الاحتفال بالكريسماس.. مناقشة فتوى دار الإفتاء المصرية في الاحتفال والتهنئة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وسلم وبعد:
فقد سئلت دار الإفتاء المصرية سؤالا، عن حكم الاحتفال برأس السنة الميلادية، وعن حكم تهنئة المسيحين فيه؟
فأجابت بما يلي :”الاحتفال برأس السنة الميلادية المؤرخ بيوم ميلاد سيدنا المسيح عيسى ابن مريم على نبينا وعليه السلام، بما يتضمنه من مظاهر الاحتفال والتهنئة به: جائز شرعًا، ولا حرمة فيه؛ لاشتماله على مقاصد اجتماعية ودينية ووطنية معتدٍّ بها شرعًا وعرفًا؛ من تذكر نعم الله تعالى في تداول الأزمنة وتجدد الأعوام، وقد أقرت الشريعة الناس على أعيادهم لحاجتهم إلى الترويح عن نفوسهم، ونص العلماء على مشروعية استغلال هذه المواسم في فعل الخير وصلة الرحم والمنافع الاقتصادية والمشاركة المجتمعية، وأن صورة المشابهة لا تضر إذا تعلق بها صالح العباد، ما لم يلزم من ذلك الإقرار على عقائد مخالفة للإسلام، فضلًا عن موافقة ذلك للمولد المعجز لسيدنا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، الذي خلّده القرآن الكريم وأمر بالتذكير به على جهة العموم بوصفه من أيام الله، وعلى جهة الخصوص بوصفه يوم سلام على البشرية، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أَوْلَى الناس بسيدنا المسيح صاحب هذا المولد المبارك، مع ما في ذلك من تعظيم المشترك بين أهل الأديان السماوية، فضلًا عن عقد المواطنة الذي تتساوى فيه الحقوق والواجبات، وكلما ازدادت الروابط الإنسانية تأكدت الحقوق الشرعية؛ فالمسلمون مأمورون أن يتعايشوا بحسن الخلق وطيب المعشر وسلامة القصد مع إخوانهم في الدين والوطن والقرابة والجوار والإنسانية ليُشعِروا مَن حولهم بالسلام والأمان، وأن يشاركوا مواطنيهم في أفراحهم ويهنئوهم في احتفالاتهم، ما دام أن ذلك لا يُلزِمهم بطقوسٍ دينيةٍ أو ممارسات عبادية تخالف عقائد الإسلام”.[1]
ويؤسفني أن أقول أن هذا الفتوى، تضمنت قدرًا كبيرًا من الكذب والتحريف، ولبس الحق بالباطل وكتمان الحق وهم يعلمون.
وليس هذا كلامًا عاطفيا خطابيًا، بل سيتبين للقارئ المنصف حقيقة ذلك كله إن شاء الله تعالى، في هذا الرد المختصر، الذي نحرص فيه على أن يكون بعلم وعدل سائلين الله تعالى المعونة والتأييد.
وجعلته في نقاط مرتبة، حتى تتضح الأفكار في ذهن القارئ .
أولا: قولهم أن هذا العيد، هو عيد ميلاد السيد المسيح –عليه السلام- هو من الكذب المعروف لكل باحث من المسلمين وغير المسلمين.
فمن المعروف أن هذا العيد المسمى بـالكريسماس، هو من الأعياد الوثنية الرومانية، وأنه تم إدماجه في المسيحية، بعد دخول قسطنطين في المسيحية، ومن ثم دخول كثير من الشعب الروماني في المسيحية، بعد فترة طويلة من الاضطهاد والقمع.
ومن السنن السيئة التي اعتادتها الكنيسة ورجالها، هي إدماج المظاهر الوثنية للأمم المنتقلة من الوثنية إلى المسيحية؛ بحجة ترغيبهم في الدين الجديد، على عكس سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- في محو الجاهلية وآثارها، واستبدال الحسن بالقبيح منها، حتى وقف النبي-صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع قائلا: “ألا إنَّ كلَّ شيٍء من أمرِ الجاهليةِ تحتَ قدمي موضوعٌ”[2]. لكن الكنيسة اعتادت على خلط الجاهلية بالإسلام، وصبغ المظاهر الوثنية، بصبغة مسيحية لا تغير من مضمونها شيئا.
ومن ذلك ما يسمى بالكريسماس، فهو عيد روماني وثني، يحتفل فيه الرومان الوثنيون يوم 25 ديسمبر عيد (الشمس التي لا تقهر) وكان هذا الاحتفال بالنقلاب الشتوي، مهرجانا شعبيًا لدى كثير من الأمم الوثنية التي دخلتها المسيحية بعد ذلك.
فبحسب موقع (هيستوري) العالمي، تحت مقال بعنوان (كيف بدأ عيد الميلاد؟) جاء فيه:”لطالما كان منتصف الشتاء وقتا للاحتفال في جميع أنحاء العالم، قبل مجئ يسوع بقرون، احتفل الأوربيون الأوائل بالنور والولادة في أحلك أيام الشتاء. ابتهج العديد من الناس خلال الانقلاب الشتوي .
