(ليسُوا سواء) وجوبُ اتِّباعِ النَّبي ﷺ على أهل الكتاب بينَ نصوصِ الإسلام ونظريَّة عدنان (الجزء الثاني)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
كانت نظرية عدنان إبراهيم التي أتى بها لينقُض كلَّ أقوال من سبقَه من العلماء هي تصحيح ديانةِ اليهود والنصارى، وقد ناقشنا في الجزء الأول من هذه الورقة الأغلاطَ المنهجية التي وقع فيها هو وأمثاله، وسنتناول في هذا الجزء الثاني أكبرَ دليل يستدلّ به، وهو قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
ولَنا مَعَ هاتين الآيتين عدَّة وَقَفات:
الوقفة الأولى: العبرة في فهم النصوص:
إنَّ العبرة في فَهمِ نُصوص الكتاب والسنة هو فهم سلف الأمة، ولا يعني هذا إغلاقَ باب الاجتهاد، أو التنقُّصَ من اجتهاد من له أهليَّة ذلك؛ لكن لا يصحُّ لنا ترك كل الأقوال السَّابقة وتجاوزها لنجتهدَ اجتهادًا جديدًا في أمر لا يتعلَّق بالمستجدات، فماذا قالَ المفسرون في هذه الآية؟
ذكرت كتب التفسير لهذه الآية عدَّة معان، وسنورد أقوالَ المفسرين لنرى معًا تلك الأقوال التي قالوها في هذه الآية، ثمَّ نرجع إلى تفسير عدنان إبراهيم.
فمِن ذلك بيان الطبري لسببِ نزول هذه الآية، ومُلخَّصه: أنَّ هذه الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، إذ كانَ سلمان يتعبَّد مع قومٍ من الرهبان كانوا يتبعون الإنجيل ويتشوَّفون لبعثة النبي الذي يجدونَهُ مكتوبًا عندهم، وقد أوصى أحدُهم سلمانَ الفارسيَّ بأن يرحل إلى جزيرةِ العرب بحثًا عن هذا النبي، وكان من قصَّته ما كان حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعرَفَه، ولما قصَّ عليه قصَّتهم قال عليه الصلاة والسلام: «هم من أهل النار»، فاشتدَّ ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية للدَّلالة على أنَّ من بقي على دينه الصحيح قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهو النَّاجي، أمَّا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيجب عليهم اتباعه، “فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسُنَّة موسى حتى جَاءَ عيسَى، فلمَّا جاءَ عيسَى كانَ من تمسَّك بالتَّوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكًا، وإيمان النَّصارى: أنَّه من تمسَّك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولًا منه، حتَّى جاء محمَّد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدًا صلَّى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا“([1]).
ويتضح من هذا موقف الطبري رحمه الله، فهو يرَى أنَّ الآية فيمن آمَنَ بنبيِّه قبل مبعثِ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم، فإذا أدركَ النَّبي صلى الله عليه وسلم آمَنَ به، ويصرِّح بذلكَ فيقول: “ليسَ الْمَعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان وإن كان قد قيل: إنَّ الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانِه بعيسى وبما جاء بِه، حتَّى أدرك محمدًا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدَّقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبمَا جاءَ به إذ أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به؛ ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانِه وتركه تبديله، وأمَّا إيمان اليهود والنَّصارى والصَّابئين فالتَّصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فمن يُؤمن منهم بمحمَّد، وبما جاء به واليوم الآخر، ويعمل صالحا، فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجرُه عند ربه، كما وصف جلَّ ثناؤه”([2]).
