بين الأسماء الإلهية والأركونية للقرآن الكريم
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
“فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن. والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. ووالله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليُحطم ما تحته”([1]).
هذا كان ردُّ أحد عتاولة قريش الذين بذلوا كل الجهود ليحولوا دون علوِّ القرآن ورفعته، ويعرقلوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويثنوه عن إعلاء الذكر والقرآن الكريم، والكتاب والفرقان والتنزيل الحكيم.
إنه كتاب الله، الذي تكفَّل سبحانه وتعالى بحفظه مهما تخلفت الأسباب، ومهما تغيَّرت الأحوال والأزمان، فهو محفوظ بحفظ الله ما دامت الأرض والسماوات، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ ولذا شُلت دونه أيدي المحرفين، وتوقَّفت عنده أفاعي المتلاعبين والحاقدين، وانكسرت على صخرته سهام المغرضين.
وكانت ولا زالت المحاولات تترى للمساس بكتاب ربنا الكريم، ولكنها باءت وتبوء بالفشل دومًا، وما زلنا نرى بأم أعيننا تلك النتيجة في محاولات المعاصرين، وهذا وجه من أوجه إعجازه ينبغي على أهل العقول التأمل فيه، قال السعدي: “{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيَّض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونِعَمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوًّا يجتاحهم”([2]).
ومن تلك المحاولات لتقويض منزلة القرآن الكريم ما تبنَّاه أصحاب القراءات الجديدة أو الحداثية المبتدعة، الذين لم تقنعهم الأسماء الإلهية للقرآن الكريم، ولم ترض عقولهم بما رضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم والأئمة والأمة من بعدهم، فتلك الأسماء غير كافية ولا مرضية لحال القرآن الذي بين أيدينا في نظرهم، فاستبدلوا بها غيرها وأحلوا مكانها أسماء أخرى!! فهل كانوا صائبين في اختراعهم أسماء جديدةً واستبدالها بالقديمة؟ أم كانوا من الذين يستبدلون الذي هو الأدنى بالذي هو خير؟
من هنا كانت هذه الورقة للبحث في هذه القضية، ومعرفة تلك الأسماء ودوافعها ومضامينها ودلالاتها، وأركون من أشهر من حاول وصرَّح بذلك، فكان الحديث حوله.
اللهم اجعل عملنا صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا.
أسماء القرآن الربانية:
“كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، أو كماله في أمر من الأمور، أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء القيامة دلت على كمال شدته وصعوبته، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها؟! وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي صلى الله عليه وسلم دلت على علو رتبته وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه وفضيلته”([3]).
وكما ميَّز الله سبحانه وتعالى القرآن بالحفظ دون غيره من الكتب، فقد خصَّه أيضًا بجملة من الأسماء، دالة على علو منزلته ورفعة مكانته وفضله وبيانه وبركته وهداه، ولعلنا نأخذ جولة حول أعلام تلك الأسماء التي ذكرها القرآن وبيَّنها العلماء([4])، ومنها:
- القرآن:
أول هذه الأسماء وأعلاها وأشهرها: القرآن الكريم، فهو الاسم الذي اختاره الله لكتابه وميَّزه به عن غيره من الكتب، حتى غدا علَمًا به يعرف، سواء في الشرق أو الغرب، بل وفي أقطار العالم كله حاضره ومستقبله، وأما الماضي فليس فيه كتاب سمِّي بهذا الاسم، فهو متفرِّدٌ به على مر العصور، كما أنه متفرِّد بكونه محفوظًا على مرِّ الدهور، فهو الاسم الذي دار على ألسنة أهل العصر النبوي والصحابة والأئمة، وبه عُرف عند أهل الإيمان وأهل الكفر في كل زمان، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
وقد ورد ذكره بهذا الاسم فيما يربو على تسعة وستين موضعًا، يقول الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى: “فاسم القرآن هو الاسم الذي جُعل علمًا على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله، وهو أشهر أسمائه وأكثرها ورودا في آياته، وأشهرها دورانا على ألسنة السلف”([5]).
وقد ورد في كثير من النصوص الحديثية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم الأمة صفة صلاتهم ووقوفهم بين يدي الله تعالى، فيقول في حديث المسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا…» الحديث([6])، وفي حديث الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم حكى حال من يقرأ القرآن ثم لا يعمل به: «أما الذي يثلغ رأسه بالحجر، فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة»([7]).
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحكي حال صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن فتقول: “لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين”([8]).
فالقرآن هو المقروء والمتلو، وهو الجامع الذي ضمَّ بين دفتيه الهدى والخير للبشرية، فهو جامع لأبواب الفضائل كلها، يقول ابن الأثير -رحمه الله- في ذلك: “وسمي القرآن قرآنًا؛ لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها إلى بعض”([9]).
فهو قد جمع مجامع البيان، وقَرَن بين الفصاحة والبرهان، وضمَّ العاطفة إلى الحجة والسلطان، واشتمل على القرائن يصدق أولها آخرها، وكل نفسٍ تدبَّرتها أوتيت هُداها؛ حيث جمع أنواع العلوم وأهْداها، وأُودع كل ثمرات الكتب السابقة وهُداها.
وليس جمع القرآن كغيره من المجاميع، بل كان جمعًا متناسقًا، انتظمت به كلماته وحروفه وسوره، وتناسقت معانيه ومقاصده وحكمه، وتناغمت به أجزاؤه، وكانت الإشارات الأولى في صفِّه ورصِّه وجمعه وترتيبه من نبيِّنا المعصوم عليه الصلاة والسلام أمين الأرض، وبوحي مؤيدٍ من الله الذي اصطفى أمين السماء لتبليغه، وقد سئل الخليفة الراشد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه عن هذا الترتيب والجمع فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مما ينزل عليه الآيات، فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له: «ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها -كذا وكذا-»، وتنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، فكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة([10]).
دلالات اسم (القرآن):
هذا الاسم كما لاحظنا دلَّنا على كون القرآن مجموعًا جمعًا متناسقًا، أبهر الحكماء والبلغاء، وهو كذلك دل على أنه جمع أبواب الخير كله بين دفتيه، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فهو مجمع الحكم والمكرمات والهدى والنور. وكما دلَّ على أنه مقروءٌ متلوٌّ من الناس، كلما هجره قوم سخَّر الله تعالى له من يقوم به كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]. كما أن هذا الاسم علمٌ على القرآن، فلا يطلق على غيره ولم يتسمَّ به غيره، لا في الماضي ولا في الحاضر، ولن يكون ذلك في المستقبل أيضًا، فبمجرد ذكره تنصرف الأذهان إلى كتاب الله المنزَّل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام دون غيره. ومن دلالات هذا الاسم أيضًا أنه سيبقى كتابًا محفوظًا مجموعًا في الصدور والسطور كما سيأتي في الاسم التالي وهو الكتاب([11]).
- الكتاب:
و(الكتاب) عند الإطلاق ينصرف إلى القرآن؛ إذ هو الكتاب المعهود في أذهان المسلمين دون غيره، وقد سمَّاه الله سبحانه وتعالى بذلك في مواضع كثيرةٍ من كتابه، يقول تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان: 1، 2]، وقال تعالى: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 1-3].
وكذلك الأمر في القاموس الحديثي والسلفي كان هذا الاسم متداولًا بينهم، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله في دعائه لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، كما روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علمه الكتاب»([12])، وفي الحديث الآخر يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم للأمة ركنًا من أركان الصلاة لا تجوز الصلاة بدونها حيث يقول: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»([13])، وهذا قتادة رضي الله عنه يتداوله كما تداوله النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول وهو يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر، ويسمعنا الآية أحيانا، وكان يطيل في الركعة الأولى”([14]).
