هل يتحمَّل ابن تيمية وِزرَ الطائفية؟
مصلح الطائفةِ:
معلومٌ أنَّ مصطلَحَ الطائفةِ منَ المصطلحات البريئة التي لا تحمِل شُحنةً سلبيَّة في ذاتها، بل هي تعبيرٌ عن انقسامٍ اجتماعيٍّ قد يكون أحدُ طرفيه محمودًا والآخر مذمومًا، وقد يكون كلا طرفَيه محمودًا، ومن أمثلة الأوَّل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين} [الأعراف: 87]، فهذا انقسام اجتماعيٌّ حقيقيٌّ بين كُفرٍ وإيمان وحقٍّ باطل، ومِن أمثلة التقسيمِ غيرِ المذموم قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102].
ومِن هنا يظهر جليًّا أنَّ مصطلحَ الطائفة قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، لكنه في الدلالة المعاصِرة بات مصطلحًا ملطَّخًا، يُحيل إلى الاحتِراب الفكريِّ، وأحيانًا الدمويّ، ويسعى البعضُ دومًا إلى تلطيخ بعض الجهات به، ومن أكثر من حُمِّل وزر الطائفية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا التحميل أغلبُه تجَنٍّ، ويمكنُ إثبات ذلك من خلال فَحص الدعوَى على ابن تيمية؛ ليتبيَّن انعدام البينات والقرائن فيها، وأنَّ الأصلَ والعرفَ يشهدان للرجل.
أولا: فحص الدعوى:
ابنُ تيميَّة شخصية مؤثِّرة في العالم الإسلاميِّ، وهو شخصية موسوعيةٌ، وقد حَظِي بدراساتٍ لجميع جوانب حياتِه العلمية والفكرية والاجتماعيّة، فأيُّ دعوى عليه إن وُجد ما يسندها فإنه من السَّهل إثباتها؛ وذلك من خلال تراثِ الرَّجل المتداوَل بشكلٍ ميسَّر ومفصَّل، وحين أمعنتُ في هذه القضية وفي مستنَدِ أهلها وجدتُ أنهم يجمعون على قضيَّةٍ واحدةٍ هي أهمُّ ما عندهم، وهي استنادُ جماعات الغلوِّ إلى فتاوى ابن تيمية.
وعندَ الوقوف مع هذه الدعوى وجدتُ فيها ظلمًا بيِّنًا، وهو أنَّ الغلوَّ مخصَّص بطائفةٍ وهم أهلُ السنَّة، فأينَ جماعاتُ الغلوِّ الشيعيَّةُ؟! وإلى ماذا تستَنِد وهي التي فعلت بالمسلمين الأفاعيل وقتلهم شرَّ قِتلة؟! ومن ناحيةٍ أخرى هناك فَرقٌ بين كلام الرجل ومنهجِه وبين قراءته من أطراف أخرى، وعلى طريقة هؤلاء فإنَّه يمكن تحميل القرآنِ المسؤوليةَ عن جرائم هؤلاء؛ لأنهم يستدلّون بالآية والحديث، وبالنسبة للطَّرف العلماني يقال لهم: يمكن تحميل الديمقراطية كذلك مسؤوليةَ أفعال أمريكا واحتلالها للبلدان الإسلامية؛ لأنها تفعل ذلك تحت رعايةِ الديمقراطية وتَبنِّي مبادئها، وأيُّ جوابٍ يجيبون به عن هذه القضايا يُجاب به عن شيخ الإسلام.
