفلسفة -الفلسفة الدينية والفلسفة الإنسانية- إلى دوائر السياسة، والفكرة العامة هي في الأساس ماسونية، لأن الماسون من أوائل ما أرادوا تثبيته في الناس ليكون هناك منهج له، هو: العلمانية الجزئية بفصل الدين عن الدولة، هذه صرحوا بها في وصاياهم وفي كتبهم، والعلمانية الشاملة بالإبعاد عن القِيَم.
لذلك كل علاقة تراها ما بين إبعاد الشريعة عن واقع الحياة فهي فكرة ماسونية علمانية تهدف إلى عدم وجود الدين في حياة الناس، هل هم أعداء للدين لأجل الدين؟ أو لأنهم يقتنعون أنه لا صلاح للناس بالدين؟ وهناك من العرب من يؤيد ذلك ويقول: الإنسان يمكن أن يكون مع الإنسان وحدة واحدة وأمة واحدة.
أحد العرب العلمانيين المفكرين يقول: الناس يمكن أن يكونوا أمة واحدة لو لم يكن هناك قرآن سنة وأنبياء، ويقول: القرآن دلَّنا على ذلك، هو يقول: القرآن “ليس دليلًا”، هو يقول: القرآن دلَّكم على ذلك في قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) البقرة: ٢١٣.
كان الناس شيئًا واحدًا، ولكن جاءت الأنبياء ففرّقتهم، وهذه الفكرة فكرة موجودة الآن: أن الناس يمكن أن يكونوا أمة واحدة، ولكن عدو الوحدة -وحدة الإنسان- هي: الديانات، ويضربون الأمثلة، ليس بالدين الإسلامي فقط، يضربون باليهودية في بعض جمعياتها وتجمعاتها ومنظماتها، وكذلك بالمسيحية في بعض تجمعاتها وكنائسها، وبالإسلام.
هنا إذا تكلم الغربي عن الإسلام المضاد للفكرة الغربية، أو للعلمانية الشاملة فإنه يأتي ويقول: “الإسلام في المدرسة السلفية“، والمدرسة السلفية عندهم تشمل كل المدارس التي تقول: إن مصدر التشريع -الذي يجب الرجوع إليه لتحديد علاقة الإنسان بنفسه بمن حوله، ببلده، بالإنسان الآخر- القرآن والسنة والإجماع والقواعد والمقاصد.
مَن احتجّ بهذه المصادر يعتبرونه مدرسة سلفية، المدرسة غير السلفية التي تقول: إن القرآن يناقش بالعقل، نقبل منه ونذر، السنة نقبل منها ونذر، ولذلك يذكرون كثيرًا نقد الموروث في منظومات الحداثة، الحداثة هي مفهوم فلسفي كبير للعلمانية، لكن هي الحداثة وما بعد الحداثة، وتفصيلات ذلك تؤدي أن كل شيء يجب أن يكون تحت النقد، في النهاية لا يكون هناك احتجاج بمصادر التشريع، ففي المفهوم الغربي والدراسات الغربية الفلسفية سواء في الجامعات أو الفلاسفة السياسيين أو الفلاسفة الدينيين، إذا قالوا: “السلفية” فإنهم لا يعنون بها ما نفهمه نحن بالسلفية، يفهمون السلفية يعني الذين يقولون: إننا نرجع إلى أصول السلف في الاحتجاج، أصول الأئمة الأربعة في الاحتجاج في مصادر التشريع وهي: القرآن والسنة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة والقواعد الكلية والمقاصد العامة، إلى آخر ذلك.
عدم إدخال العقل في هذه المدرسة جعلهم ينظرون إلى أنها السلفية، فأشد المدارس عداوة للحداثة عندهم هي السلفية بالمفهوم العام لها، لكن إذا أردنا أن نأخذ صورة أخرى فإن المدارس الأخرى التي تنفصل عن مدرسة تعظيم مصادر التشريع إلى نقد مصادر التشريع هذه يحبذونها ويطلق عليها مدارس مختلفة بأسماء مختلفة، بحسب المصطلحات الموجودة.
لذلك البحث في وحدة الأمة، بحث صعب، صعب جدًّا، الأمم تتحد بجامع اللغة، تتحد بجامع الإقليم، تتحد بجامع التاريخ، بجامع الدين، تتحد بأنواع من الجوامع، لكن الأمة الإسلامية من المستحيل في المعطى الحاضر أن تتحد، لماذا؟
أولا: لأننا أمام سؤال ضخم وصعب وهو كيف تتحد؟
والسؤال الثاني الصعب، ما هي عوامل هذا الاتحاد؟ وسائل هذا الاتحاد؟
والسؤال الثالث الصعب أيضًا، هل الأمة في نظرتها لبعضها البعض متفقة أم مختلفة؟
إذا بدأنا بالسؤال الثالث، هل الأمة في نظرتها لبعضها البعض مختلفة أم متفقة دائما؟ تنظر إلى أن من لا يعي المعركة فإنه يظن أن صدام بعض طوائف الأمة مع بعض بقوة هذا يؤدي إلى تنقية الصف وإخراج الحقيقة، وهذا ليس كذلك، هو كذلك لو كان الجو غير هذا الجو، والقوى غير هذه القوى، والواقع غير هذا الواقع، والمجتمعات الدولية بغير هذه النظرة.
لكن مع سيطرة الحداثة والعولمة والعلمانية والماسونية بشكلها أو بأحداثها العامة فإن من الصعب أن نقول: إن تفرق العلماء وضرب بعضهم لبعض بحثًا عن الحقيقة أنه يؤدي إلى وحدة في المستقبل، ذلك المستقبل يتجه في اتجاه واحد فيما أرى، الكلمة هذه أقولها صعبة، لكن يتجه -في العالم- ليس في خصوص المملكة العربية السعودية، المملكة العربية السعودية لها خصوصيتها إن شاء الله ولها محافظتها، لكن نحن نبحث في الأمة وليس بحثًا داخليًّا، من الصعب جدًّا أن تتحد الأمة، لماذا؟
لأن النظرة الآن اقتصادية بالدرجة الأولى والثقافة تبع؛ وبالتالي لا رؤية لتوحيد الثقافة بل يراد أن تُحَطَّم الثقافة الخاصة، خصوصية الثقافة لا بد أن تحقَّق، لا يوجد خصوصية، ولذلك أي علماني يأتي يتحدث أو حداثي فإن أكثر كلمة تضايقه هي كلمة الخصوصية، كلمة خصوصية الأمة، لذلك هم لا يقبلون أن يكون هناك تلق لوسائل العيش الكريم.