وقال الثَّعلبي: “{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} اختلفوا في حكمِ الآية ومعناها، ولهم فيها طريقان: أحدهما: إنّه أراد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} على التَّحقيق وعقد التصديق، ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين من هم؟ فقال قوم: هم الذين آمنوا بعيسى ثمَّ لم يتهوّدوا ولم يتنصَّروا ولم يصبئوا، وانتَظروا خروج محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال آخرون: هم طلَّاب الدين، منهم: حبيب النجَّار، وقيس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء السّندي، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفَارسي، ويحيى الرَّاهب، ووفد النجاشي، آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، فمنهم من أدركه وتابعه، ومنهم من لم يدركه. وقيل: هم مؤمنو الأمَم الماضية. وقيل: المؤمنون من هذا الأمَّة. {وَالَّذِينَ هادُوا} يعني الذين كانوا على دين موسى -عليه السّلام- ولم يبدّلوا ولم يغيّروا. {وَالنَّصَارَى}: الذين كانوا على دين عيسى -عليه السّلام- ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك”([3]).
ومجمل كلامه أنَّهم الذين كانوا على دين أنبيائِهم في أوقاتِهم، أو الذين كانوا ينتظرون مبعثَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ليؤمنوا بِه، أو من كانَ كذلك وأدركَ النَّبي صلى الله عليه وسلم وآمن به.
وقال الراغب الأصفهاني: “ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع، بيَّن الله تعالى أن كل من تعاطى دينًا من هذه الأديان في وقت شرعه، وقبل أن ينسخ عنه، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقيني، واتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة، {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}”([4]).
وذهب البغوي إلى مثل قول الثعلبي([5]).
وقال ابن عطية: “فمعنى قوله: {مَنْ آمَنَ} في المؤمنين المذكورين: من حقَّق وأخلَص، وفي سائر الفرق المذكورة: من دخل في الإيمان. وقالت فرقة: الَّذِينَ آمَنُوا هم المؤمنون حقًّا بمحمَّد صلى الله عليه، وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} يكون فيهم بمعنى: من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى: من دخل فيه. وقال السدِّي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدًا صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، {وَالَّذِينَ هَادُوا} كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، {وَالنَّصَارَى} كذلك ممَّن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، {وَالصَّابِئِينَ} كذلك، قال: إنَّها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطَّبري قصةً طويلة”([6]).
وقال السَّمعاني: “إِن قيل: قد ذكر فِي الْجُمْلَة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّه}؟ قيل: هَذَا فِي سلمَان وَأَتْبَاعه الَّذين آمنُوا بِمُحَمد قبل الْبَعْث، ثمَّ أقرُّوا بِهِ بعد الْبَعْث. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من ثَبت على الْإِيمَان”([7]).
وقال القرطبي: “روي عن ابن عباس أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} منسوخ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. وقال غيره: ليست بمنسوخة، وهي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام“([8]).
وهذا تفسير آخر لمعنى الآية، مفاده: أن الآية تدلّ على نجاةِ أهل الكتاب، لكن الآية قد نسخت، وقال البيضاوي: “{مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصِّدقًا بقلبه بالمبدأ والْمَعَاد، عاملًا بمقتضى شرعه. وقيل: من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانًا خالصًا، ودخل في الإسلام دخولًا صادقًا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الذي وعد لهم على إيمانهم وعملِهم، {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب”([9]).
وقال أبو حيَّان: “وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أول الإسلام، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، فله أجره، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، ورُدَّت الشرائع كلُّها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال غير ابن عباس: ليست بمنسوخة، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم”([10]).
وأختم الحديث بتفسير ابن كثير حيث قال: “فكانَ إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى -عليه السلام- حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كانَ من تمسَّك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكًا. وإيمان النصارى: أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمَّد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا… وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه الله بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكلُّ من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة”([11]).
وقد أوردت التفاسير مرتبةً حسب وفاة أصحابِها دون التقيد بالأقوالِ الواردة فيها؛ لكن يمكننا إجمالُ ما قالوه في المراد من هذه الآية في الآتي:
1- أنَّهم من كانوا على ديانات سابقة، لكنهم كانوا يتشوَّفون لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب في كتبهم، سواء أدركوه فآمنُوا به، أو لم يدركُوه فماتوا قبله، وهؤلاء مثل أصحاب سلمان الفارسي، ومثل ورقة بن نوفل، والنَّجاشي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.
2- أنَّهم من بقوا على ديانتِهم حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به.
