(ليسُوا سواء) وجوبُ اتِّباعِ النَّبي ﷺ على أهل الكتاب بينَ نصوصِ الإسلام ونظريَّة عدنان (الجزء الثالث)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
أرادَ عدنان إبراهيم -كما مرَّ بنا- أن يأتيَ بما لم يأتِ بهِ الأوائل، فادَّعى أنَّ المطلوبَ من أهل الكتاب وبنصِّ القرآن أن يُؤمِنوا بالله ويصدِّقوا بالرَّسول محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم دونَ أن يتَّبعوا الإسلام كشريعَة، بل يبقون على ديانتهم اليهودية أو النصرانية، وهذا كافٍ في نزع وصفِ الكفر في الدُّنيا والنَّجاة في الآخرة -بحدِّ زعمه-، وقد بيَّنَّا في الجزء الأول من هذه الورقة أغلاطَه المنهجيَّة التي وقع فيها في هذه النظريَّة، ثم أتينا في الجزء الثاني على أكبر دليلٍ استدلَّ به، وقد تهشَّم ذلك البنيان على قواعده وبنصِّ القرآن، وبنصوصه هو في مواضعَ أخرى، وفي هذا الجزء الثالث سنزيل -بإذن الله تعالى- الرُّكام المتبقِّي من البناء المعرفي المتهالك الذي بنى عليه عدنان إبراهيم نظريَّته التي سمَّاها: (نظرية قرآنيَّة متكاملَة)، وذلك بتناوُل الأدلَّة الأخرى التي ذكرها؛ حتى لا نقع في الانتقاء كما وقع، فنردُ على دليلٍ دون آخر.
وقد ناقشنا بإسهاب الدليل الأوَّل من أدلته، وهذا أوان الشروع في مناقشة الأدلة الأخرى:
الدليل الثاني: قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114].
بدَأت هذه الآية ببيانِ أنَّ أهل الكتاب ليسوا سواءً، فمنهم أمَّة قائمةٌ يتلون آيات الله آناء الله وهم يسجُدون، وقد بدأَ عدنان إبراهيم في استدلالَه بهذه الآيةَ بوصف كلام المفسِّرين مرةً أخرى بالكلام الفارغ! فقال: “أهل الكتاب ليسوا سواءً، انتبه، لا تقل لي: أهل الكتاب الذين أسلَمُوا، هذا كلامٌ فارغ، وتحميلٌ للقرآن ما لا تحتمله اللُّغة”([1]). وهذا استباقٌ منه -كالمرة الأولى- حتى لا يناقِش أقوال المفسِّرين الذين تواردوا على بيانِ معنى الآية بطريقةٍ لا توافق ما ادَّعاه، فأسهل شيءٍ للنَّقض هو أن يقول عن كلِّ تلك النُّصوص: (كلامٌ فارغ)، لكنَّنا ماضون في منهجنا في أن لا نصفَه بما وصف به علماء الأمَّة.
