حديث: «المرأة خُلِقت من ضلع» دلالة السياق والرد على شبهات الانسياق
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله المتفضل بالإنعام على عباده المتقين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد يحاول عبثًا أعداء السنة النفخَ في رماد الشبهات القديمة التي أثارها أوائلهم للطعن في السنة والغضّ من مكانتها؛ حيث يغمزون الأحاديث الصحيحة بمغامز باطلة، وتأويلات بعيدة عن الفهم الصحيح، أو يقتطعون أجزاء من الحديث الواحد ويخرجونها عن سياقاتها التي وردت فيها؛ ظنًّا منهم أنها تخدم أهدافهم في هدم صرح السنة وترك الاحتجاج بها، وهيهات لهم هذا؛ فقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه -كتابًا وسنة- وظهوره على الدين كله؛ فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
وفي هذه الورقة العلمية مثال صارخ لمحاولات أعداء السنة البائسة للطعن في السنة الصحيح الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونموذج لتفنُّنهم في إلصاق الشّبهات بها، ونسج المزاعم الباطلة حولها، نتذاكر فيها حديث: «المرأة خُلقت من ضِلَع»، وكيف فهمه جماهير العلماء، والرد على الشبهات التي انساق وراءها العقلانيون والحداثيون، مبتدَأة بذكر نصّ الحديث وأشهر ألفاظه، متبوعًا ببيان درجته وشرحه، ثم دحض الشبهات المثارة حوله.
نص الحديث:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضّلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، استوصوا بالنساء خيرًا»([1]).
وفي لفظ: «فإنهن خلقن من ضلع»([2]).
وفي لفظ: «إن المرأة خُلقت من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عِوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»([3]).
وفي لفظ آخر: «المرأة كالضّلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج»([4]).
وهذه الألفاظ يفسر بعضها بعضًا؛ مما يعين على الوقوف على المعنى الصحيح للحديث، بعيدًا عن العواطف والأهواء.
درجة الحديث:
الأصل المعوَّل عليه في التعامل مع الأحاديث النبوية هو الإسناد؛ إذ به يمكن الوقوف على صحة الحديث أو ضعفه؛ لذلك كان جهابذة الحديث وأساطينه يبحثون أولًا عن الإسناد ويهتمون به أيَّما اهتمام؛ لأنه الطريق الموصل إلى المتن، وهذا الأصل الأصيل وحده كاف في الرد على من تجاسر وضعَّف الأحاديث بالأهواء والآراء، بعيدًا عن المناهج العلمية في البحث والاستقصاء؛ يقول القاضي عياض: “فاعلم أولًا أن مدار الحديث على الإسناد، فبه تتبين صحته ويظهر اتصاله”([5])، ويقول ابن المبارك: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”([6]).
وهذا الحديث الذي معنا في أعلى درجات الصحة؛ فقد رواه إماما الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما اللَّذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى؛ لذا فلا غرو أن نعرج على شرحه وبيان ما يستفاد منه، ودحض ما نسجوه من خيوط الأوهام.
شرح الحديث وبيان ما يستفاد منه:
قوله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء» أي: اقبلوا وصيتي في النساء، واعملوا بها، فاصبروا على ما قد يصدر منهن، وارفقوا بهنَّ، وأحسنوا إليهنَّ([7]).
ولتخصيص النساء بالوصاة حِكمٌ بالغة، ومنها كما يقول ابن الجوزي: “وإنما خص النساء بالذكر لضعفهنَّ واحتياجهن إلى من يقوم بأمورهنَّ”([8])، وفي هذا أوضح دليل وأقوم برهان على عناية الإسلام بالمرأة والحفاظ عليها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «المرأة خلقت من ضِلَع»، وقوله: «فإنهن خلقن من ضلع»، تنوعت أنظار العلماء في فهم هذا الكلام النبوي على أقوال، أشهرها قولان:
القول الأول: إن حواء أخرجت من ضلع آدم عليه السلام، والله تعالى أعلم كيف كان ذلك، وحاول بعض العلماء تصويره؛ فقال: “كما تخرج النخلة من النَّواة”([9])؛ وقد أكد القرآن الكريم خلق حواء من نفس آدم في غير آية، ومنها:
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1].
- وقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
- وقوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6].
- وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98].
والمعنى الذي قرره جمهور المفسرين وشراح الحديث: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهي آدم عليه السلام، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]: امرأتَه حواء([10]).
القول الثاني: أن المراد بهذا الكلام التمثيل والاستعارة، فيكون المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: «المرأة خلقت من ضِلَع» أي: من مثل ضلع، وقد جاء التشبيه صريحًا في بعض ألفاظ الحديث: «المرأة الضِلَع»، ويشهد لهذا المعنى ما جاء في بعض ألفاظ الحديث: «لن تستقيم لك على طريقة»([11])، فاستعير الضلع للعوج في المرأة صورة أو معنى، فإن النساء جميعًا خلقن من أصلٍ خلق من شيء معوج، فلا يتهيأ الانتفاع بالمرأة إلا بمداراتها والصبر على ما قد يظهر من اعوجاجها([12]).
ولا تعارض بين القولين على الحقيقة، بل يستفاد من القول الثاني نكتة التشبيه، وأنها عوجاء مثل الضلع؛ لكون أصلها منه، والمعنى: أن المرأة خلقت في أصلها -أي: حواء- من ضلع أعوج، فلا ينكر حصول العوج من النساء عمومًا؛ فإن أراد الزوج مثلًا إقامتها على الجادة، وعدم اعوجاجها، أدى إلى الشقاق والفراق بينهما، وهو كسرها، وإن صبر على ما قد يصدر منها من سوء حال أو نحو ذلك، دام الأمر واستمرت العشرة بين الزوجين([13]).
قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن أعوج شيء في الضّلع أعلاه» يحتمل أمورًا، منها([14]):
- إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك تأكيدًا لمعنى الكسر في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن ذهبت تقيمه كسرته»؛ فإن الإقامة أمرُها أظهر في الجهة العليا.
- وإما أن يكون إشارة إلى أنها خلقت في الأصل من أعوج أجزاء الضلع؛ مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن.
- ويحتمل أن يكون ضرب ذلك مثلًا لأعلى المرأة؛ لأن أعلاها رأسها، وفيه لسانها، وهو الذي يحصل منه الأذى غالبًا.
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن ذهبت تقيمه كسرته» ضربُ مثلٍ للطلاق، أي: إن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى الأمر إلى فراقها، ويؤيده ما جاء في اللفظ الآخر: «وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرُها طلاقها»([15]).
المعنى الإجمالي للحديث:
في الحديث أمرٌ للأزواج والآباء والإخوة أن يستوصوا بالنساء خيرًا، وأن يحسنوا إليهن، كما يبيّن الحديث أن أصل خلق المرأة من ضلع؛ مما يشير إلى احتمال ظهور بعض الاعوجاج فيها، فلا ينبغي للرجل أن يحملها على عقله، ولا يكلفها مقتضيات كل رأيه، بل يحسن معاشرتها، مستوصيًا بها خيرًا، ويكون في ذلك كالراحم لها، فيبتني أمرها على المسامحة والرفق([16]).
وقد أشار بعض العلماء إلى أن الحديث يدلّ على تشريف المرأة وتكريمها؛ ذلك أن المعنى في خلق المرأة من ضلع يناسب الوظيفة التي خلقها الله تعالى لها، وهي الحنو والعطف على الزوج والولد، وهذا الوصف هو أعلى ما فيها من حيث الرفعة([17])، وعليه يكون وصف خلق المرأة من ضلع على سبيل التشريف والتكريم لها، وهو ما يتناسب تمامًا مع الوصية بالإحسان إليها وملاطفتها، والتغاضي عما قد يصدر منها.
