الأصول والفروع (6)
تمهيد:
لا يخفى على أحد تنوع علوم الشريعة الغراء؛ سواء في مجالات اهتماماتها، أو في أساليب دراستها، أو في أغراضها وأهدافها، وهذا التنوع كان له أثر كبير في تنوع العلوم الشرعية؛ بداية من تقسيم العلوم إلى عقلية ونقلية؛ وصولًا إلى العلوم المعروفة بتقسيماتها وتنويعاتها المختلفة.
وقد أدى ذلك التنوع إلى بحث العلاقة بين تلك العلوم مع بعضها، وتحديد أنواع هذه العلاقة، وما يترتب عليها.
ومن المصطلحات التي استعملت كثيرًا بين العلماء مصطلحي: الأصول، والفروع، وقد استعملا بأكثر من معنى، وفي أكثر من مدلول. ثم صارا بعد ذلك علَمًا على بعض العلوم.
للتحميل كملف اضغط هــنــا
فما هي الأصول، وما هي الفروع، وما العلاقة بينهما، وما أثر ذلك: هذه هي القضية التي نحن بصددها في هذه الورقة العلمية.
وهذه القضية رغم كونها قضية أصولية اصطلاحية؛ إلا إنها من القضايا المشكلة وذلك لأمور:
– تعلق هذه القضية بكثير من المسائل التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدع.
– عدم وضوح نوع التفرقة، وضوابطها.
– النسبية الواضحة في تحديد الأصل والفرع، فكل ما هو أصل لغيره قد يكون فرعًا عن غيره، ولذا فضبط شيء بأنه من الأصول وشيء آخر بأنه من الفروع أمر عسير.
وقد اكتسبت هذه القضية بعدًا هامًا عند ابن تيمية بسبب بناء كثير من الفرق المخالفة لأهل السنة بعضًا من الأحكام على هذا التقسيم، ولذا فلا عجب في كونها حاضرة في تراث ابن تيمية بصورة واضحة.
ثم اكتسبت هذه القضية بعدًا جديدًا عندما حاول أن يستغلها من يدعو إلى تقسيم الدين إلى قشر ولباب، وهي دعوة خبيثة تبدأ بالتفلت من سلطان النص وتنتهي بالتميع والانحلال من أحكام الشرع.
ومن أفضل الكتب التي تناولت هذه القضية من جانبها الأصولي والفقهي هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فهو أول مؤلف في هذه القضية، ولعله الكتاب الوحيد حتى الآن الذي يتعرض لهذه القضية بالتفصيل، وهو كتاب (الأصول والفروع حقيقتهما والفرق بينهما والأحكام المتعلقة بهما: دراسة نظرية تطبيقية)، للدكتور سعد بن ناصر الشثري، وسنتناولة بالدراسة والتعريف.
التعريف بالمؤلف:
هو الدكتور سعد بن ناصر بن عبد العزيز أبو حبيب الشثري، من مواليد 1387 هـ.
نشأ في بيت علم وفضل؛ فوالده هو الشيخ ناصر الشثري حفظهما الله.
درس على يد عدد من المشايخ منهم الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبدالله بن غديان رحمهم الله، وغيرهم.
أكمل دراسته الجامعية في كلية الشريعة بالرياض، ثم أعد دراسته -التي نعرض لها- ليحصل بها على درجة الماجستير، ثم أكمل دراسة الدكتوراه برسالته التي بعنوان (القطع والظن عند الأصوليين) عام 1417 هـ.
يشغل حالياً أستاذ مشارك في أكثر من جامعة، وهو عضو سابق بهيئة كبار العلماء، وباللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
له العديد من المؤلفات والأبحاث الأصولية والشروح الفقهية وغيرها والمشاركات العلمية المنشورة([1]).