3- أنَّهم من آمنوا بأنبيائِهم في أوقاتِهم، فهم اليهود الذين آمنوا بموسى حتى جاء عيسى، والنصارى الذين آمنوا بعيسى حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمفادُ الآية: أنَّ كل أمَّةٍ عملت في عصرها بما جاءَ به نبيها، وهي مؤمنة باليوم الآخر وعملت صالحًا، فقد نجت.
4- أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
هذه جملة ما قيلَ في هذه الآية من هؤلاء المفسِّرين كلهم، وأنَّها لا تتناول اليهود والنصارى والصابئة بعد مبعثِ النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يؤمنوا به، فهي واضحة صريحَة ومتَّسقة مع آيات القرآن الكريم الأخرى التي تحكي كفرهم وهي كثيرة جدًّا.
فإن قيل: لماذا تحصرون الآية فيما قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم والآية عامة؟
نقول: لم نحصرها، فإنَّ اليهودي والنَّصراني الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه دخل في هذه الآية، وهذا ليس محصورًا بزمن، كما أنَّه يمكن أن يُضافَ وجهٌ خامس تشمَله الآية وتدلّ عليه الآيات الأخرى، وهو: أنَّ هذه الآية تشمل من بقي على دينه ولم تقم عليه الحجَّة، وهذا الوجه يمكن إدخاله في عموم الآية وإن كانت الآية ليست صريحةً في ذلك، فإنَّ هؤلاء لهم مقامان:
1- مقامُ الدنيا، ولا شكَّ أنهم يعاملون معاملة الكفار في الصلاة عليهم والتوارث والنكاح والدفن وغير ذلك من الأحكام.
2- حكمهم في الآخرة، وقد ذكر كثيرٌ من العلماء بأنهم يمتحنون في الآخرة، لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. فإن أدخلناهم من هذه الجهة كانت الآية أيضًا عامةً تشمل هؤلاء إلى يوم القيامة.
إذن: أين التَّفسير الذي أتى به عدنان إبراهيم للآية؟ ومن قالَ به من السَّابقين؟ وما وجهُ دلالته؟ وكيفَ يستقيم مع كلِّ هذه التَّفاسير؟
إنَّ هذه الآيةَ وإن لم يقَع فيها إجماعٌ على معنى واحدٍ إلَّا أنَّه يكاد يكون هناك إجماعٌ على نفي المعنى الذي توصَّل له عدنان إبراهيم! فالعلماء الذين لم يحصروا الآية فيما قبل بعثةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم اشترطوا أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم للدخول في هذه الآية، فقول عدنان إبراهيم وأمثاله مخالفٌ للآيات، مخالفٌ للأحاديث، مخالفٌ لأقوال العلماء، مخالفٌ للعقل؛ إذ أيّ فائدة من أن يقول اليهودي أو النصراني: أنا أصدِّق النبي ثم لا يتبعه وهو الذي يقول: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]؟!