ألا ترى أن الضلع في أصل خلقته معوجّ، وهو بهذا الاعوجاج يؤدّي وظيفته التي خلق من أجلها، وهي الحفاظ على القلب والرئتين، فخلق الله تعالى له معوجًّا يناسب الوظيفة التي خلقه الله تعالى لها، فهو وإن كان في الصورة معوجًّا إلا أنه في المعنى مستقيم؛ لأنه يؤدي الوظيفة التي خلق من أجلها.
وكذا المرأة، فإنها خلقت من ضلع آدم، وهناك مشاكلة بين الصورة والمعنى؛ فإن صورة الضلع الانحناء، والمعنى الأسمى والأعلى في المرأة هو الحنو وتغليب جانب العاطفة على زوجها وولدها، فحصلت المشاكلة بين صورة خَلقها والمعنى المناسب لأداء وظيفتها التي خلقت لها، ولا يخلو فعل الحكيم سبحانه عن حكمة؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؛ “فإن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها؛ لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير عالم”، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية([18]).
كما أن الوصف قد يكون عجزًا ونقصًا في جنس الرجال، ويكون كمالًا وحسنًا في جنس النساء؛ فكما أن الضعف الخَلقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، فإنه يعدّ من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب، وفي هذا يقول جرير الشاعر:
إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرفِهَا حَوَرٌ قَتَلْنَنَــــــا ثُـمَّ لَــــم يُــــحْيِيـــــــنَ قَتْلــــَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا
وفيه يتشبّب الشاعر بضعف أركان النساء. ويقول ابن الدُّمَيْنَةِ:
بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا لَهُ بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ
فَلَــــمْ يَعْتَــــــذِرْ عُـــــــذْرَ الْبَـــــــرِيءِ وَلَمْ تَزَلْ بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالَ: مُرِيبُ
وفيه يتشبَّب بعجز النساء عن البيان في الخصومة؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]([19]).
موافقة هذا المعنى للكتاب والسنة:
قد تأكَّد هذا المعنى المتقدّم بموافقة القرآن الكريم؛ يقول تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]؛ يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: “أي: طيِّبوا أقوالكم لهنّ، وحسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبّ ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]”([20]).
كما تأكَّد أيضًا بدلالة الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر»([21])، والمعنى: ينبغي أن لا يبغض الزوج زوجته بغضًا تامًّا يحمله على فراقها، بل عليه أن يغفر سيِّئتها لحسنها، وأن يتغاضى عما يكره لِمَا يحبه منها؛ فإنه إن وجد منها خلقًا يكرهه وجد فيه خلقًا آخر يرتضيه منها؛ بأن تكون مثلًا شرسة الخلق، لكنها ديِّنة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك([22]).
وقد حرص الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أشد الحرص على الوفاء بحقّ تلك الوصاة؛ فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: «كنا نتَّقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ هيبةَ أن ينزل فينا شيء، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم تكلَّمنا وانبسطنا»([23])، يقول الحافظ ابن حجر: “قوله: «فلما توفي» يشعر بأن الذي كانوا يتركونه كان من المباح لكن الذي يدخل تحت البراءة الأصلية، فكانوا يخافون أن ينزل في ذلك منع أو تحريم، وبعد الوفاة النبوية أمنوا ذلك، ففعلوه تمسّكًا بالبراءة الأصلية”([24]).
لذا فإن الإمام البخاريَّ -ومن المشهور أنه قد ضمَّن فقهه تراجمَ صحيحه- قد خرَّجه في ثلاثة مواضع من الصحيح، وترجم له بالعناوين الآتية:
1- “باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته”([25]).
2- “باب المداراة مع النساء”([26]).
3- “باب الوصاة بالنساء”([27]).