ورجوعًا إلى هذه الآية فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد وصَفَ هُنَا هؤلاء الناس بأوصافٍ ثمانية وهي: (أمةٌ قائمة، يتلون آياتِ الله، يسجدون، يؤمنون بالله، يؤمنون باليومِ الآخر، يأمرون بالمعروف، ينهونَ عن المنكر، يسارعونَ في الخيرات). وحتَّى نعطي الآية حقَّها من البحث، ونعطي رأيَ عدنان إبراهيم أيضًا حقَّه من البحث والنَّظر سنناقشها من خلال النّقاط الآتية:
أولًا: فرَّق الله في هذه الآية بين طائفتين، والطائفة التي وُصفت بهذه الأوصاف الثمانية قد تكلَّم فيها المفسِّرون، وحتى ننطلق من أرضية صلبة في تقييم قول عدنان إبراهيم لا بدَّ أن نعرف ماذا قال المفسرون:
قالَ الطبري رحمه الله: “يعني بقوله جل ثناؤه: {لَيْسُوا سَوَاءً}: ليس فريقَا أهل الكتاب أهل الإيمان منهم والكفر سواء، يعني بذلك أنَّهم غير متساوين. يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصَّلاح والفساد، والخير والشر، وإنَّما قيل: {لَيْسُوا سَوَاءً} لأنَّ فيه ذكرَ الفريقين من أهل الكتاب اللَّذَين ذكرهُما الله في قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، ثمَّ أخبر -جل ثناؤه- عن حال الفريقين عنده المؤمنة منهما والكافرة فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً} أي: ليسَ هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون… قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الآيات الثلاث، نزلَت في جماعةٍ من اليهود أسلَموا فحسُنَ إسلامُهم… قالت أحبارُ اليهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمَّد ولا تبِعَهُ إلا أشرارُنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دينَ آبائِهم، وذهبوا إلى غيرِه، فأنزَلَ الله عزَّ وجل في ذلك من قولهم: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}… عن عبد الله بن مسعود أنَّه كان يقول في قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}، قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم… وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، يقول: يأمرون النَّاس بالإيمان بالله ورسوله، وتصديق محمَّد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به”([2]).
وذهب ابن المنذر إلى الرأي الذي يقول بأنَّ الآية في من أسلم منهم حين قال الأحبار: ما آمن بمحمد إلا شرارنا([3]). وذهب ابنُ أبي حاتم إلى نفس الرأي([4])، وكذلك الماوردي([5]).
وقال ابن أبي زَمنين: “{لَيْسُوا سَوَاءً} يقول: ليس كل أهل الكتاب كافرًا… {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} يعني: بالإيمانِ بمحمَّد صلى الله عليه وسلم”([6]).
وقال البغوي: “قالَ عطاء: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الآية، يريدُ: أربعين رجلًا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الرُّوم كانوا على دينِ عيسى وصدَّقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكان من الأنصار منهُم عدة قبل قدومِ النَّبي صلى الله عليه وسلم… كانوا موحِّدين يغتسلون من الجنابَة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفيَّة حتى جاءَهُم الله تعالى بالنَّبي صلى الله عليه وسلم فصدَّقوه ونصرُوه”([7]).
وذهبَ ابن عطية إلى رأيٍ آخر بيَّنه فقال: “وذلك أنَّ أهل الكتاب لم يزل فيهم من هُو على استقامة، فمنهُم من ماتَ قبل أن يُدرك الشَّرائع، فذلك منَ الصَّالحين، ومنهم من أدركَ الإسلام فدخل فيه. ويعترض هذا النَّظر أنَّ جميع اليهود على عِوج من وقت عيسى، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقَط، أو يكون اليهود في معنى الأمَّة القائمة إلى وقت عيسى، ثم ينتقل الحكم في النَّصارى، ولفظ: (أَهْل الْكِتابِ) يعمُّ الجميع”([8]).
وقال القرطبي: “ثمَّ أخبر فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً} وتمَّ الكلام. والمعنى: ليس أهلُ الكتاب وأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء، عن ابن مسعود. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} قيل: هو عموم. وقيل: يراد به الأمر باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم“([9]).
ونختم بابن كثير إذ قال في تفسيره: “والمشهور عن كثيرٍ من المفسِّرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس: أنَّ هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبارِ أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وغيرهم، أي: لا يستوِي من تقدَّم ذكرهم بالذَّم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا”([10]).
وملخَّص ما ذكره المفسِّرون من أقوالٍ في المراد من هذه الآية هو الآتي:
1- أنَّ المراد بهم من كانوا على دياناتٍ سابقة، وكانوا على هذه الصفات، فلمَّا جاءَ النَّبي صلى الله عليه وسلم آمنُوا وأسلَمُوا.
2- أنَّ المراد بهم من كانُوا على دياناتٍ سابقة، وكانوا على هذه الصفات، ولم يُدركوا مبعَثَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فهُمْ قَبْله.