الغرب تفوّق وقدَّم للبشرية خدمات جليلة بوسائل العيش الكريم، لكن هو لا يريد أن يصدِّر وسائل العيش الكريم للإنسان إلا مع ثقافة العلمانية الشاملة، ثقافة العلمانية الشاملة لا دخل للدين في القيم، لا دخل للدين في الأخلاق، لا دخل للدين في أي سلوك إنساني، يريد صاحب الدين أن يتعبد؟ نعم، تدرس الدين؟ تدرسه في نفسك ومَن معك، تَعَبَّدْ بنفسك، لكن هذا سلوك شخصي فقط لا دخل له بحياة الآخرين، وبالتالي فإن العملية صعبة جدًّا في أن يكون هناك بُعْد عن السيطرة الكبرى للحداثة؛ السيطرة الكبرى للعولمة.
الإنسان بطبيعته ضعيف، كيف يقوى؟ يقوى بقوة قياداته العلمية، يعني في الدين، القيادات العلمية غير متفقة على كثير من التفاصيل حتى إنها غير متفقة على بشاعة المعركة.
هل كل أحد يشعر أن الإسلام في تحدٍّ كبير الآن؟ الأمور تمشي بسهولة في العالم الإسلامي لكن في الحقيقة أن العالم الإسلامي يجرّد من هويته، يجرّد من مرجعيته ومصادر تشريعه، ويفصل في دينه عن دولته، ويفصل في أخلاقه وقيمه عن دينه، وبالتالي فإننا أمام الكثير من التحديات إذا كان الأمر كذلك لابد من أن يكون هناك مصارحة مع النفس حتى نعلم ما هي قوتنا.
الخطابة، القوة في المشهد الخطابي لا تفيد، العقلانية في معرفة الحال والمآل هي التي تفيد، المريض لابد أن يقول: أنا مريض، حتى يشعر بأنه لابد أن يعالِج المرض، نعم قد يطول علاج المرض لكن لابد أن يعالج.
هل نرضى بأن يكون وحدة الأمة يعفو عليها الزمن ونكون أقاليم؟ دول؟
كل دولة مسئولة عن نفسها، ويمكن بشكل أو بآخر أن تُضْعَف هذه الدولة بأي مقدر من مقدراتها، ويسيطر عليها بشكل من الأشكال دون أن تكون ضمن دول أخرى، هناك منظومات واجتماعات كبيرة وجمعيات ومؤسسات إقليمية ودولية، عربية، إسلامية، إلى آخره، لكن فاعلية تلك المنظمات في الدين، في الثقافة، في وسائل القوة، في عوامل الاتحاد، كلها وسائل ضعيفة، يُبْذَل جهود لكن ليست في مستوى التحدي، وهنا لابد من الذهاب دائمًا إلى القوى المتاحة، القوى المتاحة لتأصيل مصادر التشريع في الناس، وبقاء هذا الانتماء للدين وللتوحيد وللتبعية للإسلام والإيمان بالله عز وجل إلهًا وربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا، وأن شريعته لازمة وخاتمة، وأنه يجب على الناس أن يؤمنوا بالله عز وجل وبرسوله محمد بن عبد الله هو الرسول الخاتم، هذه الكلية تحتاج إلى أن تتعامل معها في خضم هذا التحدي الكبير بالمتاح، المتاح هي القوى الفردية، الرأي العام، بذل الجهد في إيمان الناس، وعدم النظر إلى تحدي الزمن، الزمن يلقي بظلاله تحديًا، القوى تلقي بظلالها في التحدي على نفس العالم، طالب العلم، نفس المفكر، في نفس المثقف الإسلامي، إلى آخره.
تلقي بظلالها ويشتد عليها حتى يكاد يرى أن لا مخرج لكن نحن أعطينا عزاء كبيرًا في أن الرسل لم ينتصروا، الرسل قاوموا، الرسل بذلوا لكن لم يصلوا إلى النتيجة فورًا، منهم من مكث مائة سنة، ومنهم من مكث مائتين سنة، منهم من مكث ألف سنة، لله الحكمة في قواعد المغالبة البشرية، قواعد المغالبة البشرية لله حكمة فيها، كيف تكون؟ ولماذا يمتحن المؤمنون سنوات طويلة؟ مائة سنة، مائتي سنة! لله حكمة في ذلك.
لكن كيف تتعامل أنت ديانة حتى تبرأ الذمة وتكون أنت متصل بالله عز وجل وفي نفسك مضاد للأفكار الإلحادية والأفكار اللادينية بصورها المختلفة؛ فكرة الليبرالية، العلمانية، العولمة، إلى آخره؟
هذه لابد أن يكون لدينا فيها بصيرة، البصيرة أنه لابد من اتجاه للأفراد -أفراد المسلمين-، وأن تنقذ ما أراد الله عز وجل إنقاذه، ما تيسر لك أن تخاطبه، من ذلك: التعاون في توجيه الرأي العام.
