حديث: “سجود الشمس تحت العرش” وردّ شُبَه العقلانيين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد الذي جعل الله تعالى “أمره ظاهرًا فيما جاء به من الحق، كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند”([1])؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
أما بعد: فإن الكون كله خاضع مقهور لله تعالى، تحت قدرته ورهن مشيئته، دال على بديع صنعه، شاهد على وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له؛ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1، 2].
ومع التقدم العلمي المذهل الذي توصل إليه البشر في العصر الحديث، إلا أنه ما زال يخفى عليهم الكثير والكثير من أسرار الكون وحقائقه، ولا شك أن البشر مهما تقدموا في سلوك دروب المعرفة بهذا الكون الفسيح المتسع، فإنهم لا يحيطون به علمًا، وإذا أبصروا شيئًا منه فإنهم يخفى عليهم أشياء، وهذه الحقيقة يعترف بها العلماء كافة من المسلمين وغيرهم، ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
إذا اتضح هذا: فإن بعض الملاحدة والعقلانيين إذا وقفوا على بعض الأحاديث التي قد تخالف -في زعمهم- المشاهد من الكون، فإنهم يسارعون إلى ردها وإنكارها، بل ويتخذون ذلك ذريعة لرد الاحتجاج بالأحاديث النبوية بأسرها.
وطريقتهم في هذا -التي تشرَّبوها عن أسلافهم من المعتزلة والجهمية- أنهم يخضعون النصوص الشرعية لآرائهم وعقولهم القاصرة، فإذا اصطدم النص مع رأيهم وعقولهم جحدوا النص وأنكروه، بل وردوه، وكما هو معلوم فإن آراء البشر مختلفة، فبعضهم قد يردّ الحديث بعقله، ثم يأتي آخرون ويقبلونه ولا يجدون فيه معارضة للعقل أصلًا، وقد نجد بعضهم يرد الحديث من وجه ويقبله من وجه آخر، فأي ذلك يعد ضابطًا محكمًا يعتمد عليه؟!
وهم بسلوكهم هذا يقعون في خطأين كبيرين: أولهما: إعمال العقل فيما لا دخل للعقل فيه أصلًا، وهو الأمور الغيبية التي جاء بها النص، والثاني: تقديم العقل على النص، ومآل هذا إهدار النصوص وإهمالها([2]).
وفي هذه الورقة العلمية تفصيل للرد على أشهر الشبهات التي تعلق بها الملاحدة وبعض النصارى والعقلانيين في الطعن في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو حديث سجود الشمس تحت العرش، حيث زعموا زورًا وبهتانًا أنه حديث باطل يناقض الحقائق الكونية الثابتة([3]).
ولا يفوتني الإشارة إلى أنه قد وقع في شِراك تلك الشبهات بعض العلماء -كالشيخ رشيد رضا-، ولم يستطع الفكاك منها، فاعتبر هذا الحديث مغايرًا لقول علماء الهيئة القطعي([4])، وعدَّه من أعظم المتون إشكالًا([5])، وفيما يأتي نص الحديث وشرحه، متبوعًا بالرد على شبهات القوم وتفنيدها إجمالًا وتفصيلًا.
نص الحديث:
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد، فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]»([6])، وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: «مستقرها تحت العرش»([7]).
معنى الحديث:
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن حدوث آية عظيمة في هذا الكون الفسيح المتسع، وهي أن الشمس حين تغرب فإنها تذهب لتسجد تحت عرش الرحمن، فتستأذن الله تعالى في طلوعها بعد أن تسجد لله تعالى فيقبل الله تعالى منها ذلك، ويأذن لها بأن تطلع، ويستمر هذا الأمر دواليك إلى أن يأتي يوم -قدره الله تعالى في الأزل- فتسجد الشمس وتستأذن ربها في الطلوع كعادتها، فلا يأذن الله تعالى لها بذلك، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، وهذه من علامات قيام الساعة.