3- أنَّ المراد بهم المسلمون، وسمَّاهم الله أهل الكتاب لعُمومِ لفظِ الكتاب؛ إذ إنَّه يتناولُ القرآن الكريم.
هذه الأقوال الثَّلاثة هي التي وردت في بيانِ أهل الكتاب في هذه الآية، ولعدنان إبراهيم أن يختار أنَّ أهل الكتاب هنا ليسوا هم الذين أسلموا، وقد قالَ بهذا قوم؛ لكن لم يقل أحدٌ منهم: إنَّ هؤلاء أدركوا النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يتَّبعوه، بل قرَّروا أنَّهم من كانوا على هذه الصِّفات ولم يُدركوا النَّبي صلى الله عليه وسلم، أمَّا عدنان إبراهيم فإنَّه يُدخِل في المراد بأهل الكتاب هنا الذين لم يسلموا ولم يتَّبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعاشوا زمنَ النَّبي عليه الصلاة والسلام، ويعيشُون بعدَهُ إلى قيامِ السَّاعة؛ لكنَّهم اتَّصفوا بهذه الصفات الثمانية، وما سوى هذا القول عنده كلامٌ فارغ!
وقد ذكر الأستاذ محمد عبده قولًا في تفسير هذه الآية قد يُظنُّ أنه مثل قول عدنان، وليس كذلك، وهو أنَّ هذه الطائفة هي من أهل الكتاب، ولم تعتنِق الإسلام، وكانت قبلَه أو بعده صلى الله عليه وسلم، ولم تبلُغها الدَّعوة على وجهها، ولم تحرف التوراة أو الإنجيل أو لم تأخذ بالمحرف منهُما([11]). وهذا القول وإن كان قريبًا من قول عدنان من حيث إنَّ الآية تتناوَلُ من بقِيَ من أهل الكتاب على ديانتِه بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنَّه يُبايِنُه مبايَنَةً كبيرة، فإنَّه من الواضح أنَّه اشترط شرطين وهما: أنَّهم لم تبلغهم الحجة، وأنَّهم لم يأخذوا بالمحرَّف من التوراة والإنجيل. ونحن قد فرَّقنا سابقًا بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة بالنسبة لمن لم تبلغهم الحجة، ثمَّ شرط الأخذ بغير المحرَّف شرط عسير إن لم يكن مستحيلًا في زمننا هذا، وليس هذا هو الذي يقوله عدنان إبراهيم.
وعودًا على كلامه فإن عدنان إبراهيم في ادعائه هذا واستناده إلى هذه الآية قد قدَّم دليلًا على أنَّ المراد هم أهل الكتاب الذين لم يسلموا، ودليلُه على هذا الادِّعاء أنَّ الله سمَّاهم أهل كتاب ولم يسمِّهم مسلمين، قال في معرض كلامه: “يقولونَ: من أهل الكتاب الذين أسلمُوا. إيش الكذب هذا؟! تكذب على الله؟! الكتابي الذي أسلَم لا يقال لهُ: كتابي، اسمه: مسلم”([12]).
وهذا القول مخالفٌ لأقوال السلف كلِّهم كما ترى؛ لكن مع هذا لو تنزَّلنا وقلنا: نُعرض عن كلام المفسِّرين، فما الدَّليل الذي قدَّمه عدنان إبراهيم؟ هو دليلٌ واحد وهو: أنَّ من أسلم لا يقال له: كتابي، فالآية لا تتناوَلُه، فأصبح مصطلح أهل الكتاب تكأة لعدنان إبراهيم ليمرِّر هذهِ المسألة العظيمة، ولكن من قال: إنَّ اللغة لا تحتمل وصفَهُم بأهل الكتاب وإن كانوا قد أسلموا؟!
هذا الادِّعاء من عدنان إبراهيم ادِّعاءٌ خطيرٌ يلبِّس به على النَّاس؛ فهل هو يجهلُ كلَّ ما قاله علماء اللغة والبلاغة في وصفِ الشيء باعتبار ما كان؟!