الرأي العام الإسلامي، مَن الذي كسبه في القرون الأولى؟ كسبه علماء الإسلام، لماذا؟ لأنهم يرجعونه إلى مصدر التلقي، فمهما تغيّرت سياسات دول، قامت الدولة الأموية وجاءت الدولة العباسية، ثمَّ تفرَّقت الدولة العباسية لدويلات؛ ثم ذهبت ثم جاء.. إلى آخره، لكن الناس في مرجعيتهم في دينهم مرجعية واحدة؛ لأن الارتباط بالعلماء جعل لهم هذا الثبات في ذلك مع وجود الاختلافات، ووجود الافتراق في أشياء، لكن الإيمان، مصادر التشريع، الرجوع إليها هذا أمر ثابت، لا تجد أحد يقول: الكتاب “ليس بحجة”، ولا “السنة”، و “لابد أن نعيد قراءة القرآن، نعيد تبويبه، ونعيد قراءة السنة، السنة يصح منها ما وافق العقل، وما لا يوافق العقل لا يناسب زماننا هذا، النبي ﷺ أتى إلى قوم في زمن مبكر يُصْلِحُ حال البادية ويصلح حال الأعراب، ويصلح حال لا يناسب زمن ناطحات السحاب، ولا لزمن الكمبيوتر، ولا لزمن الثقافة”.. إلى آخر مثل هذا الكلام.
أيها الإخوة الكرام، الذي يتداوله مَن يريد سيطرة الثقافة -ثقافة العولمة أو العلمانية-، ما يتداولونه لو سمعتموه لعلمتم حقًّا: أن المعركة كبيرة في العالم الإسلامي، معركة الوحدة هذه معركة ضخمة، وضخمة جدًّا، لذلك أنا من هنا أقول: من موقع البحث، لا من موقع المسئولية، من موقع البحث؛ الباحث المجرّد، وطالب العلم المتفحص يرى أننا أمام تحدٍّ كبير، تحدٍّ كبير، تحدٍّ كبير جدًّا جدًّا جدًّا، وهذا التحدي الكبير لا ينقذنا منه إلا أن نكون على قوة اتصال بالله عز وجل، وأن يكون الله عز وجل هو أغلى عندنا من أي شيء وأن يكون هو المقدّم جل جلاله على كل شيء.
هذا الإيمان هو الذي يكسر الأطروحات جميعًا، ولذلك معركة الفكر والثقافة، معركة الأخلاق، معركة القيم، معركة الدين في نفسه، هذه المعركة لا تظنونها سهلة، هي على أشدها في العالم كله، ولذلك الاتجاه أن يكون العالم بالعولمة صاحب ثقافة واحدة، يكون هناك خصوصيات خفيفة لكن يجب أن تنتهي خلال خمسين سنة، العالم كله لابد أن يكون بفكرة واحدة، بثقافة واحدة، وهي: الثقافة العلمانية المفتوحة.
الدين ليس له علاقة بالإنسان! ليس فقط الدولة، الدين ليس له علاقة بالإنسان! وسوف يكون يوم من الأيام فيما يأملون، ونحن بإيماننا بالله عز وجل نقول: لن يكون ذلك -بحول الله عز وجل وقوته-، فيما يأملون أن يكون هناك انتزاع ثقافي لكل ما يخصّ التاريخ الإسلامي، لذلك العلاقة ما بين الحضارة الإسلامية واللغة العربية والاعتراف بالدين هذه علاقة جوهرية.
القومية العربية جاءت قوية، وكان لها أهداف، لكنها خطرة في بعض المفاهيم، وموافقة في المفاهيم العلمانية، لكن خطرة في بعض المفاهيم، لذلك حوربت وَوُئِدَت.
القومية الإسلامية يعني: الأمة الإسلامية وجدت في عدد من الأطروحات ثم خُلْخِلَت، خُلْخِلَت حتى صارت ضعيفة، أو صارت في مجرى التاريخ، العلماء اليوم ما بين واعٍ للمرحلة وما بين غير واع، ما بين مَن يظن أن الآن يمكن أن يحقق للدين مكسبًا بأن يكون ضد إخوانه علنًا، ويجب أن يزيد من النقد لإخوانه العلماء والرد عليهم وإشغال النفس بذلك حتى يكون هناك انتصار للحقيقة.
وفي الواقع -أيها الإخوة- أن الفكرة العلمانية أقوى من فكرة المهتمين بالدعوة الإسلامية؛ لذلك بعض المهتمين بالدعوة الإسلامية، سواء كان اهتمامه سلفيًّا أو اهتمامه حركيًّا، بعضهم يُخْدَعُون ويمتطون؛ لتحقيق أهداف الرؤى الثقافية والعلمانية والحداثة، من حيث لا يشعرون، وفي النهاية يظن أنه مُصْلِح وهو ليس كذلك.
هنا دائما لا بد من الذي يعاني هذه الأمور، أن يسأل نفسه السؤال الكبير حينما يأتي أمر من المسائل المشكلة، التي قد يدخل فيها مما قد يؤثر في وحدة الأمة، ينظر مَن المستفيد؟ مَن المستفيد من وجود هذا الشيء؟
فنجد أن جواب هذا السؤال يحدد لنا جهة الاستفادة، فإذا كان المستفيد هو الحق، المستفيد هو: البحث، المستفيد هو: بيان الطريق، المستفيد هو: مصادر التشريع، حين ذلك يكون نقاش علمي في داخل الأمة صحيحًا، لكن إذا كان المستفيد هي: العلمانية، المستفيد هي: الحداثة -الحداثة الغربية، حداثة العولمة-، أو الثقافة -ثقافة العولمة-، إذا كان هو المستفيد فكيف يدخل فيها أصحاب فكر، كيف يدخل فيها أحرار لثقافة الأمة، كيف يدخل فيها من ينتمي بحقيقته إلى دين الإسلام؟
عدم الوعي ليس عذرًا؛ لأن اليوم كل شيء موجود، تدخل في أي مكتبة تجد كتب الإلحاد والعلمانية والحداثة، وكل الأفكار بتفاصيلها، والليبرالية، والليبرتالية، كل ما يتعلق بذلك، الليبرالية الحكومية، والليبرالية العامة، والحرية وأنواعها.
الحرية في مفهومها العام هي: تخلُّص الدولة وأنظمة الدولة من سلطان الدين، فهي تلتقي بشكل أو بآخر مع العلمانية، فإذا تخلصت الدولة من سلطان الدين في أنظمتها وفي تشريعاتها دخلنا في الفكرة الكلية لمضادة وجود هذه الأمة.
الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنهض إلا بعلمائها؛ لأن العلماء هم القادرون على أن يقولوا بما جاء في مصادر التشريع، والعلماء هم المؤتمنون في هذه المرحلة، ولذلك لابد للعلماء أن ينهضوا بواجبهم تجاه وحدة الأمة؛ باجتماعهم، بإزالة خلافاتهم، بتناسيها؛ لخدمة الهدف الأكبر وهو: ألَّا يُجْتَثَّ الدين، ألا يُجْتَثَّ الإسلام، وأن يبقى فقط يقال: فلان يصلي، فلان طيب، ولكن لا دخل له بالسلوك، لا دخل له بالقيم، لا دخل له بأنظمة الدولة، لا دخل له بالتشريع.
الله عز وجل يُعْزَل عن الحكم في أرضه، الله الخالق! هو الذي خلق، ومَن خلق فله الأمر، هذه عقيدة المسلم، وبالتالي مصادر التشريع: الكتاب والسنة والإجماع.. إلى آخرها يجب أن تحكم، كيف يجب أن تحكم لتتحد الأمة؟ عن طريق العلماء، أما عن غير طريق العلماء فلا تَثِقْ، لا تَثِقْ، لذلك العلماء يجب أن يرتبوا وضعهم، وأن يعيدوا حساباتهم، وأن ينظروا إلى المستقبل، وأنهم مؤتمنون عليه، وهم إذا خُدِعوا فإنهم هم الملومون.
تدخل اليوم في النت وترى جميع المواقع بجميع الأفكار، يمكن أن تفردها أو أن تقرأها مباشرة أو أن تفردها على ورق وتحلل وتنظر، تجد أن المسألة أكبر مما تتصور، وبالتالي فإنه يأتي من يريد التوفيق، وهؤلاء ناس عندهم إخلاص يريدون التوفيق ما بين الإسلام والعلمانية الشاملة، التوفيق يخرج لنا مدارس تنويرية مختلفة لكن في الحقيقة ليس لها نهاية.
أنت تنويري؟ طيب تريد أن تتوسط، طيب! ما هي الحدود؟ إلى أين؟ فسيتجه في النهاية بشعور أو بلا شعور، بتسليم أو لا تسليم إلى العلمانية الشاملة، أو يقول: لا، هذا حدِّي، طيب، لم وقفت عند هذا ولم تقف عند ما قبله؟ يقول: هذه حاجة، طيب، هذه الحاجة غدًا ستزيد، حاجة المجتمع ستزيد، اتهام الإسلام والدفاع عن الإسلام لا يعني أن تتخلى عن مصادر التشريع، لا يعني أن نقول: إننا نستغني عن الإيمان بالله كوجهة للمجتمع، وجهة للدول، نستغني عن التشريع في الحكم والقضاء، وفي الدساتير وفي التنظيمات.
التفكير بحل المشكلات يجب أن يكون تفكيرًا واقعيًّا، أن نكون في منتصف الطريق المستفيد هو القوي، دائمًا إذا جاء قوي وضعيف، الضعيف يقول: أنا سأحلّ جزءًا من المشكلة، يلتقي معه في منتصف الطريق، إذا كان الالتقاء في منتصف الطريق ممكنًا كحل شامل، يمكن أن يكون في القواعد الشرعية والمقاصد ما يؤديه، لكن -الحقيقة- أن الالتقاء في منتصف الطريق هو: خطوة لإزالة هذا المُعَارِض ولإقناعه؛ يقول: طيب نمشي قليلًا وبعد أربع، أو خمس سنوات تنتهي الفكرة، وينتهي صاحبها، ويكون هناك النهاية للتفكير الشامل اللاديني.
هنا نقول: إن طريق وحدة الأمة يكون عن طريق مصادر التشريع، عن طريق أهل العلم، غير ذلك فإن العلمانية الشاملة تكتسح، والعولمة تكتسح، معها قوى مادية، قوى تخطيطية، معها قوى إعلامية فظيعة، معها ضعف الإنسان، شهوات الإنسان، رغبته في الخلاص، الذي يريد نموذجًا إنسانيًّا جميلًا بحتًا، الكل فيه يعيش لوحده، يعيش كما يريد.. إلى آخره.
ما خلق الله عز وجل الحياة بهذه النظرة، لو كان الله عز وجل أَذِن بذلك كان شيئًا جميلًا وارتحنا، انتهت.. وضعنا النقطة، وأغلقنا الكتاب، لكن الله عز وجل ما خلق ذلك، لذلك يقول بعض مَن يقول: إنه يجب للأمة أن تتفتت، وأن تنهض من جديد بالفكرة العلمانية الشاملة، يقول بعضهم: إن سبب الغلو وسبب التطرف ليست هي أفكار الناس، هو القرآن، القرآن هو السبب، ويأتي ويعطيك بالآيات وبالأحاديث، يقول أحدهم -وهو مفكر مغربي علماني-: القرآن فيه خمسمائة آية في القتل، والقتال، والمواجهة، والإضرار بالآخر.. وإلى آخره، وفيه كم آية في الود والسلام وإلى آخره.
ما نريد أن نسيء أسماعكم بمثل هذا، لكن لتفهموا أن هناك مَن يقول: المشكلة في القرآن، في بعض البلاد لا يجسرون على ذلك، ما وصلوا إلى مثل هذه المرحلة، لكن اعلم أن مَن هاجم الإسلام هو يريد “القرآن”، يريد مصادر التشريع جميعًا أن تذهب.
يقول: القرآن سبب المشكلة، الكتب السماوية كلها (القرآن والإنجيل والتوراة.. إلى آخره) هي سبب، كل التطرف نتج من هذه الكتب، وبالتالي يجب إزالة الدين من الحياة، حتى يكون هناك حياة إنسانية راقية وعدم دخول في ذلك.
هذه الأفكار مؤثرة في المسلمين، وبالتالي هي عنصر هدم قوي في بناء وحدة الأمة، بل هي معوق كبير جدًّا جدًّا في ذلك.
