من قواعد الأسماء والصفات: التفصيل في مقام الإثبات والإجمال في مقام النفي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
معرفة الله تعالى والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجلّ علوم الدين كلها؛ فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهة الكريم أجلّ المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم؛ وقد قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلّةَ إبراهيم حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»([1]).
وذلك هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وعليها قام دين الإسلام الذى هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وليس لله دين سواه، ولا يقبل من أحد دينًا غيره؛ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنَ يُقْبَلَ مَنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]([2]).
لذا اجتهد علماء أهل السنة والجماعة في ضبط الاعتقاد في أسماء الله تعالى وصفاته وتقعيده، ومن جملة القواعد المتفق عليها عندهم في هذا الباب: “التفصيل في مقام الإثبات، والإجمال في مقام النفي”، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) هذه القاعدة في رسالته: “التدمرية” بأوضح عبارة وأبينها، مع ضرب الأمثلة عليها، وجعلها قاعدة فارقة بين طريقة الرسل -عليهم السلام- وطريقة من زاغ وحاد عن سبيلهم؛ فقال رحمه الله: “والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصَّل ونفي مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل”([3]).
ولأهمية هذه القاعدة: بيَّنها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته “التدمرية” بأصلين شريفين([4]):
الأول: القول في بعض الصفات كالقول في بعض([5]).
والثاني: القول في الصفات كالقول في الذات([6]).
ويستفاد من صنيع شيخ الإسلام أمران جليلان:
- أن هذه القاعدة علم على طريقة السلف.
- أن مخالفة هذه القاعدة برهان طرائق أهل الانحراف والزيغ.
وهذان الأمران هما محورا هذه الورقة العلمية بحول الله تعالى، ومن خلالهما نفصّل هذه القاعدة بما يجلي معالمها، ويبرز فوائدها، مع بيان القواعد المنبثقة عنها، والضوابط المتفرعة عليها.
المحور الأول: هذه القاعدة عَلمٌ على طريقة السلف:
صفات الله تعالى على كثرتها يمكن تقسيمها إلى أقسام([7]):
أحدها: الصفات الذاتية: وهي ما يرجع إلى نفس الذات: كالحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام وغيرها، وضابطها: “كل صفة لم يزل الله ولا يزال متصفًا بها، فإنها من الصفات الذاتية؛ لملازمتها للذات”([8]).
الثاني: الصفات الخبرية من الوجه واليدين والقدم وغيرها، وضابطها: “هي التي نعتمد فيها على مجرد الخبر، وليست من المعاني المعقولة، بل هي من الأمور المدركة بالسمع المجرد فقط، ونظيرها أو نظير مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء”([9]).
الثالث: الصفات الفعلية من الاستواء والنزول والإتيان والمجيء ونحوها، وضابطها: “كل صفة تتعلق بمشيئة، يفعلها الله حيث اقتضتها حكمته، فإنها من الصفات الفعلية”([10]).
الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتًا؛ إذ لا كمال في العدم المحض: كالقدّوس والسلام.
الخامس -ولم يذكره أكثر الناس-: وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة، لا تختص بصفة معينة، بل هو دال على عدة معانٍ لا على معنى مفرد، نحو: المجيد، العظيم، الصمد، فإن المجيد: من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا؛ فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة، فمنه استمجَدَ المـَرْخُ والعَفَارُ أي: استكثرا منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما([11])، وأمجد الناقة علفًا، ومنه قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15]: صفة للعرش؛ لسعته وعظمه وشرفه.
وطريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات أنهم يجعلون إمامهم الكتاب والسنة؛ فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، نفيًا وإثباتًا؛ فيثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه سبحانه ما نفاه عن نفسه.
وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: “ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله”([12]).