فهو يدلّل بهذا الصنيع على أن الحديث قد دلّ على هذه الأمور كلها؛ فإن حواء خلقت من ضلع آدم -عليه السلام- حقيقةً، كما أن في الحديث دلالة واضحة على العناية بالمرأة ومداراتها والوصاة بها والإحسان إليها، ولا تعارض بين هذه الأمور جميعًا، فكون المرأة خلقت من ضلع لا يتعارض مع الإحسان إليها، والوصاية بها ومداراتها لا ينفي أنها خلِقت من ضلع، هكذا يفهم جماهير العلماء هذه القضية، ولا إشكال عندهم البتة.
الشبهات المثارة حول الحديث:
أثار بعض المشكِّكين المتشكِّكين شبهاتٍ حول هذا الحديث، نعرضها والردَّ عليها فيما يلي:
الشبهة الأولى: أن الحديث من الإسرائيليات:
زعم بعضهم أن الحديث من الإسرائيليات التي أخذها أبو هريرة -رضي الله عنه- عن بني إسرائيل، وأنه موافق لما ذكر في العهد القديم([28]).
الجواب عن هذه الشبهة:
اشتملت هذه الشبهة على فريتين:
الفرية الأولى: الافتراء على أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو كلام مكرور تمجّه الأسماع، وتشمئزّ منه القلوب، وقد تسابق أهل العلم قديمًا وحديثًا في ردِّه وبيان عواره؛ إذ كيف يقال مثل هذا عن أبي هريرة، وهو أحفظ الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أجمعين؛ وذلك ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له عندما قال: «من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي، ثم يقبضه، فلن ينسى شيئا سمعه مني»، فقال أبو هريرة: فبسطت بردة كانت عليّ، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه([29]). فهل يصح لمدعٍ بعد هذا التشكيك في حفظه أو أمانته؟! وفي هذا الجواب إشارة، وإلا فليس الحديث عن أبي هريرة من موضوعنا في هذه الورقة العلمية، فإن للكلام عنه مواضع أخر.
الفرية الثانية: موافقة الحديث لما جاء في التوراة وغيرها، حيث ادَّعوا أن حديث: «خلقت المرأة من ضلع» موافق لما في التوراة؛ وجعلوا هذه الموافقة سبيلًا لإبطاله!! وهذه قاعدة معوجَّة، لا أساس لها من الصحة، فهل قال أحد بأن جميع ما في التوراة باطل؟! بالطبع لا؛ فإن الثابت الصحيح الذي دلّت عليه الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة هو أن التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب السابقين قد حرِّفت، فزيد فيها ونقص.
وعليه فوجود أشياء في التوراة أو الإنجيل أو غيرهما متوافقة مع ما في الكتاب والسنة لا يعني بحال بطلان ما جاء في ديننا؛ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»؟!([30])، أفيصحّ بعد هذا التشنيعُ بمثل هذه الأباطيل والترهات؟!
الشبهة الثانية: أن في الحديث إساءةً للمرأة:
ادَّعى بعض العقلانيّين أن هذا الحديث فيه إساءة للمرأة؛ لأنه صوَّرها بأنها خلقت من ضلَع أعوج، ووصفُها بالاعوجاج فيه إهانة لها([31]).
الجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: ينبغي على المؤمن أن يكون حريصًا على الابتعاد عن مسالك أهل الزيغ والضلال في تفسير أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن من مسالكهم المذمومة اقتطاع أجزاء من الحديث دون الوقوف على دلالة السياق -ولا دخل لنا هنا بما تضمره النفوس، أو تطويه النوايا-.