والكتاب من الكَتْب وهو الضم والجمع، وهو ما يجعلنا نرجع القهقرى لنعود إلى ما قلناه في اسم القرآن من أنواع الجمع، فهو قد جمع أنواع العلوم والخير والهدى، وجمع أحسن القصص وأدق الأخبار وأفضل الأحكام وأنجع الحجج وأقوى البراهين([15])، “وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف…؛ ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه كُتَّابا يكتبون ما أنزل إليه ومن أول ما ابتدأ نزوله، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان. وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبًا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف”([16]).
فكان أن كُتب القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم، ثم امتنَّ الله على أبي بكر رضي الله عنه وزاده من فضله على بحر فضائله أن تولَّى جمع القرآن.
ومن هذا الاسم والذي قبله استنبط الشيخ محمد دراز -رحمه الله- معنى جميلًا يبين فيه خصوصية القرآن، وما تميَّز به عن غيره من الكتب السابقة حيث يقول: “روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه.
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيِّها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز؛ إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] أي: بما طلب إليهم حفظه…
والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدَّها، ولم يكن شيء منها ليسدَّ مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسَّر له أسبابه، وهو الحكيم العليم”([17]).
دلالات اسم (الكتاب):
لاحظنا بعد استعراض معنى هذا الاسم ومضامينه كيف أنه دلَّ على معنى جليلٍ هو من أهم الركائز القرآنية، ألا وهو كونه جامعًا لأنواع العلوم والحكم والأخبار والقصص، وكذلك دلَّنا على ركيزة أخرى من الركائز في موضوع القرآن وهو أن مآله أن يكون مكتوبًا مجموعًا في الصحف والسطور، وكذلك محفوظًا مجموعًا في الأفئدة والصدور، وهو ما جعله فاضلًا ومهيمنًا على ما سبقه من الكتب والأسفار، وبذلك حفظ الله تعالى الإسلام وأظهره على الدين كله، رغم كره الكارهين واشمئزاز المشركين.
- الفرقان:
لا نعجب من أن يتواصى أعداء الإسلام ويتنادون في النوادي ألَّا تسمعوا لهذا القرآن، “والغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه يقرؤه كَيْما لا تسمعوه، ولا تفهموا ما فيه”([18])، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل كتابه الكريم فرقانًا كما سمَّاه بذلك في غير ما موضع، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3، 4].
والفرقان هو النجاة والمخرج كما ورد ذلك عن السلف؛ ولذا كان أعداء القرآن وما زالوا يتنادون باللغو والإشغال عن القرآن؛ لأن القرآن فيه النجاة والمخرج من الظلمات إلى النور، وفيه التفريق بين الحق والباطل، والانتصار لأهل الحق والبيان، والذلة والخسران والوبال لأهل الزيغ والضلال، ويبين لنا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- سبب تسمية القرآن بالفرقان: “وسمي الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل”([19]).
وفصَّل الإمام أبو جعفر الطبري -رحمه الله- في ذلك، وقال بعد أن استعرض معاني الفرقان الواردة عن السلف: “وكل هذه التأويلات في معنى (الفرقان) -على اختلاف ألفاظها- متقاربات المعاني؛ وذلك أنّ من جُعِل له مخرجٌ من أمر كان فيه فقد جُعل له ذلك المخرجُ منه نجاةٌ، وكذلك إذا نُجِّي منه فقد نُصِر على من بَغَاه فيه سُوءًا، وفُرق بينه وبين باغيه السُّوءَ. فجميع ما روينا عمن روينا عنه في معنى (الفرقان) قولٌ صحيح المعاني؛ لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك.
وأصل (الفُرْقان) عندنا: الفرقُ بين الشيئين والفصل بينهما، وقد يكون ذلك بقضاءٍ، واستنقاذٍ وإظهار حُجَّة ونَصْرٍ وغير ذلك من المعاني المفرِّقة بين المحقّ والمبطِل. فقد تبين بذلك أنّ القرآن سُمّي فرقانًا؛ لفصله -بحججه وأدلَّته وحدود فرائضه وسائر معاني حُكمه- بين المحق والمبطل. وفرقانُه بينهما: بنصره المحقّ وتخذيله المبطل حُكمًا وقضاءً”([20]).
وما أحسن ما استنبطه الشيخ الطاهر ابن عاشور -رحمه الله تعالى- في معنى هذا الاسم حيث بيَّن وجه اختصاصه به عن غيره من الكتب السابقة، حيث يقول: “ووجه تسميته: الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا؛ وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآيات [29] من سورة الفتح، فلما وصفهم القرآن قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية [110] من آل عمران، فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال.
وأما إن افتَقَدتَ ناحيةَ آيات أحكامه فإنك تجدُها مبرَّأة من اللبس وبعيدةً عن تطرق الشبهة، وحسبك قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى، بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]”([21]).
وكل هذا يستلزم بالضرورة أن يكون القرآن حقًّا في نفسه، وفي أعلى مراتب الحقيقة؛ إذ كيف يكون فاصلًا بين الحق والباطل وفرقانًا وهو باطل في نفسه؟! قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، بل لا تعارض فيه ولا تناقض ولا اختلاف، وإنما هو حقٌّ كله يصدِّق بعضه بعضًا، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وهو فيصلٌ في كل ما تختلف فيه البشرية، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 76-79]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: 89]. ولما كان في أعلى مراتب الحقيقة عجزت البشرية أن تأتي بمثله، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
دلالات اسم (الفرقان):
لا ينقضي عجب المرء مما اصطفاه الله سبحانه وتعالى من الأسماء لكتابه العزيز، فما من اسم من تلك الأسماء إلا وفي طياته العديد من معاني الكمال الموجودة بالفعل في القرآن، وهذا اسم الفرقان يدلُّنا على أن القرآن نجاة لمن طلب النجاة به تلاوةً وتدبُّرًا وعملًا، بل هو أفضل طرق النجاة كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وكذلك دلَّ على أنه المخرج من الظلمات إلى النور، كما دلَّ أيضًا أنه مصدر معرفة الحق والباطل والتفريق بينهما، وكذلك دلَّنا على أنه فيصلٌ بين الحق والباطل، وناصرٌ للحق ومبطل للباطل، وبالتالي فهو حق في نفسه في أعلى مراتب الحقيقة، وفيه تفصيل كل شيء.
- التنزيل:
أول ما يتبادر إلى ذهن العربي حين يسمع هذا الاسم هو أن هذا القرآن منزَّل من عند الله سبحانه وتعالى، وليس مخترعًا ولا مختلقًا من قِبل البشر، بل هو منزَّه عن مساس المحرِّفين وحيل المتلاعبين، فهو كلام الله رب العالمين الذي تكفَّل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وما زال هذا التنزيل محفوظًا كحاله حين نزل من أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، ولا أدلَّ على ذلك من أن القرآن هو هو، في أيِّ قطر من أقطار العالم نظرت إليه، لا تغيُّر في آياته ولا في سوره، بل ولا حتى في حركاته وسكناته، وما قام قائم للتحريف فيه إلا قُيّض له من ينبري لفضح زيفه وكشف عواره.
وهذا ما نلمسه من آيات القرآن الكريم حين تورد هذا الاسم، ففي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77-80]. فأقسم سبحانه وتعالى بأنه كتاب محفوظٌ من التحريف والتبديل، ومصون من أن تمسَّه أيدي الأنجاس والأراذل والمحرِّفين.