الوقفة الثانية: في معنى الإيمان والعمل الصالح:
يكرِّر عدنان إبراهيم بأنَّه لا يجوز لنا أن نقوِّل القرآن ما لم يقله، أي: أن نُضيف فيه شيئًا، ونحن نتنزل له في هذا ونقول: حتى وإن سلمنا لك بأننا لا نضيف إلى الآية أيَّة آياتٍ أخرى -وإن كان هذا مخالفًا لأبسَط قواعد التفسير، وإن كان أيضًا هو بنفسه أضافَ شرطًا خارجيًّا وهو الإقرار بالنبي صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك فهلِ الآية وحدها تُفيد المعاني التي ذكرها السَّلف وتنفي المعنى الذي ذكر عدنان إبراهيم؟
الجواب: نعم، فالآية وحدهَا كافية في دحضِ حجَّته وإبطال قولِه؛ وذلك أن المصطلحات الشرعيّة تُفسَّر حسب العرف الشرعيّ لا اللغوي فحسب، فلا يُمكن أن نقول: إن الله أوجب الصلاة والمراد أن يقومَ الإنسان فيدعو، ولا يمكن أن نقول: إنَّ الله أوجبَ الزَّكاة وهي الطَّهارة فيكفي أن يتطهَّر الإنسان، أو إنَّه أوجب الحج ومعناه القصد فيقصد أيَّ شيء! كل هذا لا يقول به عاقل، ولا يقول به عدنان إبراهيم بلا شكّ، ونحنُ حين نتحدَّث عن مصطلحات شرعيَّة يجبُ أن نرجعها إلى المعنى الشَّرعي، وينطبق نفس الأمر على كلمةِ (الإيمان) في هذه الآية، بل الانطباق هنا أشدّ، فإنَّ كلمة الإيمان والإسلام وغيرها هي من أظهَر الكلمات في الشَّريعة لارتباطها بأصلِ الدِّين، وهذا المعنى قد أفاضَ فيه ابن تيمية -رحمه الله- وبيَّنه فقال: “فالألفاظُ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جِهَة النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يعرف حدُّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوعٌ يعرف حدُّه باللغة كالشمس والقمر، ونوعٌ يعرف حدُّه بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ونحو ذلك… فاسم الصلاة والزَّكاة والصِّيام والحجّ ونحو ذلك قد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلامِ الله ورسوله، وكذلك لفظُ الخمر وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أرادَ أحد أن يفسرها بغير ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه… واسم الإيمان والإسلام والنِّفاق والكفر هي أعظم من هذا كلِّه؛ فالنَّبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن المراد بهذه الألفاظ بيانًا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك”([12]).
إذن فالإيمان في هذه الآية يجب أن يُفسَّر بمعناه الشرعي، وقد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عباس قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّا من هذا الحيّ من ربيعة، ولسنَا نصلُ إليك إلا في الشهر الحرام، فمُرْنا بشيءٍ نأخذه عنك وندعو إليه من وراءنا، فقال: «آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، -ثم فسَّرها لهم:- شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدُّوا إليَّ خمس ما غنمتم، وأنهى عن: الدباء والحنتم والمقير والنقير»([13])، ولاحظ الكلمة الواضحة الصريحة حين قال: “فسَّرَها” يعني الإيمان، بماذا فسَّره؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فهذا هو الإيمان الشَّرعي الوارد في هذه الآية، فالإيمان بالله في العرف الشرعي إذن يتناولُ الشهادة أن محمدًا رسول الله، وتلك الشهادة لا شك أنها تقتضي اتباعه لا تصديقه فحسب؛ ولذلك أتبع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القولَ ببيان شعائر الإسلام، وفَهِم المفسرون من هذه الآية هذا المعنى، فقد ذكر الماتريدي ما كرره عدنان إبراهيم وأبطله من هذا الوجه، فقال: “قيل: إنَّ اليهود والنصارى وهَؤُلَاءِ جائزٌ أَن يكون لهُم تعلق بظاهِر هذه الآية؛ لأنَّهم كانوا يقولون: إنَّا آمنَّا باللَّه، وآمنَّا باليوم الآخر، فليس علينا خوفٌ ولا حزن. لكن الجواب لهذا وجوه:
أَحدُها: أَنّه ذكر المؤمنين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، وإيمانهم ما ذكر في آية أخرى وهو قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. وهم قد فرَّقوا بين الرُّسل، بقولهم: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}، وفرقوا بين الكتب أيضًا: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، فهَؤُلَاءِ الذين ذكرهم عَزَّ وَجَلَّ في هذه الآية، هُمُ الذين آمنوا بجميعِ الرُّسل، وآمنوا بجميعِ الكتب أيضًا، فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن.
والثاني: ذَكَر الإيمان باللَّه، والإيمان باللَّه يقتضي الإيمانَ بجميع الرسل، وبجميع الكتب؛ ولكنهم لا يؤمنون باللَّه، ولا يعرفونَهُ في الحقيقة.