التعريف بالكتاب:
الكتاب في أصله هو رسالة ماجستير للدكتور سعد بن ناصر الشثري، ويقع في مجلد واحد، عدد صفحاته (687 صفحة)، وأصدرته دار كنوز إشبيليا عام ( 1426هـ -2005 م)
والمطلع على الكتاب لا تخطئ عيناه الجهد المبذول فيه، سواء في جمع الأقوال، أو عرضها، أو توثيقها، مما يضعها في صف الدراسات المتميزة.
- وقد تميزت هذه الدراسة بأمور:
الأمر الأول: أنها جامعة لقضايا شتى متفرقة في بطون الكتب، فقد تتبع المؤلف -تتبعًا دقيقًا- كل ما له صلة بموضوع الدراسة من مظان شتى.
الأمر الثاني: دقة العزو على الرغم من كثرته في الدراسة.
الأمر الثالث: الكتابة الأكاديمية العلمية بصورة مميزة في: عرض الأقوال، والاستدلال لها، والترحيج بينها، وفي تقسيم مواضيعها ومباحثها، وفي تذييلها بفهارس متنوعة جامعة.
أهمية الكتاب:
تأتي أهمية الكتاب من أهمية الموضوع الذي يناقشه، وقد قدمنا ما يدل على أهمية هذا الموضوع، لكن يضاف إلى أهمية الموضوع أمران:
الأول: أن هذه الدراسة هي الأولى في الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع، فهي دراسة بِكر في بابها، وكل من تطرق لهذه القضية بعد ذلك فهو مقتبس منها أو محيل عليها.
الثاني: أنها دراسة جامعية؛ وتحت إشراف ومناقشة أساتذة أصوليين كبار، لهم قدم راسخة في العلم.
الإشكالية التي يعالجها الكتاب:
على الرغم من كثرة استعمال العلماء لمصطلح الأصول والفروع إلا إنهم اختلفوا كثيرًا في ضبط هذين المصطلحين، فضلًا عن تحديد المسائل التي تندرج تحت هذا النوع أو ذاك، فذهبوا مذاهب شتى، ولا يخلو مذهب من اعتراضات وإشكالات.
ثم ما الذي يترتب على كون مسألة ما من مسائل الفروع أو الأصول من قواعد وأحكام ؟
إذن فما تهدف إليه الدراسة هو: بيان ماهية الأصول والفروع، وكيفية التفريق بينهما، وما الذي يترتب على هذا التفريق من أحكام.
عرض موضوعي لمسائل ومباحث الكتاب
قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول: لبيان حقيقة الأصول والفروع وجعله ثلاثة فصول.
الباب الثاني: لبيان الفرق بين الأصول والفروع وجعله ثلاثة فصول أيضاً.
الباب الثالث: الأحكام المتعلقة بالأصول والفروع وهو ثلاثة فصول أيضاً.
الباب الأول: حقيقة الأصول والفروع.
قسم المؤلف هذا الباب إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: لبيان حقيقة الأصول.
والفصل الثاني: لبيان حقيقة الفروع.
والفصل الثالث: لبيان العلاقة بينهما.
أما الفصل الأول: فقد تطرق فيه إلى تعريف كلمة أصل في اللغة؛ وذلك في المبحث الأول، وأطال في ذلك -إذ إنها محور الدراسة كلها- فتناول أصل اللفظة، ثم معانيها في اللغة، ثم استعمالاتها في اللغة، ثم معانيها عند الأصوليين، ثم قارن بين تعريف اللغويين والأصوليين؛ وذلك في مطالب خمسة، وقد خلص من هذا كله إلى أن معنى أصل الشيء في اللغة هو: أساسه وهو أجمع التعريفات، وقد ساق أسباب ذلك الترجيح.
أما المبحث الثاني: فعقده لتعريف الأصول اصطلاحاً، فتناول إطلاقات كلمة أصل في اصطلاح علماء الشرع، فذكر ثمانية إطلاقات، ومثل لها.
