الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

تصدير سِجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريِّين للشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله (3)

A A

 للتحميل كملف pdf  اضغط هنا

بَدء تفرُّق المسلمين في الدين

أقام سلفُنا الصالح دينَ الله كما يجب أن يقامَ، واستقاموا على طريقته أتمَّ استقامةٍ، وكانوا يقِفون عند نصوصِه من الكتاب والسنة، لا يتعدَّونها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانت أدواتهم لفَهم القرآن روح القرآن وبيان السُّنَّة ودلالة اللُّغَة والاعتبارات الدينيَّة العامَّة، ومِن وراء ذلك فِطرةٌ سليمة، وذَوق متمكِّن، ونظَرٌ سَديد، وإخلاصٌ غيرُ مدخول، واستِبراءٌ للدِّين قد بلغ من نفوسهم غايته، وعزوفٌ عن فتنة الرأيِ وفتنة التَّأويل.

أدبهم قولُه تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقولُه تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فكانوا أحرصَ الناس على وِفاق، وكانوا كلَّما طاف بهم طائفُ الخلاف في مسألةٍ دينية بادَروه بالردِّ إلى كتاب الله وإلى سنَّة رسوله، فانحَسم الداءُ وانجابتِ الحَيرة.

وكان العلماءُ هم المرجِع الأعلى للعامَّة في كلِّ ما يحزبُها من شؤون دينِها، يرجعون إليهم بلا عصبِيَّةٍ، ويصدُرون عن رأيِهم بلا عصبيَّة، وكان العلماءُ يمثِّلون الاستخلافَ الدينيَّ والوراثة النبويَّة تمامَ التمثيل، يقودون الأمَّةَ بالحقِّ إلى الحقِّ، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكَر، ولا تأخُذهم في الله لومَة لائمٍ.

وأوَّل ما نشأ في المجتمع الإسلاميِّ من جراثيمِ التفرُّق في الدِّين الكلامُ في القدَر والخوضُ في الصِّفات، وقارَنَ ذلك حدوث الخلافِ في الخلافةِ: هل هي شعبةٌ منَ الدين تفتقِر إلى تنصيصٍ من الشارع، أو هي مصلَحة دنيويَّة ترجِع إلى اختيارِ أهل الرأي منَ الأمَّة. وقد سبَق الخلافُ العمليُّ الخلافَ العلميَّ في هذه المسألَة، وهي المعترَك الأوَّل الذي اشتَجرَت فيه الآراءُ حتى تطرَّفت، بعدَ أن اشتَجَرت فيه الرماحُ حتى تقصَّفت، كما أنها أوَّل مسألةٍ امتزجت فيها الأنظارُ الدينية بالأنظار الدنيويَّة (أو السياسة كما يقولون اليوم)، وفي هذا المعترك نبتَت جُرثومة التعصُّب الخبيثةُ.

ثمَّ توسَّعت الفتوحاتُ، وبسَط الإسلام ظلَّه على كثيرٍ منَ الممالك التي كانَت لها أثارةٌ مِن عمران وشيءٌ مِن سلطان، ودانت لهُ كثيرٌ من الأمَم، وفي كلِّ أمَّة طوائفُ دخلت في الإسلام وهي تحمِل أوزارًا من بقايَا ماضِيها، وما كادَت هذه المجموعاتُ البشرية تمتزج ويفعل الإسلامُ فيها فِعلَه، حتى ظَهرت عليها أعراضُ التَّفرُّق، فظهر أصحابُ المقالاتِ في العقائد، وأحدَثوا بدعةَ التأويل الذي هو في الحقيقةِ تحريفٌ مسمًّى بغير اسمه.

وتوفَّرت الدَّواعي لظهورِ المذاهب الفقهيَّة والمذاهب الكلاميَّة والمذاهب الصوفيَّة في أزمِنَة متقارِبة، وكان لترجمة الفلسفةِ اليونانيَّة والحكمة الفارسيَّة والهندية أثرٌ قويٌّ في تعدُّد المذاهب الكلامية والصوفية؛ بما أتت به الأولى من بحثٍ في الإلهيات على الطريقةِ العقليَّة الصِّرفة، وبما غذّت به المتكلِّمين من الأنظار المختَلفة وأمدَّتهم به من طرائق الجدل وقوانينه، وهذا هو مبدأ التفرُّق الحقيقيُّ في الدين؛ لأنَّ المتكلمين يزعمون أنَّ علومَهم هي أساس الإسلام، والصوفيَّة يقولون: إنَّ علومَهم هي لباب الشريعة وحقيقتُها.

