النصرانية في مواجهة الإلحاد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
- تمهيد:
غالبًا ما تطرح مناقشة قضايا الإلحاد بين المسلمين، وكأن هذه الظاهرة هي فقط مشكلة المنتكسين منهم، وأن النصارى وغيرهم -رغم ضلالهم- في منأى عنها.
إلا أننا في الواقع أمام ظاهرة عالمية تغزو الأفراد والمجتمعات في عقر دارهم، بمن فيهم أتباع الديانة النصرانية، والذي كان لعلمائهم دور تجاه هذه الظاهرة؛ إذ لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل قاوموها لما رأوا أن ديانتهم على خطر، وأن أتباعهم في مأزق مع هذا الطرح.
ومن الأمثلة الحية في واقعنا اليوم جائحة كورونا كوفيد 19، والتي ألقت بظلالها أرجاء المعمورة، حيث استغل بعض الملاحدة هذه الجائحة وأدخلوها في مشكلة الشر، وهي الأكثر شهرة وتعقيدًا لديهم. ومع هذا قام بعض أتباع الديانة النصرانية بالرد عليهم، وتفنيد شبههم!
ويمكننا القول: إننا معاشر المسلمين أحق بالاهتمام منهم في مثل هذه القضايا، فإذا كانوا هؤلاء على دين محرف باطل، ومع ذلك لم يألوا جهدًا في الدفاع عنه، فنحن أحق منهم بهذا، ونحن على ملة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ونملك الجواب الشافي لهذه المعضلات.
- خطورة الإلحاد على جميع المتديّنين:
كان الإلحاد في بداية ظهوره يرى أن الدين قضية شخصية متعلّقة بالأفراد، والملحدون لم يكونوا في صدام مع المتدينين؛ بل كانوا يقفون على الحياد، فما دام أن المتديّن لم يقم بالضرر على مصالح الملحدين، ولم يعتدّ عليها، فهو في حلّ من أمره، ليؤمن بما يشاء، وليتدين بما يشاء، حتى حصلت حادثة 11 سبتمبر، فتغيرت كلّ المفاهيم، وتبدّلت كل الموازين، فصاروا يرون أن الدِّين هو السبب الحقيقي والمباشر لهذا الاعتداء الغاشم؛ لذا صار لزامًا عليهم معاداته، والسعي في استئصاله، وإحلال الإلحاد محلَّه.
ودونكم نماذج لبعض هؤلاء الملحدين الذين استشاطوا غضبًا من هذه الواقعة، وأصدروا ردَّات فعل عنيفة تجاه الدين والمتدينين:
- فهذا (سام هارس) أحد أقطاب الإلحاد الجديد، ألف كتابًا سماه: “نهاية الإيمان: الدين، والإرهاب، ومستقبل العقل”، وكان المحرك الأساس لتأليفه هذا الكتاب هو هذه الحادثة، كما صرح بذلك عدة مرات في أثناء الكتاب وخارجه، لذلك بدأ في تأليفه في اليوم التالي للحادثة مباشرة([1])، كما أن له مقطعًا مرئيًّا على اليوتيوب تحت عنوان: «سام هارس.. رحلة نحو الإلحاد انطلقت شرارتها بسبب 11/ 9».
- وهذا (ريتشارد دوكنز) داعية الإلحاد الأشهر، يقول في آخر جملةٍ له في محاضرة له بعنوان: (ميليشيات الإلحاد) والتي ألقاها في TED: (يتساءل الكثيرون: كيف غيرتك أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ إليكم كيف غيرتني: لنتوقف جميعًا عن هذا التصنُّع المقيت في إبداء الاحترام -يعني: للأديان-). بل إنَّه بعد أربعة أيام فقط من حادثة 11 سبتمبر كتب مقالة عن الحادثة في (الجارديان) البريطانية يقول في آخرها: (إن ملء عالَمٍ بالدين، أو بأديان كالأديان الإبراهيمية، هو تمامًا كملء الشوارع بالمسدَّسات المحشوَّة بالرّصاص، لا تتعجّب إذا ما تمَّ استعمالها).