هنا نأتي إلى أن المرحليات -مرحليات العودة لقوة الأمة- وتوحيد الأمة عبر مصادر التشريع لابد أن يكون هناك اتفاق عليها، اتفاق على مصادر التشريع، ويكون هناك دعوة للأمة إلى الاهتمام بمصادر التشريع، الذي نسميه نحن هنا في المملكة العربية السعودية: “التوحيد”؛ توحيد الله عز وجل في ربوبيته، إلهيته، أسمائه وصفاته، توحيد التشريع، الإيمان بما جاء عن النبي ﷺ، الشريعة حاكمة.
هنا إذا جاء كلمة “الشريعة حاكمة” يقولون: طيب، بأي مفهوم؟ الشريعة لا تصلح وفيها.. وفيها، إذا اقتنعنا بالمبدأ أمكن التجديد، لذلك عندنا مفهوم “التجديد”، ومفهوم “الانسياق مع العلمانية”، هذان مفهومان يَرُوجان على كل صاحب غيرة، وصاحب حب لله عز وجل ولرسوله، فأحدهم يأتي ويُخْدَع باسم التجديد، ولكن هو يجدد لا لصالح الدين، هو لصالح العلمانية الشاملة، وبالتالي فإنه ليس معذورًا؛ أن يقول: أنا أجدد وهو لا يعرف إلى أين يتجه هذا التجديد، يقول: أنا سأشترك مع فلان وفلان وفلان في منظومات جديدة للحياة في أننا نُيَسِّر ونُبَيِّن محاسن الدين الإسلامي.
طيب، ولكن لابد أن تعرف أن لا يأخذوا هم الثمرة وأنت في النهاية تكون أنت الذي تخسر، الدفاع عن الدين ليس شيئًا واحدًا.
نعم، الكثير يدافعون سواءً في الدوائر الغربية، عبر الجامعات، عبر المراكز، عبر البحوث، ومشكورين، ويؤدون جهدًا كبيرًا جدًّا في الدفاع عن الإسلام وتوضيح حقائقه، لكن الحقيقة أن البحث هناك ليس حرًّا، البحث بحث استبداد، البحث اليوم في العالم، حتى لو أتيح للمسلم أن يتكلم، للعالم الشرعي أن يتكلم هو بمنظور استبداد، نحن الأقوى يجب أن تسمع لكن نتيح لك فرصة تقول ما تريد، لكن الاستبداد هو الرائج في العالم، الاستبداد العلمي، الاستبداد الفكري، الاستبداد السياسي، هو الذي يمشي في العالم، لكن الطريق: هو أن يكون هناك عند المؤمن، وعند المسلم، وعند طلاب العلم، عند المفكرين، عند المثقفين، الذين يحملون همَّ هذه الأمة= أن يكون عندهم معرفة بالواقع، وأن يكونوا أهل حكمة ولين، وألا يستعجلوا الأمور بشيء لم يقدره الله عز وجل، وأن يعرفوا كيف تُؤخذ القوة، وكيف تمسك بزمام القوة، وكيف تصنع أجيال.
النبي ﷺ أتى لقوم مشركين وأسلم معه أبو بكر ﭬ وكانا اثنين فقط، ثم تبعهم ثالث.. إلى آخره، عشر سنوات كانوا شيئًا ومائة، يعني عدد قليل، بالمئات، ثم في المدينة زادوا وصاروا أكثر وأكثر، ثم بعد عشرين سنة صار الأمر: أن القرآن والسنة هي المسيطرة في أكثر الأرض، وهذا كله يعطيك أن العمل لابد منه، لكن لابد من صدق وإخلاص ومعرفة بالعدو، لذلك الله عز وجل في القرآن أكثر من ذكر الأعداء، أكثر من ذكرهم؛ طائفة من اليهود، طائفة من النصارى، المنافقين، الأعداء.. كذا، الشيطان، الأعداء… الأعداء.. الأعداء، وقال الله عز وجل لنا في سورة النساء بعد ذكر بعض العداوات الموجودة: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا) النساء: ٤٥
.
كفى بالله وليًّا، مَن لم يكتفِ بالله وليًّا له فليس له كفاية من أحد، ومَن لم يكتف بالله نصيرًا له فلن ينصره أحد، الجميع سيخذلك، إذا لم تنتصر بالله وتوقن في نفسك أن الناصر هو الله، وأن وليي الله، وباقي الناس وسائل تستخدمهم، تستفيد من كل الوسائل المتاحة، وسائل بشرية، ذاتية، وسائل دول، أو وسائل صناعات.. إلى آخره.
لكن لا يكون هناك: أننا نغمض الطرف ولا نعرف أين موقع القدم، هذا لا شك في أنه ضعف، ضعف في النظرة لوحدة الأمة وكيفية الأخذ بزمام القوة.
لذلك هنا نقول: أهل العلم يختلفون عن غيرهم، أهل العلم عندهم وعي، لكن عندهم حكمة ومعرفة بقدَرِ الله عز وجل، قدَرُ الله عز وجل يمضيه في كونه بالضعف والقوة، من أسماء الله عز وجل الحسنى: القابض الباسط، وهما اسمان مقترنان يُطلقان معًا على الله عز وجل.
القابض الباسط؛ لأنه سبحانه كما قال في القرآن: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة: ٢٤٥،
قبض الله عز وجل حتى يقبض الديانة، ويبسط غيرها، ثم يبسط الديانة، ويقبض غيرها؛ لأن حكمته c في خلقه تقتضي ذلك، لكن الابتلاء حاصل لكل واحد منَّا، الابتلاء حاصل، أما أن نعتبر أنه لا وجود لمعركة، وأن هذه في أوهامنا، وأن الناس لا يخططون للعلمانية الشاملة في الأرض، وأن الناس لا يريدون من الدول الإسلامية إلا أن تكون كذا، وأن المعركة تسهيل وتسطيح الأفكار= هذا لا يمشي ولا يعرفه مَن لا يعرف كيف يفكر الناس.
نعم، لا نبالغ في التفكير السلبي لكن نكون على وعي، لابد أن نكون على وعي؛ حتى نتجه إلى مرحلة قادمة.
