الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

الشطح الصوفي .. عرض ونقد (الجزء الأول)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

كثيرًا ما تُروى أقوال وأفعال مستقبحة مخالفة للشريعة منسوبةً إلى مشايخ التصوف ورموزه في القديم والحديث، وكُتُبُ الصوفيةِ أنفسهم مملوءةٌ بذكر هذه الأقوال والحكايات، كما في كتاب (الطبقات) للشعراني وغيره من مدونات الصوفية، وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه الأمور الصادرة عن مشايخ التصوف بـ (الشطحات)، وهو الاصطلاح الذي استخدمه المتصوّفة لرد إنكار الفقهاء والعلماء على أحوال الصوفية المخالفة للشرع أو تخفيف حِدّته، باعتبار صاحبها قد (شطح) فلا ينبغي لومُه على ذلك أو الإنكار عليه، بل ينبغي أن يُسَلَّم حاله إليه.

ولا شك أن الفقهاء لم يرتضوا هذا الكلام؛ لأنه في حقيقته يفتح باب الزندقة والطعن في الدين، ثم يتظاهر الزنديق بأنه من أصحاب الأحوال والأذواق، وأنه لا يجوز الإنكار عليه! وهذا ما حصل في الواقع، فكثير من الزنادقة ودعاة الحلول والاتحاد الذين أجمع العلماء على زندقتهم تم تمرير كلامهم الباطل وتسويغ فعلهم المنكر باعتباره من الشطحات.

فتَحْت مصطلح (الشطح) يتمّ تسويغ كل الكلام الكفري والأفعال المستقبحة؛ فكانت هذه الشطحات أحد أسباب الخلاف التاريخي بين الفقهاء والصوفية، وهو في حقيقته صراع بين دعاة الالتزام بالشريعة والرجوع للكتاب والسنة في العلم والعمل والسلوك، في مقابل دعاة التحلّل من قيد الشريعة بزعم الوصول للحقيقة.

وهذا الكلام لا يعني إغلاق باب التأويل والإعذار إذا كان ذلك ممكنًا، ولا يعني كذلك المسارعة في التكفير أو التضليل بغير وجه حقّ، ولكن المطلوب هو الاجتهاد في فهم هذه الظاهرة، ثم الحكم عليها حكمًا متزنًا منصفًا يجمع بين العلم والعدل، فإن الخروج عن أحدهما يوقع المتكلم -ولا بد- في إحدى الآفتين:

  • إما التوسّع في التأويل المفضي إلى تسويغ ما لا يجوز تسويغه.
  • أو غلق باب الإعذار والتأويل بالكلية، وهو ما يفضي إلى تكفير أو تأثيم من لا يستحق ذلك.

فالأول بالغ في الرحمة على حساب الحقّ، والثاني بالغ في الإنكار حتى خرج إلى نوع من الظلم للخلق، وخير الأمور أوساطها، وهي طريقة أهل العلم والإيمان، وهذا ما تسعى هذه الورقة لبيانه بعون الله تعالى.

وقد جعلتها على جزأين:

الأول: في عرض الظاهرة من خلال كلام المتصوفة وغيرهم.

والثاني: في نقد هذه الظاهرة وبيان موقف العلماء منها خاصة موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

أولا: معنى الشطح لغة واصطلاحا:

رغم شيوع استعمال هذه الكلمة لدى المتصوّفة وخصومهم إلا أننا لم نجد لها ذكرًا في كتب المعاجم، وهو ما جعل بعض العلماء يعتبرونها كلمة عاميّة وليست فصيحة([1]). وأغلب الظن أن أصلها شَحَطَ بمعنى بَعُدَ([2])، كما في قول طرفة بن العبد:

ظَلّ في عَسْكَرَةٍ من حُبّهَا           ونَأتْ ‌شَحطَ مَزارِ المدّكِر([3])

فقلبت إلى شَطَحَ، ويبدو أن هذا القلب قديم أيضًا؛ لأنه شائع في كلام المتصوّفة والأدباء كذلك، فقد استعمله الجاحظ (ت: 255هـ) في كتابه الحيوان بمعنى تحرك([4])، وهو نفس المعنى الذي يستعمله الصوفية في التعبير عن شطحاتهم، فالصوفية يستعملون الفعل ‌شَطَح، فيقولون: ‌شطح الصوفي في كلامه؛ إذا تكلّم بكلام فيه بُعْد في الدلالة.

وقد أجاز مجمع اللغة المصري استعمال الفعل (‌شَطَحَ) بهذا المعنى، وذكرته المعاجم الحديثة كالوسيط ومحيط المحيط وغيرها([5]).

وأما الشطح عند الصوفية: فقد عرفه شيخ الصوفية الأكبر ابن عربي بقوله: “عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهي نادرة أن توجد عند المحققين”([6]).

