تصدير سِجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريِّين للشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله (2)
للتحميل كملف pdf اضغط هنا
تَلتقِي الأديانُ السَّماوية في كَلِمة سواءٍ ومَقصد أعلَى، وهو جمعُ أهلِها على الهدَى والحقِّ؛ ليسعَدوا في الدنيا، ويَستعدُّوا لسعادةِ الأخرى. بهذا جاءَت الأديان المعروفةُ، وبهذا نزلَت كتُبها.
والقرآنُ الذي هو المهَيمِنُ عَليها يُخبرنا بأنَّ كتابَ موسى إمامٌ ورحمة، وأنَّ الله تعالى أنزل التوراةَ والإنجيلَ هدًى للناس، وأنهما جاءَا بما جاء به القرآنُ منَ الدعوة إلى عبادة إلهٍ واحدٍ والرجوع إليه وحدَه فيما يعلو كَسبَ البَشر، ومِن بثِّ التآخِي بين الناسِ وعدمِ استعباد بعضِهم للبعضِ، ومِنَ الأمرِ بالخير والنَّهي عن الشَّرِّ، ويُخبِرنا أنَّ مِن وصايا الله الجامعةِ لتِلك الأممِ على ألسنة رسلِها هي أن يقيمُوا الدينَ ولا يتفرَّقوا فيه، وأنَّ تلك الأممَ لم تحفَظ وصية الله فتفرَّقت في الدِّين شِيَعًا، وجعَلتِ السبيلَ الواحد سُبلًا، واختلفت في الحقِّ مِن بعد ما جاءهَا من العلم والبينات، فقامت عليها الحجَّةُ، وحقَّت عليها كلمةُ الله، وكان عاقبةُ أمرها خُسرًا.
والقرآنُ يُبدئ ويعيد في هذا البابِ، ويقصُّ علينا من مبادئ بني إسرائيل ومصائرهم ومواردهم ومصادِرهم ما فيه مزدَجر، كلُّ ذلك لنعتبرَ بأحوالهم، ولا نسلُكَ الطريق الذي سلكوا، فنهلِك كما هلَكوا.
ولم يأل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمَّتَه نُصحًا وإبلاغًا في هذا الباب، وكيف لا وقد أنزل عليه ربه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]؟! فكان أخشَى ما يخشاه على أمَّته أن يدبَّ فيها داء الأمَم قبلَها، فتختَلِف كما اختَلَفَت، وتتفرَّق في الدين كما تفرَّقت.
وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم، فتفرَّقت أمَّتُه في الدِّين، ولعن بعضُها بعضًا باسم الدِّين، وأكَل بعضُها مالَ بعض باسم الدِّين، وانتهكَتِ الأعراض والحرمات باسم الدين، واتَّبعت سَنَنَ من قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. ولم تنتفِع بتلك العظاتِ البالغةِ والنُّذُر الصادِعَة من كلام الله وكلام رسوله، حتى حقَّت عليها الكلِمة، وصارت إلى أَسْوَأ حال من الخزيِ والنَّكال.