فمثلا : في ألمانيا احتفل الألمان بإلاههم (أودين)، واحتفل الرومان بساتورناليا، تكريمًا لساتورن، إله الزراعة في معتقدهم، بينما احتفل أفراد الطبقة العليا بعيد ميلاد ميثرا، إله الشمس التي لا تقهر، وكان يعتقد أن ميثرا هو الإله الرضيع، وُلد من صخرة، وكان هذا اليوم 25 ديسمبر الذي يحتفلون فيه بميثرا، هو أقدس يوم في السنة”.
ويؤكد ذلك أيضا، صاحب كتيب (الحقيقة المجردة عن عيد الميلاد)[3] هربرت آرمسترونج، والذي أكد فيه على حقيقة أن هذا العيد عيد وثني، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالمسيح عليه السلام، وأنه بدعة مسيحية اقتبسها المسيحيون من الرومان الوثنيين، واقتبسها الرومان من الفراعنة المصريين.
وينقل صاحب الكتاب عن دائرة المعارف الكاثوليكية عن هذا الاحتفال :”لم يكن عيد الميلاد واحداً من الأعياد الأولى للكنيسة الكاثوليكية ، وأول دليل على هذا الاحتفال إنما جاء من مصر .. فقد تحولت العادات الوثنية الخاصة ببداية شهر يناير في التقويم الروماني القديم ، تحولت إلى عيد الميلاد ، ويعترف أول الآباء الكاثوليك بالحقيقة التالية : لم يسجل الكتاب المقدس أن أحداً كان يحتفل أو أقام مأدبة كبيرة بمناسبة يوم ميلاده ، إن الآثمين والخطائين -مثل فرعون وهيرود-هم وحدهم الذين يجعلون من يوم مجيئهم إلى هذا العالم مناسبة للابتهاج العظيم”.
وينقل عن دائرة المعارف البريطانية :”ولم يوجد-أي عيد الميلاد-لا المسيح ولا الحواريون ولا نص من الكتاب المقدس بل أخذ-فيما بعد-عن الوثنية”.
وينقل صاحب الكتاب عن دائرة المعارف الأمريكية قولها :”وفي القرن الرابع الميلادي بدأ الاحتفال لتخليد ذكرى هذا الحدث أي ميلاد المسيح ، وفي القرن الخامس أمرت الكنيسة الغربية بأن يحتفل به إلى الأبد في يوم الاحتفال الروماني القديم بميلاد (سول) ، نظراً لعدم معرفة ميلاد المسيح معرفة مؤكدة”.
وبحسب موقع هيستوري أيضا، فإن هذا الاحتفال والعيد، لم يكن موجودًا في القرون الأولى في المسيحية، وإنما بدأت الكنيسة الاحتفال به في القرن الرابع الميلادي، حيث اختار البابا يوليوس الأول 25 ديسمبر، للاحتفال بميلاد المسيح.
وهذا ما يذكره أيضا موقع (الأنبا تكلا) والذي يقول في مقالة له عن عيد الميلاد وسبب الاختلاف في تحديد تاريخه:” ولقد تحدد عيد ميلاد المسيح يوم 29 كيهك الموافق 25 ديسمبر وذلك في مجمع نيقية عام 325 م”
وهذا أيضا ما يؤكده موقع (بي بي سي) البريطاني، في تقرير له بعنوان(عيد ميلاد المسيح ولماذا يحتفل به في تواريخ مختلفة) جاء فيه:”الأكيد أن التاريخ الدقيق لميلاد يسوع الناصري كما يرد ذكره في الأناجيل، أو النبي عيسى كما يرد ذكره في القرآن، غير معروف، ولا يمكن تأكيده. والحقيقة أن تاريخ العيد المحتفل به اتفق عليه على مرّ السنين لأسباب يعيدها بعض المؤرخين إلى التلاقح بين طقوس الجماعات المسيحية الأولى، والعادات الوثنية التي كانت سائدة في مناطق واسعة من الإمبراطورية الرومانية. وكما هو معروف، لا يرد ذكر تاريخ ميلاد المسيح في أي من الأناجيل الأربعة القانونية المعتمدة من قبل الكنائس اليوم”.
ومما يؤكد هذا، أنه لما ظهرت موجات ما سمي بالإصلاح الديني في القرن السادس والسابع عشر الميلادي، والتي دعت لإلغاء كثير من البدع والتحريفات التي أحدثها القساوسة في المسيحية، ومن ضمنها الاحتفال بالكريسماس، باعتباره بدعة لا حقيقة لها في الكتاب المقدس ولا في القرون الأولى للمسيحية.
