عرض وتعريف بكتاب: دفاعًا عن (الدرر السنية في الأجوبة النجدية)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
“الدرر السنية في الأجوبة النجدية” كتابٌ جمع فيه الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم كتُبَ ورسائلَ ومكاتبات أئمَّة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بدءًا من رسائل الشيخ نفسه وكتاباته إلى آخر من وقَف على كتُبهم ورسائلهم، وقد جاء الكتاب في ستة عشر مجلدًا، اجتهد جامعُه في تتبّع الكتب والرسائل ثمّ عرضها على العلماء مثل الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، ثم ترتيب ذلك كله على حسب وفيات العلماء، إلا قسمي الفقه والتفسير، فقد قسم الفقه حسب الأبواب، والتفسير حسب سور القرآن الكريم.
فالكتاب إذن واحدٌ من أهمِّ الكتب لمن أراد معرفة أقوال علماء الدعوة ومعرفة كتبهم، وأراد تتبُّع رسائلهم وفتاويهم في سائر الفنون المعروفة، فقد حوى معظمَ ما كتبوه عدا الكتب المفردة المشهورة ككتاب التوحيد وكشف الشبهات ونحوهما.
ومِن أهمِّ ما ينبغِي التنبّه له: أن الكتاب ليس تأليفَ عالم واحدٍ، ولم يؤلَّف في مدة زمنية واحدة، بل هو جمعٌ لكتبٍ ورسائلِ علماء متعدِّدين، بدءًا من الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى علماء قرابة القرنين بعده، فلا شك أن القارئ سيجد تفاوتًا في التحرير والدقة من موضع لآخر، خاصَّة أنه لا يجمع الكتب فقط والتي هي مظنة التأصيل والتحرير، وإنما يضمّ إليها الرسائل والفتاوى والتي قد تكون محاطة بظروف وأحداث لا نعلمها، أو تكون قد كتبت للإجابة عن أمر معيَّن، أو للتنبيه على قضية معيَّنة.
وهذا التنبيه مهمّ لأنَّ بعض الناس قد يأخذ كلمةً وجدَها في رسالة أو فتوى، فيشنِّع بها على الدعوة كلِّها، وعلى كتابِ “الدرر السنية” كلّه، وهذا خطأ منهجيّ واضح، فإن التأصيل أولا إنما يؤخَذ من الكتب المحرّرة التي أريد منها بيان القول والاستدلال له وتحرير القول في المعارضات التي يمكن أن يعترض بها على القول وما إلى ذلك، أما الرسائل فطبيعتها أنها ليست كلّها مما يمكن أخذ تأصيل المسألة منها، مع قولنا بأن الرسائل نفسَها لم تخرج عن الأصول العامّة والمنهج العام للإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، لكن إذا أشكل أمر في الرسائل والفتاوى فإنَّ مردَّه إلى الكتب المحررة. كما أنه من الخطأ المنهجيّ أيضًا أن ينسب رأي أو قول إلى الكتاب كلّه وهو مجموعُ كلام علماء كثيرين في فترات زمنيّة متباعدة، ولا يعني هذا أنه لا يمكن نسبةُ رأي ما إلى الكتاب، وإنما يجب تحرِّي الدقة فيه بأن يكون الرأي قال به الجميع، وإلا يكون رأيًا فرديًّا لقائله.
وعلى كلّ حال فإنَّ الكتابَ يعبِّر عن آراء علماء كان لهم الأثر الكبير في العالم الإسلاميّ، وكانت الدعوة لها أثرها الكبير الذي امتد إلى خارج حدودها المكانية، وهو يعبر عن آراء وهموم وصراعات تلك الفترة المهمَّة، ولا يوجد عالم معتبَر من علماء أهل السنة والسلفية ينادي بتبرئة الكتاب من أي خطأ، فالخطأ قرينُ العمل البشريّ إلا ما ندر، والنقاش العلميّ يرحِّب به العلماء، لكن الذي ينكرونه هو بتر الكلام عن سياقاته، والاعتماد على نصوصٍ وردت في مظانّ عدم التحرير بدقّة كالرسائل العاجلة، وترك النصوص الأخرى، كما لا يمكن القول بأن الخطأ ومجانبةَ الصواب هو الأصل في الكتاب، فينادَى بإخفائه أو تركه وإهماله، بل هو سِفر عظيم ينبغي الإفادةُ منه، وفيه حِفظٌ لجهود علماء في فترة زمنيّة مهمَّة.
ولا يخفى أنَّ الدعوة نفسَها وعلماءَها بدءًا من الإمام محمد بن عبد الوهاب قد افتُري عليهم مرارا، ومورِست عليهم أنواع من الحَيف والجَور ونسبة أقوال إليهم لم يقولوها، ونسبة معانٍ ينكرونها، وذلك منذ حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا، وقد تعلَّق أناس كثيرون بنصوصٍ ومواضع من كتابِ “الدرر السنية” في إذكاء هذه الشبهات، فجاء هذا الكتاب مدافعًا عنه ومبينًا حقيقتَه ومناقشًا لبعض الشبهات المثارَة حوله، مع تأكيدنا على إبقاء الباب مفتوحًا للنقاش العلميّ الصحيح المضبوط بضوابطه.
البيانات الفنية للكتاب:
عنوانه: دفاعًا عن “الدرر السنية في الأجوبة النجدية”.
إعداد: فهد بن إبراهيم الفعيم.
تقديم: قدم له الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء.
حجمه: الكتاب لطيفٌ في قرابة 180 صفحة.
طبعته: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1442هـ.