وفي موضع آخر ذكر الله تعالى هذا التنزيل، وبيَّن أنه “كتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلًا أو تحريفًا أو تغييرًا، من إنسي وجني وشيطان مارد… فلا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقًّا، ولا يزيد فيه باطلا”([22])، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
وما أصرح هذه الدلالة في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} [الحاقة: 38-52]، فليس هذا القرآن من اختراع مخترع من البشر، أو صنع حاذق من الحذاق، أو شعوذات كاهن من الكهان، أو تأليفات شاعر من الشعراء، بل هو قول رسولٍ منزَّل من عند الله تعالى، فهو {تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} نزل عليه، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} محمد {بَعْضَ الأقَاوِيلِ} الباطلة، وتكذَّب علينا، {لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}، يقول: لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة، ثم لقطعنا منه نياط القلب، وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة، ولا يؤخره بها” كما قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى([23]).
كما أن اسم التنزيل يحمل في طيَّاته معنى جميلًا تطمئن له قلوب المؤمنين، وهو أنه كلام الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أنزله على جبريل، ونزل به جبريل عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195]. فهو ليس منتجًا أرضيًّا مصنوعًا من البشر، وإنما “نزل به الروح الأمين، فتلاه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى وعاه قلبه. وقوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}، يقول: لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أرسلوا إليه من قومهم، فتنذر بهذا التنزيل قومك المكذّبين بآيات الله”([24]).
وكونه كلام الله سبحانه وتعالى يدفع المسلم إلى التشرف به والتبرك به كل زمان، وتلاوته والعمل به في كل حال، دون أن يكون في قلبه ريب أو شك فيه؛ فبه يكون الشفاء والرحمة لهم، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
وبالإضافة إلى كل الأمور السابقة فإن اسم (التنزيل) وقف في الصفوف الأمامية حين حاول المبتدعة من الجهمية والمعتزلة تزييف أمر القرآن وادِّعاء خلقه، مع أنه كلام الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى حين سمَّاه بهذا الاسم اختصَّه بالإضافه إلى نفسه سبحانه وتعالى دون غيره من الأمور المنزَّلة، فقال تعالى: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1، 2]، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 114، 115]، وأما ما ذكر إنزاله من غير القرآن، فلم يضف إليه سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57]، وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154]. فلم يضف شيئًا من الأمور التي ذكر تنزيلها إلى نفسه غير القرآن؛ وهو دالٌّ على اختصاص القرآن وامتيازه عن غيره من الأمور المنزلة؛ فهو صفة، والصفة إنما تضَاف إلى من اتصف بها، ولو كانت مخلوقة لفارقت الخالق، ولم تصلح وصفًا له؛ لأنه تعالى غني عن خلقه، لا يتَّصف بشيء منه.
دلالات اسم (التنزيل):
من أهم الأمور التي دلَّنا عليها هذا الاسم أنه كتاب منزَّل من عند الله تعالى، وليس مخترعًا من البشر. ومن المعاني المهمة التي دلّنا عليها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنزله، وهو الذي تكفَّل بحفظ تنزيله، فحفظ سبحانه وتعالى تنزيله، وجعله مرفوعًا عن أيدي المحرفين، ومصونًا عن مساس المتلاعبين. ومنها أنه كلام الله سبحانه وتعالى، نزل به الروح الأمين جبريل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والشرف كل الشرف والفلاح كل الفلاح لمن اعتصم به. وكذلك دلَّنا هذا الاسم على أن القرآن منزَّل غير مخلوق كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة.
- الذكر:
امتن الله سبحانه وتعالى -وهو المنان الكريم- على أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم بأن جعل القرآن شرفًا لهم، بحيث يخلد بخلوده ذكرهم في العالمين، فهو “ذكرٌ وشرف وفخرٌ لكل من آمن به وصدَّق بما فيه”([25])، وهذا أحد معنييْ هذا الاسم للقرآن الكريم، والذي سمَّاه به الله سبحانه وتعالى حيث قال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50]، أي: “هذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذكر لمن تذكَّر به، وموعظة لمن اتعظ به”([26])، وهذا فيه ما يدل على أن القرآن سيبقى محفوظًا؛ إذ لا يمكن أن يكون ذكرًا لمن اتبعه إلا إذا بقي زمانًا بعد اتباعه، كما قال تعالى في الآية الشهيرة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، “وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطلٌ مَا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه… قال قتادة رحمه الله تعالى: فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا، ولا ينتقص منه حقا، حفظه الله من ذلك”([27]). وقد استشهد على ما قاله بالآية الأخرى التي مرت معنا آنفا وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42]، قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- في معناها: “كتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلًا أو تحريفًا أو تغييرًا، من إنسي وجني وشيطان مارد… فلا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا”([28]).
والمعنى الثاني الذي يذكره العلماء لاسم الذكر أنه تذكير من الله سبحانه وتعالى بالأحكام والأوامر والنواهي والفرائض والمحرمات والحِكم والحدود([29])، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، أي: “وأنزلنا إليك -يا محمد- هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} يقول: لتُعرِّفهم ما أنزل إليهم من ذلك، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، يقول: وليتذكروا فيه ويعتبروا به، أي: بما أنزلنا إليك”([30]).
وفي هذا المعنى أيضًا قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، “معناه: ذي التذكير لكم”([31])، فهو متضمِّن للمواعظ والأحكام والأوامر والنواهي الكفيلة بتذكير البشرية واعتبارهم، وهو كافٍ كاملٌ في تشريعه ومواعظه وأحكامه وحِكمه، وليس بحاجة إلى غيره من الأفكار والفلسفات والمناهج والسلوكيات، بل هو شامل كامل وصالح لكل الأماكن والأزمان، يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ومن ذا يزيد على ما أكمله الله سبحانه وتعالى وأتمه؟!!
دلالات اسم (الذكر):
قد دلَّنا هذا الاسم على معانٍ عظيمةٍ، أهمها أن القرآن سيبقى محفوظًا بحفظ الله سبحانه وتعالى، وأن أتباعه سيبقى لهم الشرف والمكانة محفوظين على وجه البسيطة، وأنه مشتمل على ما به اتعاظ قلب الإنسان وتذكيره، سواء في باب الأحكام أو الحكم أو المحكمات والحجج أو الحكايات والأخبار، وهو في كل ذلك جاء بأكمل شيء بحيث لا يحتاج إلى غيره.
خلاصة:
إذن قد بدا واضحًا للأعمى والبصير أن أسماء القرآن ليست مجرد أعلام جامدة لا معنى لها، بل هي أسماء مُختارة اصطفاها الله تعالى لكتابه؛ لتدلَّ على معانٍ وأوصاف شريفة تليق بمقام كتابه العزيز الذي قال الله تعالى فيه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
وفي هذا يقول الإمام أبو جعفر الطبري: “إنّ الله تعالى ذكرهُ سمَّى تنزيله الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة… ولكلّ اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب معنى ووجهٌ غيرُ معنى الآخر ووجهه”، ثم فصَّل معنى كل اسم من تلك الأسماء([32]).
وهذا شأن من له الكمالات المطلقة وما يصدر عنه سبحانه وتعالى، فمن له الكمال يتسمَّى بأكمل الأسماء، ويتصف بمطلق الكمالات والأوصاف التي تدلُّ عليها تلك الأسماء، على عكس حال أهل النقص والضعف من البشر والمخلوقات.