في أعقاب انشقاق إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، سعى بعض المسيحيين البروتستانت لإزالة العناصر ذات الأصول الوثنية في زينة عيد الميلاد، وقام البرلمان الإنجليزي بحظر الاحتفال بعيد الميلاد معتبرًا أنه “مهرجان كاثوليكي دون مبرر من الكتاب المقدس” واعتبره أيضًا “هدر للوقت وإسراف في الأموال وتخلله ممارسات غير أخلاقية”، وكذلك كان الحال في بعض مستعمرات إنجلترا في أمريكا الشمالية، حين حظر الاحتفال عام 1659م[4].
وكذلك مظاهر الاحتفال بهذا العيد، تعود لجذور وثنية، فعادة تزيين شجرة عيد الميلاد، هي عادة مرتبطة بالعبادات الوثنية في إكرام وعبادة الشجرة، وكانت منتشرة على وجه الخصوص في ألمانيا؛ ولذلك لم تحبذ الكنيسة في القرون الوسطى الباكرة عادة تزيين الشجرة، وأول ذكر لها في المسيحية يعود لعهد البابا القديس بونيفاس (634 – 709) االميلادي ، لذي أرسل بعثة تبشيرية لألمانيا، ومع اعتناق سكان المنطقة للمسيحية، لم تلغ عادة وضع الشجرة في عيد الميلاد، بل حولت رموزها إلى رموز مسيحية، وألغيت منها بعض العادات كوضع فأس وأضيف إليها وضع النجمة رمزًا إلى نجمة بيت لحم.[5]
والشواهد على الجذور الوثنية لهذا العيد ومظاهره المختلفة، كثيرة جدًا، وهذا الأمر- كما سبق- يقره المؤرخون النصارى قبل غيرهم.
وهذا أيضا ما ذكره عدد من علماء المسلمين قديما، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- حيث ذكر أن النصارى ابتدعوا أعيادًا لا دليل عليها في كتبهم، ومن ذلك عيد الميلاد[6].
ومما يؤكد ذلك أيضا، الاختلاف بين الطوائف المسيحية، في تحديد تاريخ هذا العيد، حيث يحتفل به مسيحيو الشرق في 7 يناير، بينما يحتفل به مسيحيو الغرب في 25 ديسمبر.
والحقيقة أنه لم يرد ذكر لتاريخ ولادة المسيح في الأناجيل، ولا اهتم المسيحيون الأوائل بضبط هذا اليوم، كما لم يهتم الصحابة-رضي الله عنهم- بضبط ميلاد النبي-صلى الله عليه وسلم- فإن هذه المسألة لا يترتب عليها عمل ، ولا يتعلق بها شرع ولا عبادة ولا عمل صالح، بل إن الأعياد في الإسلام، ترتبط بالعبادات الكبرى وشعائر الإسلام، وليست بميلاد شخص أو وفاته، بل هذه عادات الأمم الوثنية.
وعليه، فلا حاجة للخوض، في مبحث تاريخ ولادة المسيح عليه السلام، أو الجزم بأنه ولد في الصيف بدلالة قوله تعالى﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] وأن الرطب لا يخرج في الشتاء، وإنما في الصيف، كما يقوله بعض الباحثين؛ إذ قد يكون ذلك كرامة من الله تعالى لمريم عليها السلام، وقد ورد في تفسير قوله تعالى﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37] قال ابن عباس :”وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه”[7]. وقال مجاهد:”فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف”[8]. فليس ذلك بممتنع أن يجعل الله تعالى لها الجذع اليابس مثمرًا بالرطب الجني، كرامة لها من الله تعالى. فليس عندنا في القرآن ما نجزم به نفيًا أو إثباتًا لتاريخ ولادة المسيح –عليه السلام- وهو مما لا يترتب عليه عمل كما ذكرنا.
وأما المصادر المسيحية، فإنها مختلفة في ذلك، وقد استدل بعضهم على عدم صحة ولادة المسيح في الشتاء، بما جاء في ورد في إنجيل (لوقا) حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام :” وكان في تلك الكورة رعاة متبدين ، يحرسون حراسات الليل على رعيتهم ، وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب حولهم ، فخافوا خوفاً عظيماً ، فقال لهم الملاك : ” لاتخافوا ، فها أنا أبشركم بفرح عظيم ، يكون لجميع الشعب ، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح “[9]. وكون الرعاة يرعون غنمهم، لا يمكن أن يكون ذلك في الشتاء في مثل هذه البلدة (بيت لحم) لشدة البرد فيها ليلا، حيث تغطيها الثلوج، وإنما يكون ذلك في الصيف أو الربيع.
جاء في دائرة المعارف البريطانية :”لم يقنع أحد مطلقاً بتعين يوم أو سنة لميلاد المسيح – ولكن صمم آباء الكنيسة في عام 340 بعد الميلاد على تحديد تاريخ للاحتفال بالعيد – اختاروا بحكمة يوم الانقلاب الشمسي في الشتاء ، الذي استقر في أذهان الناس ، وكان أعظم أعيادهم أهمية ، ونظراً إلى التغيرات التي حدثت في التقاويم : تغير وقت الانقلاب الشمسي ، وتاريخ عيد الميلاد بأيام قليلة”[10].