يقولُ بهاء الدِّين السبكي في بيان المجاز: “القسم الخامس وهي تسميةُ الشَّيءِ باسم ما كان عليه، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} [النساء: 2] أي: الذين كانوا يتامى؛ لأنَّ الرشيد لا يسمَّى يتيمًا حقيقة”([13])، وقال الهاشمي: “واعتبارُ ما كان هو النَّظر إلى الماضي، أي: تسمية الشَّيء باسم ما كانَ عليه”([14]). وبمثله يقول أحمد المراغي ويمثِّل له فيقول: “نحو: شربت بنًّا جيِّدا، تريد قهوة بنّ”([15])، وذكره إبراهيم بن محمد بن عربشاه([16])، وابن معصوم([17])، وعبد العزيز عتيق([18])، فالوصفُ باعتبار ما كان أمرٌ شائع موجودٌ صحيح، فكيفَ يغفل عنه عدنان إبراهيم في مسألةٍ كبيرة كهذه؟! بل هو شائعٌ حتى في القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] أي: من كانُوا يتَامَى، فهُم عند الرُّشد يُعطون ولا يسمَّون حينئذٍ يتامَى، ومثل قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] فإنَّه إن أُريد به الزَّوج السَّابق فهو باعتبار ما كان، وإن أُريد به من ستتزوَّج به فهو باعتبار ما سيكون، فالخلاصة أن هذا أمرٌ سائغٌ في اللُّغة موجودٌ في القرآن مثله.
ثانيًا: الله سبحانه وتعالى قد وَصفَهُم بما هو أخصُّ من وصف الإسلام، فدلَّ ذلك على أنَّ المراد من أسلَم منهم، وقد مرَّ بنا من فسَّر قوله تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بأنَّه اتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم، يقول أبو حيان في هذه الآية نقلًا عن الزمخشري: “الظَّاهر أنَّ في الوصف بالصَّلاح زيادةً على الوصف بالإسلام؛ ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء”([19]).
فإن قيل: كيف عرفت أنَّهم مسلمون؟
نقول: لأنَّ الله وصفهم بوصفٍ أخصَّ من الإسلام.
ثالثًا: هذه الأوصاف الثَّمانية التي ذكرت في الآيات لا تنطَبِقُ على أهلِ الكتاب ولا على بعضهم مطابقة تامَّة، وقد سبق بيانُ معنى الإيمانِ الشَّرعي، وهو أول ما يفارقون بهِ المسلمين، ولذلك قال الزَّمخشري: “وَصَفَهم بخصائص ما كانت في اليهود؛ من تلاوة آياتِ الله باللَّيل ساجدين، ومن الإيمانِ بالله؛ لأنَّ إيمانهم به كَلَا إيمان؛ لإشراكهم به عُزيرًا، وكفرهم ببعضِ الكتب والرُّسل دون بعض. ومن الإيمان باليوم الآخر؛ لأنَّهم يصفونه بخلافِ صفته. ومن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ لأنَّهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات؛ لأنَّهم كانوا متباطئِين عنها غير راغبين فيها”([20]). والمقصود: أن ننظر إلى هذهِ الأوصافِ الثَّمانية لنرى مطابقَتَها لأهل الكتاب:
1- {قَائِمَةٌ}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أمَّة مهتدية، قائمة على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركَهُ الآخرون وضيَّعوه”، قال قتادة: “قائمةٌ على كتاب الله وفرائضِه وحدودِه”، وقال: “على كتاب الله، وحدود الله، وفرائضِ الله، وطاعة الله”، وقال الربيع: “قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه”([21]). وقال ابن كثير: “قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله”([22]). وهذا الوصف يسقط بكفرهم وشركهم وعدم وجود كتابٍ صحيحٍ لهم يقومون به.
2- {يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ}.