التأثير على القوى الموجودة كل على حسب قدرته، الإنسان منَّا لا يعيش في دوامة لوحده هو يعيش في بيته، يعيش في عمله، يعيش ضمن مؤسسة، يعيش ضمن دولة، يعيش ضمن…إلخ.
لابد أن يكون له أثر في كل مكان هو فيه، لكن لابد أن يكون عنده وعي؛ لأنه إذا لم يكن عنده وعي مُررت أشياء، وقد يستطيع وقد لا يستطيع، لكن يكون عنده وعي؛ ليعرف إلى أين يتجه العالم، وبالتالي لا يخدع؛ لأنه اليوم المعارك أكبر مما تتصور.
خذ مثلًا واحدًا: معركة المصطلح، كلمة بسيطة! لا تؤثر، المصطلح يرمى أولًا من أناس يفكرون، فلاسفة يفكرون في كيفية أثر المصطلحات في الناس، الأمة الإسلامية أمة متأخرة في صناعة مصطلحاتها، مع أن مصادر التشريع القرآن والسنة هي التي صنعت المصطلحات الجديدة التي تختلف عن استعمالات العرب لنقلها إلى المستقبل، ما يسميه ابن فارس في فقه اللغة “الأسباب الإسلامية” ألفاظ جديدة، جاءت مصطلحات في كل شيء، مصطلحات انتقلت لماذا؟ لكي يكون هناك استعمال بمصطلح جديد بمفهوم الإسلام، لا بالمفهوم العربي الأول، الآن مصطلحات نحن نتلقى، إعلامنا يتلقى، المشايخ يتلقون لكن لا حيلة لهم؛ لأن كل هذه المصطلحات تأتي وتستعمل، من الذي أتى بمصطلح الإرهاب؟ الإرهاب بهذا النحو؟ الغرب.
الإرهاب بدأ في أوروبا، وكانت في ندوة في ذلك، لا ندخل فيها، لكن هو بدأ في أوروبا في آخر القرن التاسع عشر، وسمي الإرهاب، بحثوا في كتب طبعت في العشرينات والثلاثينات الميلادي من 1920 و 1930م الفرق بين الإرهابي والفدائي، ثم دخلوا في قضايا كثيرة إلى آخره.
الإرهاب بدأ هناك ثم صيغ هذا العنوان واستخدم، إلى آخره، استخدام خاص، مصطلح الإسلام السياسي، مصطلح الإسلام السياسي بدأ في أوروبا، بدأ أساتذة في إيطاليا مهتمين بمصطلح الإسلام السياسي، ولهم كتب فيه، ثم انتقل من ثلاثين سنة أو أربعين سنة في تحليل بعض المظاهر الموجودة، واسْتُعْمِل وشاع هذا الاستعمال بشكل أو بآخر، بعضه صحيح وبعضه غير صحيح.
الإسلام ما نزل ليكون تعبدًا في الصوامع، وتعبدًا في البيوت، وتعبدًا في المساجد فقط، عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له بالعبادات فرض لازم، لكن أيضًا الحكم، (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) المائدة: ٤٩.
آيات الحكم في القرآن كثيرة تُبَيِّن أن الإسلام جاء، لا ليكون في معزل عن الحياة، جاء ليكون في الحياة، يكون مؤثرًا، لكن اختطاف الإسلام بمفاهيم غير شرعية بغير قيادة العلماء، هنا جاء الكثير من اللبس في مثل هذه الموضوعات.
البحث في كثير من الأشياء يتولد عنه لَبْس إذا انسقنا وراء مصطلحات غربية، لذلك علينا تحدٍّ كبير.
وأقول: الطريق يبدأ من أهل العلم في أنه يوحدوا الأمة عبر مصادر التشريع؛ وأن يعملوا مع كل الوسائل المتاحة سواءً كانت وسائل حكومية، وسائل جمعيات، جماعات، مدارس، هيئات.. إلى آخره.
يجب أن يعمل الجميع؛ لأن المعركة كبيرة، وتسطيح المعركة أو إخراج الفكر أن يكون هناك معركة، هذا تفكير سطحي، ولا يمثل حقيقة الغيرة على هذه الأمة، الموضوع له شجون.
السؤال الأول: كيف نستطيع أن نرقى بطلبة العلم والدعاة والشباب من الانهماك في الرؤية الجزئية والتي تسبب الاختلاف والتفرق والتبديع والتشاحن إلى الرؤية الكلية العميقة في فهمنا للدين اعتقادًا وممارسة ودعوة؟
الجواب: لابد أن نعلم: أننا لا نفهم كل شيء، حكمة الله عز وجل لا نفهمها، نعلم أشياء لكن لا نفهم: لماذا تحدث في الكون كثير من الأشياء، النبي ﷺ خرج على صحابته ﷺ وقال: «سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته: أن لا يهلك أمتي بسنة بعامة»؛ يعني يأتيهم ريح، طوفان، إلى آخره، ينتهون: ما عاد يبقى منهم واحد، «فأعطانيها، وسألته: ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها»، إنما يأتي عدو وينهي الأمة تمامًا ما عاد يبقى منهم واحد، «فأعطانيها»: أمتك باقية، «وسألته» -السؤال الثالث، الدعاء الثالث-: «أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها»([1]).
هذا في عهد النبي ﷺ، في المدينة، والداعي هو النبي ﷺ، والمدعو رب العالمين، فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة: أن لا يجعل بأسهم بينهم.
لماذا أَذِن الله عز وجل أن يجعل بأس هذه الأمة بينهم؟ هذا لا ندخل في حكمة أرحم الراحمين، نقول: لله عز وجل الحكمة البالغة في كل شيء.
لكن السؤال هنا، ليس كيف حدث الافتراق ولماذا حدث الافتراق؟ لأن هذا ليس إليك، الله عز وجل جعله هكذا ليبتلي الناس كيف يتعاملون مع هذا الافتراق؛ لذلك الابتلاء فيما يخصك، يخص أهل العلم، وكيف تتعامل مع الافتراق، أما حدوثه، حدوث الشحناء، هذا الله عز وجل الذي أذن بها، أذن بها كونًا وصارت من الزمن الأول، الصحابة ﭫ صارت بينهم ذلك، كيف نتعامل مع افتراق؟
هذا موضوع يحتاج إلى كلامٍ طويل وبحثٍ كبير، الافتراق في الأمة هذا حدث مبكرًا، النبي ﷺ قال: «وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، وسُئل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: «مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»([2]).