العرض الإجمالي للكتاب:
لا يخفَى على أيّ مطَّلع أنَّ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب جاءت في وقت انتشرت فيه البدع والشركيات في كثير من بلاد المسلمين، فأقام التوحيدَ ودعا إلى إخلاص الدين لله، وله في ذلك كتبٌ ومراسلات وردود، وسار على نهجه أتباعُه من العلماء، سطَّروا الكتب والردود والرسائل والمناقشات العلمية، وقد كتب كثيرون عن هذه الدعوة ومؤسِّسها وأتباعها ومنهجها وما إلى ذلك، بيد أنه ظهرت نداءات ومقالات تدَّعي وجود أخطاءٍ جسيمة في الدعوة لدرجة أنهم نسبوا الفِرَق الغالية في التَّكفير إليها، وادَّعو أنَّ الدعوة أرضيَّة خصبة لها، وأنَّ هذه الفرقَ لا تأخذ إلا بتعاليمها ومناهجِها، ونحن لا ندَّعي العصمةَ لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل البشري -خاصة العمل الجماعي- تتخلَّله أخطاء عديدة بلا ريب، لكن المؤلّف رأى أنَّ تلك النَّقدات للدّعوة وعلمائِها وكتبها تجاوزت المنهجَ العلمي الصحيح في النقد والمناقشة إلى الاتهام والتزييف والتّقويل، بل يؤكِّد المؤلّف أنَّ كثيرًا من الناقدين وحسب سؤاله لهم لم يقرؤوا ما نقدوه من كتب الدعوة، وإنَّما كرَّروا ما قاله غيرهم من أعداء الدعوة حقدًا أو كرهًا أو وقوعا في غفلة الكتب المضادّة وتصديقها، وحري بالمسلم أن يقِف بنفسه على ما يروم نقدَه، ويتثبت منه، ثم يقدّم نقدًا علميًّا صحيحًا، وهو ما لم يمنعه أحد -حسبَ علمي- من الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا، بل المنهج في الأساس قائمٌ على النصح والإرشاد لكل من وقع في الخطأ ولو من أئمة الدعوة.
ومن المعلوم أنَّ كتاب “الدرر السنية في الأجوبة النجدية” والذي سبق التعريف به باختصار يعدُّ من أجلِّ الكتب التي جمعت تراث أئمة الدعوة وأعظمها، ورأى المؤلف أنَّ عددًا كبيرًا من الشبهات التي توجَّه على الدعوة وأئمّتها إنَّما يستدلّ فيها الطَّاعنون على كلامهم بنصوصٍ من “الدرر السنية” إذ هو جامع كتبهم ورسائلهم، فجاء هذا الكتاب دفاعًا عن هؤلاء الأئمّة الأعلام، وعن بعض القضايا الكبرى التي نقدوها في كتاب “الدرر السنية”، وليس هو فقط في إيراد شبهات والرد عليها، وإنما فيه تعريف وتفصيلٌ لعدد من مواقف أئمة الدعوة حول عدَد من القضايا المهمّة التي قد تدور الشبهات حولها، فبتقرير القول الصحيح والموقف الصحيح تزول الشبهات بلا شكّ ولو لم يُردّ على الشبهة بعينها، فالحقُّ يزيل الباطل، والمواقف الصحيحة اليقينية إذا عُرفت ضعف الباطل الذي يثار حولها أو زال، وهو ما سار عليه مؤلف الكتاب.
وقد قلت: إنَّنا لا ننكر النقدَ العلميَّ الصحيح، بل هو عمل بشريّ لمجموعة من العلماء في فترة طويلة، وهو ما يجعل الخطأ واردًا، لكنه يبقى تراثًا لأئمّة كبار كان لهم أثر واضح وبارز في الدعوة إلى الله ووأد البدع ومحاربتها وكشفها للناس بعد أن كانت البدع قد غطت كثيرًا من البلاد الإسلامية أيَّام ظهور الإمام محمد بن عبد الوهاب وقبله، فحاربوا تلك البدع وأظهروا التوحيد الخالص، وكتبوا وقرروا ذلك بأدلة من الكتاب والسنة، ولم يكن الكتاب في الاعتقاد فقط، بل حوى عددًا من الفنون الشرعية، فكان من غير المنطقيّ أن ينادَى بوأد الكتاب كلِّه وإخفائه أو التبرّؤ منه، وهو واحد من البواعث التي دعت المؤلّف إلى تأليف هذا الكتاب، فقال عند ذكره للبواعث: “إنَّ الصَّوت الداعي للتبرّؤ من الدعوة النَّجدية و”الدرر السنية” ومؤلّفات ورسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب قد علا وكشَّر وأبان عن وجهه القبيح، وأصبح يعلو في قنوات متعدّدة وشبهات متنوعة”([1])، وفي الحقيقة كان وجود مثل هذا الكتاب مهمًّا للساحة العلمية، فإن المناوئين ليسوا وحدَهم ممَّن نادى بالتبرؤ من “الدرر السنية” أو ادَّعوا ادّعاءات باطلة على موضوعات الكتاب، بل تأثر بهم شريحة من طلبة العلم أو المنتسبين له ممن تربّى على هذه الدعوة وعلمائها، فصاروا يصدِّقونهم في دعاويهم وتنطلي عليهم شبهاتهم، وكان هو باعثًا من البواعث أيضًا على الكتابة([2]).
وأبان الكاتب عن التقسيم العامّ للكتاب، وأنه ينقسم إلى أربعة أقسام أو أبواب:
الأول: المقدمة، وفيها تعريف عام بكتاب “الدرر السنية” وأسباب الهجوم على الدعوة وأئمتها، ونظرة على ما قبل الدعوة.
الثاني: النهضة العلمية، وفيه: التميز العلمي لأئمة الدعوة، ونشرهم لهذه الدعوة بتواصلهم مع العلماء المجاورين ومراسلتهم.
الثالث: العلاقات الدولية والتزامهم بالعقود والوفاء بها، وفيه: احترام أئمة الدعوة لحدود الدول وحقوق الجوار واحترامهم للدول الأخرى، وإنصافهم مع من اعتدى عليهم، وعلاقتهم بالأشراف وحادثة كربلاء وغيرها.
الرابع: التكفير ورميهم بالتطرف والعنف، وفيه رصد ومناقشة لعدد من الشبهات التي أثيرت على الدعوة وعلمائها مما يتعلق بالتكفير والتعامل مع المخالف والشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد تطرق المؤلف لموضوعات مهمّة، وجرى على منهجية علمية صحيحة، وطرح الأفكار بموضوعيَّة، مستدلًّا على كلامه كله بنصوص من “الدرر السنية” مبينًا خطأ من نسب إليه ما ليس فيه، وذلك ببيان القول الصحيح في القضية المطروحة، ويشكر للكاتب جهده في تقرير الحقّ والدفاع عن الكتاب وبيان اللبس الذي يقع لبعض الناس، وكتابه هذا يعدّ مرجعًا مهمًّا للمهتمّين بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بالخصوص، وللقراء والنخب الثقافية عمومًا، وهذا عرض إجمالي للكتاب، أما العرض التفصيلي فهو في الآتي.
