الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

طرق غلاة الصوفية في الدفاع عن مذهبهم ومكامن الخلل فيها

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

لا تزال الصوفية الأولى منذ نشأتها تعاني مشكلةَ الاستدلال وشرعية التصرفات، ظهر هذا مع خيارهم وفضلائهم من الزهاد والعباد، وظلّت الفجوة تزداد بين التصوّف والشرع حتى انتقلوا من مرحلة الاستدلال لمذهبهم إلى مرحلة التأويل والاستقلال بالأدلّة في الترتيب والاعتبار، وكلما واجه المتصوفةَ سيلٌ من البيّنات الشرعية التي تُدين بعض معتقداتهم وتجرّم بعض تصرفاتهم هرعوا إلى بناء سدود على منهجهم، وأحاطوه بسياج من الدعوى، ونوّعوا الأدلة في ذلك حتى يكون المجيب والمعترض حائرًا في أيّها يختار للرد عليه، فهي متفاوتة ومتضاربة، وفيها من الخلط ما لا يخفى على خبير.

استدلالات فاسِدة واعتبارات غير موضوعية:

ومن أهم الأمور المنهجية التي ينبغي التنبّه لها ما يكثر ترديدهم له في معرض الدفاع عن أنفسهم من استدلالات فاسِدة واعتبارات غير موضوعية يمكن إجمالها في الآتي:

أولا: ادعاء أن عبارات الأولياء لها محامل غير محامل كلام الناس العادي، بل وحتى لا يشترط فيها موافقة ظاهر الشرع؛ لأن هذا اصطلاح خاصّ بهم.

ثانيا: الخلط بين الدليل الكوني والدليل الشرعي.

ثالثا: الخلط بين الاعتذار عن الشخص بحمل كلامه على محمل حسن وبين كون مذهبه راجحًا أو قوله صوابًا، فمثلا قد تشتبه عبارة لأحدهم فتحتمل الحلول والاتحاد من عدمه، وتكون ظاهرة في الحلول، فيأتي الصوفي فيحملها على معنى وديع ومقبول من الناحية الشرعية، ويظن أنه بذلك قد سلم له جواز هذه العبارة وصار راجحًا.

رابعا: حمل اصطلاح الشارع على اصطلاح حادِث بعدَه مع أنه لا رابط بينهما إلا الاشتراك اللفظي كما هو الحال في لفظ الولي.

خامسا: التمسّك بالأحاديث الضعيفة والموضوعة لإقامة قضية كلية وتأسيسها؛ مثل استدلال التجانيّين بفضل صلاة الفاتح وتمسّكهم ببعض الألفاظ المنقطعة في بعض صيغها وبالأحاديث الواردة في فضل بعض الأولياء في آخر الزمان، وحمل ذلك على شيخهم وعلى ما يأتي به من بدع وضلالات، وأن هذه البدع والتشريعات هي محض كرامة خصّه الله بها.

سادسا: التوسّع في مصطلح “التصوف” ليشمل كلّ فقيه أو محدِّث كان زاهدا أو أخذ طريقا من طرقهم ولم يتبنّ تلك البدع؛ مثل الإمام النووي وزرّوق والأخضريّ، ومحاولة جعل هؤلاء شركاء لابن عربي وابن الفارض والشيخ التجاني وإبراهيم أنيص وغيرهم من الضلّال، والعلة الجامعة بينهم هي التصوف مع اختلافهم في الحقيقة والجنس، ومع أن ما يقول الإمام النوويّ وزروق والأخضري فيه: “إنه كفر” يقول فيه ابن عربي وابن سبعين والتيجاني: “إنه محض المعرفة والحقيقة وعين المشاهدة”!

فهذه هي أهمّ طرقهم في الدفاع عن ضلالهم، وما عداها لا يسلّم لهم أيضًا، وهم إنما يذكرونه تبرّكا أو توسّعا في الاستدلال، وتعميةً على القارئ، ولم نحتج في ذكر هذه الأمثلة إلى الإحالة إلى المراجع؛ لأن هذا الأسلوب لا يخلو منه كتاب، ولا يسلم منه مستدلّ، ونظرة سريعة في جميع كتب التجانية التي ألّفوا في الدفاع عن ملّتهم تجد هذا المعنى فيها واضحًا.