ثم تناول التعريف الاصطلاحي للأصل عند الأصوليين([2])، ثم عقد مطلبًا لتعريف الأصول بعد الإضافة، فذكر تعريف أصول الدين، وأصول التفسير، وأصول الحديث، وأصول الفقه دون إطالة.
أما المطلب الرابع: فكان لتعريف علم الأصول، وقد ذكر مناهج ثلاثة في التعريف، واختار المنهج الثاني، ثم بين اختلاف أصحابه في تعريفاتهم؛ فذكر أقوالًا ستة، وناقشها، ليصل في النهاية إلى أن التعريف المختار للأصول هو: القواعد التي تنبني عليها مباشرة الأحكام الشرعية. ليكون هذا ختام المبحث الثاني.
أما المبحث الثالث: فجعله للتعريف بموضوع علم الأصول، وقد ذكر الخلاف في ذلك على أربعة أقوال: عرضها، وناقشها، وخلص من ذلك إلى أن أقرب تلك الأقوال في موضوع علم الأصول هو الأدلة؛ وقد بيّن أن هذا هو اختيار كثير من الأصوليين.
وبذلك يكون المؤلف قد أنهى كلامه عن تعريف الأصول، ليبدأ في الفصل الثاني الذي عقده لبيان ماهية الفروع.
وقد جعل المؤلف هذا الفصل على غرار الفصل السابق له؛ فبدأ بتعريف الفروع في اللغة: فذكر الأصل اللغوي، ثم المعاني اللغوية، ثم إطلاقات الفرع عند علماء الشريعة، ثم تعريف الفروع اصطلاحًا، وذكر ثلاثة عشر تعريفًا تناولهم بالدراسة الموجزة، ليصل إلى أن التعريف المختار للفروع هو أنها الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين.
ثم تناول العلاقة بين الفقه والفروع ليبين أنه لما كانت أكثر مسائل الفقه من الفروع أطلق على علم الفقه الفروع.
كذلك تناول أقوال العلماء في موضوع علم الفروع، وقارن بين موضوع الأصول وموضوع الفروع لينهي بذلك الفصل الثاني.
أما الفصل الثالث: فكان لبيان العلاقة بين الأصول والفروع، وقد جعله في مبحثين:
الأول منهما: لبيان التلازم بين الأصول والفروع، فتناول ارتباط الأصول بالفروع، وبيّن كيفية بناء الفروع على الأصول، ثم أيهما يقدم في التعلم: فذكر أقوالًا أربعة في ذلك، وقد رجح أنه لا يجب تقديم أحدهما على الآخر.
ثم تناول قضية وجود أصول لا فروع لها، فبين موقف العلماء تجاه هذه الأصول([3]).
أما المبحث الثاني: فقد تناول فيه قضية تخريج الفروع على الأصول، فتحدث عن أهمية ربط الفروع بالأصول، وذكر بعض الكتب المؤلفة في ذلك مُتبِعًا ذلك ببعض الملاحظات اليسيرة، ثم بيَّن أن استخراج أحكام الفروع المستجدة إنما يكون بناءً على القواعد الأصولية.
وبهذا يكون المؤلف قد أنهى بابه الأول في الكتاب.
الباب الثاني: الفرق بين الأصول والفروع:
هذا الباب يتناول لب القضية التي نحن نصددها، وهي إشكالية تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فهل هذا التقسيم مقبولٌ أم لا، ثم هل هو صحيحٌ أم لا، ثم ما هي قواعد التفريق بينهما عند من يصحح تلك التفرقة.
هذا هو عمود الصورة للباب الثاني، وقد قسمه المؤلف إلى ثلاثة فصول، نعرضها فيما يلي:
- الفصل الأول:
عقد المؤلف الفصل الأول بعنوان: اشتمال الشريعة على أصول وفروع؛ لكي يبحث صحة نسبة التفريق بين الأصول والفروع إلى الشرع؛ الأمر الذي يتبعه ترتيب أحكام شرعية، وقد ذكر المؤلف أنه مع استقرار هذا التقسيم في أذهان كثيرٍ من العلماء: إلا إنه وجد شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا التفريق، ولذا فقد بحث هذه المسألة ببيان الخلاف فيها أولاً وأدلة كل قول، ثم مبحثًا خاصًا لتحقيق مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القضية؛ نظرًا لكثرة نصوصه التي ظاهرها التعارض.