والمقصود هُنَا: القرآن الكريم؛ لأنَّه كيف يخبرُ الله عن تحريف كتبِهم كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، ثم يمدحهم في هذهِ الآية بأنَّهم يتلون ذلك الْمُحرَّف؟!
فإن قيل: يتلون الصحيحَ منها.
نقول: أولًا: أين هو الصَّحيح الخالص غير المشوب بالباطل؟!
ثانيًا: إن قرؤوا الصَّحيحَ اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم لورود اسمه ووصفِه في كُتبِهم.
3- {يَسْجُدُونَ}.
ولا نعرف سجودًا عندهم كسُجود المسلِمين، فلا يستقيمُ المعنى مع عدنان إبراهيم إلَّا بتفسيرهِ تفسيرًا متكلّفًا؛ بأن يفسره بالذُّل والخضوع لله كما فعل رشيد رضا حين قال: “أمَّا السجود الذي أسندهُ إليهم فهو إمَّا عبارة عن صلاتِهم، وإمَّا استعمال له بمعناهُ اللُّغوي وهو التطامن والتذلُّل”([23]). وتفسيرات السلف والمفسرين مباينةٌ لهذا.
4، 5- {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، وقد ناقشنا هذا سابقًا بتفصيل.
6، 7- {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.
وهذا الوصف نرى أنَّ الله سُبحانه وتعالى كثيرًا ما يمدح به المسلمين، بل جعلهُ من خصائصهِم حين قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، بل قد وصف الله هؤلاء بعكس هذا الوصف فقال عنهم: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].
8- {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}.
وهذه أيضا صفةٌ لا نراها في أهل الكتاب، وإن كانت موجودةً في بعضِهم؛ فإنَّ دخولهم ينتقضُ بمناقضةِ الصِّفات السابقة، يقول البيضَاوي -رحمهُ الله-: “{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}، صفات أخر لأمَّةٍ وصفهم بخصائص ما كانَت في اليهود، فإنَّهم منحرفون عن الحقِّ، غير متعبِّدين في الليل، مشركون بالله، مُلحدون في صفاتِه، واصفونَ اليومَ الآخر بخلافِ صفتِه، مداهنون في الاحتساب، متباطئُون عن الخيرات”([24]).
فتبيَّن لك أنَّه ليس لعدنان إبراهيم ونظريته أيّ متعلق بهذه الآية، فإنها نزلت في أهل الكتاب إذا أسلموا، أو من كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليلُ الثالث: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]. قال عدنان إبراهيم: (لا تقل لي: القرآن، الله قال: ما أُنزل إليكم، في آية أخرى يقول: {أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46]، إيَّاك أن تخلط وتقول لي: آه، معناه: أُنزل إليكم القرآن، هذا كلامٌ فارغ، أُنزل إليكم وليس أنزل إلينا)([25]).
وسنتجاوز أيضًا وصفه لكلام العلماء بالفارغ، وقد مرَّ بنا مدى حجم ما ادَّعاه عدنان إبراهيم أمام ما قالهُ علماءُ التفسير وعلماء اللغة، وقد عرفت كيف أنَّه ادَّعى عليهم ما يعرف بطلانه طالب علم صغير في اللغة والبلاغة؛ لكنَّنا نعودُ إلى هذه الآية الكريمة فنقول:
قول الله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} ليس لهُ إلا واحدٌ من أربعة احتمالات:
1- أنه القرآنُ الكريم، ويدلُّ على هذا: الآيةُ التي قبلها، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، ثم يخاطبُ أهل الكتاب بعد أن أوجب على الرَّسول صلى الله عليه وسلم البلاغَ، فيأمرهم بإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم، أي: هذا الذي قَد بلَّغهُ خاتم الرسل.
2- أنه جميعُ الكتب السماوية، وبهذا قال الماتريدي: “{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} من كتب أنبيائكم، وحتى تقيموا أيضًا ما أنزل من الكتب: كتب الرسل أجمع؛ لأن الإيمان ببعض الرسل وببعضِ الكتب والكفر ببعض لا ينفع، حتى يؤمن بالرسل كلهم وبالكتب جملة”([26]). وهذا لن يعجب عدنان إبراهيم، ولن يقولَ به؛ لأنَّ القرآن الكريم داخلٌ ضمن كلِّ الكتب السَّماوية.