ضوابط الاستدلال الشرعي:

ولكي تسلم -أيها السني- من الوقوع في شَرَك هذا التشقيق واتباع الهوى لا بدّ أن تعلم ما يتعين عليك في الاستدلال الشرعي لقبول مسألة أوردها:

الضابط الأول: أن يعلم أن أيّ مسألة ثبتت بأصلها ووصفها في الشرع فلا مزيّة فيها لأحد عن أحد، ولا تخصّ قومًا دون قوم؛ مثل الصلاة فريضةً كانت أو نافلةً، ومثل الذكر والإحسان في العبادة والمعاملة، فهذه أمور لا يزايد فيها أحد على أحد، وما كان من الأعمال فيها موافقًا لإذن الشرع فليس لأحد أن يدّعي أنه له أو يخصّه، وهي أمور لا ينافي بعضها بعضا، ولا يعارضه، وهذه المسائل بيان معانيها في الوحي وفي نصوصه أكثر من بيانها في كلام المتصوفة. وهذا الضابط هو الذي يتأتّى به معنى الدين والملة، فالدين ما شرعه الله سبحانه، والملة ما اعتقده الناس([1]).

الضابط الثاني: أنّ الخارق ليس علامة الكرامات، وجميع ما يتمسّكون به من الخوارق والكشوفات لا يصحّح حال المكلَّف المخالف للكتاب والسنة ظاهرا؛ لأن الحكم على أفعال المكلَّف هو خطاب الشرع، لا الخارق الصادر من جهته أو من جهة غيره، وبهذا تنفك الجهة في التمسك بالدليل الكوني في مقابل الدليل الشرعي، وقد أحسن القرطبي رحمه الله فكَّ هذا الارتبط وتوجيهه فقال: “قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: ومن أظهَرَ الله تعالى على يديه ممن ليس بنبيّ كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالّا على ولايته، خلافا لبعض ‌الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدلّ على أنه وليّ؛ إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منّا ولي لله تعالى لا يصحّ إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنًا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنًا لم يمكنّا أن نقطع على أنه وليّ لله تعالى؛ لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله”([2]).

فالدجّال يحيي الموتى ويقلب الأرض الخربة معمورةً وهو الدجال الكافر المدّعي للربوبية.

الضابط الثالث: الكشف والمكاشفة بالأمور الغيبية لا خصوصية فيها للأمة فضلا عن الأولياء، فليس كلّ من كوشف بشيء كان ذلك دليلا على صدقه في دعواه، ولا حتى صلاحه فيما كوشف فيه، فقد رأى الملِك في زمن يوسف رؤيا وكانت رؤياه حقّا وصدقًا وهو وقتها كافر. والمكاشفة تقع من المجنون الذي لا يصحّ منه أيّ فعل شرعي، ولم تخرجه المكاشفة عن حدّ الجنون، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى، ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه وليّ لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى أحد فمات أو صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدلّ بمجرد ذلك على كون الشخص وليّا لله، وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله، مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول: إن الأنبياء ضيّقوا الطريق، أو هم قدوة على العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدّعي الولاية؟! فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان، فضلا عن ولاية الله عز وجل، فمن احتجَّ بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولايتهم كان أضلَّ من اليهود والنصارى”([3]).

الضابط الرابع: الكلام في الشرائع لا يكون إلا باصطلاحها، والأصل في كلام المستدلّ أن يحرّر المعنى الشرعي المراد، لا أن يحرفه أو يميّعه، وهذا متمسّك قويّ لا ينبغي التنازل عنه، فالكلام في الكرامة والولاية ومقامات العبادات لا بدّ أن يعرض على اصطلاح الشارع؛ لأن المدح والذم إنما يتعلّقان به، ومن نظر في مفهوم الوليّ شرعا لن يجده مرتبطا بالكشف ولا بالكرامة، وإنما يجد معناه يدور على معنى النصرة والولاء والمحبة، وتحقّقه يكون بالإيمان والتقوى، قال الله سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَولِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]. و‌لفظ ‌الشارع إنما يحمل على الشرعيّ؛ لأنه المتبادر إلى الفهم، والتبادر دليل المراد([4]).