فالله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، وكل اسم من أسمائه دال على أكمل الصفات وأجملها وأشرفها، وكذلك أسماء كتابه الكريم وكلامه العزيز الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفى الله تعالى له أخيَر الأسماء وأعلاها وأجلها وأولاها، وكانت تلك الأسماء حاملة لما يتصف به ذلك الكتاب حقيقة، وأما المخلوقات فقد تجد من يُسمَّى منهم بالأسماء التي لا يكاد يكون له من الاسم سوى حروفه، فتجد بينهم من يسمَّى صالحًا وليس بصالح، ومنهم من يسمَّى محمَّدًا وهو مذموم على ألسنة الناس أجمعين.
ولكن من المتقنِّعين بقناع القراءات الجديدة للقرآن الكريم من لم يقنع بما اصطفاه الله من الأسماء لكتابه، وبما رضي به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضوان الله عليهم- والتابعون والأئمة من بعدهم، بل كان له مهيع آخر وسبيل غير سبيل الله ورسوله والمؤمنين مع أسماء القرآن الكريم؛ ولذا نرى عدوله واستبداله بتلك الأسماء أسماء وضعها من عنده واستلهمها من معين عقله الراشد! ولكن:
ما هذه الأسماء التي وضعها أركون؟
هل صرَّح أركون عن الدوافع في استبداله بالأسماء القرآنية للقرآن غيرها؟
هل هذه الأسماء خير من الأسماء التي يُسمى بها القرآن عند المسلمين؟
وهل هذه الأسماء تحمل معاني أفضل من تلك المعاني التي رأيناها في الأسماء الربانية؟
ما الآثار الناجمة عن استبدال الأسماء الأركونية الحداثية للقرآن الكريم بالأسماء الربانية؟
كل هذا سيأتي الجواب عنه فيما يلي:
أسماء القرآن الأركونية:
رأينا في المبحث السابق كيف كانت الأسماء القرآنية للقرآن الكريم حاملة في طياتها أطيب المعاني وأعطر الصفات، ولكن أركون لم تعجبه تلك الأسماء؛ ولذا فإنه اختار للقرآن الكريم أسماء من عنده([33])، ومنها:
- الخطاب النبوي.
- المدونة الرسمية المغلقة.
- الظاهرة القرآنية أو الحدث القرآني.
وهذا أوان البحث في هذه الأسماء ومضامينها ودلالاتها؛ ليقف البصير الحصيف بعد ذلك على حال هذه الأسماء ويقارن بينها وبين أسماء القرآن الربانية بموضوعية، ثم يعرف هل كانت تلك الأسماء مسامِتةً للأسماء القرآنية أم هو من الذين استبدلوا الذي هو الأدنى بالذي هو خير، أم كانت له أغراضٌ أخرى عرَّف بعضَها وأعرض عن بعض، وصرَّح ببعضها وعرَّض ببعض. وهذا أوان الشروع في استعراض تلك الأسماء:
- الخطاب النبوي([34]):
إذا بحثنا في أول ما يتبادر إلى ذهن المرء حين يسمع هذا الاسم، فغالبًا ما تأخذنا العقول إلى مُبلِّغه الكريم وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو من خاطب به الناس أوَّل ما نزل.
هذا صحيح عند النظر إليه بنظرة عابرة دون معرفة خلفيات صاحب التسمية، ولكن هذا الاسم يحمل في طياته أيضًا معانيَ أخرى غير هذا، فهو يلغي الركيزة الأساسية في القرآن الكريم وهو كونه خطابًا من الله سبحانه وتعالى؛ ليكون بهذا الاسم خطابًا مضافًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لينطق بعد ذلك بلسان الحال عن الشبهة القديمة الممجوجة التي نعق بها غربان المستشرقين صباح مساء، وهي: أن القرآن تأليفٌ محمَّدي أو منتجٌ محمَّدي ولا علاقة له بالإله أو بالسماء كما يحلو لهم أن يعبِّروا، فهو -بزعمهم- من تأليف النبي محمد عليه الصلاة والسلام وليس من كلام الله سبحانه وتعالى.
وما دعانا إلى أن ننحو هذا المنحى هو سياق الكلام الذي أورد فيه هذه التسمية، فقد طرحه بعد أن استهجن اسم القرآن واستبعده لما فيه من الهالة التقديسية التي تمنع من البحث في حقيقته كما يزعم، وحاول زورًا منه وإفكًا التفريق بين القرآن المسموع الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة والقرآن المكتوب الذي بين أيدينا!! ليشكِّك بعد ذلك في أمانة الصحابة الكرام الذين جمعوا القرآن ونقلوه إلينا، ويوهم بوجود تحريف أو نقص في القرآن الكريم حيث يقول أركون: “لننتقل الآن إلى ما يدعوه الناس عموما بالقرآن([35])، إن هذه الكلمة مشحونة إلى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية – الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، إلى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي، فهي تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة كانت طُمست وكُبتت ونُسيت من قبل التراث التَّقَوِي الورع، كما من قبل المنهجية الفيلولوجية النصانية أو المغرقة في التزامها بحرفية النص.
وهذه الحالة لا تزال مستمرة منذ زمن طويل، أي: منذ أن تم الانتقال من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية ونشر مخطوطة المصحف بنساخة اليد أولا ثم طباعة الكتاب ثانية، وهذه العمليّات حبَّذت صعود طبقة رجال الدين وازدياد أهميتهم على مستوى السلطة الفكرية والسياسية. وهذه الحالة تتناقض مع الظروف الاجتماعية والثقافية الأولية لانبثاق وتوسُّع ما يدعوه الخطاب القرآني الأولي بالقرآن أو الكتاب السماوي أو الكتاب بكل بساطة([36])، وهو القرآن المتلو بكل دقة وأمانة، وبصوت عال أمام حفل أو مستمعين معينين”([37]).
فهو يعرِّض بالقرآن الكريم الذي هو كلام الله سبحانه، ويزعم صعوبة وصول حقيقته إلينا، ولذا يستبعد اسم القرآن؛ حيث توجد معانٍ ودلالات طُمست ونُسيت؛ ولذا يسميه: الخطاب النبوي؛ ليتقاطع بذلك مع الفرية الاستشراقية البالية.
لقد أثيرت هذه الشبهة في عهد النبوة، ولكن مآل الكاذب هو الفضيحة والعار، فقد كُشفوا حين تناقضوا في قولهم، فمن قائل بأنه هرطقات ودعاوى أنشأها بنفسه، أو شيء من السحر والشعر ألفه من عنده، ومن زاعمٍ أنها أساطير الأولين اكتتبها منهم، أو هي فلسفات تعلَّمها من بشر، ومن مدعٍ أنها إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.
ويا سبحان الله! لم يخرجوا من صندوق الشبهات التي أثارها السابقون وفنَّدها القرآن وأبطلها، بل هي هي([38])، ولكنها تزيَّت بزيِّ التحضُّر والمدنيَّة، فمما قالوا مثلًا: “كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة والإلهامات المباشرة للحس أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل الناضج، فلولا ذكاؤه الكبير استطاع الارتقاء على خصومه… مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية من الله بدون مناقشة”([39]).
ومنها دعواهم أن الحالة التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة صرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظلُّ ملقى على إثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقه…
وبعضهم اعتبرها حالة هستيرية وتهيّجًا عصبيًّا يظهر عليه أثرها في مزاجه العصبي القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر إلى أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه وشحب لونه وخارت قواه([40]).
وقليل من المقارنة بين تلك الدعاوى وبين الاسم المقدَّم من أركون الذي تتلمذ على هؤلاء ورضع من علمهم يُنبئنا عن المحتويات والأدوات المصنعية التي دار فيها هذا الاسم حين إنتاجه من قبل أركون، والغايات التي صرَّح هو بسعيه إليها كتصريحهم.