* * *

أمَّا المذاهبُ الفقهيَّة فحدوثُها ضروريٌّ وطبيعيٌّ ما دامت السُّنَّة لم تُجمع، وبعد جمعِها لم تكن وافيَةً بالتنصيص على الوقائعِ الجزئية، ومتونها وأسانيدُها بعدُ خاضِعةٌ للتزكية والتجريح؛ لأنها لم تُنقل بطريق التواتر، وما دامت مداركُ المجتهدين الذين هم المرجِع في هذا الباب متفاوتةً بالقوّة والضَّعف في الاستنباط ووجوه القياس وعِلَله، وما دامت الوقائِع التي تُناط بها الأحكام لا تَنضَبط، وقدِ استحدث العِمران أنواعًا جديدةً من المعاملات الدنيويَّة لا عهدَ للإسلام الفطريِّ بها، وصورًا شتَّى من المعايِش ووجوهِ الكَسب لم تكن معروفةً، فمِن سماحة التشريع الإسلاميِّ ومرونتِه أن تُتَناول هذه المستحدثاتُ الجديدة بأنظارٍ جديدة، وتُستَنبط من أصوله أحكامٌ لفروعها، وكلُّ هذا لا حرَج فيه، وليس داخلًا فيما نشكُوه، بل نحن أوَّل من يقدر قدرَ تلك الأنظار الصائبَة والمدارك الراقية، ويقيمها دليلًا على اتّساع التشريع الإسلاميِّ لمصالح الناسِ وصلاحيَّته لجميع الأزمنة، وينكر على من سدّ هذا البابَ على الأمَّة فزهّدها في استجماع وسائِله، ونحن أوَّل من يقدر قدرَ أولئكَ الأئمَّة العظام الذين هُم مفاخِر الإسلام.

والمذاهب الفقهيَّة في حدِّ ذاتها ليست هي التي فرَّقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزَموا الناسَ بها، أو فرضوا على الأمَّة تقليدَهم، فحاشاهم من هذا، بل نصَحوا وبيَّنوا، وبذَلوا الجهدَ في الإبلاغ، وحكَّموا الدليلَ ما وجَدوا إلى ذلك السَّبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل، والتفريع والتأصيل، ولهم في بابِ استخراج علل الأحكام وبناءِ الفروع على الأصول وجمعِ الأشباه بالأشباهِ والاحتياطِ ومراعاة المصالح ما فاقُوا به المشرِّعين من جميع الأمَم.

وإنَّما الذي نعدُّه في أسباب تفرُّق المسلمين هو هذه العصبيَّةُ العمياء التي حدَثت بعدهم للمذاهب، والتي نعتقِد أنهم لو بُعثوا من جديدٍ إلى هذا العالَم لأنكروها على أتباعهم ومقلِّديهم، وتبرَّؤوا إلى الله منهم ومنها؛ لأنها ليست من الدِّين الذي اؤتمِنوا عليه، ولا من العِلم الذي وسّعوا دائرته.

وكيف يَرضَون هذه العصبيَّة الرعناءَ ويقِرُّون عليها مقلِّدتَهم ومِن آثارها فيهم جعلُ كلامِ غير المعصومِ أصلًا وكلام الله ورسوله فرعًا، يُذكر للتقوية والتأييدِ إن وافق، فإن خالفَ أُرغِم بالتأويل حتَّى يوافق؟! وهذا شرّ ما بلغته العصبيَّة بأهلها، ومِن آثارها فيهم معرفةُ الحقِّ بالرجال، ومن آثارها فيهِم اعتبارُ المخالِف في المذهَب كالمخالف في الدِّين، يُختلف في إمامَته ومصاهَرته وذكاتِه وشهادتِه، إلى غير ذلك مما نعدُّ منه ولا نعدِّده.

وقد طغَت شرور العصبيَّة للمذاهب الفقهيَّة في جميع الأقطار الإسلاميَّة، وكان لها أسوأُ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وإنّ في وجه التاريخ الإسلاميِّ منها لنُدوبًا.

أمَّا آثارُها في العلوم الإسلاميَّة فإنها لم تمدَّها إلَّا بنوعٍ سخيفٍ مِنَ الجدل المكابر، لا يُسمِن ولا يُغني من جوعٍ، ولا عاصمَ مِن شرور هذه العصبيَّة إلَّا صرفُ الناشئةِ إلى تعليمٍ فقهيٍّ يستَنِد على الاستقلال في الاستدلال، وإعدادها لبلوغ مراتِبِ الكمال، وعدَم التَّحجير عليها في استِخدام مواهِبها إلى أقصى حدٍّ.