وريتشارد دوكنز هذا من أكثر الدعاة الذين يحملون همَّ الدعوة إلى الإلحاد، حتى قال في بدايات كتابه (وهم الإله): (إذا عمل هذا الكتاب كما أردت له، فالقرَّاء المتدينون الذين سيفتحونه سيكونون ملاحدة بمجرَّد فراغهم منه). وفي إحدى التزكيات الموضوعة على غلاف الكتاب الخارجي عبارة تقول: (“وهم الإله” كتاب ذكيّ، رحيم، صادق كالثلج، كالنّار. إذا لم يغيِّر هذا الكتاب العالم فالويل لنا).
- وردَّات الفعل العنيفة هذه أصبحت ظاهرة لدى كلّ الملحدين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد ولدت حقدًا دفينًا وضغينة شنيعة على الدين والمتدينين، وصاروا يقومون بنقد لاذع، ويمارسون أدوارًا تبشيرية بالمضامين الإلحادية.
النتيجة: ونتيجة لهذا الحراك الإلحادي أصبح هذا الموضوع حاضرًا وبقوة في الفضاء الإعلامي الغربي، كما أصبح رموز الإلحاد هم نجوم هذا الفضاء، ولهم الشعبية الطاغية في المجتمع الغربي، بسبب جودة الأسلوب، وسحر العبارة، ووضوح الأفكار، ومباشرة الطرح، خصوصًا وأنَّ كثيرًا من أولئك الرموز ممن اشتهر بالكتابة في مجال (البوب ساينس)، وهي الكتابة الشعبيَّة في مجال العلوم الطبيعيَّة، فانتقلت هذه الأفكار الإلحاديَّة إلى الإطار الشعبي العام بعد أن كانت حبيسة في دوائر نخبويَّة ضيِّقة نسبيًّا.
كما أن تأليفات هؤلاء الرموز أصبح لها رواج ضخم، فصارت كتبهم التي في هذا الاتجاه تحظى بما يلي:
1- تصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، وتجاوز سقف مبيعاتها مئات الآلاف من النُّسخ بل والملايين أحيانًا.
2- حظي مؤلفوها بجوائز متنوعة من مؤسسات معنية بمجال الكتابة والتأليف.
3- ترجمت إلى لغات متعددة.
وأهم هذه الكتب ما يلي مرتَّبة بحسب ظهورها:
1- كتاب (نهاية الإيمان) لسام هارس، والذي سبقت الإشارة إليه، وهي كتابة نقديّة غاضبة للظَّاهرة الدينية عمومًا، وأنها عائق عن التفكير المنطقي العقلاني، وحاضن للممارسة الإرهابية، وقد صدر الكتاب سنة 2004م، ليشكِّل الكتاب الأول لظاهرة الإلحاد الجديد.
وقد حظي المؤلِّف على جائزة (PEN American Center) عن كتابه هذا، وظهر الكتاب على قائمة النيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا، واستمر على القائمة لمدَّة ۳۳ أسبوعًا.
2- کتاب (وهم الإله) لـريتشارد دوكنز، وهذا الكتاب عليه قطب الرحى في الظَّاهرة الإلحاديَّة الجديدة، كما يمثِّل مؤلفه الأيقونة الأشهر للإلحاد الجديد. ويعالج الكتاب مسألة وجود الله تعالى، والذي يعتبره المؤلف وهمًا، وحظي بتصدره على رأس قائمة (النيويورك تايمز بست سلر) لأسابيع، وظل على القائمة لمدَّة 51 أسبوعًا، وبيع منه من وقت ظهوره سنة 2006م وحتى 2010م أكثر من مليوني نسخة، كما حظي بترجمته إلى عدة لغات.
3- كتاب (كسر السِّحر.. الدين كظاهرة طبيعية) للفيلسوف الأمريكي دانييل دينت، وقد ألِّف سنة 2006م، ويعالج الكتاب موضوع الظاهرة الدينية، وقد حاول الوصول إلى أن الدِّين من العلوم الطبيعية التجريبية التي يمكن الخوض حولها، بل ناقش مدى إمكانية التخلص من الدين والتدين.