إذن أركون يضع القرآن في محل لبس وإشكال حين يسميه خطابًا نبويًّا؛ إذ السؤال المتبادر إلى الذهن هو: هل كان هذا الخطاب نبويَّ المصدر أي: أن قائله ومؤلفه هو النبي صلى الله عليه وسلم، أم هو ناقل مبلِّغ مرسَل أرسله الله سبحانه وتعالى وهو مؤلف هذا القرآن؟
مع أنه يصرِّح أن هذا الخطاب ليس بنبويِّ المصدر بعد أن يسميه بالخطاب النبويِّ حيث يقول: “لنسم هذا القرآن إذن بالخطاب النبوي، أي: ذلك الخطاب الذي يقيم فضاءً من التواصل بين ثلاثة أشخاص قواعدية، أي: ضمير المتكلم الذي ألف الخطاب المحفوظ في الكتاب السماوي، ثم الناقل بكل إخلاص وأمانة لهذا الخطاب والذي يتلفظ به لأول مرة، (أي: ضمير المخاطب الأول = النبي)، ثم ضمير المخاطب الثاني الذي يتوجه إليه الخطاب (أي: الناس)”([41]).
ثم إنه قد بيَّن لنا ما يدخل في هذا الاسم الذي وضعه للقرآن، حيث إن للقرآن نظائر ينبغي أن يلحق بها كما يزعم، ولا يختلف حالها عن حال القرآن، يقول أركون: “فتحليل الخطاب الديني أو تفكيكه يتم لا لتقديم معانيه (الصحيحة) وإبطال التفاسير الموروثة، بل لإبراز الصفات اللسانية اللغوية وآلات العرض والاستقلال والإقناع والتبليغ والمقاصد المعنوية الخاصة بما أسميته: (الخطاب النبوي)، وكنت قد بينت في عدد من الدراسات السابقة أن مفهوم (الخطاب النبوي) يطلق على النصوص المجموعة في كتب العهد القديم (أي: La Bible) والأناجيل، والقرآن كمفهوم يشير إلى البنية اللغوية والسيميائية للنصوص، لا إلى تعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية”([42]).
وأول ما ترمقه العين في هذا النص السابق ويعارضه المنطق الصحيح أنه وضع القرآن مع التوراة والإنجيل في سلَّة واحدة؛ ليدَّعي أنها جميعًا شبه بعض، مع أن الفوارق كثيرة، وشتان بين كتاب تكفَّل الله بحفظه وكتاب وَكل حفظه إلى أهله، بل أيُّ مقارنة بين كتابٍ هو بين أيدينا كما أنزل بلغته الأولى وحروفه وحركاته وسكناته لا يختلف في قطر من الأقطار عن آخر، وكتابٍ أو كتبٍ كتبها أصحابها بعد برهة من موت النبي، ولا وجود لأصولها، بل الموجود منها ترجماتها فحسب!! إلى غيرها من الفروق التي لا تعدُّ ولا تحصى.
ولكن أركون يختلق هنا فريةً أخرى يدَّعي فيها أن القرآن الذي بين أيدينا مرحلةٌ سبقتها مراحل من الصياغة والمراجعة والحذف والتنقيح والتعديل كحال التوراة والإنجيل!!
وأما الوصول إلى المرحلة الأولى التي نزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام فمن المستحيل الحصول عليها كما هي، يقول أركون: “في دراسات عديدة سابقة كنت قد أقمت حادًّا وقاطعًا بين المكانتين اللغويتين للخطاب القرآني، أقصد: المكانة الشفهية والمكانة الكتابية، فالمكانة الشفهية لها بروتوكولها الخاص في التواصل أو التوصيل، ونقصد بها الأداء الشفهي من خلال قناة خاصة، وفي ظروف مادية معينة، ومن خلال علامات سيميائية خاصة، وأدوات وآليات مستخدمة لتوليد المعنى الذي يؤدي إلى ردود فعل مباشرة عليه؛ إما القبول وإما الرفض، إما أنه يثير حماسة الجمهور المستمع، وإما أنه يثير غضبه على الفور، وهناك مكانة المكتوب أو القرآن كنص. ينبغي أن نعلم أن المكانة الشفهية للخطاب قد تأبَّدت (أو ظلت على قيد الحياة) من خلال التلاوة الشعائرية للقرآن من قِبل المؤمنين، وكذلك تأبدت من خلال الاستشهادات المتكررة التي تحصل للمسلمين كثيرا في أحاديثهم اليومية أو العادية، ولكن هذين النمطين من الاستخدام الشفهي يختلفان لغويا عن المرة الشفهية الأولى حين نطق محمد بن عبد الله بالآيات القرآنية، أو بالمقاطع والسور على هيئة سلسلة متتابعة أو وحدات متمايزة ومنفصلة على مدار عشرين عاما. وهذا التبليغ الشفهي الأول ضاع إلى الأبد، ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه أو يتعرف عليه مهما فعل ومهما أجرى من بحوث… وقد كرّست أدبيات هائلة لهذه المسألة من قبل العلماء المستشرقين، وينبغي أن يستمر البحث إذا كان هناك أي أمل في العثور على مخطوطات موثوقة أكثر قدمًا من النسخة التي نمتلكها حاليًا. ولكن منذ أن فرضت المجموعة الرسمية المغلقة أو الناجزة المتمثلة بالمصحف نفسها، والمسلمون يعارضون حتى إمكانية ترتيب القرآن طبقا للتسلسل الكرونولوجي للوحدات النصية التي يصعب بالطبع تحديد تواريخها، وبالتالي ترتيبها، إن مجرد التفكير بهذه الاحتمالية مرفوض من قبل جمهور المسلمين”([43]).
إذن قد مرَّ القرآن في نظره بالمرحلة الشفهية ثم انتقلت إلى مرحلة التلقي، وبعدها التدوين وتعدد النسخ المكتوبة، ثم توحيد تلك النسخ إلى نسخة نهائية، وهذا ما سنتناوله في الاسم التالي والذي هو: المدونة الرسمية المغلقة.
وقبل الانتقال إليه يجدر بنا أن ننبه إلى أن هذا الاسم ليس من بنات فكره حقيقة، وإنما هو اسم مغصوب من نقَّاد الكتاب المقدس ليس إلا، وقد حاول الغاصب أن يسقطه على القرآن الكريم إسقاطًا دون مراعاة لفارق المقياس، ولا ظروف النشأة والوجود، ولا دلائل الكتاب ومعجزاته وبيِّناته، يقول أركون: “أود أن أذكر هنا بأن مفهوم (الخطاب النبوي) كان قد بُلوِر أو نُحت انطلاقا من التحليل الألسني والسيميائي الصرف للخطاب الديني المتجلي في التوراة والإنجيل والقرآن، وبالتالي فهو ينطبق على هذه المجموعات النصية الثلاث، وهذا يعني أن الكتب الثلاثة تتميز بخصائص لغوية وسيميائية – دلالية مشتركة ومتشابهة، وهي خصائص تميز الخطاب الديني عن غيره من الخطابات على الصعيد اللغوي المحض؛ كالخطاب الفلسفي مثلا، أو الخطاب المنطقي الذي يستخدم اللغة بطريقة مختلفة عن طريقة الخطاب الديني، وهذا ما اكتشفه العلماء بعد التحليل الدقيق لخطاب التوراة والإنجيل والقرآن؛ ولهذا السبب يحق لنا أن نتحدث عن شيء اسمه: الخطاب النبوي أو خطاب النبوة أو خطاب الأنبياء… وهذا التمييز يتيح لنا أن نتجاوز معرفيًّا الآراء اللاهوتية الشائعة عن مفهوم الوحي، ولكنه لا يتيح لنا أن نتجاوزها وجوديا أو حياتيا؛ لأنها مغروسة في أذهان الملايين من المؤمنين منذ قرون عديدة، وهذه الآراء اللاهوتية الشائعة عن الوحي كانت قد بُلورت من قِبل المفسرين في الطوائف الدينية الثلاث، أي: الطائفة اليهودية، فالطائفة المسيحية، فالطائفة الإسلامية مع ذاكراتها الثقافية الجماعية المتمايزة عن بعضها البعض. فعلى الرغم من أنها جميعا تنتمي إلى دين التوحيد، إلا أنها طورت ذاكرات جماعية، أي: تراثات دينية ثقافية لغوية مختلفة كثيرا، بل ومتنافسة ومتصارعة تاريخيا…”([44]).