الضابط الخامس: لا بد من فحص الدعوى قبل قبولها؛ لأن الدعوى قد تقبل في باب دون باب، وقد تقبل من باب العذر لا من باب الصحّة والشريعة. وخذ مثالا قريبا على ذلك ما ورد في الحديث: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك؛ أخطأ من شدة الفرح»([5]). فعبارة (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) لو قالها شخص وكانت منه سبق لسان أو خطأ، كل ذلك إذا جعل في سياق الخطأ العارض فلا إشكال فيه، لكن أن يتخذ هذا الخطأ مقاما من مقامات العبودية وديدنًا لمجموعة من الناس لا يرون كمال حالهم إلا بهذا التخليط ثم يستدلون بهذا الحديث فهذا خطأ من ناحيتين:

الناحية الأولى: أنهم يريدون أن يستدلّوا بالخطإ العاري عن القصد على تصويب الفعل المتعمَّد، وهو خطأ لانفكاك الجهة وعدم اتحاد المناط.

الناحية الثانية: أن هذا الحمل ينافي مقصود الشارع من العبادة، فالمقصود من العبادة الإخلاص وحضور القلب، فإذا كانت القُربة سُكرا وجنونًا وقولا في حقّ الشارع بما لا يليق، فإلحاقها بالمسكرات والشهوات أولى من الطاعات والعبادات.

الضابط السادس: فضائل الأشخاص لا ترجّح أقوالهم، والمؤمن يجتمع فيه الصواب والخطأ والإثم والعدوان، فإذا ثبت علم شخص وفضلُه فإن ذلك لا يرجّح مذهبه، فكيف إذا خالف من هو أفضل منه؟! فالمزايدة بتبني بعض الأفاضل للتصوّف لا متمسَّك فيه، ولا دليل فيه، وبيان ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن هؤلاء الأفاضل إذا اختلفوا مع غيرهم لم يكن فضلهم مرجِّحا ولا حَكَمًا، وقد اختلف الصحابة مع أبي بكر وعمر، وكان الحَكَم بينهم هو الدليل، فحين أنكر عمر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مات حجَّه أبو بكر بالآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبتُمْ عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]([6]). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟! فقال: والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فوالله، ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق([7]).

ففي كل هذه الحالات كان الحَكَم هو الدليل، فلا أبو بكر ترك قوله لفضل عمر وكونه محدَّثا ملهَمًا، ولا عمر ترك قولَه لفضل أبي بكر وسابقته في الإسلام وجهاده في سبيل الله ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن بعض من يستدل به هؤلاء من أجل شرعيّتهم الصوفية ينكر عليهم ما يدَّعون أنه الحقّ، فالأخضريّ رحمه الله له منظومة في نقد كثير من مسالك القوم وضلالاتهم مع أنه كان متصوِّفا في الجملة، ومن ذلك قوله في نظمه:

مَنْ كَانَ فِي نيلِ الكَمَالِ رَاجِيًا *** وَعَنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ نَائِيًا

فــــــــإنّهُ مُلبَّسٌ مَفْتُونُ *** وَعَقْلُهُ مُخْتلٌّ مجنونُ

هَذَا مُحَالٌ لاَ يَصِحُّ أَبَدَا *** لِأَنَّ سَيِّدَ الوَرَى بابُ الهدَى

وَاعْلَمْ بِأَنّ الخَارِقَ الرَّبَّانِي *** لَتَابِعُ السُّنَةِ وَالقُرْآنِ

وَالفَرْقُ بيَنَ الإِفْكِ وَالصَّوَابِ *** يعرَفُ باِلسُّنَّةِ والكِتَابِ

وَالشَّرعُ مِيزَانُ الأُمُورِ كُلِّهَا *** وَشَاهِدٌ لِأَصْلِهَا وَفَرْعِهَا([8])