أو أَن يقال: ذكَر عملَ الصالحات، والكفرُ ببعض الرُّسل ليس من عمل الصَّالحات؛ لذلك بطل تعلُّقهم بهذا، واللَّه أعلم”([14]).
وقال الشَّوكاني: “والمرادُ بالإيمان هاهُنَا هُو ما بيَّنه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم من قوله لَمَّا سأله جبريل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره»، ولا يتَّصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملَّة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمَّد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن فليسَ بمؤمِن، ومن آمن بهما صارَ مسلمًا مؤمنًا، ولم يبق يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مجوسيًّا”([15]).
فالألفاظُ التي فيهَا إيمان باللهِ أو شرك بالله هي ألفاظ شرعيَّة، لها مرادات حدَّدها الشَّرع، وقد أشار القرطبي إلى معنى جميل حين شرح حديث: «من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة»([16])، قال: “وقوله: «لاَ يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا» معناه بحكم أصلِ الوضعِ: ألاَّ يَتَّخِذَ معه شريكًا في الألوهية، ولا في الخَلقِ؛ كما قدَّمناه؛ لكنَّ هذا القولَ قد صار بحكمِ العُرف عبارةً عن الإيمان الشرعي، أَلا تَرَى أنَّ من وحَّد الله تعالى ولم يؤمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لم ينفعهُ إيمانُهُ بالله تعالى، ولا توحيدُهُ، وكان من الكافرين بالإجماعِ القطعيِّ”([17])، فهوَ يبيِّن أنَّ عدم الإشراك بالله صار بالعُرف هو معنى الإيمان، ومعنى الإيمان في الشريعة هو ما بينه من توحيد الله والإيمان بالنَّبي صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة هذا الكلام: أنَّ الإيمان مصطلحٌ شرعي يتناولُ الإيمان بالله ورسوله، والإيمان يقتضي الاتباع لا مجرَّد التصديق، ومن العجيب أنَّ عدنان إبرَاهيم نفسه حين فسَّر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} في سُورة المائدة قال: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} على طَريقة المحمَّدين، يعني الإيمان على طريقَة المسلِمين مش بطريقتهم هُم”([18])، فأيُّ شيءٍ استجَدَّ عند عدنان إبراهيم حتَّى يُنكر وجوبِ اتِّباع الطَّريقة المحمَّديَّة؟!
وقد رأيتَ أنَّ تفاسير السَّلف كلّها تُبطلُ كلامَه، والآيات نفسها في الموضوع نفسه ترد عليه، وحتى إن تنزَّلنا وقلنا: لا ننظر إلى آياتٍ أخرى؛ فإنَّ المعنى الشرعي لكلمة الإيمان يردّ عليه.
ثَمَّة أمرٌ آخر أشَارَ إليه بعض العلماء وهو حريٌّ بالتَّأمل، وهو أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يطلق في القرآن للدلالة على الإيمان كلّه بكلِّ أركانه، فالحصر هنا ليس بمقصود، وذلك كما في قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]، فقد قال أبو حيان الأندلسي في بيان معنى الإيمان بالله واليوم الآخر: “الإيمانُ بالله واليوم الآخر، وهو الحامل على عبادة الله، وذكر اليوم الآخر لأنَّ فيه ظهورَ آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل، وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء؛ إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه، فصار الإيمان به واجبا”([19])، وقال السعدي: “{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: كإيمان المؤمنين إيمانًا يوجب لهم الإيمان بكل نبيٍّ أرسله، وكلِّ كتابٍ أنزله الله، وخصَّ الإيمان باليوم الآخِر؛ لأنَّ الإيمان الحقيقيَّ باليوم الآخر يحثُّ المؤمن به على ما يقرّ بِهِ إلى الله، ويثاب عليه في ذلك اليوم، وترك كلّ ما يعاقب عليه في ذلك اليوم، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 114]، فحصَل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه، وتكميل غيرهم بأمرهم بكلِّ خير، ونهيِهِم عن كلِّ شر، ومن ذلك حثُّهم أهلَ دينهم وغيرهم على الإيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم”([20]).