* * *

وأمَّا المذاهبُ الكلاميَّة فلم يكُن أثرُها بالقليلِ في تفرُّق المسلمين وتمزُّق شملِهم، ولكنها لما كان موضوعُها البحثَ في وجودِ الله وإثبات صفاته، وما يجب له من كمالٍ وما يستحيل عليه من نَقص -كلُّ ذلك من طريقِ العقل- كانت دائرتها محدودةً، وكان التعمُّق فيها من شأنِ الخواصِّ، وقعَد بالعامَّة عنِ الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته من جدلٍ وعقلياتٍ يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحِجاج، فليس علمُ الكلام كعلمِ التصوُّف مطيَّةً ذلولًا يَندَفِع لركوبها العاجِز والحازم، فالتَّصوُّف شيءٌ غامِض، يُسعى إليه بوسائِل غامضةٍ، ويسهُل على كلِّ واحدٍ ادِّعاؤه والتلبيس به. فإن خاف مدَّعيه الفضيحةَ لم يعدَم سلاحًا من الجَمجَمة([1]) والرمز وتسمية الأشياءِ بغير أسمائها، ثمَّ الفزع إلى لزوم السَّمت والتدرُّع بالصَّمت والإِعراض عن الخلق، والانقطاع والهروب منهم، ما دام هذا كله معدودًا في التصوُّف وداخلًا في حدودِه. ولا كذلك علمُ الكلام الذي يفتقِر إلى عقل نيِّرٍ وقريحةٍ وقَّادة وذكاء نافِذ، ويحتاج منتحِلُه إلى براعةٍ ولسنٍ ومِران على المنطِق ومقدّماته ونتائجه وأقيستِه وأشكاله. ولِمَ كلُّ هذه العدَد؟ كلُّ هذه العدَدُ للمناظرات وما تستلزمه من إيرادٍ ودفع ٍوإفحام وإلزام، وأين العامَّة من هذا كله؟! لذلك لم يكن لها من حظٍّ في هذا العِلم إلَّا معرفة أسماء بعضِ الفرق والانتصار لها انتصارًا تقليديًّا؛ ولذلك كانت آثارُ التفريق الناشئة عن هذه المذاهِب الكلاميَّة قاصرةً على طبقات مخصوصَة، ولم تتغلغَل في العامَّة كما تغلغلت آثار التصوُّف.

وقد انقرضَت تلك الفرقُ، وانقَرض بانقراضها سببٌ جوهريٌّ من أسباب التفرُّق، بل ماتَ بموتها شاغلٌ طالما شغَل طائفةً من خِيرة علماء المسلمين ببعضِهم، وجعل بأَسهم بينهم شديدًا، وألهاهم بما يضرُّ عمَّا ينفع.

تلاشَت تلك الفرقُ ولم تبق إلَّا أخبارُ معاركها الجدليَّة في كتب التاريخ، وإلا آراؤها المدوَّنة في كتبها فتنةً للضعفاء وتبصرةً للحصفاء([2])، ولم يبقَ من تلك الأسماءِ التي كوَّنت قاموسًا في الأنساب إلَّا اسمان يدوران في أفواهِ العامَّة وأشباهِ العامَّة، ويستعمِلونهما في أغراضٍ عامِّيَّة وهما: (أهل السُّنَّة والمعتزلة).

ومِنَ المحزنِ أنَّ دراسةَ علم التوحيدِ حتى في كلِّيَّاتنا (الراقية) كالأزهر والزَّيتونة لا تزال جاريةً على تلك الطرائقِ، وفي تلكَ الكتُب، ولا تزال تقرَّر فيها تلكَ الآراء، ولا تزال تُذكر فيها أسماء تلك الفرَق التي لم يبقَ لها وجودٌ، ويَستَعرِض سيِّدُنا المدرِّس تلك الآراءَ ثمَّ يدحضُها، ويُقيمها ثمَّ ينقُضها. وتُقتَطَع أوقاتُ الطلبة المساكين في ذلك، ويا ضيعةَ الأعمار!

أمَّا الشبهاتُ التي يورِدُها كلَّ يومٍ ملاحدةُ العَصر ومبشِّرو المسيحيَّة على الإسلام، ويَفتِنون بها العلماءَ فضلًا عن العوامّ، فإنَّ كلِّيَّاتنا (العلميَّة الدينيَّة) ومدرِّسيها لا يُعيرونها أدنى اهتِمام، ولا يَعمُرون بها وقتَ الطلبة، فيا لَلفضيحة!