العرض التفصيلي:
قسم المؤلف كتابه إلى أربعة أبواب كما وضَّحنا في العرض الإجمالي، وسنستعرض أهم ما ذكر فيها تباعًا:
الباب الأول: المقدمات:
في المقدمة ذكر المؤلف تعريفًا عامًّا بكتاب “الدرر السنية”، وبين أنَّها رسائل وردود وفتاوى ومؤلفات متفرّقة لعلماء الدعوة النجدية، امتدَّ تأليفها لأكثر من قرنين من الزمان، ومعرفة هذا مهمّ جدًّا كما سبق بيانه؛ حتى لا يكون الحكم على “الدرر السنية” عامًّا من خلال نصٍّ واحد أو رسالة واحدة، كما يفعل البعضُ وكما سبق التأكيد عليه.
ثم عرّج المؤلف إلى قضية مهمَّة وهي: كيف وقع الإشكال عند البعض؟ وما موارد أهل الشبهات؟
أجاب المؤلّف عن هذا السؤال بداية بتقسيمٍ لكتاب “الدرر السنية”، وهو تقسيم نابع عن تتبّعٍ للشبهات التي أثيرت حول الكتاب، فذكر أنَّ الكتاب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المصنفات والمؤلفات التامة.
القسم الثاني: الرسائل والمكاتبات.
وقد رأى المؤلف بتتبّعه أنَّ جلَّ الشبهات تنصبُّ على الجانب الثاني، وهو المراسلات والمكاتبات، فهي التي تؤخَذ منها النصوص ويُردّ عليها ويحكَم من خلالها على كتاب “الدرر السنية” كلّه، ويرى المؤلّف أنَّه من الخطأ الاعتماد على المراسلات والمكاتبات لبناء موقف معيَّن من “الدرر السنية”، ذلك أنَّ منهج الدعوة أو منهج الإمام نفسه أيًّا كان ذلك الإمام لا يُعرف إلا بتتبّع أقواله ومعرفتها خاصّة من الكتب التي قصد المؤلّف تحريرَ القول فيها، وليس من مجرد مراسلات قد يكون الكاتب في عجلةٍ من أمره، وقد لا يقصد تحرير المسألة وإنما يذكرها عرضًا، إلى غير ذلك من الأمور التي تجعَل الاعتماد على مجرَّد الرسائل في بناء موقف أمرًا غير صحيح.
كما نبَّه المؤلّف إلى أمرٍ مهمّ أيضا وهو: عدم الاعتماد التَّامّ على ابن غنّام وابن بِشر وحدهما، فهما محبَّان للدعوة ولا شكَّ، ومؤرِّخان لها، وناقلان لكثير من أحداثها، ومع ذلك فإنهم يخطئون حتى في مسائل عقديّة، بل ويردُّ عليهم أئمَّة الدعوة كما ردَّ الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد على ابن غنّام في مسألة كلام الله([3])، ورد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ابن بشر في مسألة صفات الله، والشاهد أنَّ هؤلاء مع أهمية ما كتباه إلا أنه إن ورد في كتبهما ما يخالف المنهجَ العامَّ للمدرسة فإنَّه يُتَوقَّف فيه، ويجب التأكّد من أدبيات علماء المدرسة نفسها.
ومن أهم ما ذكره المؤلف في هذه المقدمات: بيان ما قبل “الدرر السنية” والدعوة الإصلاحية وأحوال نجد وملحقاتها.
فقد ذكر في هذا المبحث حال نجدٍ قبل الدعوة ومعها ووقوع الشرك فيها، وبدأ المبحث ببيان شحِّ المصادر المتعلِّقة بتلك الحقبة؛ لبعد نجد عن الحواضر العلمية، ولقلة تواصل العلماء مع العلماء من خارج نجدٍ، ومع ذلك فقد رُصدَت تلك الحقبة من خلال كتب أئمة الدعوة وغيرهم من الرحَّالة الذين لا يمكِن وصفهم بالتدليس أو الكذب؛ إذ لا مصلحة لهم في ذلك، وهي كلّها تؤكِّد وجودَ مظاهر الشرك والأخطاء العقدية وغيرها في نجد وحولها، وكذلك في كثير من العالم الإسلامي.
الباب الثاني: النهضة العلمية:
أراد المؤلّف من هذا الباب أن يبين فيه منزلةَ علماء الدعوة وتميزهم في العلم، وظهور ذلك جليًّا في مراسلاتهم ومكاتباتهم للعلماء وردودهم على كثير من القضايا الخاطئة التي كانت مُثارةً في ذلك الوقت.
بدأ المؤلف هذا البابَ ببيان منهجِهم العلميّ وتميّزهم في ذلك وشهادة العلماء لهم.
فقد بيَّن المؤلف في هذا المبحث سعةَ علم علماء الدعوة من خلال معرفة مراجعهم وتحليل كتاباتهم ومراسلاتهم، ويرى المؤلِّف أنَّ من أسباب النهضة العلمية لأئمة الدعوة النجدية: البحثَ عن الدليل وعدم التعصُّب لرأي أو قول إذا خلا من الدليل، ولم يكن تميزهم العلميّ منحصرًا في العلم العقدي، بل في الفنون الأخرى كالنحو والبلاغة وغيرها.
وقد ذكر المؤلف أنَّ هناك فتاوى عديدة ترِد إليهم من مناطق الجوار تستفتيهم، وهي علامة من علامات عِلمهم وذيوع ذلك واشتهاره واعتراف الناس بذلك، بل وثناء العلماء على أئمة الدعوة كثناء الشوكاني والصنعاني والمؤرخ الجبرتي وابن بدران والملا عمران بن علي وغيرهم.
وأنهى المؤلّف هذه النقطةَ بذكر مواكبتهم للتطور وسعة أفقهم في هذا الأمر، ذلك أن كثيرًا من المشنِّعين يرمون الدعوة السلفية وأئمتها بالجمود وتحريم كثير من المستجدَّات، فنفى الباحث هذا الأمر من خلال استعراض بعض فتاويهم في المكتشفات والاختراعات، وهي قضيةٌ مهمٌّ التَّطرقُ لها، أحسن الباحث في إيرادها.