4- کتاب (الله الفرضية الفاشلة) للفيزيائي فكتور ستنجر، ويعالج الكتاب موضوع وجود الخالق في ضوء العلوم الطبيعية التجريبية، وقد حظي بظهوره على قائمة (النيويورك تايمز بست سلر) أيضًا في السنة التي خرج فيها 2007م.
5- کتاب (الله ليس عظيمًا.. كيف يسمِّم الدِّين كل شيء؟) للصحفي كريستوفر هيتشنز، ويزعم صاحب الكتاب أن الأديان: (عنيفة، وغير عقلانية، وغير متسامحة، ومتحالفة مع العنصرية، والقبلية، والتعصُّب الأعمى، وغارقة في الجهل، ومعادية لحريِّة التعبير، تقوم على احتقار المرأة، وقهر الأطفال)، وكان ظهور هذا الكتاب عام 2007م، ومنذ ظهوره حظي بانتشار واسع، وتصدَّر قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، وترجم إلى عدة لغات([2]).
خطورة الإلحاد على النصارى:
قام معهد “بيو” بواشنطن بإحصائية موثوقة المصدر للتركيبة الدينية لسكان أمريكا، وتم فيها استطلاع 35 ألف أمريكي بالغ، وكانت النتيجة كالتالي:
1- تراجع عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الديانة المسيحية، فقد أصبحوا يمثلون 70%، بعد أن كانوا يمثلون 78% عام 2007م.
2- انخفاض أتباع الديانات الأخرى، باستثناء الإسلام والبوذية اللذين حققا مكاسب صغيرة وتقدمًا طفيفًا.
3- أغلب الذين يتجهون إلى الإلحاد من الأجيال الشابة، وقد أصبحوا يمثلون 23%، بعد أن كانوا يمثلون 16% فقط في عام 2007م.
قال كريغ سميث مدير الأبحاث الدينية بالمعهد عن هذا النمو: «نعلم أن اللادينين في تزايد منذ عقود.. لكن الأمر المذهل حقًّا هو وتيرة النمو»([3]).
وهذه الإحصائيات تثبت تراجعًا ملحوظًا من معتنقي الديانة النصرانيّة مع ما يصحبه من نمو متزايد للملحدين واللادينيين.
الكنيسة تحارب الإلحاد:
أخذت الكنيسة على عاتقها مواجهة انتشار الإلحاد، واتخذوا لهذه المواجهة عدة وسائل، منها:
1- عقد المؤتمرات والمحاضرات لدحض حجج الملحدين، وقد تولى رفع هذا اللواء الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس.
2- نشر الكتيبات والنشرات التي ترد على مزاعم الملحدين، وتفند حججهم، مثل:
كتاب (حوار مع الملحد)، ألَّفه الأب داوود لمعي كاهن كنيسة العذراء بمصر الجديدة والدكتور هاني صبحي.
وكتاب (وهم الإلحاد)، كتبه القس إبراهيم عازر المعيد بالكلية الإكليريكية بالدير المحرق، وراجعه الأنبا موسى أسقف الشباب.
- أبرز أسماء العلماء المسيحيين الذين واجهوا الملحدين:
الأول: ألفين بلانتينجا (1932-…): هو أستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام، ورئيس الجمعية الفلسفية الأمريكية، وقد عمل على تطوير البرهان الوجودي (الأنطولوجي) على وجود الله وفقًا للمنطق الحديث؛ كما عرف بطرحه للإبستيمولوجيا الإصلاحية كنظرية في إثبات معقولية المعرفة الدينية. يؤيد بلانتينجا التطور الموجّه، ويرى أنه دليل قوي ضد الطبيعانية (المادية). من أعماله البارزة: “الإله والعقول الأخرى” (1967)، “الإيمان والعقلانية” (1983)، “الدين والعلم” (حوارية مع دانيال دانيت) (2010)، “أين يقع التعارض حقا؟ الدين والعلم والطبيعانية” (2011).