* * *

وإذا نحن وازنَّا بين ما أَجداه علينَا علمُ الكلام وبين ما خسِرناه بسبَبِه وجدنا الخسارةَ تربُو على الرِّبح، فتوحيدُ الله مقرَّر في القرآن بأجدَى بيانٍ وأكملِ برهانٍ، وصفاته لا يطمَع طامعٌ أن يأتيَ في إثباتها بأكمل ممَّا أتى به القرآن، وطريقةُ القرآن في التنزيه أقومُ طريقة، وقد جَرى عليها الصحابةُ فكانوا أكمَل الناس توحيدًا، مع أنهم لا يعرفون الجوهَرَ والعرض، وهل يبقى زمانَين؟ ولا الكَمّ ولا الكيف بمعانيها الفلسفيَّة الدَّقيقة. وعلى هذا فما معنى إضاعةِ الوقت وإِعنات النفس في معرفةِ هذا العلم المسمَّى بعلم الكلام؟!

ولو كان هذا العلمُ المستحدَث ذا قواعدَ طبيعيةٍ لا تُنقض -كقواعدِ الحساب أو الهندسة مثلًا- لخفَّ ما يلقى الناسُ في تعلُّمه من عَناء، ولكنَّنا رأينَا تلك القواعدَ تتهاوى في المناظرات القوليَّة أو القلميَّة كفقاقيع الماء، فلا يكاد يَبني الباني حتى ينبري له هادِم ينقُض ما بنى ويتبِّر ما علا.

فوَا أسَفاه على تلك الحملاتِ العنيفة التي كانت جهادًا ولكن في غير عدوٍّ، ووا لهفاه على ذلك النَّقع([3]) المثار وقدِ انجلى عن غيرِ فتحٍ ولا غنيمَة، ووا حَسرتاه على ذلكَ الذكاءِ الذي كانت تكادُ تشفُّ له حجُب الغيَب -ذكاء أبي بكر الباقلَّاني وفخر الدِّين الرازي وأبي الهذيل وابن المعلّم- وقد ضاع فيمَا لا تعودُ على الإسلام منه عائِدة، ولا تنجرُّ له منه فائِدة.

وإنَّك لتطالِع تفسيرَ الرازيِّ مثلًا فتتلمَّح من جملته ذكاءً يشعُّ، وقريحَة تتَّقد، وألمعيَّةً تكاد تنتزع منك بناتِ صدرك، فتظنُّ أن سيكشف لك عن الجهات المتَّصلة بنفسِك منَ القرآن، ويجلِّي لك سُنن الله في الأنفس والآفاق، وإذا بالظنِّ يخيب والفأل يكذب؛ إذ ترى تلك القِوى مصروفةً إلى جهةٍ غير التي تُريد، وترى الرجلَ وقد غَلب على ذكائه وجَرفته العادةُ التي تملَّكته إلى الآراء والعقلياتِ وإثارة الشبهات، وترى ذلك الذِّهن العاتي يتخبَّط في مضائقَ هي دونَ قدرِ القرآن ودونَ قيمةِ ذلك الذهن، حتى ليُسفُّ([4]) فيزعم لك مثلًا أنَّ أولي العلم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] هم أهل الأصول.

ونحن نعتقِد أنَّ الرجلَ وأمثالَه من الأذكياءِ ما أُتوا إلَّا من غَرامهم بهذه المباحث الكلاميَّة واستهتارهم فيها. ويمينًا لو أنَّ تلك الجهودَ التي تفرَّقت على الكلامِ تألَّفت على جِهةٍ عقليةٍ أخرى لفتَحت في العلم فتحًا أغرَّ زاهرًا، ولتعجّلت به الفخر للإسلام وأهلِه.