والشاهد: أنَّ الله سبحانه وتعالى حين يطلق الإيمان فإنَّه يريد به المعنى الشرعيَّ.
وليس الإيمان بهذا المعنى هو ما يبطل حجَّته فقط، بل حتى العمل الصَّالح، فما معنى العمل الصالح في مفهوم الإسلام؟
نعلم أن العمل الصالح عندنا هو ما جمعَ شرطين:
1- الإخلاص لله.
2- واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا جعَلَ بعض العلماء وجوبَ اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية داخلًا في العمل الصالح كما قال الواحدي: “{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك، {وَالَّذِينَ هَادُوا} دخلوا في دين اليهوديَّة، {وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} الخارجين من دينٍ إلى دينٍ وهم قومٌ يعبدون النُّجوم، {مَنْ آمَنَ} من هؤلاء {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} بالإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام؛ لأنَّ الدليل قد قام أنَّ مَنْ لم يؤمن به لا يكون عمله صَالِحًا، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}”([21]).
فمصطلح الإيمان ومصطلح العمل الصالح كلاهما نفهمهما وفقَ مُراد الله ورسوله، لا بمعناها العامّ.
الوقفة الثالثة: كيف آمنوا بالله؟
قُلنا: إنَّنا نتنزَّل ونقول: إنَّنا لن ننظُر إلى آياتٍ أخرى، فالآيةُ نفسها تُبطل قولهم إذا نظرنا إلى الإيمان والعمَل الصَّالح بالنَّظر الشَّرعي، ونقدِّم تنزلًا آخر فنقول: هب أنَّ اتِّباعَ النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلْ في المُصطَلحَين، وأنَّ المطلوبَ منهم هو الإيمان بالله فقط؛ لكن مما لا شكَّ فيه أنَّ معنى الإيمان بالله الإيمان به حسب صفاته، واعتبار كماله، واعتقاد وحدانيته، وأنَّه لا شريك له ولا ولد له، وهذه ضروراتٌ عقليَّة قبل أن تكونَ شرعية؛ حتى لا يقول أحدٌ: إنَّنا نفرض عقيدَتنا على معنى الإيمان بالله هنا، فهل حقَّقوا هذا الإيمان؟!
لننظر أولًا إلى حكاية الله عن إيمانِ أهل الكتاب:
يقول الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
ويقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17].
ويقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73].
ويقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64].
ويقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
ولتعرف عِظَم هذا الأمرِ عندَ الله انظُر كيفَ صوَّره القرآنُ تصويرًا عظيمًا، فقال الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 88-92].
فمن جاء بشيءٍ تكاد السماوات أن تتفطَّر منه، وتنشق الأرض، وتخرُّ الجبال هدًّا، فهل آمَن بالله؟!
وهل القُرآن حين يذكُرُ طريقةَ إيمانِهم يتَّسق مع النَّظرية القرآنية المتكاملة التي ادَّعاها عدنان إبراهيم؟!
بل هذه هي النَّظرية القرآنية المتكامِلة عن عقيدتِهم وحقيقةِ إيمانِهم بالرُّجوع إلى آيات الله، أمَّا إيمانُهم بالله ونظرتُهم له في كتبهم المقدَّسة فنظرة لا تليق بالله الذي نعبده، والإله الذي يجِب أن يتَّصف بصفاتِ الكَمَال المطلق، فهل من الإيمان بالله قولهم عنه: “فندم الربُّ على الشر الذي قال: إنه يفعله بشعبه”([22])! وقولهم: “يقول الله: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا”([23])! وقولهم: “في ستة أيام صنع الرب السماءَ والأرضَ والبحر وكل ما فيها، واستراحَ في اليوم السَّابع”([24])! وقولهم في وصفه: “شفتاهُ ممتلئتَان سخطًا، ولسانُه كنار آكلة، ونفخته كنهرٍ غامر يبلغ إلى الرقبة”([25])! وقولهم في المزمور السابع والثمانين: “فاستيقظ الربّ كنائم، كجبار معيط من الخمر”([26])! ويقولون عنه: “جَثم كأسد، رَبَض كلبوة”([27])! وقولهم: “لأنَّ جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من النَّاس”([28])! ونكتفي بهذه النُّقول التي تبيِّن حقيقة هذا الإله الذي يؤمنون به.