وقوله: (عليها رائحة رعونة) أي: أنها في ذاتها ليست كذلك، ولكنها عند من يقف على الظواهر تبدو له مخالفة للشريعة، أو مستنكرة ومستغربة ولكنها في نفس الأمر ليست كذلك، ولكن الإشكال في إذاعتها والبوح بهذه الأسرار التي تظهر للمريد في حالة المكاشفة بالأسرار، كما قال ابن عربي في موضع آخر: “اعلم -أيدك الله- أن الشطح كلمة دعوى بحقّ، تفصح عن مرتبته التي أعطاه الله من المكانة عنده، أفصح بها عن غير أمر إلهي، لكن على طريق الفخر، فإذا أُمِرَ بها فإنه يفصح بها؛ تعريفًا عن أمر إلهيّ، لا يقصد بذلك الفخر… والشطح زلة المحققين إذا لم يؤمر به فيقولها”([7]).

ومن هذا الكلام نفهم: أن العبارات الشاطحة التي يعبّر بها المتصوفة عن مواجيدهم وأحوال الفناء التي يصلون إلبيها ليست مستنكرةً في ذاتها عندهم، وقد صرح بذك كثيرون من المتصوفة، فبعد أن عرّف المناوي الشطح عند المتصوفة قال: “ولا يرتضيه أهل الطريق من قائله وإن كان محقًّا”([8])، وقال الجرجاني: “تصدر من أهل المعرفة باضطرار واضطراب، وهو من زلات المحققين، فإنه دعوى حقّ يفصح بها العارف، لكن من غير إذن إلهي”([9]).

ويعرف القشيري (ت: 465هـ) الشطح بقوله: “كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض من معدنه مقرون بالدعوى، إلا أن يكون صاحبه مُسْتَلبًا ومحفوظا”([10]).

وهذا التعريف يكشف عن سبب الشطح، وهو (الوجد) الذي يهجم على صاحبه، ويغلب عليه، فلا يتحكّم في ما يصدر عنه من أقوال أو أفعال؛ تعبيرًا عن هذه الحالة.

وهذا ما أكَّده قبله أبو عبد الرحمن السلمي (ت: 412هـ) فقال في تعريف الشطح وبيان سببه: “عبارة عن وصف ما يبدو في القلب من الأنوار والفضائل… والشّطح لفظة مأخوذة من الحركة، لأنّها حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم فيعبّرون عن ذلك بعبارة يستغربها السّامع، فمنكر عليه ومفتون به هالك، ومن سالم فيه ناج. ويقال: (شطح الماء في النّهر)؛ إذا علا الماء حتّى يفيض من حافّتيه. كذلك المريد الواجد إذا قوي وجده ولم يطق حمل ما يرِد على قلبه من أنوار الحقائق شطَح بذلك على لسانه، فيُبرزه بعبارة مستغربة مشكِلة على الفهوم الجاهلة به، لا على فهوم أربابه، فسمّي بذلك الاصطلاح: شطحا. والأسلم لمن لا يعرف مراميهم ومقاصدهم ومصادرهم ومواردهم ترك الإنكار عليهم، ويكل أمورهم إلى الله عزّ وجلّ، ويرجع بالغلط على نفسه؛ فإنّه أسلم وأحسن في باب الرّعاية والفتوّة والحرّيّة، وبالله التوفيق”([11]).

ويضرب السراج الطوسي (ت: 378هـ) لذلك مثلا فيقول: “ألا ترى أن الماء الكثير إذا جرى في نهر ضيّق فيفيض من حافتيه، يقال: شطح الماء في النهر؟ فكذلك المريد الواجد إذا قوي وجده ولم يطق حمل ما يرِد على قلبه من سطوة أنوار حقائقه سطع ذلك على لسانه، فيترجم عنها بعبارة مستغربة مشكِلة على فهوم سامعيها إلا من كان من أهلها، ويكون متبحّرًا في علمها، فسمّي ذلك على لسان أهل الاصطلاح: شطحًا”([12]).

ويشرح الطوسي أيضا كيف يحدُث الشطح فيقول: “وقد جاد الحقّ تعالى على أهل صفوته والمحقّقين بالتوجه والانقطاع إليه بكشف ما كان مستترًا عنهم قبل ذلك من مراتب صفوته ودرجات أهل الخصوص من عباده، فكلّ واحد منهم ينطق بحقيقة ما وجد، ويصدق عن حاله، ويصف ما ورد على سره بنطقه ومقاله”([13]).

ثانيا: حقيقة ظاهرة الشطح عند الصوفية:

ولكي يمكننا فهم هذه الظاهرة أكثر لا بد من فهم عدّة مصطلحات ومقدّمات، فمن ذلك:

أولا: أن الدين عند الصوفية ينقسم إلى شريعة وحقيقة، فالشريعة هي أحكام الإسلام الظاهرة وأعمال الجوارح، والحقيقة هي الغاية التي يسعى المتصوّف للوصول إليها، قال القشيري: “الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية”، ثم قال: “فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهَده”([14]). وقال ابن عجيبة الحسني: “فالعلم الظاهر هو علم الشريعة، والعلم الباطن هو علم الطريقة والحقيقة”([15]).

وترتب على هذا أنه لا يجوز لعلماء الظاهر والشريعة أن ينكروا على علماء الباطن والحقيقة، ولهذا نقل ابن عجيبة عن أحد المتصوّفة قوله: “لا تجعلوا أهل الظاهر حجة على أهل الباطن”، ثم علل ابن عجيبة ذلك بقوله: “لأن أهل الباطن نظرهم دقيق وغزلهم رقيق، لا يفهم إشاراتهم غيرهم”([16]).