وليس في هذا الأمر الجليل ما يستنكر، أو ما يستحيل حدوثه؛ فقد جاء في كتاب الله تعالى صراحة أن الشمس تسجد لله سبحانه؛ حيث يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
وليس هذا ببعيد؛ إذ سجود كل مخلوق بحسبه، فسجود الشمس لا يشبه سجود الإنسان بانحطاط البدن ووضع الجبهة على الأرض، وإن كان سجود المخلوقات جميعًا دال على خضوعها وطاعتها لله سبحانه، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن كثير: “يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعًا وكرهًا، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48]، وقال هاهنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي: من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات، من الإنس والجن والدواب والطير، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وقوله: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج: 18]، إنما ذكر هذه على التنصيص؛ لأنها قد عبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة؛ {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]”([8]).
لذا فإن أهل الإيمان لا يستنكرون ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم صحته، ويصدقونه ويسلمون له، ولا يعارضونه بعقولهم القاصرة؛ فإن “وصف الشمس بالسجود وخطابها من الحقائق الإلهية التي لا يستقل العقل بدركها، فيجب تلقيها عن أصحاب الشرائع بالقبول”([9]).
وقد اتفق جماهير أهل العلم وشراح الحديث على قبول هذا الحديث، وعدم معارضته بالعقل([10])، على خلاف ما يروجه بعضهم([11])؛ وأكثر من هذا: فقد اعتبروا من أشكل عليه هذا الحديث قليل البضاعة في العلم؛ يقول الإمام ابن الجوزي: “ربما أشكل الأمر في هذا الحديث على من لم يتبحر في العلم”([12]).
وفيما يأتي تفصيل القول في جمل الحديث:
قوله: “حين غربت الشمس”: يعني: أنها تغرب في رأي العين، كما يرى الناظر لها كأنها تغرب في البحر أو من وراء الجبل، بل من وراء جدار صغير، وذلك بحسب اختلاف مناظرها وأوضاع الناظرين إليها([13]).
وقد ذكر الله تعالى غروب الشمس في كتابه، فقال عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وقال سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]، ومعنى غروبها: تواريها وذهابها بعيدًا عن الأنظار؛ وهذا المعنى مقرر في لغة العرب؛ يقول الخطابي: “غربت الشمس: إذا غابت، فبعدت عن الأبصار”([14]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب»: إخبار بأن الشمس تتحرك وليست ثابتة، وفي هذا معجزة شاهدة على صدق الرسول؛ فإنه صلى الله عليه وسلم بُعث وجميع من حوله موقنون بأن الشمس ثابتة ولا تتحرك، فكونه يخبر بحركتها في وقته، ثم يأتي العلم الحديث يثبت أن الشمس ومجموعتها تدور حول مركز المجرة في حركة حلزونية، فهذا -بلا ريب- وجه من وجوه الإعجاز الذي تحار فيه العقول، بل قد يكون سببًا لهداية من شرح الله صدره للإسلام، وما أكثر حدوث هذا!.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تسجد تحت العرش»: سجود الشمس ليس مما يستنكر أو يستبعد وقوعه، وواجب المؤمن في مثل هذا الغيب التسليم والإذعان؛ إذ لا مدخل للعقل في إدراكه، ولا إشكال عند المؤمن في الإيمان بسجود الشمس لله تعالى، إذا صح الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب؛ يقول الإمام أحمد: “ كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} [الحشر: 7]”([15]).
ناهيك أن القرآن الكريم قد صرح بإثبات سجود الشمس لله تعالى، وسيأتي ذكر الآيات الدالة على ذلك تفصيلًا.
وعرش الرحمن: هو سقف المخلوقات جميعًا، وهيئته ليست كالفلك مستديرًا بالمخلوقات، وإنما هو كالقبة فوق جميع المخلوقات، وليس محيطًا بها؛ وقد بيَّن الحافظ ابن كثير هذا المعنى بقوله: “العرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، وليس هو فلكًا، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات”([16]).
والمعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش» يبيّنه الخطابي بقوله: “وفي هذا إخبار عن سجود الشمس تحت العرش، فلا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها، والخبر عن سجود الشمس والقمر لله عز وجل قد جاء في الكتاب؛ قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} الآية [الحج: 18]”([17]).
وقوله: «تحت العرش»: يعني: حين محاذاتها، كما تقدم عن الخطابي، وكذا قاله غيره([18]).
ثم إن الشمس مع كونها تحت العرش ولا تخرج من تحته، ومع اختلاف حالها بالليل والنهار، هي في فلكها المقدر لها لا تخرج عنه؛ وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المعنى فقال: “فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار مع كون سيرها في فلكها من جنس واحد، وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه، وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والإضافة”([19]).
ومعنى قوله: «فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد، فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]»: أن الشمس حين تذهب وتسجد تحت العرش تستأذن الله تعالى في أن تطلع على الناس مرة أخرى، فيأذن الله تعالى لها في الطلوع، ويستمر هذا الأمر إلى أن يأتي الأجل الموقوت للقيامة، فيجليها الله تعالى لوقتها؛ كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187]، حينئذٍ تذهب الشمس وتستأذن ربها في الطلوع، فلا يأذن الله تعالى لها في الطلوع، بل يقال للشمس: ارجعي من حيث جئت فتطلع من المغرب، وهذا تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].
ولإيضاح هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها”([20]).
وقد جعل الوزير ابن هبيرة هذا المعنى من الفقه المستنبط من هذا الحديث الشريف؛ فقال: “فيه من الفقه: أن الشمس تستأذن في كل يوم تطلع فيه لطلوعها بعد سجودها، وأنها ستطلع من مغربها، إلا أن في هذا الحديث من الإشارة إلى أن الشمس لا تعلم متى ذلك، وأنها يجوز أن يكون ردُّها لتطلع من مغربها هو كل يوم”([21]).
ويؤكد هذا المعنى ويزيده إيضاحًا ما جاء في رواية الإمام النسائي بلفظ: فقال: «أتدرون أين تغرب الشمس؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «تذهب حتى تنتهي تحت العرش عند ربها، ثم تستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها، وتستشفع وتطلب، فإذا قال ذلك، قيل: اطلعي من مكانك، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]»([22]).
ودل القرآن الكريم على أن طلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة، يقول الله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الأنعام: 158].
وقد فسر جمع من الصحابة والتابعين قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} بأنه طلوع الشمس من مغربها، وبهذا صح الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وبه قال مجاهد وقتادة والسدي وابن جريج([23]).
كما دلت عدة أحاديث على المعنى ذاته، ومنها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين: {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158]»([24])، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض»([25]).
وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «مستقرها تحت العرش»: يقول الآلوسي: “فالمستقر اسم مكان، والظاهر أن للشمس فيه قرارًا حقيقة”([26])، وقد أفادت تلك الجملة أن للشمس مكانًا تستقر فيه، وهو أيضًا مما لا يستنكر عقلًا؛ وقد فسر أهل العلم مستقرها تحت العرش بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن يكون المراد أن مستقر الشمس حقيقة تحت العرش، ولا ندري كيفية ذلك؛ إذ هو أمر غيبي نؤمن به ونصدقه.
الأمر الثاني: أن يكون فيه إعلام بأن مستقرها تحت العرش في اللوح المحفوظ.
وقد أوضح الإمام الخطابي ذلك بقوله: “فلا ننكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده، وإنما أخبر عن غيب، ولا نكذب به ولا نكيفه؛ لأن علمنا لا يحيط به. ويحتمل أن يكون المعنى: إن علم ما سألت عنه من مستقرها تحت العرش، في كتاب كتب فيه مبادئ أمور العالم ونهاياتها، والوقت الذي تنتهي إليه مدتها، فينقطع دوران الشمس ويستقر عند ذلك، فيبطل فعلها، وهو اللوح المحفوظ”([27]).