وقوله: «كلها في النار» وعيدٌ، ليس معناها أنها تكفير، أنهم كفار؟ لا؛ وعيد لهم، بحسب مخالفتهم متوعدون عليها؛ لأن الحق واضح، القرآن والسنة واضحة، ليجتهد يخطئ، يجتهد يصيب، علمه عند الله عزو جل لكن بشكل عام الصواب موجود.
كيف تتعامل مع هذا الخلاف والافتراق؟ هذا هو صنيع أهل العلم، يختلف ويفترق فيه إنسان على آخر، لكن الله عز وجل حكمته بالغة، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) هود: ١١٨ – ١١٩
سبحانه أذن بذلك كونًا، وحكمته اقتضت ذلك، النبي ﷺ سأل ألا يقع هذا في الأمة؛ لخوفه على أمته ولعلمه ﷺ أنه حصل ذلك في الأمم السابقة، قال: «فمنعنيها»، ولهذا جاء في صحيح مسلم([3]) أنه ﷺ قال: «إن الشيطان أَيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم»، قال أهل العلم: «أَيِس» لمَّا رأى عز الإسلام، أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بقي له التحريش بينهم.
السؤال الثاني: هل يمكن أن تجتمع العلمانية مع الدين؟
الجواب: الآن هناك أفكار كثيرة تقول: إن العلمانية يمكن أن تجتمع مع الدين، يمكن أن تكون علمانية إسلامية، ما أعرف كيف؟! لكن هم يقولون: ممكن أن تكون علمانية إسلامية، فأحيانًا يطرح في بعض البلدان العلمانية ممكن تكون إسلامية، مثل ما طرح زمن الشيوعية، الاشتراكية، اشتراكية الإسلام! مثل ما طرح يقولون: كذا.. الإسلام.
فأصبح كل شيء يُناط به، يعمل له الصورة، نسخة، الفكرة العلمانية، أو الدين العلماني، الدين هو مجموعة من القواعد يُلْتَزَم بها وأي دين يخضع الإنسان له، هذا تعريف الدين في اللغة، وفي الشرع، منه قال الله عز وجل في سورة يوسف عن بعض الأحكام التشريعية للملك: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) يوسف: ٧٦
يعني: في تشريع الملك.
وفي الفكرة العلمانية في الأساس هي فصل الدين عن الدولة، أو العلمانية الشاملة مثل ما قلت لكم في فصل القيم، والأخلاق، والسلوك، والتعامل والنظرة عن الدين.
الدولة التي تريد أن تكون إسلامية، وممكن أن تكون علمانية، هذه طرحت في نماذج متعددة، تركيا: قيم علمانية إسلامية، تونس: حاولوا في وقت ما أن يكونوا علمانية إسلامية، مصر: حاولت في وقت ما أن يكونوا علمانية إسلامية، لكن لا يمكن أن يكون الإسلام علمانيًّا، ولا تكون العلمانية إسلاميةً، لكن هذا مُنْتَج خليط؛ ليرضى الأقوياء بوجود المسلمين في الحكم، في القوة، يرضى الأقوياء أن يكون هناك تنازل.
طيب، نقبل العلمانية لكن تكون إسلامية، يعني: ألا نطرح الدين تمامًا، يبقى الإسلام، القرآن، السنة، لكن، نحث الناس عليه، الحضارة الإسلامية، الثقافة، التاريخ الإسلامي، إلى آخره.
هذه فكرة طُبقت في عددٍ من الدول وهي لأجل تحييد الخصوم، لكن في الحقيقة لا علاقة بين العلماني والإسلامي، إما أن تؤمن بالإسلام، وإما أن تؤمن بالعلمانية.
العلمانية مضادة للإسلام مائة بالمائة، العلمانية هي فصلُ الدين عن الدولة، إبعاد الإسلام عن القيم، إبعاد الدين كله، كل الأديان عن القيم، والأخلاق، والسلوك، وحياة الإنسان في مجتمعه، وبالتالي لا علاقة لها، إذا ننتج نسخًا إسلامية علمانية، هذا يتحملها من يعمل هذه النسخ.
السؤال الثالث: ما دور العقل في نقد السنة وما حدوده وضوابطه؟
الجواب: العقل والسنة، إذا قلنا: العقل له دخل، لكن عقل الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، وعقل العلماء حينما يتناولون السنة ومتونها ليس هو عقل فلان وفلان، ممن لا يؤمنون أصلًا، أو لا يؤمنوا بالسنة، أو من هم مطايا للفكر الفرنسي ولا الفكر الغربي، فرق بين عقل وعقل، حينما نقول العقل: لا، عقل مَن؟ العقل مختلف، هل هو عقل العالم؟ عقل العالم معتبر، عقل من يؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا ويؤمن بمصادر التشريع ومقر لله، خاضع لله ، هذا عقله يقبل أن يناقش يكون إما صائب أو خطأ.
لكن شخص علماني يقول: أنا بدخل بنقد السنة بالعقل، لا قبول، لأنه هو عقله مختلف، عقله ليس هو العقل الشرعي الذي ينقد النصوص الشرعية، هو ينقدها بعقل آخر، لذلك نقد المتون، هي التي ذكرها الشيخ عبد الرحمن رحمه الله.
نقد المتون هذه قضية موجودة، عند علماء الحديث، نقد المتن ماذا يعني؟ أن يكون المتن لا علة من جهة العقل، -مثلًا- يقول: إذا كان الحديث فيه سخافة مثلًا، تعرف أنه ليس حديثًا، سخافة لكن بمنظور أهل العلم، مثل حديث: (لو كان الأرز رجلًا لكان حليمًا)، هذا لا يقوله النبي ﷺ، لا يمكن أن يُقَيَّمَ بالإسناد من أساسه.