وبتتبعهم لنصوص الصفات في الكتاب والسنة وجدوا أنها إذا جاءت في الإثبات جاءت بالتفصيل والبيان، وإذا جاءت بالنفي كانت على سبيل الإجمال، فأثبتوا لله تعالى صفات الكمال ونعوت الجلال على وجه التفصيل، ونفوا عنه سبحانه ما لا يليق به من التشبيه والتعطيل على وجه الإجمال، وهذا الأصل أغلبيّ وليس كليًّا، بمعنى أنه قد يأتي في القرآن الكريم الإثبات على جهة الإجمال، كما قد يأتي النفي مفصلًا، وسيأتي بيان ذلك.
وقد تعامل السلف مع صفات الله تعالى من خلال أربعة مقامات:
- المقام الأول: إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله.
- المقام الثاني: طريقة السلف: الإثبات المفصل للصفات غالبًا.
- المقام الثالث: نفي ما نفاه الله تعالى ورسوله.
- المقام الرابع: طريقة السلف: النفي المجمل للصفات غالبًا.
وفيما يلي بيان تلك المقامات ببعض التفصيل المناسب، وما يندرج تحتها من ضوابط وفوائد:
أولًا: منهج السلف: إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله:
لخص الإمام الشافعي (ت 204هـ) منهج السلف في هذا بقوله: “آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله”([13])، وهذا الإثبات عند السلف له عدة ضوابط توضح معناه وتبرزه، ودونك أهمها:
الضابط الأول: أن إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية:
من المقرر سلفًا لدى العقلاء أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وحقيقته، فإذا كان إثبات الذات لله تعالى إنما هو إثبات وجود وإيمان، لا إثبات تحديد وكيفية، فكذلك إثبات صفاته تعالى إنما هو إثبات وجود وإيمان، لا إثبات تحديد وكيفية؛ بناء على القاعدة: “القول في صفات الله تعالى كالقول في الذات”([14]).
ولهذا ثبت عن بعض المحققين أنه قال: “صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فالمؤمن مبصر بها من وجه، أعمى من وجه، مبصر من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد”([15]).
وهذا الضابط مجمع عليه؛ يقول ابن أبي يعلى (ت 526هـ): “وقد أجمع أهل القبلة: أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأن إثبات الصفات للباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأنها صفات لا تشبه صفات البرية، ولا تدرك حقيقة علمها بالفكر والروية”([16]).
الضابط الثاني: وجوب حمل نصوص الصفات على ظاهرها([17]):
قد تواترت أقوال السلف على وجوب حمل نصوص صفات الله تعالى من الكتاب والسنة على ظاهرها، مع إثبات معانيها على الوجه اللائق به سبحانه، وقطع العلائق عن إدراك كيفيتها.
يقول الإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي (ت 535هـ) وقد سئل عن صفات الرب تعالى: “مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله، من السمع والبصر والوجه واليدين وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل؛ قال سفيان بن عيينة: كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، أي: على ظاهره، لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل”([18]).
ويقول الخطيب البغدادي (ت 463هـ): “ويجب أن يحمل حديث رسول الله على عمومه وظاهره، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد غير ذلك، فيعدل إلى ما دل الدليل عليه”([19]).
الضابط الثالث: تفويض الكيفية وإثبات المعنى:
اشتهر عن السلف أنهم يثبتون معاني لصفات الله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه، ودونك غيض من فيض أقوالهم:
يقول ابن الماجشون المالكي (ت 212هـ) والإمام أحمد (ت 241هـ) وغيرهما من علماء السلف: “إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه”([20]).
ويقول ابن قتيبة (276هـ): “الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نزيل اللفظ عمَّا تعرفه العرب وتضعه عليه، ونمسك عما سوى ذلك”([21]).
الضابط الرابع: لا تلازم بين إثبات الصفات والتشبيه:
في منهج السلف الكرام: لا تلازم البتة بين إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله من الصفات لله تعالى وبين التشبيه والمماثلة، ومن تأمل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] واستنار قلبه علم ذلك يقينًا؛ ويؤكد الإمام أبو منصور معمر بن أحمد الأصبهاني (ت 418هـ) هذا المعنى بقوله: “فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ينفي كل تشبيه وتمثيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ينفي كل تعطيل وتأويل، فهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، فمن فارق مذهبهم فارق السنة، ومن اقتدى بهم وافق السنة”([22])، وفي هذا دفع لتوهّم التلازم بين إثبات ظواهر نصوص الصفات والتشبيه([23]).