فثبت بكل هذا، أن هذا العيد، لا علاقة له بحال بولادة المسيح عليه السلام، وأنه عيد وثني في أصله. وليس كما تقول دار الإفتاء في فتواها العجيبة.
ثانيا: أن قولهم بجواز الاحتفال بهذا العيد والتهنئة به، قول باطل، وكذب على الله وعلى الشرع وعلى علماء المسلمين.
وهو قول محدث باطل مخالف لإجماع المسلمين، ولم يقل به عالم قط على مر التاريخ.
وغاية ما قاله بعض المعاصرين، كالشيخ مصطفى الزرقا –غفر الله له- هو القول بجواز التهنئة للمسيحين، وكان بعض المتلاعبين بالأحكام، والمحرفين للكلم عن موضعه، يقولون أن التحريم لشهود أعياد الكفار، وهو بخلاف التهنئة، ثم خرجت هذه الفتوى لكي تبيح كل صور الاحتفال، بالمشاركة فيها، والتزين بزينتها، والحضور مع أصحابها في كنائسهم، وتهنئتهم بها!
ومن يتأمل هذا التطور والانحراف في الفتوى، يدرك خطر الانحراف عن السنة، وأنه يبدأ صغيرًا ثم يكبر ويزداد مع مرور الزمن. نسأل الله تعالى العفو والعافية.
الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف وإجماع الأئمة على حرمة الاحتفال أو التهنئة بأعياد الكفار:
1-قال الله تعالى﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]
فسرها ابن عباس والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس والمثنى بن الصباح و بأنها: أعياد المشركين، وقال ابن سيرين :هو الشعانين[11].
وهذا دليل على حرمة مجرد شهود أعياد النصارى ولو لم يشارك فيها بفعله، فما بالك بالاحتفال بمثل احتفالهم؟!
2- وقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]
قال الذهبي-رحمه الله-:”ومن موالاتهم، التشبه بهم، وإظهار أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم، فقد أعانهم على إظهارها، وهذا منكر وبدعة في دين الإسلام، ولا يفعل ذلك إلا قليل الدين والإيمان”[12].
3- وكل الآيات التي تنهى عن موالاة الكفار وتابعتهم، وطاعتهم والركون إليهم، تدل على حرمة مشابهتهم في أعيادهم، والاحتفال بها أو تهنئتهم بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في بيان حرمة التشبه بالمشركين في أعيادهم، وطرق الاستدلال على ذلك:”فمن انعطف على ما تقدم من الدلائل العامة: نصا وإجماعا وقياسا، تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم، التي هي دينهم، أو شعار دينهم الباطل، وأن هذا محرم كله”[13].
ومن الأحاديث :
1-ما جاء عن ثابت بن الضحاك-رضي الله عنه – قال :«نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ بِبُوَانَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ “، قَالُوا: لَا، قَالَ: “فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟” ، قَالُوا: لَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”أَوْفِ بِنَذْرِكَ ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ»[14].
فهذا بيّن أنه لا يجوز حضور أعيادهم، ولو كان غرضه غير غرضهم، وأنه لو كان فيها عيد من أعيادهم، لنهاه عن الوفاء بهذا النذر.
2- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، فَهُوَ مِنْهُمْ»[15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:” وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة .
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها كان حكمه كذلك”[16].
3- وعن عائشة –رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:«إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا»[17].
قال الذهبي –رحمه الله-:” فهذا القول منه عليه الصلاة والسلام يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]
فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد كانوا مختصين به، فلا يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا في قبلتهم”[18].
4- وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه-قال:
« قدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهُم يومانِ يَلعبونَ فيهِما فقالَ: ما هذانِ اليومانِ ؟قالوا: كنَّا نَلعبُ فيهِما في الجاهليَّةِ فقالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: قد أبدلَكُمُ اللَّهُ بِهما خيرًا منْهُما: يومَ الأضحى ويومَ الفِطرِ »[19].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:” فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة.
وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لكانوا قد بقوا على العادة؛ إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها، لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوفة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا، وكل ما منع منه الرسول منعًا قويًا كان محرمًا؛ إذ لا يُعْني بالمحرم إلا هذا”[20].
وأما آثار الصحابة والإجماع:
1-فقد سبق ذكر أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّور} وأنهم فسروه بأعياد المشركين.
2- وعن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- قال:«مَنْ بَنَى بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ وَصَنَعَ نَيْرُوزَهُمْ وَمِهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[21].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:”وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية؛ لأنه لو لم يكن مؤثرا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزءا من المقتضى، إذ المباح لا يعاقب عليه”[22].