ثم عرج المؤلف بعد ذلك إلى تواصل علماء الدعوة مع العلماء الآخرين وتعريفهم بعقيدتهم.
فالمراسلات جزء من “الدرر السنية”، وقد ذكر المؤلف أنَّ منهجهم في المراسلات هو احترام المخاطَب، وطرح الموضوع بوضوح، مستدلّين على ما يريدون بيانه بالكتاب والسنة، كما تميزت هذه الرسائل بالبساطة والاختصار، ومع ذلك ففيها عزو إلى كتب العلماء وكلام أهل العلم، وغالبًا ما تُختم الرسائل بالدعاء وطلب التواصل والتعاون على البر والتقوى.
وقد نقل المؤلّف عددًا من الرسائل اختارها بعناية لتكون كل رسالة دليلًا على أمر معين يريد المؤلف إيصاله، من أمثال: شكر المخاطَب، والدعاء له، واحترامه، وطلب التواصل والتعاون، والكتابة حتى لمناطق بعيدة عن نجد، وارتباط الملوك بالعلماء، إلى غير ذلك من الأمور التي قصد الباحث إبرازها من خلال ذكر رسائل متعدّدة لعلماء متعدّدين من أئمة الدعوة.
ثم ختم المؤلف كلامَه في هذا الباب بذكر قضيّة مهمة وهي: رصد أئمة الدعوة للساحة العلمية وسبرهم للبدَع والمنكرات وأثرهم في حماية المجتمع.
تطرق المؤلف في هذا المبحث إلى مهمَّة من مهمّات الدعاة إلى الله وهي: حسن العلاقة بالواقع، وعدم الانزواء بالعلم الشرعي والانكفاء به، بل يحرص فئة من طلبة العلم والعلماء على رصد ما يثار من شبهات أو تشكيكات أو أقوال خاطئة في أمور الاعتقاد والفقه وغيرها من علوم الشريعة، فيبينوا ما فيها من أخطاء، ويوجِّهوا الناس للعلم الصحيح في المسألة المبحوثة، وهذه سمَة تميَّز بها أئمة الدعوة، فكان لهم اطِّلاع على الواقع، ومعرفةٌ لما يُكتب، وكانوا يجيبون الناس عمَّا يصل إليهم من كتب ورسائل فيها أمور خاطئة، وكل ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم في كلّ ذلك لا يتعجَّلون في محاربة البدع والشركيَّات، بل يراعون المصالح والمفاسد، ويجادلون بالتي هي أحسنُ، وأحيانًا يرون المناقشة المباشرة لبعض الأشخاص، وأحيانًا يرون الكتابة، وذلك حسب الزمان والمكان.
الباب الثالث: العلاقات الدولية والتزامهم بالعقود والوفاء بها:
يعدّ هذا الباب والذي يليه أهمَّ ما في هذا الكتاب، فمن المعلوم أنَّ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قامت الدولة السعودية المباركة بالتعاون معها، وذلك منذ التَّحالف الذي حصل بين الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبد الوهاب، وصارت المراسلات العلمية بين الدولة السعودية وغيرها من دول الجوار إنَّما تتمُّ عبر أئمة الدعوة، وهذا الباب يسلّط الضوء على احترام علماء الدعوة لدول الجوار، وإنصافهم مع من اعتدَى عليهم، وموقفهم الواضح من بعض الأفراد الذين أخطؤوا في التَّعامل مع الدول الأخرى، كما عرج على علاقة الدعوة والدولة بأشراف الحجاز ونجران، كما تطرَّق لقضية مهمَّةٍ وهي حادثة كربلاء وما وقع فيها، فهذا الباب بمُجمله يجيب عن كثيرٍ من الشبهات التي يستنِد أصحابها إمَّا إلى أخطاء أفراد كان علماء الدعوة أولَ من وقفوا ضدَّها، أو إلى أمور لم يعرفوا تمام الحديث عنها وسياقاتها وأسباب حدوثها مثل حادثة كربلاء، وبعض تفاصيل العلاقة مع الأشراف.
بدأَ المؤلف هذا الباب بذكر مقدّمة عن العلاقات الدولية والتزام علماء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالعقود والوفاء بها، وبيَّن المؤلف أنَّ المناطق المجاورةَ المباشرة لنجد ما هي إلا قرى لا تجمعها راية واحدة، وإنما لكل قريةٍ أو ناحيةٍ أو قبيلة شيخ أو رئيس يأتمرون بأمره، ولم تكن في البداية أية عهودٍ ومواثيق بين نجد وما جاورها من تلك المناطق والقرى.
وقد ذكر المؤلف أنه من الضَّروري معرفة السياق والحالة التي كانت عليها نجد وما جاورها قبل الحكم على أيِّ قتال حدث بين نجد وما جاورها، فالتاريخ يثبت أن هناك تحالفاتٍ وتآمرات ضدَّ الدولة والدعوة معًا، بل تكفير وحرب ومحاولة استئصال كما حدث في حملة إبراهيم باشا مثلًا، وكما ورد تكفير علماء الدعوة في عدد من المراسلات العثمانية الحجازية، فالحديث عن القتالات التي دارت بين نجد وغيرها يجب أن يتمَّ الحديث فيها عن كلِّ الأطراف، ودور كل طرف، وسبب الحرب، وغير ذلك من الأمور المتعلّقة، وليس كما يحلو للبعض أن يفعله من بترِ الحوادث من سياقاتها.
وعمومًا فإنَّ المؤلّف قد أكَّد على أن علماء الدعوة وأئمتها كانوا أهل التزام بالعقود والوفاء بها، وتجلَّى ذلك في تصرفاتهم وممارستهم العملية، كما نصّوا على ذلك في رسائلهم ومكاتباتهم، وهو ما أكّده المؤلف بموضوعية عبر نقل عدد من رسائل ونصوص علماء الدعوة وأئمتها، منها رسائل الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود لوزير بغداد ولعلماء اليمن، بل ذكر الباحث نصوص العلماء في أنهم لا يقاتلون إلا دون النفس والحرمة، وأنه قد تكالب الأعداء على نجد وأتَوهُم إلى ديارهم ليقاتلوهم، وفي هذا يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: “وأما القتال فلم نقاتل أحدًا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنًا، ولكن قد نقاتِل بعضَهم على سبيل المقابَلة، وجزاء سيّئةٍ سيئةٌ مثلها، وكذلك من جاهر بسبِّ دين الرسول بعدما عَرَف، فإنا نبيّن لكم أن هذا هو الحقُّ الذي لا ريبَ فيه، وأنَّ الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء والرجال”([4]).