وهذا المسلك مخالف لقواعد أهل العلم؛ إذ إن دلالة السياق معتبرة، كما أن السِّباق واللِّحاق مُحكَّم؛ والمعنى: أنه لا يتوصل إلى المعنى الصحيح -سواء في كلام الله تعالى، أو في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حتى في كلام العلماء- إلا بالرجوع إلى دلالة السياق، يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام: “السياق مرشد إلى تبين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحًا، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذمًّا، فما كان مدحًا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذمًّا واستهزاء وتهكمًا بعرف الاستعمال”([32])، وسياق الحديث الذي معنا في أوله وآخره تصريح بالوصاية بالمرأة والإحسان إليها؛ وبيان ذلك فيما يأتي:
من المعلوم أن دلالة السياق لها شقان:
الأول: السباق، وهو النظر والتأمل فيما يسبق الكلام المراد تفسيره.
الثاني: اللحاق، وهو النظر والتأمّل فيما يلحق الكلام المراد تفسيره.
فإذا نظرنا إلى ما يسبق هذا الجملة المستشكلة في الحديث، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «استوصوا بالنساء»، ثم إذا ما ذهبنا إلى آخر الحديث، فإننا نجده صلى الله عليه وسلم يقول: «استوصوا بالنساء خيرًا»، فالجملة المستشكلة محاطة بوصيتين من النبي صلى الله عليه وسلم للرجال بإحسان معاملة النساء وملاطفتهن.
فدلالة السياق في الحديث واضحة على أنه مساق في الحث على التلطف بالمرأة، والإحسان إليها، وتحسين الخلق معها، واحتمال الأذى إن صدر منها، والصبر على ما قد يبدو من سوء أخلاقها؛ ولهذا يقول القاضي عياض: “فيه الحضُّ على الرفق بهنّ، ومداراتهن، وأن لا يتقصَّى عليهن في أخلاقهن، وانحراف طباعهن”([33]).
الوجه الثاني: لا تنافي بين خلق المرأة من ضلع، وتكريم الإسلام للمرأة، وحثّ الرجال على الوصاية بها؛ فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} [الإسراء:70]، ففي الآية الكريمة تصريح بتكريم بني آدم جميعًا -الرجل والمرأة-، وفي الآية الأخرى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20]، وفيها تصريح بخلق الإنسان من ماء مهين -يعني: من نطفة ضعيفة([34])– إضافة إلى أنه قد خرج من مجرى البول مرتين، وكلا الأمرين -خلقه من نطفة مهينة، وخروجه من مجرى البول- لا يتنافى البتة مع تكريم الله تعالى للإنسان.
إذا تبين هذا؛ فإنه يقال: خلقُ المرأة من ضلع آدم لا ينافي تكريم الله تعالى لها، والحث على الوصاة بها والإحسان إليها.
الشبهة الثالثة: أن القرآن يعارض الحديث:
حاول بعضهم تأييد رأيه بأنّ حواء لم تخلق من ضلع آدم بالآية الكريمة: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]، حيث رأى بأن “من” في الآية بيانية، والمعنى: خلق زوجًا لها من نوعها([35]).
الجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الكلام مخالف لما أطبق عليه جماهير المفسرين([36])، وهي مخالفة بغير برهان؛ لهذا يقول ابن الجوزي: “{وَخَلَقَ مِنْهَا} للتبعيض في قول الجمهور”([37]).
الوجه الثاني: أن القائلين بأن “من” في الآية للبيان لم يأتوا بشيء جديد، والتأسيس أولى من التأكيد؛ لذا يرد الطاهر بن عاشور هذه الدعوى فيقول: “ومن قال: إن المعنى: (وخلق زوجها من نوعها) لم يأت بطائل؛ لأن ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان؛ فإن أنثى كل نوع هي من نوعه”([38]).
الشبهة الرابعة: الادّعاء بأن القرآن يدلّ على أن حواء خلقت من الأرض:
زعم بعضهم بأن الله تعالى خلق حواء من الأرض؛ وحاول تأييد هذا الزعم بقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]([39]).