فذكر القول الأول وهو أن مسائل الدين تنقسم إلى أصول وفروع لكل منهما أحكام يتميز بها عن الآخر، وذكر من أقوال العلماء ما يدل على ذلك .
ثم ذكر القول الثاني وهو قول ابن تيمية في إنكار تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فذكر نصين لابن تيمية يدلان على ذلك، وكذلك ابن القيم، والنعمي الصنعاني، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ بكر أبو زيد.
وذكر عن ابن حزم ما يظن أنه من الموافقين لهذا الرأي وبين أن الأمر ليس كذلك.
ثم بين أدلة هذا القول التي عمدتها أنه لادليل يدل على التفريق.
ثم رجح المؤلف أن تقسيم مسائل الدين لا مانع منه لأنه قد ورد عن بعض السلف ما يدل عليه، وقد رأى أن ضابط التفريق ليس محل بحثه في هذا الموضع([4]).
المبحث الثاني عقده المؤلف لبيان حقيقة مذهب ابن تيمية، فذكر أن لابن تيمية خمسة مواقف في هذه القضية:
الموقف الأول: التعبير بكلمات الأصول والفروع في ثنايا كلامه.
الموقف الثاني: حكاية مذاهب الناس في ضوابط التفريق بين الأصول والفروع من غير انتقاد لهذه المذاهب.
الموقف الثالث: أن يختار بعض الآراء في ضابط التفريق بين الأصول والفروع مع اختلاف كلامه في ذلك.
الموقف الرابع: حكاية إنكار التفريق بين الأصول والفروع عن بعض العلماء.
والموقف الخامس: إنكار نسبة التفريق بين الأصول والفروع إلى الشرع وجعل ذلك بدعة محدثة.
وقد عرض أن هناك ثلاثة احتمالات في تفسير هذه المواقف:
الأول: أنه كان يرى التفريق ثم رأى عدم التفريق.
الثاني: أن إنكاره التفريق هو الصواب، وتعبيره بالأصول والفروع من باب مخاطبة القوم باصطلاحهم.
الثالث: أن هذه القضية اصطلاحية عنده لا يترتب عليها أحكام شرعية، وأنه ينكر نسبة التفريق إلى الشرع بحيث يترتب على هذا التفريق أحكام شرعية.
ولم يتعرض المؤلف لبيان أي تلك الاحتمالات أرجح من وجهة نظره([5]).
- الفصل الثاني:
عقد المؤلف الفصل الثاني بعنوان: قواعد التفريق بين الأصول والفروع باعتبار الأدلة ، وجعله في مبحثين:
الأول: جعله للتفريق بالاستدلال على الحكم بدليل العقل أو النقل.
الثاني: جعله للتفريق بكون الدليل قطي أو ظني.
وقد تطلب هذا منه أن يبدأ المبحث الأول ببيان المراد بدليل العقل،ثم ذكر الخلاف في المسائل الأصولية: هل يستدل عليها بالعقل مجردًا أم مقرونا مع غيره، فذكر أقوالًا أربعة في ذلك واستدل لها وبين ما اعترض عليها به، ورجح القول بأنه يستدل بالأدلة العقلية التي جائت في الأدلة النقلية.
ثم تعرض لمسألة: هل الأدلة النقلية وافية بأحكام الفروع أم لا، فذكر أن في المسألة أقوالًا ثلاثة، وقد اختار المؤلف القول الثالث: وهو أن الأدلة النقلية وافية بجميع الفروع، لكن الأدلة العقلية قد يحتاجها المجتهد لخفاء الأدلة النقلية عليه([6]).