الثاني: ويليام لان كريج (1949-…): وهو أكاديمي أمريكي حصل على دكتوراه فلسفة الدين من جامعة برمنجهام تحت إشراف فيلسوف التعددية الدينية الشهير جون هيك، وكانت رسالته عن وجود الله عند المتكلمين وعند الفلاسفة المحدثين بعنوان: “البرهان الكوزمولوجي الكلامي”، كما أنه كان يتميز ببراعته في المناظرة، فقد ناظر عددًا كبيرًا من الملحدين الكبار، مثل سام هاريس، وبعض الدعاة المسلمين في الغرب كالمصري الكندي جمال بدوي والكندي د. شابير علي. من أهم أعماله: كتاب “الإيمان العقلاني Reasonable faith”.
الثالث: أليستر ماكجراث (1953-…): وهو أستاذ لاهوت في جامعة أكسفورد، ومن أهم أعماله: “أفول الإلحاد”، و”إله دوكنز”، و”وهم دوكنز”، وكلها ردٌّ على الملحد ريتشارد دوكنز صاحب كتاب “وهم الإله”، الذي استضافه في سلسلة مناظرات سماها: “جذور الشر”.
الرابع: جون لينوكس (1943-…): وهو من أشهر العلماء في هذا العصر الحديث في التصدِّي للإلحاد، وتخصُّصه الأساس في الرياضيات وفلسفة العلم، ولقد أهله عمله ومكانته كبروفيسور رياضيات بجامعة أكسفورد إلى إقامة مناظرات قيمة مع أغلب رؤساء الإلحاد في عصره، فقد ناظر مثلًا: كريستوفر هيتشنز، وريتشارد دوكينز، وستيفن لو، ومايكل شيرمر، ولورانس كراوس، ومايكل تولي، وفيكتور شتينغر، وبيتر سينغر، وهم يمثِّلون تقريبًا الألوان السائدة في الإلحاد العلمي الفيزيائي والعلمي البيولوجي التطوُّري مع الفكري الفلسفي أو التنظيري، ومن أهم أعماله: كتابه “حانوتي الإله: هل أقبر العلم الدين؟”، كتاب (إنفورماتیکا) Informetika في 2001م، وكتاب (رؤية العالم) Worldview في 2004م مع ديفيد ويلفي غودنغ D. W. Gooding وهو من ثلاثة أجزاء باللُّغتين الروسيَّة والأوكرانيَّة([4]).
ومن آخر المؤلفات التي للمؤلف: كتاب (أين الله في عالم جائحة فيروس الكورونا؟)، رد فيه على مزاعم الملحدين في باب الخير والشر، واعتقاد اللامبالاة، وسنورد مقتطفات منه في المبحث القادم بإذن الله.
وقفة مع كتاب: (أين الله في عالم جائحة فيروس الكورونا؟)، جون سي لينوكس:
مع ما تشهده الساحة العلميّة من أطروحات وأبحاث متعلّقة بهذا الفيروس المستجدّ، فهذا كتاب لطيف ناقش فيه كاتبه بعض تفسيرات الملحدين لهذا الفيروس، فتناولها بالنقد والتحليل، ولتدرك الأثر الذي تركه هذا الكتيّب مع صغر حجمه أوقفك على ما قيل عنه:
(لقد تغير العالم في الأشهر القليلة الماضية، لهذا فإن هذا الكتاب يضع جائحة الفيروس التاجي في منظور تاريخي وعلمي ولاهوتي وشخصي من شأنه أن يساعدنا جميعًا على رؤيةِ الوضع من خلال عدسة واسعة الزاوية). الدكتور ديفيد كرانستون، أستاذ الجراحة المساعد بجامعة أكسفورد؛ وهو زميل الهيئة الإدارية في كلية جرين تمبلتون.
(يُضفي هذا الكتاب رونقًا نبويًّا لافتًا لاستفحال جائحة كورونا كحدَث استثنائيّ في أيَّامنا المعاصِرة. ويربط الأحداث المتتالية بقالبٍ كتابيّ عفويّ يُعبِّر عن عُمق المعرفة الآيلة إلى قبول الفكر الإلهيّ في عالمٍ محتضرٍ ومتألِّم. وقد نجح الكاتِب في دمج هذه الرِّسالة مع الدَّعوة إلى عبادة الله حتى في زمن الكورونا والأحداث التي ستأتي على عالمنا قبل المجيء الثاني للرَّب يسوع). الدكتور جون جوزيف حدَّاد، أستاذٌ محاضِر في العلوم الطبيِّة في لبنان.