متى تستقر الشمس؟
قد تنوعت أنظار العلماء في توقيت استقرار الشمس -وهو المذكور في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]- وجملة الأقوال في هذه المسألة خمسة، ودونك تفصيلها مع التدليل عليها([28]):
القول الأول: إن الشمس إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش، إلى أن تطلع مرة أخرى، وبهذا قال الواحدي وابن الجوزي والقاضي عياض([29])، وهذا القول استظهره الحافظ ابن حجر حيث قال: “وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها، ومقابل الاستقرار: المسير الدائم المعبر عنه بالجري”([30]).
وقد علل الطوفي لهذا الرأي فقال: “كما جاء في الحديث([31])، وقد بينا جواز وقوفها عن السير بقصة يوشع وحزقيا، وأن هذا مما يجب أن يتسلم عن النبوات، ويتلقى بالقبول، ولا يقابل بشبه العقول القاصرة عن إدراك الحقائق الإلهية“([32]).
القول الثاني: إن الشمس تجري إلى وقت محدد وأجل لا تتعداه، ومستقرها يكون بانتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وبه قال قتادة ومقاتل، وهو اختيار الزجاج، والوزير ابن هبيرة([33]).
وعلل له الطوفي بقوله: أن تكون -أي: اللام في قوله تعالى: {لِمُسْتَقَرٍّ}- بمعنى (إلى)، أي: تجري إلى مستقر لها، وهو حين تستقر بزوال حركتها عند قبض الله السموات والأرض، وتكوير الشمس والقمر، وانكدار النجوم عند خراب العالم، على ما جاء به شرع الإسلام، وأخبر به النبي الصادق عليه السلام… ويكون هذا معنى قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2]”([34]).
القول الثالث: إن الشمس لا تقف ولا تفتر؛ بناء على قراءة بعض أئمة السلف هذه الآية: {والشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرّ لَها}([35])، وهو معنى قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33]، أي: لا يفتران، من الدأب: وهو السعي الشديد، وتكون هذه القراءة مفسِّرة للمراد من الأخرى([36]).
القول الرابع: إن الشمس تسير في منازلها حتى تنتهي إلى آخر مستقرها الذي لا تجاوزه، ثم ترجع إلى أول منازلها، وبه قال الكلبي، واختاره ابن قتيبة([37]).
القول الخامس: إن اللام -يعني: في قوله تعالى: {لِمُسْتَقَرٍّ}- بمعنى (في)، أي: تجري في مستقر لها، وهو فلكها تجري فيه ما بين طرفي مشارقها ومغاربها من ناحية الشمال والجنوب لا تجاوز ذلك، ونقله الطوفي([38]).
وكل هذه الآراء متفقة على صحة الحديث وقبول معناه، فالأخذ بأحدها لا يقدح في الحديث ولا يرده؛ لذا يقول الطوفي -بعد ذكره للآراء الثاني والثالث والخامس-: “كل هذا محتمل لا يقدح بمثله في فروع شريعة، فضلا عن أصولها”، ثم أتبع ذلك بذكره للرأي الأول -الذي ذكرته هنا- وكأنه يذهب إلى ترجيحه([39]).
الشبهات المثارة حول الحديث وردها:
قد أثار الملاحدة والعقلانيون -واغتر بأقوالهم بعض العلماء المحدثين كالشيخ رشيد رضا- بعض الإشكالات والشبهات حول هذا الحديث، وفيما يلي الجواب الإجمالي عن تلك الشبهات، ثم أتبعه بذكر تلك الشبهات مشفوعة بالجواب التفصيلي عنها:
الجواب الإجمالي عن الشبهات المثارة حول الحديث:
إن هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الإخبار عن أمر غيبي -وهو سجود الشمس تحت العرش- وهو مما لا يمكن للعقل إدراكه، ولا الوقوف على كيفيته؛ ويمكن ترتيب الجواب الإجمالي عن الشبهات في النقاط الآتية:
أولًا: قد جاء القرآن الكريم بما يوافق هذا الحديث، ودونك نصوص القرآن الدالة على ذلك:
يقول الله سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، يقول السمعاني: “والسجود: هو الخضوع بالتذلل، وقيل: إن سجود الأشياء هو تذللها وتسخيرها لما أريد له وسخر له”([40]).