يقول المؤلف في آخر هذا المبحث المهمّ: “فقد كانوا أهلَ وفاء بالعقود والمواثيق، ولم يبدؤوا أحدًا بظلم ولا قتال، بل هم من اصطَلى بأعداء الدعوة وقاتلوهم في عقر دارهم… فالقتال وإراقةُ الدماء وسفكُها كما تزعمه جماعات التطرف ليس برغبةٍ أولى لديهم، وليس مقدَّمًا على غيرها ويتساهلون فيها، بل الجهاد العلمي مقدَّم على ذلك”([5]).
بدأ المؤلف بعد ذلك ببيان معرفة علماء الدعوة بحدود دولتهم واحترامهم لدول الجوار وعدم التحريض عليهم.
وقد أوضح المؤلف احترام العلماء للدول المجاورة، سواء كان على الصعيد السياسي أو حتى على الصعيد العلميّ، ولذلك وردت نصوص عديدة عن الأئمة في احترام اجتهادات العلماء في المسائل التي تحتمِل الاجتهاد، وكذلك في احترام مذاهب الناس الفقهية في محلّ ولايتهم، وكان الإمام محمد بن عبد الوهاب ينصُّ على أنَّه قد يلزم بالمعروف ويمنع المنكر لمن هم تحت يده، أي: أن الإنكار اليدوي لا يتعدّى محلَّ سلطة الدعوة والدولة([6]).
بعد هذا المبحث اللطيف شرع المؤلف في ذكر مبحث مهمّ، لطالما استغلّه الشانئون في بث شبهاتهم وتأليب الناس على الدعوة ومنهجِها من خلاله، ألا وهو: التصرفات الفردية في الاعتداء على الآخرين، وموقف علماء الدعوة منها.
كان الموقف من الجهاد والقتال واضحًا عند علماء الدعوة، وكان حاضرًا عندهم قضية عقد الألوية للقتال وأنَّه لا يكون إلا بولي الأمر، أمَّا بعض تصرفات الأفراد الذين خرجوا عن هذه الطَّاعة وعقدوا ألوية قتالٍ على بعض القرى فإنَّ علماء الدعوة قد بيَّنوا خطأ هذا التصرف، وحذَّروا منه، وتبرَّؤوا منه ومنهم.
وكان هذا الأمر والبيان بأنَّ الألوية لا تعقَد إلا من ولي الأمر حاضرًا بوضوح وجلاء في مراسلاتهم ومكاتباتهم، ومن ذلك رسالة حررها عددٌ من العلماء، منهم: عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، أرسلوها إلى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، قالوا فيها: “فالسَّبب الداعي لتحريره محض النصيحة، وتفهّم -حفظك الله- أنَّ الله سبحانه وبحمده ما أنعم على عباده نعمة أجلّ وأعظم من نعمة الإسلام لمن تمسَّك به، وقام بحقوقه، ورعاه حق رعايته… ومنَّ الله سبحانه وبحمده في آخر هذا الزمان -الذي اشتدَّت فيه غربة الإسلام، وظهر فيه الفساد في البر والبحر- بفضله وكرمه بهداية غالب بادية أهل نجد خصوصًا رؤساءَهم، وجعل الله سبحانه وبحمده لك حظًّا وافرًا في إعانتهم ببناء مساجدهم ومدنهم، وفشا الإسلام في نجد جنوبًا وشمالًا، والله سبحانه وبحمده له حكمة، وله عناية بعباده، لا يعلمها إلا هو. ورأينا أمرًا يوجب الخلَل على أهل الإسلام ودخول التَّفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم بزعمهم أنَّه بنيَّة الجهاد، ولم يعلموا أنَّ حقيقة الجهاد ومصالحة العدو وبذل الذمة للعامَّة وإقامة الحدود أنها مختصَّة بالإمام ومتعلِّقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته”([7]).
وقد أحسن المؤلّف بإيراد عددٍ من المراسلات المهمَّة التي تبين أنَّ العلماء وأئمة الدولة السعودية كانوا لا يتوانون في مراقبة أيِّ لواء يُعقد دون الإمام ومتابعته، وينصُّون في مراسلاتهم بأنهم متابعون لذلك، ويأمرون بذلك الأمراء والعلماء من خلفهم، وأنه لا يعقد لواء جهاد إلا من الإمام.
ثم عرّج المؤلف بعد هذا المبحث المهمّ على قضية إنصاف علماء الدعوة مع من اعتدى عليهم وقول الحقّ في تلك الدول، ومن أبرز الأمثلة لتلك الدول التي اعتدَت على علماء الدعوة وأهلها وديارها: الدولة العثمانيَّة، فإنَّه لا يخفى على كل مطلع الحملات التي أرسلت ضدَّ الدرعية، وفيها من الفساد والقتل والغدر الشيء الكثير، ولولا فضل الله ثم إخلاص علماء الدَّعوة في دعوتهم للتوحيد لربما لم تقم لهم قائمة بعد ذلك، ومع ذلك فإنَّهم حين تكلَّموا عن العثمانيين تكلَّموا بعلم وعدل وإنصافٍ لا بجورٍ وانتقام، ويوجَد ذلك في عددٍ من كتُبهم ومراسلاتهم، حتى قضيَّة التكفير من بعضِ العلماء للعثمانيّين له مبرِّراته العلميّة، وليس مجرَّد الهوى أو ردّ الظلم بظلم.
بدأ المؤلف بعد ذلك بعرضِ مباحث مهمَّة جدًّا في هذا الباب، وكثيرًا ما تُصوَّر هذه القضايا تصويرًا خاطئًا، ثمَّ يتَّكئ عليها من يشنِّع على الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة وعلمائها وأئمتها، أول تلك القضايا هي: علاقة علماء الدعوة وأئمتها بالأشراف.