وقد أتبع المؤلف هذا المطلب بمطلبٍ ثالثٍ تناول فيه مسألة التفريق بين الأصول والفروع بكون الدليل عقليًا أو ظنيًا وذكر قولين للعلماء في ذلك؛ الأول: بأنه لا يصح موردًا للتفريق، والثاني بصحته، وقد اختار المؤلف هنا أنه لا يصح أن يجعل هذا الأمر قاعدة للتفريق بين ما كان من مسائل الأصول وما كان من مسائل الفروع.
أما المبحث الثاني: فقد بدأه بالمراد بالقطع والظن، ثم تطرق للخلاف في نوع الأدلة التي تدل على المسائل الأصولية فذكر أقوالًا ثلاثة في ذلك دون أن يبين ما هو المختار عنده من تلك الأقوال.
وكذلك لم يرجح بين الأقوال الثلاثة التي ذكرها في الخلاف في الفروع: هل هي قطعية أم ظنية([7]).
وقد ختم المؤلف هذا الفصل ببيان الخلاف في جعل القطع والظن قاعدة للتفريق بين الأصول والفروع، فذكر قولين الأول هو: صحة التفريق، والثاني: عدم الصحة ونسبه لجمهور العلماء، ثم اختار المؤلف القول الأول واستدل له([8]).
- الفصل الثالث:
عقد المؤلف الفصل الثالث بعنوان: قواعد التفريق بين الأصول والفروع باعتبار موضوع كل منهما، وقسمه إلى مبحثين:
الأول: جعله للتفريق من جهة العلم والعمل.
والثاني: للتفريق من جهة الطلب والخبر.
فبدأ المبحث الأول بتعريف العلم والعمل، وبيَّن خلاف العلماء في كون المسائل الأصولية هي المسائل المتعلقة بالعلم فقط.
وقد ذكر المؤلف هنا أقوالًا ثلاثة، لكنه في الترجيح لم يذكر سوى أن العلم والعمل مترابطان، وهذا في الحقيقة ليس ترجيحًا بين الأقوال.
وثم ذكر مسألة تعلق الفروع بالعمل، فذكر فيها قولين ولم يرجح أحدهما على الآخر، ثم تناول اختلاف العلماء في التفريق بين الأصول والفروع بتعلقهما بالعلم والعمل، فذكر أن العلماء اختلفوا على قولين، وقد رجح المؤلف عدم صحة جعل العلم والعمل موردًا للتفريق بين الأصول والفروع.
أما المبحث الثاني: فبدأه بالتفريق بين الطلب والخبر، وبين أن بعض العلماء يسمون مسائل الأصول بالخبريات، ومسائل الفروع بالطلبيات، وبين الخلاف في صحة التفريق بذلك؛ مختارًا عدم صحة التفريق به.
وبذلك يكون المؤلف قد انتهى من الفصل الثاني.
الباب الثالث: الأحكام المتعلقة بالأصول والفروع.
عقد المؤلف هذا الباب في تمهيد وثلاثة فصول.
أما التمهيد: فقد استعرض فيه بِنيَة الباب؛ وذكر أن أكثر الذين يفرقون بين الأصول والفروع يرتبون عليها أحكامًا شرعية سوف يناقشها في هذا الباب.
وقد جعل الفصل الأول لمسألة مخاطبة الكفار بالفروع والأصول.
فبدأ أولًا: بمسألة مخاطبة الكفار بالأصول؛ فعرَّف المسألة، وتناول حكاية الإجماع فيها، وخلاف بعض المبتدعة فيها.
ثم ثنَّى بمخاطبة الكفار بالفروع؛ فذكر عنوان المسألة، وحرر محل النزاع، وبين أقوال العلماء وأدلتهم، ورجح أنهم مخاطبون بالفروع، ثم بيَّن منشأ الخلاف، وبيَّن أن الجماهير لا يبنون الخلاف في هذه المسألة على التفريق بين الأصول والفروع، ثم تناول ثمرات الخلاف.