ثانيا: البيِّنات على بُعد ابن تيمية عن هذه الدعوى:
منَ المعلوم أنَّ الإقرار سيِّد البيناتِ، وهو خيرٌ من ألف شاهد، وحين نأتي إلى كلام ابن تيمية عن طوائف المسلمين وعن تكفيرها والموقف منه فإنَّنا نجد بونًا شاسعًا بين الدعوى وحقيقة الرجل، ودونك أقوالَه في أشهر خصومه في العقيدة:
فابن تيمية كان سببًا في إيقاف الطائفية بين الحنابلة والأشاعرة، يقول ابن تيمية متحدِّثا عن تلك الحوادث: “والناس يعلمونَ أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشةٌ ومنافرة، وأنا كنت مِن أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين، وطلبًا لاتِّفاق كلِمَتهم، واتِّباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأَزلتُ عامَّة ما كان في النفوس من الوحشة، وبيَّنتُ لهم أنَّ الأشعريَّ كان من أجلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه… ولما أظهرت كلام الأشعري ورآه الحنبلية قالوا: هذا خيرٌ من كلام الشيخ الموفَّق، وفرح المسلمون باتِّفاق الكلمة. وأظهرتُ ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متَّفقين إلى زمن القشيريِّ، فإنه لما جرت تلك الفتنةُ ببغداد تفرَّقت الكلمة، ومعلوم أنَّ في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيمٌ. مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدعُ أحدًا قطّ في أصول الدين إلى مذهب حنبليّ وغير حنبليّ، ولا انتصرتُ لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتَّفق عليه سلف الأمة وأئمتها”([1]).
ثالثا: ابن تيمية ينصف الروافض:
فيقول: “وقد ذهب كثير من مبتدِعةِ المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثيرٌ، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا، وكذلك بعض الملوك، قد يغزو غزوًا يظلِم فيه المسلمين والكفارَ، ويكون آثمًا بذلك، ومع هذا فيحصل به نفعُ خلق كثير، كانوا كفارًا فصاروا مسلمين، وذاك كان شرًّا بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأمَّا بالنسبة إلى الكفار فهو خير”([2]).
رابعا: ابن تيمية يفصِّل في الحكم على الشيعة:
فيقول: “والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير، فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خَلق مسلمون باطنًا وظاهرا، ليسوا زنادقة منافقين، لكنهم جهلوا وضلّوا واتَّبعوا أهواءهم”([3]).
خامسا: ابن تيمية لا يحقد على خصومه ويحب الخير لهم:
فيقول: “وأنا -والله- من أعظم الناس معاونةً على إطفاء كلّ شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمَل -والله- ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوَّه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي وعزمِي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أنَّ الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين”([4]).
فقد كان الرجل حليمًا صبورًا فقيهًا، رحيمًا بأهل ملّته، محبًّا للخير، محرِّما لدماء المسلمين وأعراضهم، ولم يكن داعيةَ فتنة ولا شِقاق؛ لكنه لم يختر أن يكون جامعًا على حساب الحق، بل دعا لدين الله، وأظهر الحقَّ، وبيَّن للناس أمرَ دينهم، ودعاهم إلى الخير، وتناقل الثقاتُ عنه البُعدَ عن تكفير المسلمين، يقول الذهبي رحمه الله: “رأيتُ للأشعريِّ كلمةً أعجبتني، وهي ثابتةٌ رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضورُ أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليَّ أني لا أكفِّر أحدًا من أهل القبلة؛ لأن الكلَّ يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قلت: وبنحو هذا أَدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفِّر أحدًا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»([5])، فمن لازم الصلوات بوضوءٍ فهو مسلم”([6]).
فهذا ابن تيمية الرحيمُ بإخوانه المسلمين، المحب للخير، البعيد عن الشقاق والخلاف، وليس كما يصوِّره خصومه من أعداء الدعوة والسماعون لهم من المنتسبين لأهل الملّة، وهو حظي بكلّ خير، لا يعظِّمه إلا من عرفه كما هو، بعيدًا عن عين الحسود ووصف الخصوم، وفي شهادةِ الذهبي الثقةِ ما يغني عن تجريح آلافِ المجرِّحين ممن لا يَزِنون جناحَ بعوضةٍ أمام الحافظ الذهبي رحمه الله، ورحم شيخه شيخ الإسلام، والحمد لله ربّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) منهاج السنة النبوية (2/ 453).
([5]) ورد عن غير عدد من الصحابة، منهم ثوبان رضي الله عنه، أخرجه عنه ابن ماجه (277)، وصححه ابن حبان (1037).