الجواب عن هذه الشبهة:
هذه الشبهة واهية جدًّا؛ إذ ليس من مسالك طالب الحق ضرب الأدلة من الكتاب والسنة بعضها ببعض، وإنما الأصل المقرَّر عند الأصوليين هو قبول الأدلة كلّها وإعمالها جميعًا، وإذا لاح للناظر فيها تعارضٌ فإنه يبحث عن وجوه الجمع بينها، فإذا أمكن الجمع فلا تعارض، وإلا لجأ المجتهد إلى النسخ إذا عُلم التاريخ، ثم الترجيح بوجوهه المتنوعة([40])؛ يقول ابن قدامة: “فإن لم يمكن الجمع، ولا معرفة النسخ: رجحنا، فأخذنا الأقوى في أنفسنا”([41]).
والأمر في التعامل مع الآية والحديث الذي معنا كذلك، لا تعارض بينهما البتة؛ إذ الآية تتكلم عن ذرية آدم -عليه السلام-، وحديث: «خلقت المرأة من ضلع» مع الآية الأخرى في سورة النساء: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] يتناولان خلق حواء من ضلع آدم -عليه السلام-.
يقول وهب بن منبه: “فعطف [يعني: في الآية] على النفس لا على الأرض؛ لأنه لم يسبق ها هنا الأرض قصة”([42]).
وإذ قد وضح البرهان، وأن السنة الصحيحة قد وافقت بالشرح والبيان ما دل عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]، فلا يسع المؤمن بعد هذا البيان إلا التسليم والإذعان، والتصديق والإيمان بكلام من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180-182]، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه البخاري (3331)، ومسلم (60/ 1468) واللفظ لمسلم.
([4]) أخرجه البخاري (5184)، ومسلم (65/ 1468).
([6]) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 15).
([7]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (4/ 222)، والميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (3/ 766).
([8]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 478).
([10]) ينظر: تفسير الطبري (7/ 514- 515)، وتفسير ابن كثير (2/ 206)، وغيرها. وسيأتي بعضها ضمن رد الشبهات، وشرح النووي على صحيح مسلم (10/ 58)، وفتح الباري لابن حجر (9/ 253)، وإرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني (5/ 323).
([12]) ينظر: الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 766)، وتحفة الأبرار شرح مصابيح السنة للبيضاوي (2/ 372)، وفتح الباري لابن حجر (9/ 253)، وإرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني (5/ 323).
([13]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 368)، وبنحوه في فتاوى اللجنة الدائمة (17/ 10- المجموعة الأولى).
([14]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 253).
([15]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 368).
([16]) ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (7/ 160).
([17]) ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 160).
([18]) ينظر: شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 60).
([19]) ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (3/ 26-27).
([20]) تفسير ابن كثير (2/ 242).
([22]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 222)، وشرح النووي على صحيح مسلم (10/ 58).
([28]) قاله عدنان إبراهيم في إحدى خطبه، وهذا رابطها:
https://www.youtube.com/watch?v=Dijc7fiEcTc
([29]) أخرجه البخاري (7354)، ومسلم (2492).
([30]) أخرجه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([31]) جعله جمال البنا ضمن الأحاديث المسيئة للمرأة، ينظر: تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم (ص: 305).
([32]) الإمام في بيان أدلة الأحكام (ص: 159).
([33]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 680).
([34]) ينظر: تفسير الطبري (24/ 132).
([35]) هذا مفاد كلام عدنان إبراهيم في إحدى خطبه، ودونك رابط كلامه:
https://www.youtube.com/watch?v=Dijc7fiEcTc
([36]) ينظر: تفسير الطبري (7/ 515)، وتفسير البغوي (2/ 159)، وتفسير ابن عطية (2/ 4)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 366)، وتفسير ابن كثير (2/ 206).
([38]) التحرير والتنوير (4/ 215).
([39]) ينظر: التيجان في ملوك حمير (ص: 14).
([40]) ينظر: الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل لأبي الوليد الباجي (ص: 144)، والمستصفى للغزالي (ص: 255، 375)، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية (ص: 142).