3- أنه جميعُ الكتب التي أُنزلت على بني إسرائيل. فإن كانَ عدنان إبراهيم يقول بهذا القول فيعني أنَّ الكتابيّ لا يكون على شيءٍ حتى يقيم كلَّ الكُتُب المنزَّلة على بني إسرائيل، فلعلَّ عدنان إبراهيم يتبرَّع ويظهر لهم كلَّ هذه الكتب لكي يقيمها هذا الكتابي!
4- أنه يقصد به التَّوراة والإنجيل، وهو ما يريدُه عدنان إبراهيم، ولكن ألم يفكِّر لحظة كيف يقول الله: أقيموا التوراة والإنجيل وأقيموا التوراة والإنجيل؟! كيف يصحُّ مثل هذا التكرار في كتاب الله سبحانه وتعالى؟!
ثم إن سلَّمنَا وقُلنا: يقيمون التوراة والإنجيل، فأيُّ نُسخِ التوراة والإنجيل يقيمون؟! وما معنى الإقامة؟! ألا تعني اتِّباعَ النبي صلى الله عليه وسلم كما تقوله كتبهم؟!
وخلاصةُ الأمر: أنَّ المراد هنا بما أنزل إليكم أي: القرآن الكريم، يقول الطَّبري -رحمه الله- مبينًا ذلك: “قل -يا محمَّد- لهؤلاء اليهود والنصارى: لستم على شيء مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به مُوسى صلى الله عليه وسلم معشرَ اليهود، ولا ممَّا جاءكم به عيسى معشرَ النصارى، {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ممَّا جاءكم به محمَّد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا بذلك كلِّه، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرُّوا بأنَّ كل ذلك من عند الله، فلا تكذِّبوا بشيءٍ منه، ولا تفرِّقوا بين رسلِ الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإنَّ الكفر بواحدٍ من ذلك كفرٌ بجميعه؛ لأنَّ كتب الله يصدِّق بعضُها بعضًا، فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها”([27]).
وممَّا يقوِّي هذا القول: سببُ نزول الآية، والذي ذكره الطبري فقال: “عن ابن عباس قال: جاءَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسَلام بن مِشْكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة، فقالوا: يا محمَّد، ألست تزعم أنَّكَ على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندَنَا من التَّوراة، وتشهد أنَّها من الله حق؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى، ولكنَّكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخِذَ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أُمرتم أن تبيِّنوه للناس، وأنا بريءٌ من إحداثكم»، قالوا: فإنَّا نأخذ بما في أيدينا، فإنَّا على الحقِّ والهدى، ولا نؤمنُ بك ولا نتَّبعك! فأنزل الله تعالى ذكره: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}”([28]).
وتأمَّل قولهم: (ولا نتَّبعك)، ثم أنزل الله هذه الآيةَ لقطع طمعهم في ذلك، وإيجابِ اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ونقل ابن أبي حاتم عن مجاهد أنَّه قال: “{حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} قال: ما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم”([29]). وعنه أيضا: “{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني: القرآن العظيم”([30]). وقال الراغب الأصفهاني مفصِّلًا في معنى هذه الآية: “فإن قيل: كيف أمرهم أن يقيموا الكتب وقد عُلم أنَّ القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل ولا يصحّ إقامة جميعها؟! قيل: يجوز أنَّه عنى الإقرار بصحَّة ثلاثتِها، ويجوز أنَّه أراد أحكام أصولها، فإنَّ ثلاثتها تستوي في ذلك، وإنَّما الاختلاف في الفروع بسحب مصالح الأزمنة. وقيل: أرادَ إقامة هذه الكتب بإظهارِ ما فيها من وصفِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وتصديق بعضها بعضًا”([31]).