وهذا الإثبات لصفات الله تعالى -المنضبط بتلك الضوابط- له أركان وأسس يرتكز عليها، وفيما يلي بيانها:
فائدة: أركان إثبات الصفات عند السلف:
لما كان منهج السلف هو إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، فقد ارتكز منهجهم على ثلاثة أركان([24]):
- إثبات الصفات باسمها من غير تشبيه.
- ونفي التشبيه عنها من غير تعطيل.
- والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها.
وقد شرح الإمام ابن القيم (ت 751هـ) هذه الأركان بما لا مزيد عليه فقال:
“أحدها: إثبات تلك الصفة؛ فلا يعاملها بالنفي والإنكار.
الثاني: أنه لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة، ولا يغير اسمها ويعيرها اسمًا آخر، كما تسمِّي الجهمية والمعطلة سمعه وبصره وقدرته وحياته وكلامه: أعراضًا، ويسمون وجهه ويديه وقدمه سبحانه: جوارح وأبعاضًا، ويسمون حكمته وغاية فعله المطلوبة: عللًا وأغراضًا، ويسمون أفعاله القائمة به: حوادث، ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه: تحيُّزًا، ويتواصون بهذا المكر الكُبَّار إلى نفي ما دلَّ عليه الوحي والعقل والفطرة وآثار الصنعة من صفاته، فيسطون بهذه الأسماء التي سموها هم وآباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه.
الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق؛ فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فالعارفون به المصدقون لرسله المقرون بكماله يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهدًى بين ضلالتين، فصراطهم صراط المنعم عليهم، وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا نزيل عن الله صفة من صفاته؛ لأجل شناعة المشنعين، وقال: التشبيه أن تقول: يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا”([25]).
ثانيًا: طريقة السلف: الإثبات المفصّل للصفات غالبًا:
معنى التفصيل في مقام الإثبات: ذكر آحاد الصفات وأعيانها.
وقد اتبع السلف طريقة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فأثبتوا أسماء الله تعالى وصفاته إثباتًا مفصلًا؛ بذكر آحادها؛ لأنها كلها صفات كمال، والغالب فيها التفصيل؛ لأنه كلما كثر الإخبار عنها وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما لم يكن معلومًا من قبل([26])، ودونك بعض الأمثلة على هذا التفصيل في القرآن الكريم:
- قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، فيه اسمان عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعًا، وهما اسم “الحي القيوم”؛ فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته([27]).
- وقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2].
- وقوله عز وجل: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد: 3، 4].
- وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8].
- وقوله تقدست أسماؤه: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].
- وقوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93].
- وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
- وقوله سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52].
- وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
- وقوله سبحانه وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
وكذلك جاءت الأحاديث النبويّة بالإثبات المفصل غالبًا، ومن الأمثلة على ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ» الحديث. متفق عليه([28]).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ» الحديث. متفق عليه([29]).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّة» متفق عليه([30]).
وقد يأتي الإثبات مجملًا:
ومع كون الغالب في الكتاب والسنة التفصيل، إلا أنه قد يأتي الإثبات أحيانًا في أسماء الله تعالى وصفاته مجملًا أي: دون ذكر آحادها، ففي الأسماء كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، وفي الصفات كقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، معناه: ولله الصفة العُليَا([31])، فذكر الأسماء والصفة العليا إجمالًا ولم يفصل.