ويقول فيها أيضا:

والرقص والصراخ والتصفيق **** عمدًا بذكر الله لا يليق
وإنما المطلوب في الأذكار **** الذكر بالخشوع والوقار
فقد رأينا فرقةً إن ذكروا **** تَبَدَّعوا وربما قد كفروا
وصنعوا في الذكر صنعًا منكرًا **** صعبًا فجاهدهم جهادًا أكبرا
خلّوا من اسم الله حرف الهاء **** فألحدوا في أعظم الأسماء
لقد أتوا والله شيئًا إدّا **** تخرّ منه الشامخات هدّا
والألف المحذوف قبل الهاء **** قد أسقطوه وهو ذو إخفاء
وزعموا أن لهم أحوالا **** وأنهم قد بلغوا الكمالا
والقوم لا يدرون ما الأحوال **** فكونها لمثلهم محال
حاشا بساط القدس والكمال **** تطؤه حوافر الجهال
والجاهلون كالحمير الموكفه **** والعارفون سادة مشرفه
وقال بعض السادة المتبعه **** في رجز يهجو به المبتدعه
ويذكرون الله بالتغبير **** ويشطحون الشطح كالحمير
وينبحون النبح كالكلاب **** طرقهم ليست على صواب
وليس فيهم من فتى مطيع **** فلعنة الله على الجميع
قد ادَّعوا مراتبًا جليله **** والشرع قد تجنبوا سبيله
قد نبذوا شرعة الرسول **** والقوم قد حادوا عن السبيل([9])
وكلام العلماء في أعيان غلاة الصوفية -مثل الحلاج وابن عربي وابن سبعين وغيرهم- أكثر من أن يحصَى، وأوسع من أن يحصر، ولك أن تتصوَّر أن باحثا جمع أقوال ما يزيد على مائة عالم في تكفير ابن عربي وتضليله، وكثير منهم يفاخر بهم الصوفية كالعز بن عبد السلام وغيره([10]).

الضابط السابع: مشروعية المسألة في صورةٍ ما لا تعني مشروعيتَها مطلقا، مثاله الذكر، فالذكر إذا اختار الإنسان لنفسه منه شيئا سواء مما هو وارد أو ما ليس واردا لكنه سليم المعنى شرعا، فإنه لا لوم عليه، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على أذكار لم يعلّمها لهم، لكن هذه الصورة تنتقل إلى بدعة محضَة حين يزاد فيها باعتقاد فضل هذا الذكر على غيره من الأذكار المشروعة، وتخصيصه بوقت على سبيل الدوام، واعتقاد أن ذلك الوقت أفضل من سائر الأوقات، أو تشريعه للناس عامة، ففي هذه الحالة تقع المضاهاة للشريعة بشغل أوقات الناس بشيء لم يشرع ومزاحمته للمشروع([11])، فكيف إذا سلك في إثبات ذلك طريقة غير شرعية وادُّعِي أن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّ به شخصا بعد مماته بأن لقيه يقظة وسلَّمه وِردا فيه فضائل ليست في القرآن كما هو حال التجاني وأضرابه من أرباب البدع؟!

الضابط الثامن: البدع درجات كما أن المعاصي مراتب صغيرة وكبيرة، وينبغي ترتيبها والمناقشة في أشدّها مخالفة ثم الذي يليه، لا أن يأخذ في أخفّها كالتوسّل والتبرك ليشرع بها بدعًا أشدّ منها وأعظم، وقد نبه الإمام الشاطبي رحمه الله إلى هذا المعنى فقال: “فكذلك نقول في كبائر البدع: ما أخلّ منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة، وما لا فهو صغيرة. وقد تقدّمت لذلك أمثلة أول الباب. فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار -حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب- كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلّص عنه في إثبات الصغائر فيها. وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلًا وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوافيه، أو ما يرجع إلى ذلك، وليس ذلك بمختصّ بالعبادات دون العادات، وإن قلنا بدخولها في العادات، بل تمنع في الجميع. وإذا كانت بكلّيتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد أثبت الحديث الصحيح: «إن كل بدعة ضلالة»، وقال في الفِرق: «كلها في النار إلا واحدة» وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل.

وهذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين، فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال، فكل منها كبيرة. فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة”([12]).

فترتيب المسائل ومعرفة أحكامها مهمّ؛ حتى لا تمرَّر على المستمع مغالطات علمية، فمن ذلك أن الإقرار بأن البدعة صغيرة لا بد فيه من عدم المداومة عليها، وعدم إظهارها في مجمع من الناس والإصرار عليها، وأن لا يدعو إليها. ومما يشهد لهذا المعنى ما روى ابن وضاح قال: ثوّب المؤذن بالمدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه؛ قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. فكفَّ المؤذّن عن ذلك وأقام زمانا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له: ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له: ألم أنهك أن لا تحدِث عندنا ما لم يكن؟! فقال: إنما نهيتني عن التثويب، فقال له: لا تفعل. فكف زمانا، ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه.

قال ابن وضاح: وكان مالك يكره التثويب. قال: وإنما أحدث هذا بالعراق. قيل لابن وضاح: فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار؟ فقال: ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين.

قال الشاطبي: “فتأمَّل كيف منع مالك من إحداث أمر يخفّ شأنه عند الناظر فيه ببادئ الرأي، وجعله أمرا محدثا، وقد قال في التثويب: إنه ضلال، وهو بين؛ لأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب؛ لأن ذلك جدير بأن يتَّخذ سنة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثا أحدثه”([13]).

فمعرفة مآخذ الأدلّة مهمّة، ومعرفة مراتبها كذلك، والتمسك بالمحكمات من الشرع وردّ المتشابهات إليها أمور كلّها معينة في معرفة مكامن الخلل في استدلالات المبتدعة، فلا يخلط بين فضل المسألة المشروع وبين البدعة الممنوعة المضاهية لها، والخلط بين ما ثبت أصله ولم يثبت وصفه مثل كثير من الأذكار والهيئات المخالفة للشرع، وبين الحكم العيني العارض، وبين الذي لا يقاس عليه، وبين الحكم الراتب المستقرّ، ومن أظهر التهافت فيه أنك تجد تزهيدهم في السنة مقابل تعظيم البدعة، فإنك تجد المبتدع يورد آلافَ الشبه لبيان أن الصلاة الإبراهيمية ليست صيغة حصرية للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليستدل بذلك على اعتقاده في صلاة ابتدَعها وشرع لها هيئة مخصوصة وأجرا مخصوصا، وهو في هذا كله يتناسى عشرات الأدلة الشرعية التي تدين فعله وتنقضه، والتي منها أن المقرر عند جميع المسلمين أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والذاكر العارف المبتغي لعبادة الله على أكمل وجه يطلب إصابة السنة لا العدول عنها مع العلم بها.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

[1])) انظر: تفسير الماوردي (2/ 239)، الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 260).

[2])) تفسير القرطبي (1/ 298).

[3])) الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان (ص: 49).

[4])) ينظر: شرح مختصر أصول الفقه (2/ 59).

[5])) رواه مسلم (2747).

[6])) رواه البخاري (3668).

[7])) رواه البخاري (1335).

[8])) من منظومته الموسومة: القدسية في الرد على أدعياء التصوف، بواسطة مجلة جسور المعرفة، المجلد (7)، العدد (2)، الصفحة (205).

[9])) المرجع السابق.

[10])) ينظر: ابن عربي عقيدته وموقف علماء المسلمين، الباب الثاني، الفصل الأول: أقوال العلماء في ابن عربي (ص: 170).

[11])) ينظر: الاعتصام للشاطبي (2/ 506).

[12])) الاعتصام (2/ 540).

[13])) المرجع السابق (2/ 556).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017