ومن عجيبِ فعلِه: أنَّه استدلَّ بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46]، كمَا قال: “في آية أخرى يقول: {أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}، إياك أن تخلط وتقول لي: آه، معناه: أنزل إليكم القرآن”، ولا أدري من أيِّ جهةٍ هذه الآية تشبه التي معنا، فإنَّ هناك ذِكْرًا للتوراة والإنجيل، فإن قال لهم بعدها: أقيموا ما أُنزل إليكم وكان المراد التوراة والإنجيل كان تكرارًا، بينما في هذه الآية لم يذكر الله التوراة والإنجيل، فصحَّ أن يفرق ويقول: {أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}.
كما أنَّ الآية نحن المخاطبون بها، فالله يقول: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}، وبالفعل نحنُ نؤمن بها كلِّها، ولا ننكر كتابًا أنزله الله، مع إيماننا بأن التوراة والإنجيل قد طالهما أيادي التَّحريف والتبديل، فهذه الآية التي استدلَّ بها عدنان إبراهيم لا تخدم نظريته، ولا تؤيد فكرته، وقد بطل الاستدلالُ بها كما مر.
الدليلُ الرَّابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ يؤتون أجرهم مرَّتين: الرجل تكون له الأمَة، فيعلِّمها فيحسن تعليمَها، ويؤدِّبها فيحسن أدَبها، ثم يعتقها فيتزوجها فلهُ أجران، ومؤمن أهلِ الكتاب، الذي كان مؤمنًا، ثمَّ آمنَ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم فله أجران، والعبد الذي يؤدِّي حق الله، وينصح لسيده»([32]). قال عدنان إبراهيم مبيِّنًا المعنى الذي استنبطه من هذا الحديث: “إن اتبعه فله أجران، النبي يقول: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»، والمعنى أنَّه إن لم يؤمن بي لكن لم يكفر لم يتبعني ولم يكفر فله أجرٌ واحد”([33]).
وقبل أن نخوض في شرح الحديث وبيان المراد منه، وما دام أن نظرية عدنان إبراهيم نظرية قرآنية متكاملة؛ ننظر ماذا يقولُ الله تعالى في هذا المعنى، يقولُ سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52-54]. فهؤلاء الذين يؤتون أجرهم مرتين بنصِّ القرآن الكريم هم من كانوا على ديانةٍ سابقة ثم لَمَّا جاء محمَّد صلى الله عليه وسلم آمنوا به وبالقرآن الذي جاء به، وليسَ فيه أي ذكرٍ لمن لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم بأنه له أجرٌ واحد.
ونرجع إلى هذا الحديث لنقول: إن وجه الدلالة عند عدنان إبراهيم هو: أنَّه إن كان باتباع النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى أجره مرَّتين، فإنَّه إنْ لم يتبعه سيؤتى أجره مرَّة، فهو على كلِّ حالٍ مأجور، وما يقومُ به صحِيح.
ونقول: إنَّ هذا لا يلزم، فعدمُ إدراكه الأجرين لا يعني إدراكَه الأجر؛ لأنَّ ها هُنا صورتين في مفهوم المخالفة:
1- من كان مؤمنًا بنبيه ومات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يصدق عليه مفهوم المخالفة، وله أجر اتِّباعِه لدينه.
2- من كان مؤمنًا وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه، وهذا في الأصل يدخُلُ في المفهوم، لكن أخرَجتْه الآيات والأحاديث الأخرى الكثيرة، وقد مرَّ بنَا طرفٌ منها، ومن أصرحِهَا ما جاء في كتاب النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وفيه: «من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلامٌ على من اتَّبع الهُدى، أمَّا بعد: فإنِّي أدعوك بدعايَةِ الإسلام، أسلِم تسلم، يؤتكَ الله أجرَكَ مرَّتين، فإن تولَّيت فإنَّ عليك إثمُ الأريسيِّين»([34])، فقد صرَّحَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه إن آمن به له أجران، ولم يقل له: فإن بقيتَ على دينِك وصدَّقتني فلك أجرٌ واحد، وإنَّما أخبره بأنَّه عليه إثمه وإثم الأريسيين! وهذا واضحٌ -ولله الحمد- في أنَّ الحديث في مَن آمَنَ بنبيِّه ولم يدركِ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا له أجرٌ واحِد، ومن أدرَكَ النَّبي صلَّى الله عليه وسلم وآمَن بِهِ واتَّبعه فلهُ أجرَان.