أما الفصل الثاني: فجعله للأحكام المتعلقة بالأصول والفروع في الأدلة، وجعل المبحث الأول لأخبار الآحاد والثاني للقياس.
فذكر في مبحث أخبار الآحاد: تعريف خبر الواحد، وذكر الخلاف في كونه يفيد العلم أم لا([9])، ثم تناول خلاف العلماء في الاحتجاج بخبر الآحاد في الأصول، وذكر الأدلة والاعتراضات، ورجح القول بصحة الاحتجاج بخبر الآحاد الصحيح في الأصول، ثم تناول منشأ الخلاف، وأمثلة تطبيقية لأخبار الآحاد في مسائل عقدية، ومسائل أصولية.
بعد ذلك تناول الاحتجاج بأخبار الآحاد في الفروع؛ فبيَّن الخلاف، وذكر الأقوال، وأدلتها، وما أجيب به عليها، ليرجح بعد مناقشة طويلة: حجية أخبار الآحاد في الفروع ووجوب العمل بها، ثم ينتقل إلى ذكر ثمرات تطبيقية على حجية خبر الآحاد في الفروع؛ فذكر أمثلة أربعة في هذا الصدد.
ثم يأتي بعد ذلك المبحث الثاني الخاص بالقياس، فعرف القياس، وحكى الخلاف في دخول القياس في الأصول، لينفصل في النهاية إلى ترجيح أن القياس القطعي يصح الاستدلال به في مسائل الأصول، ويتناول بعد ذلك ثمرات الخلاف في ذلك فذكر إحدى عشر مثالاً لمسائل عقدية وخمسة مسائل أصولية استدل عليها بالقياس.
بعد ذلك تناول القياس في الفروع: فذكر خلاف العلماء في ذلك، وأطال في الرد على من منع منه، وبين منشأ الخلاف، وثمرته، وذكر بعض التطبيقات المبنية على هذا الخلاف.
ثم يأتي بعد ذلك الفصل الثالث الخاص بالأحكام المتعلقة بالأصول والفروع في الاجتهاد والتقليد، وقد عقده في مباحث أربعة.
تناول في المبحث الأول: حكم الاجتهاد في الأصول والفروع، فعرف الاجتهاد وذكر الخلاف في الاجتهاد في مسائل الأصول؛ مرجحًا جواز الاجتهاد في إثبات الأصول في الجملة، ثم تناول أدلة جواز الاجتهاد في الفروع؛ فذكرها، وأشار إلى من نسب إليه القول بالمنع، ورد عليه.
أما المبحث الثاني: فجعله لمسألة الحق واحد أم متعدد في مسائل الأصول والفروع؛ فبين المراد بتعدد الحق، وبين انعقاد الإجماع على كون الحق واحدًا في مسائل الأصول، واستدل لذلك وتناول ما نقل عن العنبري بالدراسة والتمحيص، منتهيًا إلى أنه لا يخالف الإجماع في ذلك.
ثم تناول مسألة تعدد الحق بالنسبة للفروع؛ فذكر القولين، وأطال في ذكر أدلتهما، ومناقشة تلك الأدلة، لينفصل في ترجيحه إلى قوة القول بأن الحق واحد في الفروع، ثم بين منشأ الخلاف والثمرات التطبيقية له.
ثم يأتي بعد ذلك المبحث الثالث: ليتناول حكم المخطئ في الأصول والفروع، فبدأ بتناول حكم المخطئ في الأصول، فتناول الخلاف، وذكر الأدلة مرجحًا أن الخلاف لا يتناول الكفار في بحثهم عن الدين الصحيح، وأن الخلاف لم يتوارد على محل واحد في حق المسلم المخطئ في الأصول، وبين أن العبرة في التأثيم بقطعية دليل المسألة، وقد ذكر بعض الأحكام المترتبة على الخطأ في الأصول.