وما هي إلا محاولة منه “لزرع مجموعة من المصطلحات التي نبتت وترعرعت في تربة غير التربة الثقافية الإسلامية… مع تسليم تام منه بما يُنحت من مصطلحات في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، من دون أدنى دراسة نقدية لمحتواها؛ كي يتسنى معرفة قدرتها على التأقلم مع خصائص التربة الجديدة التي يراد زرعها فيها، مع أنه بادٍ للعيان عمق الاختلاف بين التربتين”([45]).
- المدونة الرسمية المغلقة:
تفوح رائحة الاتهام للقرآن الكريم ويشمُّها كل من رأى هذه التسمية، فأركون يريد بهذا الاسم أن يكرِّس كون القرآن الذي بين أيدينا ليس هو القرآن الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما انتقل من مرحلة اللفظ إلى الكتابة، بل مرَّ بالعديد من المراحل حتى وصل إلى النسخة التي بين أيدينا، فإن ما بين أيدينا هو المصحف الذي دُوّن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بسنوات بل بقرون!! وليس هو القرآن؛ لأن القرآن هو ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو الموجود بين أيدينا اليوم!!
يقول أركون: “النص الذي نريد قراءته قصير نسبيًّا، وهو يشكِّل جزءًا من نص أكبر وأكثر اتساعًا كان قد نقل إلينا تحت اسم: القرآن!!
من الناحية الألسنية أو اللغوية يمكن القول بأن القرآن عبارة عن مدوَّنة منتهية ومفتوحة من العبارات أو المنطوقات المكتوبة باللغة العربية، وهو مدونة لا يمكن أن نصل إليها إلا عن طريق النص الذي ثُبِّت حرفيًّا أو كتابيًّا بعد القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، إن كلية النص المثبَّت على هذا النحو كانت قد عُوملت بصفتها كتابًا واحدًا أو عملًا متكاملًا”([46]).
إذن هو يعتمد هذا الاسم بعد أن حمَّله جملة من الدلالات والمفاهيم، بدءًا بعدم الثقة بوعد الله تعالى بحفظ القرآن، ومرورًا بالتشكيك في النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأمر بكتابة القرآن حين نزوله، والطعن في الصحابة الذين تولوا جمع القرآن.
وأمُّ العجائب التي لم نسمعها حتى من ألد أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم أنه يزعم أن القرآن لم يثبَّت كليًّا وينتهي من جمعه إلا بعد القرن الرابع الهجري، يقول شارحه هاشم صالح معلقًا: “القرآن لم يُثبَّت كليًّا أو نهائيًّا في عهد عثمان على عكس ما نظن، وإنما ظل الصراع حوله محتدمًا حتى القرن الرابع الهجري حين أُغلق نهائيًّا باتفاق ضمنيٍّ بين السنة والشيعة؛ وذلك لأن استمرارية الصراع كانت ستضرُّ بكلا الطرفين، بعدئذ أصبح معتبرًا كنصٍّ نهائي لا يمكن أن نضيف إليه أي شيء أو نحذف منه أي شيء، وأصبحوا يعاملونه كعمل متكامل على الرغم من تنوّع سوره واختلافها فيما بينها من حيث الموضوعات والأساليب”([47]).
يقول هذا وكأن التاريخ حفظ لنا نسخًا من القرآن كما حفظ نسخ الأناجيل النصرانية، ولا يعرف في التاريخ كله أن أحدًا من المؤرخين -سواء من المسلمين أو أعدائهم- ذكر شيئًا من ذلك، فكيف عرفه أركون؟!!
وحين يقول أركون: “أفضِّل أن أدعوه بالنص الرسمي المغلق، والذي استهلكته الأمة المفسرة، عاشت عليه طيلة قرون وقرون، وسوف تستهلكه أيضا طيلة فترة مقبلة لا يعرف إلا الله مداها بصفته تنزيلا أي: وحيا معطى”([48])، فهو يريد منا أن نكون مستهلكين لمنتجات الغرب في كل شيء، حتى في الأفكار والمصطلحات والمفاهيم، وحتى في القضايا التي خصَّنا الله بها وهو القرآن الكريم والمعجزة الخالدة، وهذه بطبيعة الحال حالة بغيضة مستشنعة عند أولي النهى، فكما رأينا الحال في منبت الاسم الأول الذي ناقشناه من قبل، نجد هذا الاسم أيضًا مسروقًا من الفضاء الغربي وليس مخترعًا من عقل أركون، وفي هذا يقول هاشم صالح شارحًا معنى المدوَّنة: “المدونة هي المصطلح العربي المقابل للمصطلح الفرنسي: (corpus)، وكان يمكن أن نترجمه بالمجموعة النصية أو النصوصية، فالقرآن مشكل من مجموعة نصوص (أو سور) مختلفة الطول، وأما مصطلح الظرف العام للخطاب فيقابله بالفرنسية المصطلح التالي: (la situation de discours)، وهو يعني أن كل خطاب أو كلام يقال داخل ظرف معين أو أحوال معينة، والذين يحضرون الجلسة التي قيل فيها هذا الكلام يفهمونه بشكل أفضل من الغائبين الذين يطلعون عليه قراءة”([49]).
وأما مصطلح (الرسمية) فينمُّ عما يدور كثيرًا في كتاباته من الإيحاء بأن هذا النص هو النصُّ الذي أُلزم الناس به رسميًّا مع عدم قناعتهم به!! وإنما فُرض عليهم ذلك بقوة السلطان!! وما فيه من تهويلات وتقديس مصدره منظومة السلطة!! فجمهور الناس في ذلك الزمن -حسب زعمه- كانوا يعلمون أن هذا النص ليس هو الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم!! كما أنهم يوقنون أيضًا بأن القداسة التي أعطيت للقرآن مفتعلةٌ من السلطة ليس إلا!! تمامًا كحال الأناجيل التي كُتبت من بعض الحواريين ثم نالت وسام القداسة فيما بعد.
يقول أركون: “فجميع الطوائف كانوا قد تفنَّنوا في رفع المدونة الرسمية المغلقة إلى مرتبة الكتاب المقدس”([50])، ويقول في موضع آخر: “نجد إرادة إعلاء الكتاب العادي والتسامي به إلى مرتبة الكتاب المقدس تبلغ ذروتها في عملية التنكير والتقنيع عندما تؤكد أننا نستطيع أن ننتقل من الأناجيل لكي نصل مباشرة إلى الوحي المتجسد في المسيح، أو أن المصحف -أي: المجلد الذي يحتوي على كل النصوص القرآنية- هو من نوع الطابع غير المخلوق للقرآن في كونه كلام الله”([51]).
ويصوِّر لنا أركون حجم النزاعات والشقاقات الهائلة التي كانت تدور بين الصحابة حين الجمع، والتي تمَّ حجبها وحظرها عن ساحة النقاش، والتي انتهت باستخدام الخليفة لقوته وسلطته وفرض رأيه على الناس، وألزم الناس بمدونته والتي صبغها بالصبغة الرسمية!!