وهذا الفصل بين الحقيقة والشريعة كان أساس البدعة الخطيرة في عدم الإنكار على الأولياء مهما قالوا أو فعلوا من مخالفات للشريعة، بل كان هذا هو الأساس لدعوى خروج الأولياء عن الشريعة، بحجة أن الخضر -وهو رمز عندهم لعالم الباطن والحقيقة- خرج على شريعة موسى -عليه السلام- الذي هو رمز لعالم الشريعة والظاهر([17]).

والغرض المقصود: أن الصوفي -بحسب زعمهم- حينما يصل للحقيقة المزعومة، ويشاهد أسرار الربوبية، ويستشعر القرب الإلهي، بحيث يذهل عن نفسه وعن وجوده، مستغرقا في مشاهد الربوبية، فإنه يشعر بحالة من الوجد العنيف والفرح والبهجة والنشوة التي يغيب فيها عن نفسه، ويسقط تمييزه، كما يحدث للسكران من نشوة الشراب المسكر، فيصدر عنه في هذه الحالة هذه الكلمات الشطحية؛ ولذلك ترتبط هذه الظاهرة بما عرف عند الصوفية بـ(السكر) وهو المصطلح الثاني الذي نبينه.

ثانيا: السكر عند المتصوفة: عرفه ابن عربي بقوله: “غيبة بوارد قوي مفرح”([18])، أو هو: “دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة”([19]).

فالسكر ينشأ عن شدة المفاجأة التي تحصل للسالك عند مشاهدة أسرار الربوبية وحقائقها، فيفقد تمييزه للأشياء، وشعوره بنفسه وبمن حوله، وربما اضطرب كلامه، كما يفعل سكران الخمر.

وقد اعتبر الصوفية السكر من الأحوال الشريفة، ولكنها ليست من أحوال الكُمّل أو المحققين بحسب تعبير ابن عربي -كما سبق-، فهي حال ناقصة، ولكنه نقص نسبيّ باعتبار الصحو الذي بعده، أو ما يسمونه بالصحو الثاني وصحو الجمع والصحو بعد المحو، ولكن هذا السكر أكمل من الصحو الذي قبله، والذي هو تفرقة محضة ليس من الأحوال في شيء، فالولي الذي لم يمر بحالة السكر هذه أنقص عندهم من الولي السكران الفاقد للتمييز بين الأشياء، والسالك الصوفي لا يستغني عن السكر ما لم يخلص عن الصحو الأول([20]).

ثالثا: الفناء: لا يمكننا فهم ظاهرة الشطح إلا إذا فهمنا حقيقة الفناء عند الصوفية، فهناك ارتباط وثيق بين الشطح وحالة الفناء.

والفناء كما عرفه الهروي: “هو اضمحلال ما دون الحق علما، ثم جحدا، ثم حقا”([21]). ويقول ابن القيم: “الفناء الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا، فلا يبقى له صورة ولا رسم، ثم يغيب شهوده أيضا، فلا يبقى له شهود، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته: أن يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل”([22]).

وهذا الفناء عند الصوفية يعتبر ذروة معاني محبة الله تعالى، وهو غاية التوحيد عندهم، وكل عباراتهم في التوحيد إنما تشير إلى هذا المقام، وكل العبارات الشطحية التي أخذت عليهم إنما تدور حول الفناء. فالصوفي يعتبر نفسه محجوبًا طالما أنه يرى الأشياء المخلوقة، حتى ولو كان يراها قائمة بإقامة الله لها، كما هو النظر الشرعي الصحيح، ولكن الصوفية يزعمون أنه من اشتدت محبته لله، فإنه لا يرى الأشياء أصلا، ولا يرى في أي شيء إلا الله تعالى. فالصوفي ينتقل من مرحلة العوام وهي ألا يريد سوى وجه الله تعالى، إلى مرحلة الخواص وهي ألا يرى ولا يشهد شيئا غير وجود الله تعالى، ويغيب عن كل ما سواه حتى عن نفسه التي بين جنبيه، انتهاءً بمرتبة خواص الخواص عندهم، وهم أصحاب الاتحاد الذين يعتقدون أنه لا موجود إلا الله. وهي عقيدة أصحاب وحدة الوجود الكفرية كالحلاج المقتول على الزندقة والقائل: “أنا الحق” وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وأمثالهم من الزنادقة.

رابعا: وحدة الوجود: وهي اعتقاد أنه لا موجود في الحقيقة إلا الله تعالى، وأن سائر المخلوقات هي كالصور التي تظهر في المرآة، فهي متعددة وكثيرة باعتبار الصور، ولكنها في أصلها واحدة، فكل الموجودات عندهم هي مظاهر لهذا الوجود الإلهي الواحد. وهي عقيدة مقتبسة من الفلسفة الهندية، ويعتبر ابن عربي أحد أكبر من نظّر وروّج هذه العقيدة عند الصوفية، وكتابه (الفصوص) -الذي سماع العلماء: فصوص الكفر- كله من أوله إلى آخره في بيان هذه العقيدة والدوران حولها، وكذلك ابن الفارض في تائيته كان يدندن ويدور حول هذه العقيدة الكفرية، وقد أكثر العلماء من التحذير من هذه العقيدة وكفر من قال بها([23]).