(أخذني هذا الكتاب في رحلة بدأت عبر التّاريخ حتى يومنا الحاضر وفيها يثبت الكاتب بأنَّ للألم هدفًا وغرضًا، وأنَّ الله يهيمن على الظُّروف، وبأنَّ هناك هدفًا من وجود المؤمنين في أوقات الـمِحَن، وعلى المسيحي أن يُظهِر محبَّة الله لمن حوله كما فعل مارتن لوثر في زمن الأوبئة). الأخ شاول قمحاوي، شيخ في كنيسة الإخوة، ومدرِّس في معهد عمواس للكتاب المقدس.
(لم أكترث كثيرًا من قبل لـمقالات وتعليقات عن الفيروسات والأمراض، إلى أن قرأت هذا الكتاب الذي شدَّني إليه، ووجدت فيه مواضيع شتَّى مترابطة مع بعضها بفكرة واحدة هي أنَّ الله هدف صالح لبني البشر من خلال الألم والكوارث على أنواعها، وأنَّه المهيمن على كلِّ مجريات الأمور في عالمنا، سواءٌ كانت من نتاج البشر أو الطبيعة). جورج خليل، مؤسِّس ومدير معهد عمواس للكتاب المقدَّس باللغة العربية([5]).
مناقشته للملحد ريتشارد دوکينز في نفيه للشرّ والخير:
أورد المؤلف في هذا الكتاب حجج الملحدين في باب الخير والشر واعتقاد اللامبالاة تجاه فيروس كورونا، ثم بيَّن بطلان تلك الحجج، ومن ذلك ما نقله الكاتب عن الملحد ريتشارد دوكينز أنّه قال: (إنَّ إجمالي حجم المعاناة سنويًّا في العالَم الطبيعي يفوق كلَّ تفكير محترم، خلال اللَّحظة التي يستغرقها الأمر لتكوين هذه الجملة، تؤكل الآلاف من الحيوانات وهي على قيد الحياة، ويهرب الكثيرون غيرها طلبًا للنجاة، وهم يرتعبون من الخوف، والبعض الآخر يُلتَهم بِبُطء من الدَّاخل عن طريق صرير الطفيليات، وتَنفُق (تموت) الآلاف من كلِّ أجناس الحيوانات بسبب الجوع والعطش والمرض، يجب أن يكون الأمر كذلك. إذا كان لدينا الكثير في وقت ما، فإنَّ هذه الحقيقة ستؤدِّي تلقائيًا إلى زيادة عدد السُّكّان إلى أن تستعاد الحالة الطبيعية للجوع والبؤس. في عالم من الإلكترونيات وجينات الأنانية والقوى الجسدية العمياء والتكاثر الجيني، سيتأذَّى بعض النَّاس، وسيكون آخرون محظوظين، ولن تجد أيّ سبب لذلك، ولا أيّ عدالة.
إنَّ الكون الذي نلاحظه يتمتَّع بالخصائص التي يجب أن نتوقَّعها على وجه التحديد إذا لم يكن هناك في الأسفل أي قصد، ولا غرض، لا شرّ، ولا خير، ولا شيء سوى اللامبالاة العمياء. إنَّ الحمض النووي لا يعرف ولا يهتم، والحمض النووي هو كذلك. ونحن نرقص على موسيقاه)([6]).
هذه هي غاية ما وصل إليه ريتشارد دوكينز (الملحد) من الجواب عن الحكمة من هذا الوباء الذي تفشّى في النّاس، وقد تضمنّت هذه القطعة من كلامه مغالطات كشف عنها جون لينوكس، وبيّن كيف يتعامل المسيحي مع هذا الفكر إذْ “أوَّل شيءٍ يجب قوله هو أنَّ نسخة دوكينز الحتمية للإلحاد تبدو هنا أنَّها تبغي إلغاء فئات الخير والشرِّ واستبدالها باللامبالاة العمياء التي لا ترحم، في عالم قاسٍ. ومع ذلك فإنَّ رفض الخير والشر يعني ضمنيًّا أنَّ أي حديث عن أنَّ الفيروس التاجي سيِّئ أو شرِّير لا معنى له، (على الرغم من أنَّه من الصَّعب أن نتخيل أن دوكينز يمكن أن يصدِّق ذلك بالفعل)”.