يقول أركون: “إن غياب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والنقاشات التي تفاقمت بين المسلمين الأوائل دفعت الخليفة عثمان إلى جمع كلي للتنزيل في مدونة واحدة تدعى المصحف وأعلن أن الجمع قد انتهى وأن النص الذي أثبت لا يناله التغيير وأتلفت المدونات الجزئية لكي لا تؤجج الخلافات في صحة التبليغ المحفوظ وهذا يسوغ مصطلح المدونة الرسمية المغلقة”([52]).
ولننتقل إلى هذا المصطلح الأخير، ألا وهو مصطلح (مغلقة)، والذي يعرِّض بفعل الصحابة الذين أغلقوا النص القرآني بعد أن كان مفتوحًا لكل أحد!! فإن أركون يحاول فتحه بعد ذلك الإغلاق لتحسيناته اللغوية!! يقول أركون: “على الرغم من أن المدونة القرآنية أصبحت مغلقة نهائيا وبشكل لا رجوع عنه من الناحية اللاهوتية، فإننا نستطيع أن نقبل تاريخيًّا بأنها تظل مفتوحة على التحسينات النصية التي قد يقدمها النقد الفيلولوجي أو اللغوي – التاريخي، ولكن هذه التحسينات تظل افتراضية جدًّا مشكوكًا فيها، وهي على أية حال لو حصلت فلن تعدل من مبادئ القراءة التي نبلورها هنا”([53]).
ولا أدري كيف رضي لنفسه بالانحطاط إلى هذه الدركة من الدركات؟! كيف يدَّعي إمكانية تقديم التحسينات النصية على القرآن الذي استعصى على العرب الأقحاح الإتيان بآية من مثله، بل على العالم أجمع، بل كان التسليم من فصحائهم كما رأينا في فاتحة بحثنا هذا؟! وما زال التحدِّي قائمًا ولن يزال حتى قيام الساعة، فذاك قول الله ومن أصدق من الله قيلًا؟! {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وكيف لهذا الذي اعترف بعظمة لسانه وأقرَّ بعجزه عن البيان أن يداني ما امتلك ناصية البيان ووقف دونه أرباب اللسان؟!
إننا لو بحثنا في كتابات أركون ولغته وجدناه يئنّ ويتوجَّع من عدم قدرته على بيان أفكاره لطلبته!! ويشكو طلبتُه عدم استيعابهم لما يقدِّمه لهم من أطروحات؛ لما فيها من الغموض والعي والعجز عن البيان! يقول أركون: “معظم الطلبة الذين قرؤوا كتبي يشكون من صعوبة فهم الجهاز المفهومي أو المصطلحي الذي أستخدِمُه وأواصل تجديده وإثراءه انطلاقًا من النصوص والمؤلفات والتجارب الفكرية الإسلامية في الواقع”([54])، ثم هو يريد إضافة التحسينات النصية على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي اعترف بفصاحته وعلو شأنه القاصي والداني والعدو والموالي!!
إذن نجد أركون على عكس الأسماء القرآنية للقرآن الكريم يحاول التشبُّث بأسماء مادية جامدة يمكن التعامل معها بالفكر المادي الغربي، وتعاطيها بالمناهج المادية الحديثة، ولو كلَّفه الأمر أن يحرِّف حقيقة القرآن وركائزه الأساسية، فجميع الأسماء التي يقترحها أسماء جامدة لا تحمل أي معنى من المعاني الإيمانية، وهي في ذات الوقت تحاول أن تجعل من نفسها عباءةً يدخل تحتها جميع كتب أهل الأديان، وهو ما لمسناه مثلًا في الاسم الأول (الخطاب النبوي)، ونجده أيضًا في هذا الاسم (المدونة الرسمية المغلقة).
- الظاهرة القرآنية أو الحدث القرآني:
قد يتبادر إلى الذهن أن هذا الاسم ليس كالأسماء السابقة التي هي مشحونة بالشحنات المادية ومتأثرة بالمناهج الغربية الحديثة، ولكن الأمر ليس كذلك، ولنترك الكلام لأركون الذي لم يأبه بالتصريح بغرضه من استبداله باسم القرآن الكريم هذا الاسم حيث يقول: “استخدمت هنا مصطلح: (الظاهرة القرآنية) ولم أستخدم مصطلح القرآن قصدا لماذا؟ لأن كلمة قرآن مثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية، ومن ثم فلا يمكن استخدامها مصطلحًا فعالا من أجل القيام بمراجعة نقدية جذرية لكل التراث الإسلامي وإعادة تحديده أو فهمه بطريقة مستقبلية استكشافية، فأنا أتحدَّث هنا عن الظاهرة القرآنية كما يتحدَّث علماء البيولوجيا عن الظاهرة البيولوجية أو التاريخية”([55]).
فليس هذا الاسم بمنأى عن مشروعه الذي قام عليه، وهو تذويب المصطلحات والمفاهيم الشرعية التي تسمو بنفوس المؤمنين؛ ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويهبُّوا للعمل بما شرع الله ويتَّعظوا بمواعظه، ولكن ذلك لم يُرضِ أركون وأساتذته؛ ولذا يريد أن يستبدل بهذه الشحنات الإيمانية -كما يسميها- مصطلحات جافة جامدة مادية، لا تفرق بين ما هو إلهي نازل من عند رب السموات والأرض ومحفوظ بحفظ أعظم الحافظين وبين ما هو موكول حفظه إلى الإنسان الضعيف.
إن ما يؤرق أركون فعلًا هو أن المسلمين منذ نزول القرآن وإلى اليوم يؤمنون به، ويعملون بأوامره ونواهيه، ويعظمون ما فيه تعظيمًا لقائله، وبمجرد ذكر اسمه يستحضرون كل تلك المعاني، ولكن ذلك بالطبع سيمنع مشروع أركون التقويضي الذي يرنو إلى هدم كل هذه الحقائق وادعاء أن القرآن مبتور أو منقوص أو مختلق مصنوع بأيدي مهرة على مستوى رفيع من الدهاء والمكر!! ولذلك ابتكر فكرة التفريق بين القرآن والمصحف والفصل بين مرحلة التنزيل ومرحلة التدوين؛ ولذا نجده يجمع قواه ليرفع جسرًا وهميًّا لتجاوز كل تلك العقبات التي تواجهه، ليثبت تاريخية القرآن الكريم كما يقول، ولكن ذلك الجسر أوهن من بيت العنكبوت حقيقة، وهو ما يصرِّح به هاشم صالح حيث يقول: “إن أركون يفضِّل استخدام هذا المصطلح لكي يغرس القرآن في التاريخية، ولكي يزيل عنه تلك الشحنات اللاهوتية المرعِبة التي تحول بيننا وبين فهمه على حقيقته، ينبغي تحييد الهالة اللاهوتية -ولو للحظة- لكي نستطيع أن ندرس النص في كل ماديته اللغوية ومعانيه التي تعكس حتمًا أجواء بيئة معينة وزمن معين”([56]).
يريد أركون أن يجعل القرآن ظاهرة طبيعية يمكن قياسها ودراستها بالمنهج العلمي (التجريبي)، ظهر في زمان ومكان معين ليحل إشكالاته ويتجاوز عقباته، وكانت له دواعيه وأسبابه المرتبطة بزمنه.
ويظهر هذا جليًّا من تعريفه للمصحف حيث يرى أنه: “عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية، ولكنها دونت في ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن، أو لم يكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدونة -أي: المصحف- إلى مستوى الكتاب المقدس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين، واعتبر هذا الكتاب بمثابة الحافظ للكلام المتعالي لله، والذي يشكل المرجعية المطلقة الإجبارية التي ينبغي أن تتقيد بها كل أعمال المؤمنين وتصرفاتهم وأفكارهم”([57]).