ثالثًا: منهج السلف: نفي ما نفاه الله تعالى ورسوله:
من محاسن طريقة السلف أنها واحدة، وأن منهجهم ثابت راسخ لا يتغير، فكما أنهم تعاملوا مع صفات الله تعالى باقتفاء الكتاب والسنة في مقام الإثبات، فإنهم تعاملوا بنفس النمط معها في مقام النفي؛ فنفوا عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه سبحانه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم ضوابطهم في هذا:
ضابط: صفات السلب المحض لا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمّنة لثبوت:
هذا الضابط مهمّ في تجلية طريقة السلف في تعاملهم مع الصفات المنفية عن الله تعالى وتوضيحها، فهم يعتقدون أن كل نفي جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية إنما جاء متضمنًا لثبوت كمال ضده؛ كقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، فهو لإثبات كمال عدله سبحانه([32]).
ولندع الإمام ابن القيم يبين تلك القاعدة بأسلوبه الرائق، حيث يقول: “وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت: كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية، والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله.
وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتًا: كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]؛ فإنه متضمن لكمال حياته وقيوميته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] متضمن لكمال قدرته، وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] متضمن لكمال علمه، وكذلك قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] متضمن لكمال صمديته وغناه، وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] متضمن لتفرده بكماله وأنه لا نظير له، وكذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] متضمن لعظمته وأنه جل عن أن يدرك بحيث يحاط به، وهذا مطرد في كل ما وصف به نفسه من السلوب”([33]).
رابعًا: طريقة السلف: النفي المجمل للصفات غالبًا:
فكما اتبع السلف طريقة القرآن الكريم والسنة النبوية في الإثبات اتبعوها في النفي، وقد جاء نفي بعض الأمور عن الله تعالى على سبيل الإجمال أي: دون ذكر آحاد الصفات المنفية؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11]، وقوله سبحانه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي: هل تعلم للربّ مثلًا أو شبيهًا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما([34]).
وإنما كان الغالب في النفي الإجمال؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف، وأكمل في التنزيه، فإن تفصيل النفي لغير سبب يقتضيه فيه سخرية وتنقص للموصوف([35]).
وقد بيَّن ابن أبي العز الحنفي (ت 792هـ) الحكمة من النفي الإجمالي فقال: “النفي المجرد -مع كونه لا مدح فيه- فيه إساءة أدب؛ فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك! لأدَّبك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا، وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب”([36]).
وقد يأتي النفي مفصلًا:
بالرغم من أن الغالب في النفي هو الإجمال، إلا أنه قد يأتي النفي أحيانًا مفصلًا أي: بذكر آحاد الصفات المنفية؛ لأن التفصيل في هذه المواضع يتضمن إثبات كمال ضده، ومن الأمثلة على ذلك:
- قول الله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]؛ أي: لإثبات كمال عدله.
- وقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]؛ أي: لكمال حياته وقيوميته على خلقه.
- وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]؛ لنفي ما ادعاه الكاذبون المفترون في حقه سبحانه وتعالى.
- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38]؛ لدفع توهم نقص في كماله سبحانه، ولإثبات كمال قوّته.
- وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}؛ لكمال صمديته وغناه([37]).
المحور الثاني: مخالفة هذه القاعدة برهان طرائق أهل الانحراف والزيغ:
مع وضوح هذه القاعدة الشرعية: “التفصيل في مقام الإثبات والإجمال في مقام النفي”، وما يعلوها من نور الكتاب والسنة وضيائهما، إلا أن أهل الزيغ والانحراف أبوا إلا أن يخالفوها، فإنهم ذهبوا إلى التفصيل في مقام النفي والإجمال في مقام الإثبات، فيقولون: ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، إلى آخر ذلك من النفي المفصَّل.
ولم يتلقّوا ذلك عن الكتاب والسنة، بل أعرضوا عنهما، كما لم يتلقوه عن الطرق العقلية الصحيحة التي اتبعها غيرهم من مثبتة الصفات.
يقول ابن أبي العز الحنفي: “والمقصود: أن غالب عقائدهم [يعني: أهل الزيغ والضلال] السلوب: ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهي أنه عالم قادر حيّ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات؛ فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي، ففهم أن المراد: انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: «اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وغَمِّي»([38])“([39]).