فهذه العناصر السابقة إذا وجدت ظهرت معها الشطحات؛ بسبب الوجد العنيف الغالب بحيث يكون كالنهر الذي يفيض من جانبيه، فلا يتمكن الصوفي أن يكتمَ ما وجده في قلبه من أسرار الربوبية التي كشفت له بعد وصوله لمقام الفناء، والذي يجعله في حالة سكر وذهول وعدم شعور بما يقول ويتكلم.

ويلخّص ذلك أحد مشايخ الصوفية -وهو الشيخ زين الدين الخافي- بقوله: “العبد إذا تخلَّق، ثم تحقّق، ثم جُذِب؛ اضمحلت ذاته، وذهبت صفاته، وتخلّص من السّوى، فعند ذلك تلوح له بروق الحقّ بالحق، فيطلع على كل شيء، ويرى الله عند كلّ شيء، فيغيب بالله عن كلّ شيء، ولا يرى شيئا سواه”([24]).

ثالثًا: تاريخ ظهور الشطحات:

لم يكن في الصحابة ولا التابعين ولا أئمة السلف من تابعي التابعين من أُثِر عنهم الشطح، فقد كانوا أعقل وأعلم وأورع من أن يتكلّموا بكلام مخالف للشرع؛ بحجة أن له معنى حقًّا يوافق الحقيقة، وكان عندهم من السكينة والعقل والعلم والحلم ما يمنعهم من أن ينبسطوا بالدعاوى العظيمة كما لبّس الشيطان على من جاء بعدهم، فظهرت فيهم هذه الدعاوى بسبب غلبة التعبّد عليهم مع قلة العناية بالعلم الشرعي.

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: “وإذا اعتبرت علماء السلف رأيتَ الخوفَ غالبًا عليهم، والدعاوى بعيدة عنهم، كما قال أبو بكر: ليتني كنتُ شعرةً فِي صدر مؤمن، وقال عُمَر عند موته: الويل لعمر إن لم يغفر لَهُ! وإنما صدر مثل هَذَا عن هؤلاء السادة؛ لقوة علمهم بالله، وقوة العلم تورث الخشية، ولما بعد عَنِ العلم أقوام من الصوفية لاحظوا أعمالهم، واتفق لبعضهم من اللطف مَا يشبه الكرامات، فانبسطوا بالدعاوى”([25]).

ومن أقدم من نقلت عنهم العبارات التي يمكن وصفها بالشطح رابعة العدوية (ت: 180هـ)([26]) فإنه روي عنها أنها لما حجت ورأت البيت قالت: “هذا الصنم المعبود في الأرض”! ولكن مثل هذا يروى بلا سند ولا يوثق بصحته، ولذلك نفاه شيخ الإسلام ابن تيمية، واستبعد صدوره عنها، فقال: “وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: (إنه الصنم المعبود في الأرض) فهو كذبٌ على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل”([27]).

وفي منتصف القرن الثالث الهجري كثر الشطح والعبارات المستنكرة المستشنعة بين كبار المتصوفة، خاصة في بغداد وما حولها، حتى صار الشطح علامة على صوفية بغداد، كما قال الجنيد الصوفي البغدادي (ت: 298هـ): “أُعْطِي أهلُ بغداد ‌الشطحَ والعبارة، وأهلُ خراسان القلبَ والسخاء، وأهلُ البصرة الزهدَ والقناعة، وأهلُ الشام الحلمَ والسلامة، وأهلُ الحجاز الصبرَ والإنابة”([28]).

وبسبب انتشار هذه الشطحات ثارت فتنة على الصوفية، حيث نسبوا إلى الزندقة، فأمر الخليفة المعتمد في سنة أربع وستين ومائتين بالقبض عليهم، فهرب بعضهم، وحوكم البعض، وقد طالت هذه الفتنة التي أثارها عليهم غلام خليل كثيرًا من متصوفة بغداد؛ كالجنيد (ت: 297هـ)، وأبي الحسين النوري (ت: 295هـ)، ورويم (ت: 303هـ)، وغيرهم.

ومن أبرز من روي عنهم الشطح في هذه المرحلة: أبو يزيد البسطامي (ت: 261هـ)، وهو من أوائل من أشاع فكرة الفناء الصوفي، وهي فكرة أصلها من الفلسفة الصوفية الهندية، تسمى: (الذيانا والسماذي)، وهي عبارة عن التأمل والمراقبة والاستغراق، حتى يصل المريد إلى مرتبة يصبح فيها المراقِب والمراقَب واحدًا، وهذا ما تأثر به كثير من المتصوفة وعلى رأسهم أبو يزيد البسطامي([29]).