بيَّن المؤلف في هذا المبحث طبيعةَ العلاقة بين الدَّعوة وعلمائِها والأشراف، فقد كانت في البدء علاقةَ تراسل وتناصُح وأمر بمعروف ودعوة إلى الله، وقد كان الإمام محمد بن عبد الوهاب يكتب لهم ويراسلهم، وهو والعلماء والأئمة في كلّ ذلك يخلَعون على الأشراف أوصافَ الاحترام والتَّقدير والتَّبجيل، ومن قرأ مراسلاتهم يعرف ذلك الاحترام العالي من الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية للأشراف في المراسلات والمكاتبات، فكانوا يبدؤون رسائلهم بـ: “إلى جناب الأشراف” و”إلى الإمام المعظم، والشريف المقدم” و”إلى جانب ذي الجناب المنيع واحسب الزكي الرفيع”([8])، وغير ذلك مما تجدُه في المراسلات والمكاتبات، فضلًا عن موقف أئمة الدعوة من آل البيت عمومًا واحترامهم وتقديرهم لهم، وكان التواصل من الطرفين، وإضافةً إلى المراسلات كانت هناك زيارات علمية للنقاش، منها زيارة علماء نجد عام 1184هـ، وزيارة عام1204هـ، و1211هـ.
ومن المعلوم أنَّ العلاقةَ العلمية غير العلاقة السياسيّة والقتال، كما أنَّه من المعلوم أن الأشراف لم يكونوا على سِلْمٍ دائم مع الدولة السعودية التي تناصر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا يخفى صنيع الشريف مسعود بن سعيد بعلماء نجد، ويرى المؤلّف أنَّ أكبر سببٍ لدخول أئمّة الدولة السعودية الحجاز هو حبس مكّة عن حجاج نجد ومنعهم من الحجّ، وذلك عدة مرات لا مرَّة واحدة، فكان دخول الإمام سعود بن عبد العزيز مكة سنة 1218هـ بعد أن أعطى الأمان لأهل مكة وللأشراف، ولم يسفكوا فيها دمًا، ولم يعضدوا شجرًا، وأزالوا المنكرات، وفي هذا يقول عبد الله ابن الإمام محمد بن عبد الوهاب: “وبذل الأمير حينئذٍ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصِّرين، غير خائفين من أحدٍ من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين. ومن حين دخل الجند الحرم وهم على كثرتهم مضبوطون متأدِّبون، لم يعضدوا به شجرًا، ولم ينفِّروا صيدًا، ولم يريقوا دمًا إلا دَمَ الهدي أو ما أحلَّ الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. ولما تمَّت عمرتنا جمعنا الناس ضحوةَ الأحد، وعرض الأمير رحمه الله على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه، وهو إخلاص التَّوحيد لله تعالى وحده. وعرَّفهم أنَّه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقعٌ إلَّا في أمرين: أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأنَّ الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم. واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التَّوحيد وترك الإشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لم يبق عندهم إلا اسمه وانمحى أثره ورسمه. فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملةً وتفصيلًا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبِل منهم، وعفا عنهم كافَّةً، فلم يحصل على أحدٍ منهم أدنى مشقَّة، ولم يزل يرفُق بهم غاية الرِّفق لا سيَّما العلماء، ونقرر لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم لدينا أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق”([9]).
أما المبحث الذي يلي هذا فلا يقلّ أهمية عنه، وهو: حادثة كربلاء.
يؤكّد المؤلف أنَّ هذه الحادثة التي وقعت عام 1216هـ تُضخَّم من قبل المعادين للدعوة النجدية دون نظرٍ في أسبابها وحقيقتها، وتلك الحادثة وقعت بعد عدَّة حوادث اعتداء على القرى والبادية السعودية، بل وقوع اعتداء على بعض حملات الحج وقتل عدد منهم، وكان موقف الدولة السعودية واضحًا، حيث طالبت بالدية بموجب الاتفاقيات الموجودة آنذاك، ولم يرض والي بغداد، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل حاولت عدة مرات غزو مدن سعودية منها: الأحساء عام 1213هـ بأمر سليمان باشا والي بغداد، فرأت الدولة أن تضع حدًّا لكلِّ تلك الاعتداءات، فردَّت عليهم بالمثل، ودخلت كربلاء عام 1216هـ. أما التَّهويل في عدد القتلى وما إلى ذلك فلا يصحُّ معظمها، وكلها نابعة من مجرد الهوى والتشنيع، فقد كان ذلك اليوم يومَ عيد الغدير للشيعة، وكان معظمُ الناس في النجَف، فالقتال لم يقَع من الدولة السعودية أولًا، وإنَّما جاء بعد صبرٍ ومحاولة صلحٍ وطلبٍ للدية للقتلى، وبعد اعتداءات عدة لوالي بغداد تجاه مدن السعودية وقُراها.
ثم ختم الباحث كتابه بالباب الرابع وهو: التكفير ورميهم بالتطرف والعنف:
لا شكَّ أنَّ هذا واحدٌ من أهمِّ الأمور التي تُثار دائمًا ضدَّ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ حياته، وكانت تلك المسألة من المسائل الجوهرية التي تمّت مناقشتها في الاجتماعات التي كانت تحصل بين علماء نجد وعلماء مكة، وقد تطرَّق المؤلف في هذا الباب إلى الجواب إجمالًا عن التكفير في كتبهم ورسائلهم، والإجابة عن بعض الشبهات المثارة حول التكفير، ودعوى الشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلاقة علماء الدعوة بولاة الأمر والمجتمع.
بدأ المؤلف هذا الباب ببيان أن أئمة الدعوة سائرون على منهج السلف في هذه القضية وغيرها، وأنَّ تعرّضهم لهذه المسألة كان كثيرًا في كتبهم وفتاويهم ورسائلهم، كما أنَّ هناك من الأخطاء التي يكررون الحديث عنها ما هو أخطاء بعض الأفراد، ومن الخطأ المنهجي أن نحمِّل المنهج وعلماء الدعوة خطأ الفرد.