3- وعن محمد بن سيرين قال« أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِهَدِيَّةِ النَّيْرُوزِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا يَوْمُ النَّيْرُوزِ ، قَالَ: فَاصْنَعُوا كُلَّ يَوْمٍ فَيْرُوزَ. قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: كَرِهَ أَنْ يَقُولَ نَيْرُوزَ. قَالَ البيهقي: وَفِي هَذَا كَالْكَرَاهَةِ لِتَخْصِيصِ يَوْمٍ بِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّرْعُ مَخْصُوصًا بِهِ»[23].
والعجيب أن صاحب الفتوى، استدل بهذا-في الفتوى المفصلة- على أن عليًا رضي الله عنه، أقر ذلك الاحتفال، وطالبهم أن يصنعوه له دومًا على سبيل الإقرار والاستحسان ! وكأنه لم يطلع على كلام البيهقي بعده، بل غالبا اطلع عليه، ولكنه التلبيس على الخلق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
4- ومن ذلك : اشتراط عمر –رضي الله عنه- على أهل الذمة، عدم إظهارهم عيدهم[24]، واتفق المسلمون على ذلك، فكيف يسوغ لمسلم أن يستعلن بمظاهر عيدهم، ويعلن ذلك؟! .
وأما كلام الفقهاء في ذلك فكثير جدًا، وهذه بعضها:
قال الزيلعي الحنفي:
“(والإعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز): أي الهدايا باسم هذين اليومين حرام بل كفر، وقال أبو حفص الكبير – رحمه الله – لو أن رجلا عبد الله خمسين سنة ثم جاء يوم النيروز، وأهدى لبعض المشركين بيضة يريد به تعظيم ذلك اليوم فقد كفر، وحبط عمله، وقال صاحب الجامع الأصغر إذا أهدى يوم النيروز إلى مسلم آخر، ولم يرد به التعظيم لذلك اليوم، ولكن ما اعتاده بعض الناس لا يكفر، ولكن ينبغي له أن لا يفعل ذلك في ذلك اليوم خاصة، ويفعله قبله أو بعده كي لا يكون تشبها بأولئك القوم، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «من تشبه بقوم فهو منهم»، وقال في الجامع الأصغر رجل اشترى يوم النيروز شيئا لم يكن يشتريه قبل ذلك إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظمه المشركون كفر، وإن أراد الأكل والشرب والتنعم لا يكفر”[25].
وسئل أبو الوليد ابن رشد المالكي:” هل يحل عمل شيء من هذه الملاعب التي تصنع في النيروز من الزفافات والكمادين، وما يشبهها وهل ثمنها حلال لصانعها أم لا؟
فأجاب على ذلك بأن قال: لا يحل عمل شيء من هذه الصور، ولا يجوز بيعها، ولا التجارة بها، والواجب أن يمنعوا من ذلك”[26].
وقال ابن الحاج المالكي:” فهذا بعض الكلام على المواسم التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه وبقي الكلام على المواسم التي اعتادها أكثرهم، وهم يعلمون أنها مواسم مختصة بأهل الكتاب، فتشبَّهَ بعضُ أهل الوقت بهم فيها وشاركوهم في تعظيمها، يا ليت ذلك لو كان في العامة خصوصا! ولكنك ترى بعض من ينتسب إلى العلم، يفعل ذلك في بيته، ويعينهم عليه، ويعجبه منهم، ويدخل السرور على من عنده في البيت من كبير وصغير، بتوسعة النفقة والكسوة على زعمه !
بل زاد بعضهم أنهم يهادون بعض أهل الكتاب في مواسمهم، ويرسلون إليهم ما يحتاجونه لمواسمهم فيستعينون بذلك على زيادة كفرهم ويرسل بعضهم الخرفان وبعضهم البطيخ الأخضر وبعضهم البلح وغير ذلك مما يكون في وقتهم وقد يجمع ذلك أكثرهم، وهذا كله مخالف للشرع الشريف.
ومن العتبية قال أشهب قيل لمالك أترى بأسا أن يهدي الرجل لجاره النصراني مكافأة له على هدية أهداها إليه قال ما يعجبني ذلك قال الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة: 1]”[27].
فانظر كيف تحسر ابن الحاج على حال من ينتسبون إلى العلم في زمنه، وهم يتساهلون في هذا الأمر ! ثم انظر كيف جعل هذا المفتي-مع كونه منتسبا للمذهب المالكي!- هذه المفسدة العظيمة مصلحةً يستبيح بها المحرم!!
ولو ذهبنا ننقل كلام العلماء في ذلك لطال جدًا، ويكفي في ذلك نقل الإجماع، وهو حجة قطعية.
و ممن نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في كتابه العظيم (اقتضاء الصراط المستقيم) والذي ساق فيع عشرات الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأجماع الأئمة والقياس والاعتبار على حرمة الاحتفال أو مشاركة المشركين في أعيادهم.