فتجد أنّ أوّل شيء كشفه جون لينوكس هي فكرة إلغاء مفهوم الخير والشرّ التي عبّر عنها ريتشارد دوكينز: (إذا لم يكن هناك في الأسفل أي قصد، ولا غرض، لا شرّ، ولا خير، ولا شيء سوى اللامبالاة العمياء)، فانطلق من هذه الجملة الأخيرة لينقض فحوى مقاله، ثمّ يقف متسائلًا عن أثر معتقده اللاديني (الإلحاد) في ما دعا إليه من إلغاء المفاهيم:
“ومع ذلك، فإنَّ دوكينز يشير إلى نقطة خطيرة، يجب أن نسأل في ضوئها عمَّا إذا كان نظام المعتقد الإلحادي ردّ فعل معقول للفيروس التاجي.
إذا لم يكن هناك إله، فمن أين تأتي مفاهيم الخير والشر التي نمتلكها جميعًا في المقام الأوَّل؟!
لا يمكننا أن نقول: إنَّ الفيروس التاجي وتأثيراته (بأيّ حال من الأحوال) سيِّئان، لأنَّ عواقبه بما في ذلك الوفيات التي يسبِّبها هي ببساطة ذرات تعيد ترتيب نفسها.
كتب فيدور دوستويفسكي: (إذا لم يكن الله موجودًا فكلُّ شيءٍ مباح). ولتجنُّب أيّ سوء فهمٍ يجب القول أنَّ دوستويفسكي لم يكن يعني أنَّ الملحدين لا يمكنهم التصرُّف أخلاقيًّا. من الواضح أن الأمر ليس كذلك. في الواقع يمكن للملحدين وفي كثير من الأحيان أن يُخجِلوا المتديِّنين في سلوكهم الأخلاقي. من هنا نستنتج أنَّ المنظور المسيحي في هذا هو أنَّ جميع الرِّجال والنِّساء -سواء كانوا يؤمنون بالله أم لا- هم كائنات أخلاقية مصنوعة على صورة الله الخالق. لذلك يمكن لجميع البشر أن يتصرفوا أخلاقيًّا، لم يكن دوستويفسكي يتَّهم الملحدين بعدم وجود قناعة أخلاقية، بل كان يقترح شيئًا أكثر عمقًا: أنَّه لا يوجد تفويض عقلاني لمفاهيم الخير والشر إذا لم يكن هناك إله. ومما له دلالته أنَّ بيان ريتشارد دوكينز يدعم ذلك دعمًا تامًّا([7]).
ثمّ ألزم ريتشارد بطرد هذا الإلغاء المطلق للشرّ وأنّه غير صالح للتعايش: “وعلى الرغم من أنَّ الشرّ الطبيعي وليس الأخلاقي هو موضوعنا الرَّئيس هنا إلّا أنَّه من الجدير بالذكر أنَّه من وجهة نظر دوكينز كان الإرهابيون ومهندسو الإبادة الجماعية في مجالات القتل في كمبوديا ورواندا يقومون ببساطة بتنفيذ برامجهم الوراثية الخاصَّة بهم، وكذلك كان ستالين وهتلر وماو في جرائمهم المروِّعة ضدَّ الإنسانية. فإذا شعرت برغبة في قتل الأطفال من أجل المتعة، أفلا يكون هذا -من وجهة النّظر هذه- ببساطة رقصًا على حمض النووي؟!
إذا كان الأمر كذلك، فلا أحد منَّا يمكن أن يساعد في كونه ما يسميه البعض بشكل خاطئ: (الشَّر) قد نقوم نحن وهم أيضًا بالاستسلام لأنفسنا دون تذمُّر. فالأخلاق لا معنى لها. أعتقد أن هذا الرأي ببساطة غير صالح للحياة”([8]).