وأكَّد المؤلف على أنَّ التَّأصيل للمسألة هو الأصل في مناقشة تلك المسائل، أمَّا التطبيق فإنه قد خفِي علينا من المناطات والمراسلات وإقامة الحجّة والأسباب التي وقعت في ذلك العصر ما يجعل حكمنا غيرَ دقيق، ومع ذلك فإنَّنا نقول: إنَّ التطبيق في الأصل نابع من التأصيل الشرعي، وعلى هذا كان علماء الدعوة ومن عرف علمهم وتأصيلهم لقضية الكفير يدرك أنه لا يمكن أن يصدر منهم حكم على معين إلا بعد تحقّق الشروط وانتفاء الموانع.
وقد عنوَن المؤلف لمبحثٍ بعنوان: التكفير، وهو يعدّ واحدًا من أهمِّ مباحث الكتاب، حيث يؤكِّد فيه المؤلف على عددٍ من القضايا المتعلّقة بالتكفير منها:
1- أنَّ أئمة الدَّعوة يصرِّحون بأنَّ تكفير المعين لا يكون إلا بعد وجود الشروط وانتفاء الموانع.
2- أنَّهم نفوا عن أنفسهم التَّكفير بالعموم، بل نصّوا في مواضع عديدة أنَّهم لا يكفرون عموم المسلمين.
3- إذا اشتبهت على الإنسان نازلةٌ أو واقعة عين من وقائع أئمة الدعوة فإنَّها تُرد إلى المحكم من كلامهم وتأصيلهم، فيجب فهم الوقائع بناءً على تأصيلهم في كتبهم؛ ذلك أنَّ فهم القرائن والظروف المحتفَّة بأيّ حادثة عين ضروريّ للحكم عليها، فإن توفرت تلك الأمور لمعرفة القضية بأكملها دون بتر فإنَّه يمكن الحكم عليها حينئذ، وإن وقع الإنسان في اشتباه ولم يهتد للحق فإنَّه يبني على تأصيلهم للمسألة؛ إذ إن الأصل أنهم لا يخرجون عن تأصيلهم للمسألة.
4- معرفة أسباب تأليف بعض الكتب أو إرسال بعض الرسائل التي قد تشكِل على البعض تُزيلُ الإشكال، فإنَّ بعض الناس قد يستدلّون برسائل ونصوص لم يعرفوا سياقاتها ولا أسبابها، ومتى ما عُرف السبب تبين أنَّه لا ضيرَ ولا خطأ في تلك الرسائل والكتب، ومثَّل لها المؤلف بكتاب “الدلائل” لسليمان بن محمد بن عبد الوهاب، فإنَّه أُلّف لما هجَمت العساكر التركية على نجدٍ في وقته، وليس الكتاب في مجرد مخالطة المشركين أو معاملتهم كما قد يفهم البعض، والشاهد أنَّ معرفة سبب تأليف الكتاب يزيل الكثير من الإشكالات حوله.
5- أنَّ علماء الدعوة النَّجدية قد كفَّرهم كثيرٌ من المخالفين لهم، بل تُلي تكفيرهم على المنابر سنة 1228هـ، وبناءً عليه تمّ غزوهم من الجيوش التركية ومعاملتهم معاملة الكفّار!
وقد أورد المؤلف في خاتمة هذا المبحث عددًا من النصوص المهمة لعلماء الدعوة تبين منهجهم في التكفير والجهاد وما يتعلَّق بذلك من مسائل.
ثم عرج المؤلف إلى قضية تكفير البلد لو صدَر من بعض علماء الدعوة، وبيّن أنَّ هذا لا يعني تكفير الأفراد أولا، ثم إنه قد يقصد به ناحية معينة ظهر فيها الشرك ظهورًا بينًا، ومثل هذه الكلمات التي تظهر في المراسلات يجِب أن تردَّ إلى كتبهم وتأصيلهم.
ثم بيّن المؤلف قضية رميهم بالعنف والشدة في التعامل والغلو، ذكر فيه قضية الرحمة والرأفة، وأن علماء الدعوة إنما كانوا على هذا المنهج الإسلامي، ولم يكونوا منتهجِين نهج العنف والشدة في التعامل كما يصوِّر البعض ذلك، واستدلَّ على ذلك بعددٍ من الأمور، من أهمها:
1- الدعوات الكثيرة التي تظهر في رسائلهم الموجَّهة إلى العلماء بالتلطف بالناس وتعليمهم بالوجه الحسن.
2- أنهم يفعَلون ذلك في رسائلهم ومكاتباتهم؛ أعني: التلطف في القول والدعاء لمن يراسلونه.
3- عدم وجود غلوّ في تحريم المباحات كما يصوِّره البعض أيضًا، بل كانوا في سعة صدرٍ من المباحات من الأطعمة والأشربة، وكذلك من مستجدّات العصر والمخترعات كما سبق بيانه، فليس بصحيح قول البعض: إنَّ علماء الدعوة قد ضيَّقوا على الناس بتحريم المباحات والغلوّ في التحريم.
4- لا يعني هذا أنَّ القسوةَ والشدةَ لم تكن موجودةً بإطلاق، فالشدّة والقسوة إنما تقاس بمقياس كلّ زمان، والحاجة إليهما يقدِّرها العلماء في كلّ زمان ومكان، فليس بصحيح أن الدعوة كلّها يمكن أن تظهر وتنشأ بمجرد اللّين دون هجر للمبتدع أو تغليظ القول له أو تغيير المنكرات وما يصحب ذلك من هدم وإزالة، فهذه الأمور تقدَّر بمقدارها، ويقدِّرها علماء كل بلد وكل زمان.
وختم المؤلف كتابه ببيان دعوى الشدّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلاقتهم بالمجتمع وولاة الأمر.
فبين أن علماءَ الدعوة قاموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواءً كان ذلك مع المجتمع أو مع ولاة الأمر، والمؤلّف ذكر أمورًا منهجيّة حول خطأ بعض من يأخذ نصوص العلماء من “الدرر السنية” ويطبّقها تطبيقًا خاطئًا، أو يدعي أن العالم أو الإمام قد أخطأ في ذلك الفعل، ومع قولنا بأنه لا معصومَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد يقع -بل ضرورة تقع- أخطاء من علماء الدعوة وغيرهم، إلا أنَّه من الضروري أن يكونَ حكمنا صحيحًا، وذلك بمعرفة سياق النصّ، ومعرفته كاملًا دون بترٍ أو نقص، ومعرفة الظروف التي قيل فيه النَّص، وبذلك يكون حكمنا صحيحًا على النصّ، أما بغير ذلك فإن الحكم لا يكون علميًّا، وقد يكون فيه جَور وظلمٌ وتقوُّلٌ على الإمام، وهو ما يقع من كثير ممن يعادي الدعوة وعلماءها.