وقال ابن القيم –رحمه الله-:”وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم ، فيقول: عيد مبارك عليك ، أو تهْنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله ، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه ، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ، ولا يدري قبح ما فعل ، فمن هنّأ عبداً بمعصية أو بدعة ، أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه”[28].
وممن نقله كذلك، الذهبي في رسالته المشهورة (تشبه الخسيس بأهل الخميس) وهي رسالة لطيفة مهمة في بابها.
ثالثا: ومن الكذب البين، قولهم : إن الشريعة أقرت الناس على أعيادهم !
فإن هذا كذب مفضوح، فإن الحديث واضح في نهي الناس عما كانوا عليه في الجاهلية، من اللعب في يومي عيديهما، فكيف يدعي ذلك؟!
رابعا: من الكذب البين قولهم : ونص العلماء على مشروعية استغلال هذه المواسم في فعل الخير.
فأين نصوص هذه العلماء؟! بل نصوص العلماء على العكس من ذلك تماما، كما سبق.
قال الزيلعي الحنفي:”ويكره صوم يوم النيروز والمهرجان لأن فيه تعظيم أيام نهينا عن تعظيمها فإن وافق يوما كان يصومه فلا بأس”[29].
ونصوصهم في عدم قبول الهدية من الكافر في هذا اليوم، وعدم إعانته على ذلك ببيع أو شراء مشهورة معلومة، خاصة عند فقهاء المالكية، الذين ينتسب إليهم المفتي صاحب الفتوى الباطلة.
قال في المدخل لابن الحاج المالكي:” ومن مختصر الواضحة سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي يركب فيها النصارى لأعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم لكفرهم الذي اجتمعوا له. قال وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له. ورآه من تعظيم عيده وعونا له على مصلحة كفره. ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعانون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره لم أعلم أحدا اختلف في ذلك”[30].
خامسا:ومن التلبيس قولهم : إن التشبه لا مضرة فيه إذا كانت فيه مصالح للعباد.
فإن التشبه بالكفار، محرم كما سبقت النصوص من الكتاب والسنة، وأما الانتفاع بما عند الكفار من الأمور المشتركة، كالعلوم الدنيوية أو الصناعات المختلفة، فليس هذا أصلا من التشبه المنهي عنه، ولا يدخل فيه. وليس هذا من خصائص الأمم، بل هذا من المشترك بين الناس. فأين هذا من التشبه بهم في الأعياد التي هي من أخص خصائص الأمم؟!
ثم العجيب أنه يجعل موالاة الكفار، وهدم الولاء والبراء، الذي هو أعظم المفاسد، جعله مصلحة شرعية معتبرة يستبيح بها المحرمات!! وهذا من أعظم التحريف والكذب والتلبيس !
ويجعل الإسراف الذي يقع في هذه الأعياد، والنفقة في ما لا ينفع، جعلها من المصالح الاقتصادية!
ومولاة الكفار والتودد لهم، وموافقتهم على باطلهم، سماه مصالج اجتماعية !
وهذا كله من تسمية الأشياء بغير أسمائها، وتحريف الكلم عن مواضعه.
سادسا: وأما الاستدلال بكونه احتفالا بميلاد عيسى عليه السلام، قياسا على الاحتفال بالمولد النبوي، فهو بناء على أصل فاسد؛ لثلاثة أسباب:
الأول: أن الأصل الذي بني عليه فاسد؛ فإن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محدثة بإجماع السلف الصالح الذين تركوه ولم يفعلوه مع وجود المقتضي وانتفاء المانع.
الثاني: أن هذا اليوم لم يثبت أنه يوم مولد المسيح عليه السلام.
الثالث: أن النصارى لا يحتفلون، بمولد المسيح نبي الله عز وجل، وإنما يحتفلون فيه، بمولد يسوع الرب، وقيامته ومولده- نعوذ بالله من ذلك-.
ولذلك صار كثير من النصارى، يسخر من هؤلاء المداهنين لهم، والذين يريدون ترويج عيد الميلاد بأنه احتفال بمولد نبي، فيقولون لهم: نحن لا نحتفل بمولد نبي، وإنما بمولد الإله المتجسد، فإما أن تهنئونا بذلك، أو تتركوا ذلك بالكلية!
سابعا: استدلالهم بالبر والإقساط المأمور به، مع غير المسلمين المسالمين، هو من التلبيس أيضا؛ فإن هذا البر والمسامحة، مجالها المعاملة، وليست العقيدة وأمور الدين، فهذا لا تسامح فيها. فالمجاملة على حساب الدين من المداهنة المنهيِّ عنها، بخلاف البرّ والإقساط الذي أمِرنا بمعاملة أهل الذمة به، والفرق بينَهما كما قال القرافي:” أن نبرَّهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدلُّ على مودّات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذين امتنع وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها”[31].