ويقول جل وعز: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]، يقول البغوي في تفسيرها: “إنما أخبر بما لغلبة ما لا يعقل على من يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث… ويقال: السجود: الطاعة، والأشياء كلها مطيعة لله عز وجل من حيوان وجماد”([41]).
كما أثبت القرآن سجودًا للجمادات؛ فقال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، وفي تفسيرها يقول قتادة: “ما نزَّل من السماء شيئًا من خلقه إلا عبَّده له طوعًا وكرهًا”([42]).
وأوضح من هذا كله، فقد نص القرآن الكريم صراحة -بما لا يدع مجالًا للشك- على سجود الشمس؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، يقول أبو إسحاق الزجاج: “والسجود هاهنا: الخضوع لله عز وجل، وهي طاعة ممن خلق الله من الحيوان والموات”([43]).
وإذا تدبَّر المؤمن هذه الآيات المباركات سهل عليه فهم الحديث على وجهه الصحيح، وانشرح صدره بثبوته، واستفاد منه، وأثمر ذلك زيادة إيمانه وقوة يقينه.
ويقال لمن أشكل عليه فهم هذا الحديث: كيف يمكنك فهم ما دلت عليه هذه الآيات الواضحات؟! وكيف يدّعَى بعد كل هذا -أعني: ثبوت الموافقة بين الحديث والقرآن- بأنَّ هذا الحديث عكس القرآن الكريم؟!
ثانيًا: يقال لهؤلاء: إن هذا الحديث يتناول أمرًا غيبيًّا لا يمكن للعقل البشري إدراكه:
في هذا الحديث إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الشمس تسجد تحت عرش الرحمن، وقاعدة الراسخين في العلم: أن الأمور الغيبية لا مجال للوصول إلى كنهها وكيفيتها بالعقل أبدًا، ولا يمكن أن تقاس على المشاهد المحسوس، بل المطلوب من المؤمن هو التصديق والإيمان والتسليم والإذعان، وأولئك هم المتقون، المستحقون للاتصاف بالهداية والفلاح؛ يقول تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 2-5].
ثالثًا: أن العلماء لم يكتشفوا جميع أسرار الكون:
مَن يدري؟! فلعل علماء الفلك والهيئة يكتشفون قريبًا ما يكون شاهدًا على صحة الحديث؛ مصداقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وحديث الذبابة خير شاهد على هذا، فلطالما أنكره العقلانيون والملاحدة!! ثم جاء العلم الحديث ليكون شاهدًا على صحته([44]).
رابعًا: لا مستند لرد الحديث:
لا مستند لهم في رد الحديث إلا كلام أهل الهيئة وعلماء الفلك، وقد قرر العلماء أنه لا يجوز الاعتماد على قول أحد غير الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الغيبية؛ يقول الحافظ العراقي: “وما مستند العادلين عنه -أي: عن الحديث- إلا كلام أهل الهيئة، ولا يجوز اعتماد قول غير الأنبياء في الأخبار عن المغيبات، فكيف وقد عارضه كلام أصدق الخلق وأعرفهم بربه وبأحوال الغيب؟!”([45]).
الجواب التفصيلي عن الشبهات التي أثاروها حول الحديث:
وفيما يلي ذكر الشبهات التي أثارها الملاحدة والعقلانيون وغيرهم حول الحديث، متبوعة بالجواب عنها:
الشبهة الأولى: أن الحديث ضعيف مردود من جهة السند:
شغب بعضهم على هذا الحديث بأنه ضعيف مردود، ولهم في هذا مسلكان:
المسلك الأول: الادعاء بأن هذا الحديث من الإسرائيليات التي دُسَّت في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول أحدهم في أثناء رده لهذا الحديث بلا مستند ولا دليل: “واضح أن حتى الصيغة إسرائيلية، خرافات بني إسرائيل هذه، خرافة إسرائيلية واضحة، نمط التفكير إسرائيلي مش علمي…”([46]).