فمن ذلك قوله: “رفعني الله فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد، إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيّني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك”، وقوله: “بطشي أشدّ من بطشه بي”، وقوله: “سبحاني سبحاني ما أعظم شاني! حسبي من نفسي حسبي”، وقوله: “لأن تراني مرة خيرٌ لك من أن ترى ربَّك ألف مرة”، وقوله: “كنتَ لي مرآة فصرتُ أنا المرآة”، ومرّ بمقبرة لليهود فقال: “معذورون”، ومرّ بمقبرة للمسلمين، فقال: “مغرورون”، وقال: “ضربت خيمتي بإزاء العرش”، وقال: “إلهي، إن كان في سابق علمك أنك تعذّب أحدًا من خلقك في النار فعظّم خلقي فيه حتى لا يسع معي غيري”، ومر بمقبرة لليهود فقال مخاطبًا ربه تعالى: “ما هؤلاء حتى تعذبهم؟! كفّ، عظام جرت عليهم القضايا، اعف عنهم”([30]). وغير ذلك من هذه الأقوال الشنيعة التي لا يشكّ مسلم أنها كفر بواح لو صدرت من عاقل يعي ما يقول.

وممن نقل عنهم الشطحات أبو حمزة الصوفي (ت: 269هـ)، ويقال: إنه أول من أظهر الكلام في المحبة والشوق وجمع الهمة وصفاء الفكر، وتكلم به عَلَى رؤوس الناس([31]). وقال عنه الذهبي: “ولأبي حمزة انحراف وشطح، له تأويل”، ثم ساق شيئا من هذه الشطحات مثل أنه سمع غرابًا يصيح، فزعق أبو حمزة قائلا: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة، وقالوا: حلولي.

ودخل على الحارث المحاسبي، فصاحت شاة: ماع، فشهق، وقال: لبيك لبيك يا سيدي. فغضب الحارث، وأخذ السكين، وقال: إن لم تتب أذبحك([32]).

وفي أواخر القرن الثالث الهجري كانت فتنة الشطحات تزداد اشتعالا، وبلغت ذروتها مع كلام الحلاج الذي ظل يحاكم -بعد أن شاع أمره، وصار له أتباع فتنوا به- ثمانية أعوام من سنة (301هـ) حتى قتل وصلب سنة (309هـ)([33]).

وكان قد ظهر أمره في عام (299هـ)، وشاعت عنه أحوال غريبة وكلمات اتُّهم بسببها بالزندقة والسحر والشعوذة، وكلامه كله يدور حول الحلول، و”أنه من هذّب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال قلبه، وصبر على اللذات، وامتنع عن الشهوات، يترّقى إلى درج المصافاة حتى يصفو عن البشرية طبعه، فإذا صفا حلّ فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى، فيصير مطاعًا يقول للشيء: كن، فيكون”([34]).

ومن كلماته: “تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة فقال إبليس: إن سجدت سقط عني اسم الفتوة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة، وقلت أنا أيضًا: إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من بساط الفتوة، وقال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 12] حين لم ير غيرًا، وقال فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل، وقلت أنا: إن لم تعرفون فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق؛ لأني ما زلت أبدًا بالحق حقًّا، فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدّد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه ولم يقر بالواسطة أبدًا، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي”([35]).

وبعد مقتل الحلاج خفّت حدة الشطح، خاصة الذي يشير إلى الاتحاد، واشتغل المتصوفة بتأويل كلام شيوخهم غير الحلاج الذي تبرأ منه أكثر الصوفية، ولم يصحّح حاله من الصوفية “غير أبي العباس بن عطاء، ومحمد بن خفيف، وإبراهيم أبي القاسم النصرآبادي”([36])، ويذكر شيخ الإسلام أن ابن خفيف كذلك تبرأ منه ولعنه بعد أن علم حاله([37]).

ولكن الشطحات استمرّت بعد ذلك، فنسب للشيخ عبد القادر الجيلاني من ذلك كلام، مثل قوله: “قدمي على عنق جميع الأولياء”، وغير ذلك من الشطح والطامات التي أوردها أبو الحسن الشطنوفي المصري في أخبار الشيخ في ثلاثة مجلدات، قال عنها الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: “وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه فأنقل منه إلا ما كان مشهورا معروفا من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه من الشطح والطامات والدعاوى والكلام الباطل ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر”([38]).

وقد تعقب الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- كلام ابن رجب فقال “أمّا ما يتعلّق بالبهجة فقد طالعت أكثرها، فما رأيت الأمر كما ذكره الحافظ ابن رجب على إطلاقه”([39]). وجعل هذه الكلمات المستنكرة على ثلاثة أقسام: “الأول: ما لا ينابذ الشريعة، كالكرامات والخوارق، والثاني: ما هو منابذ لقوانين الشريعة في الظاهر، فإن أمكن حمله بالتأويل على أمر ظاهر سائغ فذاك، وإلا فينبغي اجتنابه، وتحسين الظنّ بقائله يحتاج إلى أن يدّعي أنّ ذلك صدر في حال غيبة له من غير اختيار. والقسم الثالث: ما تردّد بين الأمرين، فهذا ينبغي الجزم بحمله على المحمل الصحيح، ولو بالتأويل، بخلاف الذي قبله، فإنّه يجوز أن يكون غير ثابت”([40]).