ثم تناول بعد ذلك: حكم المخطئ في الفروع؛ فبين الخلاف، ورجح أن تأثيم المخطئ في اجتهاده في الفروع مبناه على القول بأن الفروع قطعية، وهو ما سبق نقضه فينتقض المبني عليه.
ثم بعد ذلك: المبحث الرابع والأخير في هذا الفصل، وهو خاص بحكم التقليد في الأصول والفروع، وقد بدأ بتعريف التقليد، وبين الخلاف في حكم التقليد في الأصول مرجحًا الجواز، وبين ثمرة هذا الخلاف.
ثم تناول التقليد في الفروع، وذكر الأقوال في ذلك، وأدلتها، مبينًا في ترجيحه أن الخلاف في الحقيقة راجع إلى الخلاف في ماهية التقليد، وبين سبب ذلك الخلاف في حقيقة التقليد، لينهي كلامه بالحديث عن علاقة حكم التقليد بالتفريق بين الأصول والفروع.
بذلك يكون المؤلف قد انتهى من مادة كتابه فلم يتبق له إلا الخاتمة، وقد ذكر فيها أهم ما توصل إليه من نتائج أثناء البحث.
ثم أنهى المؤلف كتابه بمجموعة من الفهارس التفصيلية لما ورد في الكتاب.
تعقيبان :
- الأول:
انتهى المؤلف في ختام بحثه إلى أن الضابط الصحيح في التفرقة بين الأصول والفروع هو قطعية الدليل أو ظنيته، فما كان دليله قطعي فهو من مسائل الأصول، وما كان دليله ظني فهو من مسائل الفروع.
أما الأحكام التي ذكرها: فلم يحصل المؤلف على مسألة واحدة يصح بناء الأحكام فيها على التفرقة بين الأصول والفروع.
وهذا يدل على قوة مذهب ابن تيمية ومن وافقه في إنكاره لكون هذا التقسيم تقسيم شرعي، وقد أشرنا إلى أنه لا ينكر التقسيم الاصطلاحي.
- الثاني:
أن المؤلف لم يتعرض لمدى مطابقة الحاصل من العلماء لما رجحه، أعني أن المؤلف قد رجح أن ما كان دليله قطعي فهو من مسائل الأصول، وما كان دليله ظني فهو من مسائل الفروع، لكن هل كان هذا الضابط مطردًا في المسائل التي قال عنها العلماء أنها من مسائل الأصول أو مسائل الفروع؟
فمثلًا: وجوب الصلوات الخمس دليلها قطعي؛ وهي من مسائل الفروع، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد من مسائل الأصول، ودليلها ظني، وهذا أمر يناقض ما رجحه المؤلف، فيحتاج إلى أن يوجه هذا التعارض الظاهر.
كذلك فإنه مما يتم هذا البحث: البحث في كون تسمية المسائل بأنها من مسائل الأصول أو مسائل الفروع: ليست مبنية في الأصل على ضوابط للتفريق، بل هي ألقاب على علوم بحسب الغالب فيها، واستقرت التسمية كألقاب للعلوم، ثم نشأ البحث في الضوابط بعد ذلك.
وهذا يتوافق مع كون تلك التفرقة: تفرقة اصطلاحية لا أثر لها في الأحكام.
المؤاخذات على الكتاب:
لا شك أن أي عمل بشري يعتريه النقص، وأي كتاب لابد أن تكون عليه مؤاخذات، لكنها لا تغض من قيمته إذا كثرت حسناته، كما هو الحال في هذا الكتاب، ومن تلك المؤاخذات:
أولًا: عدم تتبع المؤلف للتطور التاريخي لمدلول مصطلحي الأصول والفروع.
ثانيًا: الإكثار من نقل نصوص الأئمة بلفظها، دون الاكتفاء بالإشارة إليها، وقد سبب هذا طولاً للبحث.
ثالثًا: الإطالة في ذكر بعض الأدلة والاعتراضات عليها في المسائل التطبيقية التي ذكرها، مما قد يخرج بالمسائل أحيانًا عن الهدف المقصود من ذكرها.