المسلك الثاني: الادعاء بأن الحديث ضعيف من جهة السند، يقول الشيخ رشيد رضا: “إجمال ذلك أنني وجدت أن أصح رواياته التي اتفق عليها الشيخان هي ما أخرجاه من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر، هكذا بالعنعنة، وإبراهيم التيمي قال الحافظ في التقريب: ثقة ولكنه يرسل ويدلس، فهذه علة في سند أصح روايات الحديث تبطل الثقة بها، ولمسلم رواية من طريق أخرى ذكر فيها الراوي سماع إبراهيم من أبيه مع عنعنته، ولم يعتد بها البخاري، وثَم روايات أخرى لا يصحّ شيء منها سنذكر بعضها، ولذلك عدت فاعتمدت إعلاله من ناحية متنه“([47]).
الجواب عن هذه الشبهة:
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا شك في صحته، وهو في أعلى درجات الصحة؛ فقد رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى؛ لذا فإن القول بتضعيف الحديث أو رده من جهة السند مردود وغير صحيح، وقد قطع العلماء بصحَّته؛ يقول الحافظ العراقي: “كيف يجوز العدول عن صريح هذا الحديث الذي لا شكَّ في صحته؟!“([48]).
أما القول بأن الحديث ضعيف لعنعنة إبراهيم التيمي -وهو ثقة، لكنه كان يرسل ويدلس- فإن الجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث رواه البخاري ومسلم، أما البخاري فقد أخرج الحديث من طريق إبراهيم التيمي، ولم يصرح إبراهيم في رواية البخاري بالسماع من أبيه؛ والمعنى في هذا: أن الإمام البخاري صحَّح حديث إبراهيم هنا من حيث مجموع الطرق؛ يقول الحافظ ابن حجر: “فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك -يعني: الرواية عن المدلس الذي لم يصرح بالسماع- في باب ما له متابع وعاضد، أو ما حفَّته قرينة في الجملة تقويه، ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع“([49]).
الوجه الثاني: أن الإمام مسلمًا قد روى هذا الحديث من طريق إبراهيم التيمي، وفيه التصريح بالسماع، وهذه رواية مسلم من طريق يونس، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، سمعه -فيما أعلم- عن أبيه، عن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]»([50]). وهي كما ترى لا تخالف رواية البخاري.
الشبهة الثانية: شبهة إعلال الحديث من جهة المتن:
أثار الشيخ رشيد رضا هذه الشبهة؛ فقال: “وبيان ذلك أنه في أمر غيبي يكثر خطأ الرواة في أمثاله، ويختلفون في فهمها، فيروونها بالمعنى الذي فهموه، وكثيرًا ما يكون فهمهم خطأ”([51]).
الجواب عن هذه الشبهة:
هذا التعميم غير مقبول، ولا يعلم عن أحد من أهل العلم يقول بأن كل حديث جاء في أمر غيبي كثر الخطأ فيه، ويمكن قلب هذه الدعوى فيقال: الأحاديث التي تتناول قضايا الغيب أدعى أن تكون مثار اهتمام من الصحابة -رضي الله عنهم- وليس العكس، بالإضافة إلى أن الحديث موافق لما جاء به القرآن الكريم، وغير مخالف له.
الشبهة الثالثة: استنكار سجود الشمس:
مفاد هذه الشبهة: أنى للشمس أن تسجد ولا رأس لها ولا جبهة([52])؟! كما أن القول بأن المراد بالسجود الانقياد بعد؛ لحصول الانقياد لها لله تعالى دائمًا.