وشاع بين الصوفية المتأخرين مخالفة الشرع، وتبرير ذلك بكونه شطحًا، ومن طالع أكثر ذلك -كالذي يورده الشعراني في طبقاته- يدرك أن أغلب ذلك دجل وزندقة، أو جنون من أصحابه، ولا علاقة لهم بالولاية، وكذلك ما يوجد عند الصوفية المعاصرين، فإن عامة ذلك من هذا الباب، لخداع العامة والبسطاء، كما يعرفه كل من عاين أحوالهم وخبرها.

يقول الدكتور عبد الرحمن عبد الخالق -رحمه الله-: “لقد شاهدت بنفسي كيف يصرع هؤلاء عند الذي يسمّونه حالًا، والله لا أشكّ لحظة واحدة أنه وخز شيطان أو تصنُّع منافق خبيث، فقد كان أحدهم يقوم ويقعد ويصرخ ويزبد ويأخذ بطاقيته وقلنسوته وغترته أو عمامته، فيلقيها على الأرض ويسارقنا النظر، ونحن ننظر إليه راثين لأحوال هؤلاء الحمقى الذين يستفزّهم الشيطان ويحركهم ويتلاعب بهم، وقد كان هؤلاء المطيرون الضاحكون يفعلون ذلك عندما كان يقال كلام كله كفر وشرك وغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يسمّونه مدحًا وهو في الحقيقة ذم للرسول وسب له. فاعلم -أخي المسلم- أن هذا الشطح الذي يأتي مما يسمونه بالحال ما هو إلا وخز شيطاني وتحريك إبليسي، هذا عند الصادقين منهم، وأما الكاذبون فإنهم يفتعلون ما يفعلون لإيهام العامة والسذج بأنهم من أهل الأحوال ومن المشاهِدين لما يسمونه بحضرة الجلال أو الجمال! وذلك كله من الرياء والنفاق وسوء الأخلاق؛ وذلك لمخالفته هديَ سلفنا الصالح والخروج على مناهج الأنبياء. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما ابتلي به هؤلاء”([41]).

رابعًا: تعامل الصوفية مع شطحات أئمتهم:

كيف يتعامل الصوفية مع الشطح المنقول عن أئمتهم؟ جواب ذلك في النقاط الآتية:

1- يرى أكثر الصوفية أن الشطح حقّ في ذاته، فهو وإن كان ظاهره مستشنعًا مخالفًا للشريعة، إلا أنه حق موافق للحقيقة.

قال الجرجاني في تعريف الشطح: “عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، تصدر من أهل المعرفة باضطرار واضطراب، وهو من زلات المحققين، فإنه دعوى حق يفصح بها العارف، لكن من غير إذن إلهي، بطريق يشعر بالنباهة”([42])، وقال المناوي عن الشطح: “لا يرتضيه أهل الطريق، وإن كان قائله محقًّا”([43]). وقال ابن حجر الهيتمي (ت: 974هـ) عن الحلاج بعد أن ذكر اختلاف المتصوّفة عليه، وأن منهم من صحح حاله كابن خفيف وأبي العباس بن عطاء وأبي القاسم النصر أباذي، ولكن أكثر الصوفية أنكروا حاله، فقال الهيتمي: “وَإِيَّاك أَن تفهم أَن من الصوفية من يُنكر عليه حاله الباطن؛ فَإِن الأمر ليس كذلك”([44]).

وهؤلاء الذين يجعلونه حقًّا منهم من يجعله كذلك باعتبار موافقته للحقيقة، وإن كنا لا نعلم تأويله ولا نرى له وجهًا سائغا في التأويل، وهذا ظاهر صنيع السيوطي في كتابه الذي دافع فيه عن ابن عربي وسماه (تنبئة الغبي في تبرئة ابن عربي)، وذهب فيه إلى أنه وليّ من أولياء الله تعالى، ومع ذلك حرّم القراءة في كتبه؛ لأنها تفتن من يقرؤها!

ومنهم من يتكلّف لها التأويلات السمجة البعيدة التي لا وجه لها من التأويل؛ حتى تكون موافقة للشريعة مستقيمة مع ظواهر الشرع، كما فعل عبد الوهاب الشعراني في كتابه (الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح)، وهذا متّسق مع طريقة الشعراني الذي حاول التوفيق بين التصوّف والفقه، ليس بضبط التصوف بالأحكام الشرعية بقدر ما هو تأويل وتسويغ لمخالفات المتصوفة وشطحاتهم.

2- اعتبر الصوفيّة الشطح من أحوال الأولياء العارفين، فهو صادر عن المريد إذا اشتد وَجدُه وفاض عنه ما لا تتّسع اللغة للتعبير عنه -بحسب زعمهم-، وهو لا يصدر إلا في حالات السكر وهو من الأحوال المحمودة عندهم، وهو ناشئ عن مقام الفناء وهو من الغايات عند القوم. وقد جعل الشيخ أحمد الرفاعي (ت: 578هـ) الشطح حالة تحصل لصاحب الدرجة الثالثة من القوم، وسماه مشهد الإدلال الذي يحصل فيه التجاوز والبروز بحال السلطنة والظهور بالقول والفعل والحول والقوة([45]). ثم إن الشطح كما سبق من كلام ابن عربي إخبار من المريد بمرتبته عند الله، فهو يكشف عن حقّ، ولكن دون إذن إلهي في ذلك!