بذلك أكون قد وصلت إلى ختام هذه الورقة العلمية، أسأل الله التوفيق والسداد، فهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
([1]) من موقع الشيخ الرسمي وهذا رابط الموقع:
http://www.alshathri.net/
([2]) مما يستدرك على المؤلف هنا: أنه لم يبين ما هو التعريف الذي يراه صحيحًا عند الأصوليين.
([3]) مسألة وجود أصول لا فروع لها ينبغي أن تُبحَث من خلال نسق تاريخي يبين ارتباط وجود أصول لا فروع لها بقضية مصادر علم الأصول، واستعمال علم الأصول كساحة خلفية لتصفية النزاعات العقدية بين المعتزلة والأشاعرة في بعض الأحيان، وهو ما لم يتطرق إليه المؤلف ولم يشر إليه.
([4]) مما يستدرك على المؤلف هنا عدم بيان نوع ذلك التقسيم، وهو أمر مهم في فهم الخلاف بين ابن تيمية والجمهور، ذلك أن التقسيم نوعان: تقسيم اصطلاحي، وتقسيم شرعي، فالأول لا مشاحة منه إذا ضبطت حدوده، وهو غير متوقف على الأدلة، وإنكار هذا النوع نزاع لفظي في عبارة اصطلاحية، أما التقسيم الشرعي فهو الذي تبنى عليه الأحكام، وهذا يفتقر إلى الدليل، والتقسيم بهذا النوع هو ما يتوجه عليه إنكار ابن تيمية، إذ كل من أنكر هذه القسمة إنما يطالب بالدليل، ومعلوم أن المطالبة بالدليل لا تكون في التقسيم الاصطلاحي، بل الشرعي، وهذه التفرقة تفيد في فهم التناقض البادي فيما نقل عن ابن تيمية في هذه القضية، والذي يراه كاتب هذه السطور أن ابن تيمية إنما ينكر كون هذا التقسيم تقسيمًا شرعيًا تنبي عليه الأحكام بمجردها، لكنه لا يمنع من التقسيم الاصطلاحي بدليل استعماله له في مواضع كثيرة كما أشار المؤلف.
([5]) التفرقة بين التقسيم الاصطلاحي والتقسيم الشرعي تبين أن أقرب تلك الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الأخير الذي ذكره المؤلف، وهو اختيار الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله كما أشار المؤلف إلى ذلك.
([6]) مما يؤخذ على المؤلف أنه في هذا الموضع لم يبين نوع الخلاف هل هو حقيقي أم لفظي؟، فالأدلة التي ذكرها لا ترد على محل واحد، وقد تصرف بما يدل على أنه يرى الخلاف خلافًا حقيقيًا، ويرى كاتب هذه السطور أن هذا الأمر يحتاج إلى مزيد نظر، واحتمال كون هذه الأقوال ليست كلها واردة على محل واحد احتمال قوي لا ترده النصوص التي نقلها المؤلف في هذا المبحث.
([7]) القطع والظن من المعاني المتعلقة بعلم الكلام، وتعددت معانيهما في الاستعمال الأصولي، ولذا كان من المهم بيان معنى القطع والظن عند الأصوليين باستفاضة مثل صنيع المؤلف في باقي المباحث وهو ما لم يفعله.
([8]) هنا أمر كان يجب على المؤلف أن يتعرض له، وهو هل تم استعمال هذا الضابط بصورة صحيحة فيما نقل إلينا من مسائل نسبت إلى الأصول وأخرى نسبت إلى الفروع، فالمؤلف يتحدث عن الأصل، لكنه لم يبين هل كان الواقع والحاصل من العلماء موافق لهذا الذي ذهب إليه أم لا.
([9]) فات الباحث هنا أن معنى العلم عند المتكلمين مخالف لمعناه عند أهل السنة، وهذا أمر له أثر في الترجيح بين الأقوال.