وقد أجازت الشريعة من صور المعاملات بين المسلم والكافر، ما يحقق التعايش السلمي، كالبيع والشراء والإهداء والإجارة، والزواج بالكتابية المحصنة، والانتفاع بما عندهم، وتهنئتهم بغير المحرمات، وتعزيتهم وعيادة مرضاهم، وغير ذلك من صور العدل الذي عرف به المسلمون، وطبقوه في واقعهم قرونًا طويلة، دون التنازل عن دينهم، أو المداهنة في الدين.
والعجيب أن المفتي نفسه صاحب هذه الفتوى، له مقطع منشور على موقع اليوتيوب، قبل توليه الإفتاء، وهو يقول فيه نفس هذا الكلام، ويفرق فيه بين تهنئة الكفار بالأمور الدنيوية المباحة، فتجوز، والتنهئة بالأمور الدينية فلا تجوز.نعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى.
ثامنا: ومن أقبح ما جاء في الفتوى، قولهم : بأن عقد المواطنة يقتضي المساواة في الحقوق والواجبات، وجعل ذلك من أدلة جواز الاحتفال بأعياد الكفار، فإن هذا تضمن أنواعًا من الضلالات:
أولها : أن عقد المواطنة هذا، لا تعارض به الشريعة، بل يعرض على الشريعة، فما أقره عمل به وإلا كان باطلا مردودًا. وهل صار عقد المواطنة ناسخًا لأحكام الشريعة، إلا عند العلمانيين الملاحدة، الذين يرون أن الشريعة لم تعد صالحة، وأن الواجب استبدالها وتغييرها بالدولة العلمانية المبنية على المواطنة؟!
ثانيها: أن قولهم بالمساواة بين المسلمين وغيرهم في الحقوق والواجبات، قول لا يقوله عالم مسلم قط، بل هو كلام العلمانيين وأشباههم، والأحكام التي فرق فيها بين المسلمين والكفار، معلومة مشهورة، لا يتسع المقام لبسطها.
ثالثها: ومع ذلك، فإن عقد المواطنة وفقًا للمفهوم العلماني، لا يقتضي الاحتفال بأعياد غير المسلمين، ولا علاقة له بذلك قط، وإلا فهل المواطنة معناها أن يجبر المسلمون على تغيير دينهم إرضاء لغير المسلمين؟! وإذا كانت الطوائف المختلفة تعيش في الدول العلمانية في الغرب، دون أن تلتزم بذلك، فكيف يجبر المسلمون على ذلك ويتهم من يرفض ذلك بالتشدد والتطرف كما صرح شيخ الأزهر للأسف الشديد؟!
بل إذا كانت الطوائف المسيحية، لا يهنئ بعضهم بعضا بالعيد، لأنهم يكفرون بعضهم، فكيف يتهم من يرفض ذلك من المسلمين بالتشدد والتطرف؟!
تاسعا: حاول المفتي، في تفصيل الفتوى أن يستكثر بأقوال بعض الفقهاء، الذين أباحوا التهنئة بالشهور والسنين.
ومما قاله “قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في “أسنى المطالب” (1/ 283، ط. دار الكتاب الإسلامي): [قال القمولي: لم أر لأحد من أصحابنا كلامًا في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس، لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ المقدسي أنه أجاب عن ذلك: بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه: أنه مباح لا سنة فيه ولا بدعة. انتهى] اهـ.وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في “تحفة المحتاج” (3/ 56، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وتسن التهنئة بالعيد ونحوه من العام والشهر على المعتمد، مع المصافحة] اهـ.
فجعل كلام هؤلاء الفقهاء في التهنئة بعيد المسلمين، وتهنئتهم بعضهم بعضا بالعيد والسنين، كما يقول المسلمون لبعضهم : كل عام وأنت طيب، عند دخول الشهر ونحو ذلك، جعل هذا في تهنئة الكفار بأعيادهم، والاحتفال بأعياد الكفار، فهل هناك تلبيس وكذب كهذا؟!
ومن طالع كلام الشافعية في حكم الاحتفال بأعياد الكفار، تبين له الكذب والتلبيس في هذه الكلام.