الجواب عن هذه الشبهة:
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشمس تذهب وتسجد لله تعالى تحت العرش، وهو سجود حقيقي، لا مانع من حمله على الحقيقة، وبالطبع فإن سجود الشمس ليس سجود هيئة بحيث يشبه سجود الآدميين، ولا يلزم من إثبات السجود للشمس أن يكون مثل سجود الآدميين، وقد قرر علماؤنا ذلك فقال الإمام النووي: “وأما سجود الشمس فهو بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها”([53]).
على أن بعض العلماء رأوا أن سجودها بمعنى خضوعها وانقيادها وطاعتها لله تعالى، كما مر معنا ذكر بعض أقوالهم ضمن الآيات الدالة على السجود.
وأما القول بأن خضوعها وانقيادها لله تعالى حاصل في كل وقت، فيجاب عنه بإمكان القول بأن للشمس نوعين من السجود:
السجود الأول: وهو ما يمكن فهمه من الآيات الدالة على سجود الشمس لله تعالى، وأن هذا سجود عام لكل المخلوقات.
السجود الثاني: وهو ما أثبته هذا الحديث؛ حيث أثبت للشمس سجودًا مقيَّدًا عندما تذهب وتتوارى عن أعين الناس، وأما محلّ سجودها فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه؛ يقول الطاهر ابن عاشور: “وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش، وهو سمت معين، لا قِبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه، وذلك حين تطلع من مغربها”([54]).
والذي يمكن أن يستفيده المؤمن من هذا هو انقياد الشمس التام لله تعالى وخضوعها له؛ يقول الشيخ المعلمي اليماني: “ومهما يكن هذا السجود، فإنه يدل على الانقياد التام، والشمس منقادة لأمر ربها أبدًا، وانحطاطها في رأي العين إلى أسفل أجدر بأن يسمى سجودًا، والمأمور يعمل إذا انقاد، وشأنه الانقياد دائما، فشأنه عند توقَّع أن يُؤمر بتركه أن يستأذن”([55]).
الشبهة الرابعة: زعموا أن الشمس لو سجدت لتوقفت عن الحركة:
ظن العقلانيون استحالة سجود الشمس، وأنها لو سجدت لتوقفت عن الحركة، وقالوا: نحن نراها مستمرة في الحركة، فأين سجودها؟!
الجواب عن هذه الشبهة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن الشمس تسجد، وسجودها لا يلزم منه توقفها عن الحركة، بل هي مستمرة في فلكها، وقد أوضح علماؤنا هذا المعنى؛ فقال الخطابي: “وليس في هذا إلا التصديق والتسليم، وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في سيرها والتصرف لما سخرت له، سبحان الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددا! وتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين”([56]).
ويقرر الشيخ المعلمي هذا المعنى بقوله: “فلم يلزم مما في الرواية الثالثة -يعني: عند البخاري، وفيها نفس المعنى وزيادة عليه- من الزيادة غيبوبة الشمس عن الأرض كلها، ولا استقرارها عن الحركة كل يوم بذاك الموضع الذي كتب عليها أن تستقر فيه متى شاء ربها سبحانه”([57]).
ولتقريب المعنى إلى الأذهان: يمكن القول بأننا نشاهد في واقعنا ما يؤكده: ألا ترى إلى المصلي في السفينة المتحركة في الماء، أو الطائرة في الهواء، فإن المصلي أثناء صلاته يسجد وهما يسيران به، فينطبق عليه حينئذٍ أنه يتحرك وهو ساجد.
وفي الختام لا بد من التأكيد على أنه لا تعارض البتة بين صريح المعقول وصحيح المنقول، وأخبار الكتاب والسنة الصحيحة لا تعارض بالآراء والأهواء، وإذا قدر أن المؤمن استشكل عليه فهم المراد من الكتاب والسنة الصحيحة، فإنه يصدق ويسلم، ويقدم الشرع على العقل الملتبس.
وفي هذا المعنى -وهو من أحسن ما يجاب به عمَّا يروّجه العقلانيون- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فلو قيل بتقديم العقل على الشرع، وليست العقول شيئًا واحدًا بينًا بنفسه، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب؛ لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته، ولا اتفاق للناس عليه.
