ما هكذا يُدرَّس علم التَّفسير!
للتحميل كملف pdf اضغط هنا
قال الشَّيخ العلامةمحمد البشير الإبراهيمي في حفل ختم رفيق دربه الإمام عبد الحميد ابن باديس -رحمهما اللَّه- تفسيره لكتاب اللَّه سنة (١٩٣٨م):
“هذا هو اليوم الذي يختم فيه إمام سلفي تفسير كتاب اللَّه تفسيرًا سلفيًا ليرجع المسلمون إلى فهمه فهمًا سلفيًا، في وقتٍ طغتْ فيه المادة على الروح ولعب فيه الهوى بالفكر، وهفتْ فيه العاطفة بالعقل، ودخلتْ فيه على المسلم دخائل الزيغ في عقائده وأخلاقه وأفكاره، وفي أمة تقطعتْ صلاتها بالسَّلف وضعف تقديرها للقرآن، فأصبح ملهاة آذان ومشغلة لسان، وأصبح حفاظها يقْرَأُونَه للتبرّك أو يتجرون به في المقابر، وعوامه ينزلونه منزلة البصل والكرّاث فيستشفون بحروفه من أمراض سببتها الحرارة أو جلبتها البرودة، وعلماؤها يدرسونه بلغة المصطلحات العرفية، ويتناولونه بأذهان حشيت بالأفكار الطائفية، والتعصبات المذهبية، والمحامل الجدلية، والتوجيهات اللفظية، وبكتب مُلئت بالاسرائليات المصنوعة والآثار الموضوعة والنظريات؛ والطلبة -وهم صرعى هذه الفتن- يتلقونه بألسنة جافت البيان العربي وصرفتها العجمة في منهاج غير منهاج العرب، ففسد الذوق واختلَّ التصور -وبأفكاره غطَّى عليها الجمود وسدَّ عليها منافد التفكير- وبنفوس ركبها الملل والسأم، فرضيتْ بسماع مالا يُفهم وتلقي ما لا يُعقل، وهان الزمان في حسابها فأصبحتْ تنفق منه جزافًا، واختلَّ تقدير الأشياء عندها فأصبح كل مقروء علمًا وكل قارئ عالمًا.
*وأشهدُ؛* لقد كنتُ ضيفًا بتونس منذ سبع عشرة سنة، فقيل لي عن عالم من مشايخ جامع الزيتونة ومن أبعدهم صيتًا في عالم التدريس: “إنه يُقرئ التفسير”؛ فشهدتُ يومًا درسه لِاُكوِّن فكرة عن دراسة التفسير في ذلك المعهد الجليل؛ وكنتُ معنيًّا بهذا البحث وجلستُ إليه أكثر من نصف ساعة، فوالذي نفسي بيده ما سمعتُ منه كلمةً واحدةً من الآية التي موضوع الدرس ولا لمحتُ أمارة ولا إشارة تدُلّ على أنَّ الدرس في التفسير؛ وما كان كل الذي سمعتُ إلا حكاية لجدل عنيف وتمثيلًا لمعركة لفظية مستعرة بين السيد الجرجاني وعبد الحكيم حول عبارة لعلها لمفسر من المفسّرين الاصطلاحيين، ثم انقضت الحصة وقام الطلبة المساكين يتعثرون، تبدو عليهم سيماء التعب والملل والخيبة، *وقمتُ أنا مستيقينًا أنَّ هذه الطريقة في التفسير هي أكبر الحجب التي حجبتْ المسلمين عن فهم كتاب اللَّه ثم زهدتهم فيه وصدتهم عن موارده*”اهـ.
[(مجلة «الشهاب») | (الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان-جويلية ١٩٣٨، ص٢٧٧)].