فهَلِ الإيمان بالله يعني الإيمان بإلهٍ ضعيفٍ جاهل، فقير بخيل، يندمُ ويتعَبُ ويستريح، وله شفتان ممتلئتان سخطًا، ويصوِّرون استيقاظه كأنه جبارٌ معيط من الخمر؟!
لا شكَّ أنه حتى وإن قلنا: يكفي الإيمان بالله؛ فإنَّهم لم يؤمنوا به على صفاته وكماله وجلاله وجماله.
وخلاصة القول في هذه الآية: أن الإيمان المراد هو إيمانهم بالله حسبَ ما جاءت به رسلُهم، ثم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حسب ما جاءَ به هو عليه الصَّلاة والسَّلام؛ ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: “إنَّ هذه الآية تتناول من آمن بالرسل وقتَ مبعثهم قبل أن تحرَّف كتبُهم وتبدَّل”، يقول رحمه الله: “وإن لم يكن فيها مدحُ اليهود بعد النَّسخ والتبديل، فليس فيها مدحٌ لدين النَّصارى بعد النسخ والتبديل، وكذلك يقال لليهودي إن احتجَّ بها على صحة دينه، وأيضًا فإنَّ النصارى يكفِّرون اليهود، فإن كان دينهم حقًّا لزم كفر اليهود، وإن كان باطلًا لزم بطلان دينهم، فلا بد من بطلان أحد الدِّينَين، فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوَّت بينهما، فعلم أنَّها لم تمدح واحدًا منهما بعد النَّسخ والتَّبديل، وإنَّما معنى الآية أنَّ المؤمنين بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم، والذين هادوا الذين اتبعوا موسى عليه السلام، وهم الذين كانوا على شرعِهِ قبل النَّسخ والتبديل، والنصارى الذين اتَّبعوا المسيح عليه السَّلام، وهم الذين كانوا على شريعته قبل النَّسخ والتَّبديل، والصابئين وهم الصَّابئون الحنفاء، كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ”([29]).
وقد تبيَّن أن إيمانهم ليس بإيمان صحيح، فضلا عن تكفير الله لهم في مواضع كثيرة، فالآية لا تدل على مراد عدنان إبراهيم، ولا تخدم فكرته، بل هي بنفسها تبطل نظريَّته وتدحضها، وسنأتي على الأدلة الأخرى في الجزء الثالث بإذن الله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) تفسير الطبري (2/ 150-154).
([2]) المرجع نفسه (2/ 148-149).
([4]) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 215).
([5]) تفسير البغوي (1/ 124-125).
([6]) تفسير ابن عطية (1/ 156).
([10]) البحر المحيط في التفسير (1/ 388-389).
([11]) تفسير ابن كثير (1/ 482-485).
([12]) مجموع الفتاوى (7/ 286-287)، وانظر: مجموع الفتاوى (7/ 298-300).
([14]) تفسير الماتريدي، تأويلات أهل السنة (1/ 484).
([15]) فتح القدير للشوكاني (1/ 110).
([17]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 291-292).
([18]) انظر تفسيره لسورة المائدة، الدرس الرابع من الدقيقة 54 على الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=7eG6bPFqB_g
([19]) البحر المحيط في التفسير (3/ 312).
([21]) التفسير الوجيز (ص: 110).
([22]) سفر الخروج، الإصحاح (32)، الفقرة (14).
([23]) سفر صموئيل الأول، الإصحاح (15)، فقرة (11).
([24]) سفر الخروج، الإصحاح (20)، الفقرة (11).
([25]) سفر إشعيا، الإصحاح (30)، الفقرة (27).
([26]) المزامير، مزمور (87)، فقرة (65).
([27]) سفر العدد، الإصحاح (24)، الفقرة (9).