وأما الشرع فهو في نفسه قول الصادق، وهذه صفة لازمة له، لا تختلف باختلاف أحوال الناس، والعلم بذلك ممكن، ورد الناس إليه ممكن؛ ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمر الله تعالى المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، وهذا يوجب تقديم السمع، وهذا هو الواجب؛ إذ لو ردوا إلى غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهر هذا الرد إلا اختلافًا واضطرابًا وشكًّا وارتيابًا”([58]).
والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مقتبس من تفسير ابن كثير (6/ 439).
([2]) في مركز سلف ورقة علمية تناقش تلك القضية، وهي بعنوان: إهدار النص بدعوى المصلحة!! وهذا رابطها: https://salafcenter.org/2447/
([3]) ينظر: الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية للطوفي (1/ 362 وما بعدها)، ومجلة المنار لرشيد رضا وآخرين (32/ 673 وما بعدها).
([6]) أخرجه البخاري (3199)، ومسلم (159).
([7]) أخرجه البخاري (4803)، ومسلم [251- (159)].
([8]) تفسير ابن كثير (5/ 403).
([9]) الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية للطوفي (1/ 366).
([10]) ينظر: أعلام الحديث للخطابي (3/ 1894)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (1/ 478)، والإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (2/ 163)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (1/ 359)، وشرح السنة للبغوي (15/ 95)، وآثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (12/ 403)، وغيرها من المراجع.
([11]) كالشيخ رشيد رضا في مجلة المنار (32/ 673)، حيث ادعى استشكال كبار علماء الإسلام المتقدمين والمتأخرين للحديث.
([12]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 359).
([13]) ينظر: الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية (1/ 367).
([14]) غريب الحديث للخطابي (1/ 529).
([15]) ينظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 23).
([16]) البداية والنهاية (1/ 20)، ط. هجر.
([17]) أعلام الحديث (3/ 1894).
([18]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 542).
([19]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/ 54).
([20]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/ 54).
([21]) الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 163-164).
([22]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (11366).
([23]) ينظر: تفسير الطبري (12/ 245-246).
([24]) أخرجه البخاري (4635)، ومسلم (157).
([26]) تفسير الآلوسي (12/ 13).
([27]) ينظر: شرح السنة للبغوي (15/ 95)، والمفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (5/ 408)، وشرح المشكاة للطيبي (11/ 3450).
([28]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 195-197)، وطرح التثريب في شرح التقريب (8/ 258-259).
([29]) ينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 359)، وإكمال المعلم (1/ 478).
([31]) يعني: أن هناك عدة أحاديث صرحت بهذا، وقد ذكرها الحافظ في الفتح.
([32]) الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية (1/ 374).
([33]) ينظر: الإفصاح (2/ 164).
([34]) الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية (1/ 373).
([35]) ينظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص: 192).
([37]) ينظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص: 192)، وتفسير ابن كثير (6/ 576).
([38]) الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية (1/ 373).
([40]) تفسير السمعاني (3/ 86).
([42]) انظر: تفسير الطبري (22/ 13).
([43]) معاني القرآن وإعرابه (3/ 418).
([44]) في مركز سلف مقالة بعنوان: حديث الذُّبابَة.. هل يُعارِض العقلَ؟! ودونك رابطها:
([45]) طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 259).
([46]) هكذا قال د. عدنان إبراهيم في معرض زعمه بوجود أحاديث تخالف الحقائق الكونية العلمية الثابتة، ودونك رابط كلامه:
https://www.youtube.com/watch?v=utX3rnxza20
([48]) طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 259).
([52]) حاول عدنان إبراهيم إيهام السامعين هذا، فأشار بيده ورأسه للسجود في أثناء اعتراضه على الحديث، وقد مر رابط كلامه.
([53]) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 197).
([54]) التحرير والتنوير (23/ 20-21).
([55]) آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (12/ 403).
([56]) أعلام الحديث (3/ 1894).
([57]) آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (12/ 405).