إعلان التوبة من الزيغ والانحراف بالرجوع إلى تلك القاعدة:
لقد تاب جماعة من أهل الكلام ورجعوا عما كانوا يعتقدونه مخالفًا لطريقة السلف، وكان من توبتهم ورجوعهم من حيرتهم وترددهم إعلانهم الرجوع إلى طريقة القرآن الكريم إثباتًا ونفيًا.
فهذا أبو عبد الله الرازي في كتاب “أقسام اللذات” يعلن توبته وندمه، ويقول: “لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”([40]).
وختامًا، أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في أسمائه وصفاته؛ فإن القصد بالخلق والأمر: أن يُعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته، ويُعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]([41]).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أحمد (15363)، والنسائي في الكبرى (9743)، والدارمي (2730)، من حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 389): “بسند صحيح”، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 116): “رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح”.
([2]) ينظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 195-196).
([4]) ينظر: التدمرية (ص: 31، 43).
([5]) في مركز سلف دراسة لهذه القاعدة بعنوان: “قاعدة: القول في بعض صفات الله تعالى كالقول في بعضها الآخر: شرح وتحليل”، ودونك رابطها: https://salafcenter.org/2492/.
([6]) في مركز سلف شرح لهذه القاعدة تحت عنوان: “قاعدة: القول في صفات الله تعالى كالقول في الذات: دراسة وتحليل”، وهذا رابطها: https://salafcenter.org/2356/.
([7]) ينظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (1/ 159-160)، ولوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية، للسفاريني (1/ 270).
([8]) أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنه منها، للشيخ ابن عثيمين (ص: 16).
([9]) شرح العقيدة السفارينية، لابن عثيمين (1/ 156).
([11]) ينظر: مختار الصحاح، للرازي (ص: 290).
([12]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 76).
([13]) ينظر: لمعة الاعتقاد، لابن قدامة (ص: 7).
([14]) ينظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص: 543)، ومنهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص: 38).
([15]) لوامع الأنوار البهية (1/ 226).
([16]) ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 208).
([17]) في مركز سلف مقالة توضح هذا بعنوان: “وجوب التمسك بظواهر النصوص في العقيدة”، ودونك رابطها: https://salafcenter.org/351/
([18]) ينظر: العرش للذهبي (2/ 459- 460)، والعلو له (ص: 192).
([19]) الفقيه والمتفقه (1/ 537).
([20]) الصواعق المرسلة، لابن القيم (ص: 745).
([21]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة (ص: 44).
([22]) ينظر: الحجة في بيان المحجة، لقوام السنة أبي القاسم الأصبهاني (1/ 260).
([23]) في مركز سلف مقالة توضح هذا المعنى بعنوان: “دفع توهم التلازم بين ظواهر نصوص الصفات والتشبيه”، ودونك رابطها: https://salafcenter.org/2485/
([24]) قاله الهروي في منازل السائرين (3/ 322-323) مطبوع مع مدارج السالكين.
([25]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 334-335).
([26]) ينظر: تقريب التدمرية، للشيخ ابن عثيمين (ص: 18-19).
([27]) ينظر: بدائع الفوائد (2/ 184).
([28]) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([29]) أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([30]) أخرجه البخاري (2826)، ومسلم (1890)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([31]) ينظر: تفسير الطبري (16/ 469).
([32]) ينظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز (1/ 68-69)، الرد على القائلين بوحدة الوجود، لملا علي القاري الحنفي (ص: 42-43).
([33]) بدائع الفوائد (1/ 161).
([34]) ينظر: تفسير الطبري (18/ 226).
([35]) ينظر: تقريب التدمرية، للشيخ ابن عثيمين (ص: 19).
([36]) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 70).
([37]) ينظر: بدائع الفوائد (1/ 161)، والرد على القائلين بوحدة الوجود (ص: 42)، وتقريب التدمرية (ص: 199).
([38]) أخرجه أحمد (3712)، وابن حبان (972)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في الصحيحة (199).
([39]) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 72).