فإن قيل: ولكن كيف اعتبر ابن عربي وغيره من الصوفية الشطحَ من زلات المحققين وأنه حالة نقص؟

فالجواب: أن هذا عندهم نقص نسبيّ، فالسكر الذي يحصل فيه الشطح محاط بصحو قبله وبعده، فهو بالنسبة إلى ما بعده من الصحو نقص عن درجة الكمال، ولكنه بالنسبة إلى ما قبله كمال، فكأن العارف يحصل له صدمة من المفاجأة لما وصل للحقيقة وانكشفت له الأسرار، فلم يملك أن يكتم ما وجده في قلبه، فباح بالسر الذي ينبغي كتمه، ولكنه إذا ما استقر أمره زالت غيبته وصدمته، وتمالك نفسه، وكتم أسراره.

3- إنكار الصوفية على الشاطحين ليس إنكارًا لأحوالهم الباطنة -كما سبق-، ولكنه إنكار للبوح بها أمام الأغيار والعامة.

والعامة هنا: هم من سوى المتصوّفة من العلماء والفقهاء، ممن يعتبرهم الصوفية ألدَّ أعدائهم وخصومهم، بل يصفهم ابن عربي بقوله: “وما خلق الله أشقّ ولا أشدّ من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم أسراره في خلقه، وفهّمهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل -عليهم السلام-“([46]).

وقال ابن الفارض: “إنما قتل الحلاج لأنه باح بسرّه، إذ شرطُ هذا التوحيد الكتم”([47]).

وقال السهروردي المقتول (ت: 586هـ) في ديوانه:

‌بالسرّ ‌أن ‌باحوا تباح دماؤهم        وكذا دماء العاشقين تباح([48])

وعاتب الجنيد الشبلي -وهو من أكبر الشاطحين-([49]) فقال له: “نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا، ثم خبّأناه في السراديب، فجئتَ أنت فأظهرته على رؤوس الملأ!”([50]). وروي عن الشبلي أنه قال: “كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهر وكتمتُ”([51]). فالحلاج في نظر الصوفية استحقّ القتل؛ لأنه باح بالسر المكتوم، وأفشى سرّ الربوبية، وقد ذكر عبد العزيز الدباغ حكايات كثيرة عن الذين لم يكتموا السرّ، فابتلاهم الله تعالى ببلايا عديدة، من القتل والحرق والعمى وغير ذلك([52]). فإفشاء الأسرار الصوفية جريمة عند القوم، يستحق صاحبها العقاب العظيم.

4- يرى عامة الصوفية أنه لا يجوز الإنكار على الأولياء الشاطحين؛ لأنهم وصلوا إلى حالة لم يصلها المنكِر عليهم، فلم يجز له الإنكار عليهم، كما أن المنكِر ينكر بحسب الظاهر وعلم الشريعة، والشاطح ينطق بمقتضى الحقيقة التي وجدها في قلبه، والظاهر عندهم لا يَحْكُمُ على الباطن. فعلماء الشريعة أمام شطحات المتصوفة لا يسعهم إلا أن يكونوا أحد رجلين -كما ذكر الطوسي في (اللمع)-: “إما مفتون هالك بالإنكار والطعن عليها إذا سمعها، وإما سالم ناجٍ برفع الإنكار عنها والبحث عما يشكل عليه منها، بالسؤال عمن يعلم علمها، ويكون ذلك من شأنها”([53]).

وكثيرًا ما يحذّر الصوفية من مغبّة الإنكار على رجالهم، ويكثرون من الحكايات في عقاب من أنكر عليهم، ويوجبون على من لا يرى وجهًا سائغًا لتأويل كلامهم إحسانَ الظن بهم وتفويض أمرهم إلى الله.

ومن ذلك ما حكاه ابن حجر الهيتمي عن أحد شيوخه الذي كان يطعن في ابن الفارض وابن عربي، وأنه أصيب بسبب ذلك بضيق النفس، ولم يُكْشَف عنه ذلك إلا بترك الطعن فيهما، فلما عاد للطعن عاد إليه المرض([54]).

والعجب كيف يصدر هذا عن فقيه كبير؟! ولكن هذا ينبئك عن مدى الصولة التي صارت لشيوخ التصوف، حتى صار أكثر الفقهاء لا يقدرون على مواجهة انحرافات الصوفية وأباطيبهم.

5- بعد إثارة قضية الحلاج والتي انتهت بقتله، وشيوع الفتن في بغداد بسبب تناقل كلام الشاطحين، اجتهد الصوفية في تأويل الشطحات على وجه يوافق ظواهر الشريعة، تخفيفًا لحدة نقد الفقهاء والعلماء لهم، كما فعل السراج الطوسي (ت: 378هـ) في (اللمع)، وتبعه على ذلك كثير ممن جاء بعده، وشاع ذلك في المتأخرين كالشعراني في كتابه (الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح).