وقد كان علماء الدعوة على منهجِ أهل السنة والجماعة في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كان ذلك في تعاملهم مع المجتمع أو مع ولاة الأمر.
فمن صور التعامل مع المجتمع: حزمهم مع أهل العنف والشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ بعضَ العوام قد يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويخطئ في فعلته تلك ويشدّد على الناس، فأوَّل من يقف أمامه ويبين له خطأه هم علماء الدعوة.
ومِن صور التعامل مع ولاة الأمر أنَّهم ينصحون للولاة ويبينون لهم الحق، وإذا وقعوا في خطأ أو زلل بيّنوا لهم بما يليق بمقامهم ويحفظ لهم هيبتهم ومكانتهم، ولذلك كان هذا الاحترام متبادلًا بين الأمراء والملوك وبين العلماء، فإن الأمراء كانوا يحترمون العلماء ويأخذون بآرائهم؛ خاصة في القضايا التي يراها العلماء منكرًا ويجب إزالتها، وهذا كله مع عدم التأليب عليهم، وحفظ حقوقهم الشرعية من السمع والطاعة لهم.
وقد ختم المؤلف كتابه بهذا، وكان هذا عرضًا سريعًا له، ويمكننا أن نبرز أهم ما ميّز هذا الكتاب فنقول:
1- إنَّ الكتاب تطرَّق لموضوع مهمٍّ تدعو الحاجة إليه في وقتنا المعاصر.
2- إن المؤلف كان موضوعيًّا في طرح الأفكار والآراء، مستدلّا على كل ما يقوله ويسنده إلى الدعوة وعلمائها بأقوال من كتبهم ورسائلهم.
3- في الكتاب عددٌ جيدٌ من الرسائل والمقولات لعلماء الدعوة، لو تأمَّل الإنسان فيها بمفردها لوجد أنها قد ردّت على كثيرٍ من الشبهات التي تثار ضدّ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلمائها.
4- كان منهج الكتاب منهجًا مميزا، وذلك بتقرير المسائل التي قد تكون فيها شبهات تقريرًا صحيحا مدعومًا بالأدلة، فإنه إذا عرف الحقّ زال الباطل، وهذا ما فعله المؤلف في جزء كبير من الكتاب، حيث لا يورد الشبهة ويناقشها، وإنما يطرح الفكرة بطريقة صحيحة مدعومة بالأدلة، وبهذا يمكن نفي كثير من الشبهات التي تثار حول تلك القضية التي قررها.
5- الموضوعات التي أراد المؤلّف تحرير القول فيها والدفاع عما أثير حولها هي موضوعات مهمة تمس الحاجة إلى معرفة حقيقة القول فيها، مثل مسألة التكفير، وعلاقة الدعوة والدولة بالدول المجاورة وما وقع حول هذا الأمر من حوادث كحادثة كربلاء ودخول الحجاز وغيرها.
شذرات:
مع أهمية الكتاب والموضوع وطرح المؤلّف له طرحًا جيّدا، فهذه بعض النقاط التي هي وجهات نظر للمؤلف ينظر فيها في الطبعات القادمة:
أولًا: النظر في ترتيب الكتاب مرة أخرى، فالموضوع مهمّ في بابه، وربما يمكن ترتيبه بشكل أفضل، سواء كان ترتيبَ المباحث، أو ترتيب الكلام داخل المبحث الواحد بحيث يكون أكثر فائدة.
ثانيًا وهي مؤكدة للنقطة الأولى: تقسيم المبحث الواحد وترتيبه حسب الاستنباطات التي استنبطها المؤلف، فإنه قد عرض رسائل ونصوصًا مهمة في القضايا التي طرحها، يمكن ترتيبها وترقيمها لتكون الفائدة أعم، وذلك مثل الحديث عن تميزهم العلمي مثلا، فإنه يمكن تفقيره إلى أسباب هذا التميز وسماته ومظاهره، وكذلك مظاهر التواصل العلمي مع العلماء الآخرين، وغير ذلك.
ثالثًا: هناك موضوعات مهمّة جدًّا كان يحسن التطويل والتفصيل فيها أكثر، مثل موضوع الإنصاف مع الدول الأخرى وعلاقة الدعوة والدولة بها، وعلاقة الدعوة والدولة بالعثمانيين، وعلاقتهم بالأشراف؛ خاصة أن العنوان كان: علاقة علماء وأئمة الدعوة بالأشراف وإماراتهم في الحجاز ونجران. وكان الحديث عن دخول مكة، والموضوع يحتمل بسطًا أكثر من ذلك، وكذلك موضوع التكفير، فهو من أهم الموضوعات التي تثار ضد الدعوة وعلمائها، وربما كان حسنًا جمع بعض النصوص التي يكررها الطاعنون والرد عليها ردًّا منهجيا لا تفصيليّا، أعني ذكر الأخطاء المنهجية في قراءاتهم لتلك النصوص، وقد ذكر المؤلف بعضَها، لكن أرى أنها لو جُمعت وبُيِّنت الأخطاء المنهجية فيها لكان حسنًا، ولعل المؤلف تركه للطبعة القادمة كما أشار لذلك في الخاتمة.
وكل هذه وجهات نظر لا تنقص من قدر الكتاب وأهميته لكل مهتمّ بالدعوة وتراث هذه الحقبة المهمّة ومعرفة أسباب طعن الكثيرين اليوم في الدعوة وعلمائها، فهذا الكتاب يقدِّم خلاصةً في تقرير القضايا الكبرى المثارة حول الدعوة و”الدرر السنية”.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) دفاعا عن الدرر السنية (ص: 11).
([3]) ينظر: الدرر السنية (1/ 318).
([4]) الدرر السنية (1/ 73-74).
([5]) دفاعا عن الدرر السنية (ص: 105).
([6]) ينظر: الدرر السنية (1/ 65).
([7]) الدرر السنية (9/ 94-95).