ثمّ استرسل في طرد هذا الإلغاء حتى جاء على موقف مناقضٍ لريتشاد دوكينز ليبيّن التناقض الذي وقع فيه، فقال: “وواقع الأمر أنَّ ريتشارد دوكينز هو نفسه دليل على ذلك، فإن حجَّته تقوِّض واقعًا مثل الخير والشر، ولكن لماذا يبدو بعد ذلك أنَّه ينظر إلى هجمات 11 سبتمبر والفظائع الأخرى على أنَّها شرّ؟”([9]).
ولم يكتف جون لينوكس في دحض حجّته بذكر هذا الموقف المناقض لحجّة الخصم؛ إذْ إنّ دحض حجّة إلغاء الخير والشرّ هو إثبات للخير والشرّ باللازم، بل أبان عن هذا بتعبير سهل في غاية الجمال: “الشيء التالي الذي يجب ملاحظته هو أن الغضب الـمُبرَّر ضدّ الشرّ الطبيعي أو الأخلاقي يفترض مسبقًا معيارًا من (الخير) الذي هو حقيقي وموضوعي مستقلّ عنَّا، حتى نتوقَّع أن يتفق الآخرون معنا في إدانة أشياء معينة. هذه المعايير (غير محدودة)، أي: أنَّها موجودة فوق مستوى الآراء الفرديَّة. وعلى سبيل المثال -وبغضّ النَّظر عن نظرتنا إلى العالم-، لا نتردَّد بكلِّ تأكيد في القول بأنَّ الفيروس التاجي سيِّئ.
ومع ذلك، إذا لم يكن هناك إله، فبالتَّالي لا توجد قيَم غير محدَّدة، فكيف يمكن أن يكون هناك أي معيار موضوعي للخير إذا لم يكن هناك خير أو شَرّ؟ على أيِّ حال، يختفي مفهوم الأخلاق، فالغضب الأخلاقي سخيف. إنَّ ما يسمَّى بـ(مشكلة الشَّر) الأخلاقيَّة أو الطبيعية، تذوب في اللامبالاة القاسية من الأمور غير المكترث بها”([10]).
وبهذا يتبين لنا أن هذا الكتيّب لم يكن مجرّد دحض لمقالة هذا الملحِد؛ بل ضمّنه معالجة لمشكلة وجود الشرّ بعدما انتهى من إثباته.
وستظل معضلة الشرّ تلاحقهم في كلّ وباء ومصيبة تحلّ بهم، ولن يتصوّروا هذه المسألة على وجهها الصحيح إلا بالرجوع إلى ما كتبه علماء المسلمين.
خاتمة: إن التصدي لظاهرة الإلحاد عند النصارى يبين لنا مدى أهمية العناية بمثل هذه القضايا التي تضرّ بعقائد الناس وتوجّهاتهم، والمسلمون أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؛ إذ لا شيء أغلى من المحافظة على دين الإسلام الذي جعله الله آخر الرسالات وناسخا لجميع الديانات، فهو دين شامل كامل صالح لكل زمان ومكان، يمكنه التكيف مع كل الأوضاع، في السراء والضراء، في المصائب والأوبئة، وله عند حصولها أحكام شرعية، وحِكَمٌ إلهية مرعية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) انظر: ميليشيا الإلحاد.. مدخل لفهم الإلحاد الجديد، للعجيري (ص: 21-26)، الإلحاد للمبتدئين، د. هشام عزمي (ص: 20- 23).
([3]) انظر على الرابط: https://shortest.link/2syz
([4]) أقوى براهين د. جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدّين، جمعه وعلّق عليه: م. أحمد حسن، انظر: (ص: 17-20) من مقدِّمة كتابه.
([5]) أين الله في عالم جائحة فيروس الكورونا؟ جون سي لينوكس (ص: 5).
([6]) أين الله في عالم جائحة فيروس كورونا، بقلم جون سي لينوكس، إصدار معهد عمواس للكتاب المقدّس، طبعة أولى 2020م، ص (21).
([7]) أين الله في عالم جائحة فيروس كورونا؟ بقلم جون سي لينوكس، إصدار معهد عمواس للكتاب المقدّس، طبعة أولى 2020م، (ص: 21-22).