وأخيرًا: هذهِ المسألة التي أثارَهَا عدنان إبراهيم مسألةٌ خطيرةٌ عظيمَة، وقد وَصَفَها هو بنفسِه فقال: (ما انتَهَى إليه اجتهادِي في هذِهِ المسألة المشكلة جدًّا، وطبعًا أنَا أعلم أنَّ هذا الاجتهاد حقيقٌ أن أُكفَّر عليه). فإن كانت المسألة -حتَّى عندهُ- بهذا القدر وهذهِ الخطورة كانَ مِنَ الأولى أن يقدِّم إجاباتٍ منطقيَّةً لكلِّ هذه التَّفاسير التي نقلنا منهَا، بل لم نرَ مفسِّرًا قد فسَّرَ الآية بما فسَّر به عدنان إبراهيم، فكانَ عليه أن يُجيب عن كلِّ هذه النُّقولات، وإن كان ثمتَ تفسير غفَلنا عنه يذكُره، وعلى الأقلِّ كانَ عليه أن يجيب على نفسِه حين قرَّر أكثر من مرَّة أنَّ الإيمان المقبول هو الإيمان على الطريقة المحمَّدية، وما عدا ذلكَ فغير مقبُول، وأنَّ اليهوديَّة ديانة وثنيَّة لا توحيديَّة!
لكنَّه لم يقدِّم أيَّ إجابة عن هذه الأسئلة المهمَّة، وقد بيَّنَّا الأغلاط المنهجيَّة التي وَقَعَ فيها، والأخطاء التَّفصيليَّة في كلِّ دليلٍ استدلَّ به.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعِين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
https://www.youtube.com/watch?v=f5ns1L6x4Aw
([2]) تفسير الطبري (7/ 118-130).
([3]) تفسير ابن المنذر (1/ 339).
([4]) تفسير ابن أبي حاتم (3/ 737).
([5]) تفسير الماوردي (1/ 417).
([6]) تفسير القرآن العزيز (1/ 313).
([7]) تفسير البغوي (1/ 496-497).
([8]) تفسير ابن عطية (1/ 492).
([10]) تفسير ابن كثير (2/ 105).
([11]) ينظر: زهرة التفاسير، لمحمد أبي زهرة (3/ 1368).
([12]) استمع لكلامه على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=1bkzGHUppKw.
([13]) عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح (2/ 138).
([14]) جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع (ص: 254).
([15]) علوم البلاغة.. البيان، المعاني، البديع (ص: 251).
([16]) الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم (1/ 85).
([17]) أنوار الربيع في أنواع البديع (ص: 460).
([19]) البحر المحيط في التفسير (3/ 312-313).
([20]) تفسير الزمخشري (1/ 402).
([21]) انظر: تفسير الطبري (7/ 123)، تفسير ابن المنذر (1/ 340).
([22]) تفسير ابن كثير (2/ 105).
([24]) تفسير البيضاوي (2/ 34).
([25]) استمع لكلامه في الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=f5ns1L6x4Aw
([26]) تفسير الماتريدي (3/ 559).
([27]) تفسير الطبري (10/ 473).
([28]) تفسير الطبري (10/ 473-474).
([29]) تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1175).
([30]) ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 155).
([31]) تفسير الراغب الأصفهاني (5/ 403).
([32]) أخرجه البخاري (3011)، ومسلم (154).