* * *

وأمَّا المذاهبُ الصوفيَّة فهي أبعدُ أثرًا في تشويهِ حقائقِ الدين، وأشدُّ منافاة لروحِه، وأقوى تأثيرًا في تفريقِ كلمةِ المسلمين؛ لأنها ترجع في أصلِها إلى نزعةٍ غامضة مبهَمَة، تستَّرت في أوَّل أمرها بالانقطاع للعبادة والتجرُّد من الأسباب والعزوفِ عن اللَّذَّات الجسدية والتظاهُر بالخصوصيَّة، وكانت تأخذُ منتحلِيها بشيءٍ من مظاهر المسيحيَّة، وهو التسليم المطلَق، وشيءٍ من مظاهِر البرهميَّة، وهو تعذيب الجسَد وإرهاقُه توصُّلًا إلى كمالِ الروح زعمَوا. وأين هذا كلُّه من روح الإسلام وهدي الإسلام؟! ولم يتبيَّن الناس خيرَها من شرِّها لما كان يسودُها من التكتُّم والاحتراس، حتى جرَت على ألسنَة بعض منتحليها كلماتٌ كانت ترجمةً لبعض ما تحمل من أوزار، فراب أئمَّةَ الدين أمرُها، وانفتَحت أعينُ حرَّاس الشريعة، فوقفوا لها بالمرصادِ، فلاذ منتحلوها بفُروقٍ مبتَدَعَة يريدون أن يثبِتوا بها خصوصيَّتهم؛ كالظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، إلى ألفاظٍ أخرى من هذا القبيلِ، لا تخرج في فَحواها عن جعل الدِّين الواحد دينَين.

وما كاد السيفُ الذي سُلَّ على الحلَّاج وصَرعَى مخرَقَته([5]) يُغمَد ويوقِن القومُ أنَّهم أصبحُوا بمنجاة من فتكاتِه، حتى أجمعوا أمرَهم وأبدَوا للنَّاس بعضَ مكنوناتِ أسرارهم، ملفوفةً في أغشيةٍ جميلة من الألفاظ، ومحفوفةً بظواهِرَ مقبولةٍ من الأعمال، وحاولوا أن يصِلوا نحلتَهم تلك بعُجرها وبُجرها بصاحبِ الشريعة أو بأحدِ أصحابه، فلم يُفلحوا، وافتضحَت حيلَتهم، وانقَطع الحبل مِن أيديهم، فرجعوا إلى ادِّعاء الكشف وخَرق الحجب والاطِّلاع على ما وراء الحسِّ، إلى آخِرِ تلكَ (القائمة) التي لا زلتَ تسمَعُها حتى من أفواه العامَّة وتجدُها في معتقداتهم.

ثم أَمِرَ أمرُ هذه الصوفيةِ، وتقوَّت على الزمن، والتقَت مع الباطنيَّة وغيرها من الجمعيَّات التي تبني أمرها على التستُّر على طبيعةٍ دسَّاسة وعِرق نزَّاع ومزِاج مُتحدٍ، واختَلَطت تعاليم هذه بتعاليم تلك، وتشابهت الاصطلاحات، وابتلي المسلمون من هذه النِّحَل بالداء العُضال.

وقدِ اتَّسع صَدرُها بعد أن تعدَّدت مذاهبُها، واختلفَت مَشاربُها في القرون الوسطى والأخيرة من تاريخ الإسلام، فانضَوى تحت لوائِها كلُّ ذي دِخلة سيِّئة وعقيدةٍ رديئَة، حتى أصبَح التصوُّف حيلةَ كلِّ محتال، وحِليَةَ كلِّ دجَّال. وإنَّ هذه الطرقَ المنتشرةَ بين المسلمين، والتي تربو على المذاهب الفقهيَّة عدًّا، كلّها -على ما بينَها من تبايُن الأوضاع واختلاف الطِّباع وتنافُر الأتباع- تنتسب إلى هذا التصوُّف، ولكنَّه انتسابٌ صوريٌّ اسميٌّ، وشتَّان ما بين الفرع وأصله! فمبنى التصوُّف في أغلب مظاهره -كما أسلفنا- على الانقطاع والزُّهد في الدنيا، والتجرُّد والتقشُّف ورياضة النفس على المشاقِّ، وفطمها عن الشهوات، ومبنى هذه الطرقِ في ظاهِر أمرِها وباطنِه على حيوانيَّةٍ شرِهة، لا تقف عند حدٍّ في التَّمتُّع بالشَّهوات والانهماك في اللَّذائذ واحتِجان الأموال([6]) من طريقِ الحرام والحلال، واصطيادِ الجاهِ وحبِّ الظهور والاختلاط بأهل الجاه وإيثارهم والتزلُّف إليهم.

* * *

ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الجَمجمة: الكلام غير المبين.

([2]) جمع حصيف وهو: صاحب العقل والرأي السديد.

([3]) أي: الغبار.

([4]) أي: هبط إلى مستوًى متدنٍّ.

([5]) أي: كذبِه ودجله وافترائِه.

([6]) أي: جمعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017