وأكتفي بنقل واحد عن ابن حجر الهيتمي الذي نقل كلامه محتجًا به قال رحمه الله:”ومن أقبح البدع موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم بالتشبه بأكلهم والهدية لهم وقبول هديتهم فيه وأكثر الناس اعتناء بذلك المصريون وقد قال – صلى الله عليه وسلم – «من تشبه بقوم فهو منهم» بل قال ابن الحاج لا يحل لمسلم أن يبيع نصرانيا شيئا من مصلحة عيده لا لحما ولا أدما ولا ثوبا ولا يعارون شيئا ولو دابة إذ هو معاونة لهم على كفرهم وعلى ولاة الأمر منع المسلمين من ذلك ومنها اهتمامهم في النيروز بأكل الهريسة واستعمال البخور في خميس العيدين سبع مرات زاعمين أنه يدفع الكسل والمرض وصبغ البيض أصفر وأحمر وبيعه والأدوية في السبت الذي يسمونه سبت النور وهو في الحقيقة سبت الظلام ويشترون فيه الشبث ويقولون إنه للبركة ويجمعون ورق الشجر ويلقونها ليلة السبت بماء يغتسلون به فيه لزوال السحر ويكتحلون فيه لزيادة نور أعينهم ويدهنون فيه بالكبريت والزيت ويجلسون عرايا في الشمس لدفع الجرب والحكة ويطبخون طعام اللبن ويأكلونه في الحمام إلى غير ذلك من البدع التي اخترعوها ويجب منعهم من التظاهر بأعيادهم”[32].
فهل يمكن أن يكون ابن حجر، يقول بجواز التهنئة بأعياد الكفار؟! لا أظن عاقلا يقول ذلك أو يلتبس عليه الأمر.
عاشرا: قول بعضهم: أن الأصل في الاحتفال الحل، وأنه من باب العادات، قول باطل أيضا، لوجهين:
الأول: أن العيد من الأمور الدينية، كما قال تعالى ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكا﴾ [الحج: 34] قال ابن عباس: عيدًا[33]. ولذلك لا يجوز للمسلمين أن يحدثوا عيدًا غير مشروع، فكيف بما أحدثه أهل الكتاب من اليهود والنصارى؟ فكيف بما أحدثه الوثنيون الذين هم أصل هذا العيد (الكريسماس)؟!
الثاني: أنه لو فرض أن الأصل فيها الحل، فقد ورد الدليل الناقل عن الحل إلى التحريم، في النهي عن التشبه بالمشركين، وغيرها من الأدلة السابقة.
الخاتمة:
فتبين بهذا أن الاحتفال بأعياد الكفار، أو التهنئة بها محرم بالكتاب والسنة والإجماع الثابت القديم والقياس الجلي الواضح، فالشريعة ، التي نهت عما هو أقل من الاحتفال بأعياد الكفار، كشهودها، أو الدخول على كنائسهم يوم عيدهم أو الرطان بألسنتهم، لا يمكن أن تبيح ما هو أعلى من ذلك، وأصرح في الموالاة.
ولهذا كان القول بأن هذا الاحتفال مشروع ومستحب، خطأ مخالف لإجماع المسلمين، وقول غير مسبوق من أحد من علماء المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] فتوى منشورة على موقع دار الإفتاء المصرية برقم (15716) بتاريخ 22 يناير 2020م.
[2] رواه مسلم (1218).
[3] كتيب صغير أصدرته “كنيسة جميع أنحاء العالم” الأمريكية في ولاية (كاليفورنيا) التي تصدر المجلة الشهرية(الحقيقة المجردة).
[4] نقلا عن موسوعة ويكيبديا وموقع هيستوري.
[5] انظر المصدر السابق.
[6] الجواب الصحيح (3/438).
[7] تفسير الطبري جامع البيان – ط هجر (5/ 353)
[8] المصدر السابق (5/ 355).
[9] إنجيل لوقا ، إصحاح 2 ، عدد 8-9-10-11 .
[10] المجلد الخامس في الصفحة ( 642 ، 643 أ ) ط 15.
[11] تفسير ابن أبي حاتم (8/737) وتفسير القرطبي (13/79).
[12] تشبه الخسيس (ص34) ت علي الحلبي.
[13] اقتضاء الصراط المستقيم (1/479).
[14] رواه أبو داود (2834) والبيهقي (20164) واللفظ له، وصحح الحافظ ابن حجر إسناده في بلوغ المرام (1392) والالباني في صحيح أبي داود (2834).
[15] رواه أبو داود (4031) وصححه ابن حبان والألباني.
[16] اقتضاء الصراط المستقيم (1/271).
[17] رواه البخاري (952) ومسلم (892).
[18] تشبه الخسيس (ص27) ت علي الحلبي.
[19] رواه أبوداود (1134) وصححه ابن تيمية والحافظ ابن حجر.
[20] اقتضاء الصراط المستقيم (1/486) باختصار.
[21] رواه البيهقي في السنن الكبرى (18863).
[22] اقتضاء الصراط المستقيم (1/516).
[23] رواه البيهقي في السنن الكبرى (18865).
[24] انظر هذه الشروط وشرحها لابن القيم في احكام أهل الذمة (2/659) ت د. صبحي الصالح.
[25] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (6/ 228).
[26] مسائل أبي الوليد ابن رشد (2/ 834).
[27] المدخل (2/47).
[28] أحكام أهل الذمة (3/211).
[29] تبين الحقائق (1/332).
[30] المدخل(2/48).
[31] الفروق (3/15) للقرافي.
[32] الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 239).
[33] تفسير ابن أبي حاتم (8/2492).