ابن القيم رحمه الله في “المنار المنيف في تمييز الحديث الصحيح من الضعيف“، المنار الذي ذكر قواعد عدة في ردّ الحديث من موضوعه، كانت هذه صنعة أهل العلم.
نعم، يناقشون متن الحديث بالعقل، لكن عقل العالم، لذلك -كقضية كلية- العقل متفاوت، ما في عقل واحد، حينما يقول الناس: العقل، وكذا العقل المتفاوت.
العقل الغربي القديم كان يعتمد الاستقراء، العقل الغربي الحديث بعد الثورة الصناعية وبعد الرياضيات صار عقلًا تجريبيًّا، افترق، هذا عقل واحد، لكن العقل الاستقرائي غير العقل التجريبي في تقييم الأمور، وبالتالي كلمة العقل كلمة مجملة، أي عقل؟ اليونان أدركوا المشكلة، قالوا: طيب، المرجعية العقل، فوضعوا علم المنطق؛ لصيانة العقل من الانحراف في الحكم على الأشياء.
علم المنطق جاء لضبط العقل كي لا يكون أي عقل، نقول: لا، فيه خطوات معروفة تفكر بها؛ حتى تصل إلى الحقيقة، العقل المنطقي، أيضًا اليوناني وما صار عليه من تطويرات، أرسطو ومن معه فصار عليها تطويرات أيضًا، ناقشوا كثيرا من القضايا في كثير من ذلك.
لكن لما أتت أوروبا في الثورة الصناعية، مدرستان كبيرتان، مدرسة الاستقراء (وهي: مدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون) مدرسة أرسطو كان فيها الكنيسة ومن معهم وإلى آخره، وكانوا عندهم الحقيقة لا تثبت عندهم إلا بالاستقراء العقل، ينتج بالاستقراء.. إلى آخره.
جاء العلم الحديث، قال: هذا غلط كله، الاستقراء لا يعطينا حقائق، الاستقراء يقرب، أنت رأيت ألف صورة، ألف حالة، من الممكن أن يكون ا لموضوع فيه مليون حالة، لازم ترى مليون، فمن الممكن أن هناك عشرة ملايين حالة؛ فإذن الاستقراء -حتى لو كان استقراءً كاملًا، ولا وجود له- فإنه لا يعدو إلا أن يكون استقراءً جزئيًّا؛ فلذلك لا يمكن أن يصار للحقيقة عن طريق الاستقراء الذي كان معتمدًا في تاريخ العقل البشري، يعتبرونه هو الكمال من أرسطو إلى قيام الثورة الصناعية.
بعد ذلك لما قامت الثورة الصناعية وجاءت المباحثات الكثيرة في الرياضيات، ودخل علم الرياضيات، وفلسفة الرياضيات، دخلنا في شيء مهم جدًّا جدًّا للعقل البشري وهو: “التجربة”، التجربة هي خير برهان، هذا صحيح.
لذلك جرب هنا تطلع لك كذا.
إذن التجربة اعتمدها العلم الحديث في كونها مقياسًا على الحقيقة، كيف تصل لحقيقة؟ جّرِّبْ، التجربة هل التي توصل للحقائق وليس الاستقراء، لذلك العقل الاستقرائي لا يوصل للحقائق، يقرب الشيء ولكن لا يصل للحقائق، الذي يصل للحقائق التجربة، التجربة هي التي تثبت لك: صحيح أو ليس بصحيح.
لذلك يقول أينشتاين في بعض كلامه: “لا يمكن أن تعمل تجربة واحدة -بنفس المعطيات- مرتين وتصل إلى نتائج مختلفة”، هذا صحيح.
ثم دخلوا في (كيف نعرف -العقل كيف يصل- أن التجربة هذه نتيجتها سليمة؟) فدخلوا في مفهوم فلسفي جديد اسمه “نقد التجربة” لا بد أن يكون المعيار هو النقد، ليس التسليم بالتجربة، لا بد أن تخضع التجربة دائما إلى عملية “النقد”، النقد حتى نوقن بأن التجربة سليمة.
دخلت الفلسفة (الدينية والأخلاقية)، دخلت بالتجارب وصلتهم أيضًا إلى أن العلمانية هي حل، والليبرالية هي حل بشري، لذلك نقول مسألة العقل مضطربة، كلمة مضطربة، لكن عقل أهل التخصص نعم، نقول: ناس يتكلمون في الفيزياء يناقشون أهل الفيزياء والرياضيات، يتكلمون في الميكانيكا يكلمهم أهل الميكانيكا، يتكلمون في مسائل الكون والميتافيزيقا يتكلم معهم أصحاب ميكانيكا الكم، وما أشبه ذلك، هذا عقل خاص، عقل علمي خاص، ما نقول: العقل بشكل عام، لكن يأتي عالم كنيسة يقول: أنا أعقل الناس وأذكى الناس أريد أن أناقش قواعدكم في ميكانيكا الكم؟ ما تدخله فيه، العقل هذا لا يدخل هنا.
لذلك تقسيم العقل إلى عقول، ومناسبة كل عقل للتخصص الذي يدخل فيه، هذا هو الصحيح ولابد له من ضابط، الضابط ليس هو المنطق القديم، المنطق القديم انتهى.
علاقة الاستبداد بالمفاهيم الجديدة، هذا شيء مهم، لابد للإخوة -أهل البحث- يعتنون به، علاقة الاستبداد بالعقل البشري، العقل البشري الآن يمارس ضده الاستبداد، استبداد قوي، يعني: فَكِّرْ كما نُفَكِّر وإلا لست بعاقل، أنت متخلّف! هذا ليس بصحيح.
الذكاء يشارك في كل شيء، لا بد أن تحترم مشاركة المتخصص أيا كان، ولذلك نعم نحترم العقل، والشريعة عظمت العقل، والله عز وجل أثنى على العقل وجعله هو المقياس لكثير من الأمور، لكن العقل عقول ليس شيئًا واحدًا.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (24). وصححه الألباني بشواهده في الصحيحة (1/ 404)، رقم (204).