إذن لا داعي لتقديسه وإعطائه مكانًا فوق مكانه، لا داعي لاعتقاد أنه منزَّل من عند الله! لا داعي للإيمان به والعمل بما فيه لأنه لن يحل إشكالات زماننا! لا داعي لاعتقاد أنه كلام الله! لا داعي للنزاع مع من ادعى أنه مخلوق لأنها في الحقيقة محاولة لإعطاء القرآن منزلته!!
فالمعتزلة على حد تعبير أركون “عندما دافعوا عن مفهوم خلق القرآن كانوا قد أحسوا بالحاجة إلى دمج كلام الله في نسيج التاريخ، وإذا ما استعاد الفكر الإسلامي هذه الفكرة فإنه حينئذ سوف يمتلك الوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تثار على الفكر المعاصر من كل حدب وصوب بمصداقية أكبر وابتكارية أقوى وأعظم”([58]).
الخاتمة:
إن (القرآن) بهذا الاسم ذكره الله سبحانه وتعالى وسمَّاه به في كتابه فيما يربو على تسع وستين آية، وتداولته الأجيال المسلمة جيلًا بعد جيل، يحفظه الصبيان في كتاتيبهم، والحفاظ في محاريبهم، والعلماء في دروسهم، والباحثون في قماطرهم، ويقرؤه كل مسلم ويعمل به كل مؤمن منذ عهد النبوة، ولعظم مكانته وسمو منزلته تعددت أسماؤه، فهو الفرقان والكتاب والتنزيل والذكر، “ولكل اسم من هذه الأسماء معنى ووجهٌ غيرُ معنى الآخر ووجهه”([59])، وكل منها يحمل في طيَّاته أطنانًا من المعاني الإيمانية.
ولكن هذا أثار حسد المغرضين وحنقهم، فحاول من حاول أن ينزع عنه تلك القداسة، ويستبدل بتلك الأسماء الشريفة مصطلحات ومفاهيم مغصوبة أحيانًا ومسروقة أحيانًا أخرى، فيجعل ما زرعه نقاد الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والحديث في تربتهم ومناخهم وأرضهم هو ذات الزرع؛ ادعاءً أن القرآن كالإنجيل والتوراة، فلا بد أن نسقط عليه ذات المناهج وذات المفاهيم، وبالتالي سنصل إلى ذات النتيجة وهو تحريف القرآن.
وهنا ننتهي بالذي بدأنا به، فقد بدأنا بأول المحاولات لتقويض القرآن الكريم والتي باءت بالفشل، وهنا ننتهي من عرض أواخر تلك المحاولات والتي باءت بالفشل أيضًا، عندها يقف الحصيف العاقل ويتدبر، ولسان حاله: صدق الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: المستدرك على الصحيحين (2/ 550) برقم (3872)، وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه”.
([3]) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروز آبادي (1/ 88).
([4]) للاستزادة ينظر: تفسير الطبري (1/ 94)، تفسير الماوردي (1/ 23)، التحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 71)، أسماء القرآن وأوصافه في القرآن الكريم لعمر بن عبد العزيز الدهيشي.
([5]) التحرير والتنوير (1/ 71).
([9]) النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 30).
([10]) أخرجه أبو داود (786)، والترمذي (3086) وقال: “هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس”.
([11]) للاستزادة ينظر: تفسير الطبري (1/ 94)، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي (1/ 88)، الإتقان في علوم القرآن (1/ 182)، التحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 71).
([15]) ينظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 181)، البرهان في علوم القرآن (1/ 276).
([16]) التحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 73).
([17]) النبأ العظيم (ص: 41) وما بعدها.
([18]) تفسير الطبري (21/ 460).
([19]) صحيح البخاري (6/ 99)، وانظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 280)، الإتقان في علوم القرآن (1/ 183).
([20]) تفسير الطبري (1/ 98-99).
([21]) التحرير والتنوير (1/ 72).
([22]) تفسير الطبري (21/ 479).
([24]) المرجع نفسه (19/ 396) بتصرف يسير.
([29]) ينظر: المرجع نفسه (1/ 99)، التحرير والتنوير (1/ 75).
([30]) تفسير الطبري (17/ 211).
([33]) من الكتب التي ناقشت هذه القضية كتاب: القرآن الكريم والقراءات الحداثية، د. الحسن العباقي (ص: 73).
([34]) ينظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، لأركون (ص: 30).
([35]) هنا تعليق هاشم صالح: “كلمة قرآن مشحونة لاهوتيا إلى درجة أنه يصعب استخدامها قبل تفكيكها، فهي تفرض نفسها على الباحث المسلم بكل هيبة التقديس التاريخية، وتسحقه تحت وطأتها، فلا يعود يجرؤ على طرح أي تساؤل عليها؛ ولذا فلكي نستطيع أن نفهم القرآن فإنه ينبغي علينا مسبقًا التحرر من الهيبة اللاهوتية الهائلة عندئذ، وعندئذ فقط نستطيع أن نرى القرآن في ماديته اللغوية وتراكيبه النحوية والمعنوية ومرجعياته التاريخية المرتبطة ببيئة شبه الجزيرة العربية”.
([36]) هنا تعليق هاشم صالح: “من الواضح أن أركون يفرق هنا بين حالتين: حالة القرآن في زمن النبي عندما كان لا يزال نصًّا شفهيًّا، وحالته فيما بعد عندما تحول إلى نص مكتوب، وعملية الانتقال من النص الشفهي إلى النص المكتوب ليست مضمونة دائما بحذافيرها. ويبدو أن تشكُّل طبقة رجال الدين فيما بعد كان ضروريا من أجل نساخة القرآن وتعليمه للناس، وهكذا قويت هيبتهم في المجتمع فكريًّا وسياسيًّا، وهذا أمر طبيعيّ”.
([37]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، أركون (ص: 29-30).
([38]) يقول الدكتور عمر بن إبراهيم رضوان في كتابه آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره (1/ 371): “وشاء الله أن يعيد التاريخ نفسه في وقتنا الحاضر، فيأتي المستشرقون ليردِّدوا تلك العبارات الساذجة في كتبهم ومقالاتهم ومحاضراتهم، بل ويزيدوا عليها أقوالا أخرى يكذِّبها الواقع ويردّها العقل المستنير… فكان من أقوالهم أن القرآن من صنع محمد وتأليفه وبإعانة آخرين له بتبريرات لا تقبل”.
([39]) تاريخ القرآن، نولديكة (1/ 5)، نقلا عن آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، د. عمر بن إبراهيم رضوان (1/ 372).
([40]) ينظر: مقدمة القرآن، مونتجمري واط (ص: 17-18)، ومقدمة القرآن، لمؤلفه بل (ص: 29-30)، نقلا عن آراء المستشرقين حول القرآن، د. عمر إبراهيم رضوان (1/ 398).
([41]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، أركون (ص: 29-30).
([42]) القرآن الكريم من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 5).
([43]) القرآن الكريم من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 38-39).
([44]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 78)، الحاشية (1).
([45]) القرآن الكريم والقراءات الحداثية، د. الحسن العباقي (ص: 74).
([46]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 114).
([47]) المرجع نفسه (ص: 114)، الحاشية (1).
([49]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 114)، الحاشية (2).
([52]) نافذة على الإسلام (ص: 61)، الفكر الإسلامي – نقد واجتهاد (ص: 65).
([53]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 115).
([55]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (ص: 199-200).