ولعلَّ لتِلك الأمم ِالكتابيَّة ما يُشبه العذرَ في المصير الذي صارت إليه؛ لضَياع كُتُبها التي هي منبَع الهداية بين التحريف والتبديل والنسيان والتأويل، أمَّا هذه الأمَّةُ فإنَّ حبل الله المتين فيها ممدودٌ، وباب الفقهِ فيه مفتوحٌ غير مَسدود، ووارد مَنهلِه العذبِ غير مُحَلَّأٍ([1]) ولا مَطرود، ولكن تناولَه أوَّلُهم بالتأويل، وآخرهم بالتَّعطيل؛ حتى اتَّخذوه مهجورًا، وجعلوا تفسيره وفهمَه أمرًا محظورًا، فحُرِموا ما فيه مِن شفاء ورحمةٍ، وعلم وحكمة، وبلاغ وبيان، وهدى وفرقان، ونور وحياة، وعِصمة ونجاة، وباقيات صالحات، فلم يزالوا لاهِين بالانتِساب الصُّوريِ إليه، حتى دلَّتهم حوادثُ الدهر عليه، فاستشعروا -وهم بين براثنَ من السِّباع البشريَّة تتخطَّف، وصوالجة([2]) من الأمم الغالبة تتلقَّف- غَيبَة هادِيهِ الذي كان يهيبُ بالأرواح إلى العِزِّ، وفَقدَ حادِيهِ الذي كان يَسوق النفوسَ إلى الكرامة، واختفاءَ نوره الذي كان يجلُو البصائر ويُزيل الغمَم، فأقبَلوا يتلمَّسونه، وانثالوا([3]) عليه يتحسَّسونه، يَرجون منه ما يَرجو المدلج الحيرانُ مِنِ انبلاج الفَجر، وراعِي السِّنين الغُبر([4]) منِ انْهلال القَطْر، وقد قوَّى أملَنا في رجوعهم إليه وإقبالَهم عليه ما نراه منِ اصطباغ الحركة الإصلاحيَّة الحديثة بالصِّبغة القرآنيَّة، فهي سائرةٌ إلى غايته، داعيةٌ إليه، مرشِدة به، مستدلَّة بآياته، به تصولُ وبه تحارِب، وعليه تحامي ودونه تنافِح، وما الحركةُ الإصلاحيَّة في يومِنا هذا بضئيلةِ الأثر، ولا هي بقليلَة الأتباع، وإنَّ هذا لموضعُ الرجاء في رجوعِ المسلمين إلى القرآن.
* * *
أي شبابَ الإسلام، حملةَ الأمانة ومستودَع الآمال وبُناة المستقبل وطلائعَ العهد الجديد، خذوها فصيحةً صريحةً، لا تتستِر بجِلباب، ولا تتوارى بحجابٍ: إنَّ علَّتكم التي أعيَت الأطباءَ واستعصَت على حِكمة الحكماء هي مِن ضعفِ أخلاقِكم ووَهن عزائمكم. فداوُوا الأخلاقَ بالقرآن تَصلحْ وتَستقِم، وأسُوا العزائمَ بالقرآنِ تَقوَ وتشتَدّ.
وإنَّ الذي قعَد بأمَّتكم عن الصالحاتِ وأعدها لها في أُخرَيات القافلةِ هو اختلافُ قلوبها وتَشتُّت أهوائِها، فاجمَعوا على القرآن آخِرها كما جمع محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أوَّلها، يُنتِج لكم هذا الآخِر ما أنتجَه ذلك الأوَّل من عزائمَ شِداد وأَلسِنة حِداد وهِمم كبيرة وعُقول نَيِّرة.
وإنَّ أوَّل أمَّتِكم شبيهٌ بآخِرها عُزوفًا عن الفضائل، وانغماسًا في الرَّذائل، فلم يزل بها هذا القرآنُ حتى أخرَج مِن رعاة النَّعَم رُعاةَ الأُمم، وأخرج من خمول الأُمِّيَّة أعلامَ العلم والحِكمة. فإن زعَم زاعمٌ أنَّ الزمان غيرُ الزمان، فقولوا: ولكنَّ الإنسانَ هو الإنسانُ.
وإنَّ هذا القرآنَ وسِع الحياةَ الأبديَّة فبيَّنها حتى فهِمَها الناس واعتَقَدوها، وسَعَوا لها سعيَها، فكيف لا يسَعَ حياتكم هذِه؟!
أي شبابَ الإسلام، إنَّ الأوطانَ تجمع الأبدان، وإنَّ اللُّغات تجمع الألسِنَة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلِّفها ويصِل بين نكرات القلوب فيعرِّفها هو الدِّين، فلا تلتمسوا الوحدَة في الآفاقِ الضَّيِّقة، ولكن التمِسوها في الدين، والتمِسوها من القرآن، تجِدوا الأفقَ أوسَعَ، والدارَ أجمَع، والعديدَ أَكثَر، والقِوَى أَوفَر.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) غير مُحلَّأ أي: غير ممنوع.
([2]) الصَّوالجة جمع: صَولج وصولجان، وهي: عصا الملك، ترمز لسلطانه.