وهذه التأويلات بعضها مقبول، وبعضها متعسَّف لا يتمشى إلا على طريقة التأويلات الرمزية الباطنية. وهذه التأويلات المتعسفة هي في الحقيقة إسكات لإنكار الفقهاء والعلماء؛ لأن الشطح عند الصوفية صادر عن الوجد، وهو عبارة عن تجربة روحية خاصة بصاحبها، لا يمكن لأحد فهمها إلا من مرّ بها، وأيّ محاولة لتفسيرها فهي غير ممكنة. وهي في الحقيقة تعبير عن حالة الفناء ووحدة الوجود بحسب ما وجده صاحبه، فكيف يمكن لمن لم يمرّ بهذه الحالة أن يعبر عنها؟!

هذه هي أهم عناصر تعامل الصوفية مع ظاهرة الشطح، ونتناول في الجزء الثاني من هذه الورقة نقد هذه الظاهرة وكيفية تناولها.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: تاج العروس (6/ 507).

([2]) كما في المحيط، لابن عباد (1/ 183).

([3]) ديوان طرفة بن العبد (ص: 4). والعسكرة: الحيرة. نأت: ابتعدت. ‌شحط المزار: بَعُدَ. المدّكر: المتذكر.

([4]) الحيوان، للجاحظ (7/ 75).

([5]) انظر: معجم الصواب اللغوي (1/ 469).

([6]) الفتوحات المكية (2/ 133). وانظر: التعريفات، للجرجاني (ص: 127).

([7]) الفتوحات المكية (2/ 387) باختصار.

([8]) التوقيف على مهمات التعريف (ص: 204).

([9]) التعريفات (ص: 127).

([10]) أربع رسائل في التصوف (ص: 48).

([11]) رسالة في غلطات الصوفية، ضمن مجموع آثار أبي عبد الرحمن السلمي (3/ 480) باختصار يسير.

([12]) اللمع -تحقيق نيكلسون- (ص: 375).

([13]) المرجع السابق (ص: 376).

([14]) الرسالة (1/ 61).

([15]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم (1/ 195).

([16]) المرجع السابق (1/ 63).

([17]) انظر في إبطال الاستدلال بقصة الخضر على الخروج عن الشريعة مقال مركز سلف بعنوان: (قصة الخضر وإبطال دعاوى الصوفية).

([18]) الفتوحات المكية (2/ 133).

([19]) معجم مصطلحات الصوفية، عبد المنعم حنفي (ص: 132).

([20]) راجع المصدر السابق.

([21]) مدارج السالكين (1/ 169).

([22]) المرجع السابق.

([23]) انظر مثلا: تنبيه الغبي لتكفير ابن عربي، لبرهان الدين البقاعي.

([24]) نقله عنه السيوطي في تنبئة الغبي بتبرئة ابن عربي (ص: 12).

([25]) تلبيس إبليس (ص: 302) باختصار.

([26]) انظر ترجمتها في السير (8/ 241).

([27]) مجموع الفتاوى (2/ 310).

([28]) انظر: السير (14/ 69).

([29]) انظر: التصوف الإسلامي وتاريخه (ص: 75)، والفلسفة الصوفية في الإسلام لعبد القادر محمود (ص: 309). وانظر أيضا: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أم مرذولة، للبيروني (ص: 27).

([30]) انظر هذه الأقوال في كتاب: النور من كلمات أبي طيفور، للسهلجي تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، وكتابه: شطحات الصوفية. وانظر كذلك: اللمع في التصوف، للسراج الطوسي الصوفي (ص: 287-296)، فقد أورد فيه فصلا عن الشطحات، وتأوّل كل ما نسب للبسطامي والشبلي في ذلك.

([31]) استنشاق نسيم الأنس، لابن رجب الحنبلي (3/ 389).

([32]) انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 167).

([33]) انظر: السير(14/ 335).

([34]) انظر: السير (14/ 347).

([35]) الطواسين (ص: 51، 52).

([36]) انظر: تاريخ بغداد (8/ 112).

([37]) مجموع الفتاوى (2/ 311).

([38]) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 195).

([39]) مسائل أجاب عنها الحافظ ابن حجر (ص: 14).

([40]) المرجع السابق (ص: 14-16) باختصار.

([41]) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (ص: 305).

([42]) التعريفات (ص: 127).

([43]) التوقيف على مهمات التعريف (ص: 204).

([44]) الفتاوى الحديثية (ص: 224).

([45]) البرهان المؤيد (ص: 99) بتصرف واختصار.

([46]) الفتوحات المكية (1/ 279).

([47]) انظر: تنبيه الغبي، للبقاعي (1/ 169).

([48]) ديوان السهروردي، تحقيق: كامل مصطفى الشيبي (ص: 58).

([49]) وكان الشبلي كثير الشطح حتى اتهم بالجنون وذُهب به للمارستان. انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي (25/ 117).

([50]) انظر: التعرف لمذهب التصوف، للكلاباذي (ص: 145).

([51]) انظر: أربعة نصوص (ص: 19)، تحقيق ماسينيون، ط. باريس.

([52]) الإبريز (ص: 12).

([53]) اللمع (ص: 375) تحقيق نيكلسون.

([54]) انظر: الفتاوى الحديثية (ص: 233).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017