النقض على الملاحدة في استنادهم إلى التراث العربي في تبرير الشذوذ الجنسي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
إن فعلَ قومِ لوطٍ من أعظمِ الكبائر، وقد أنزلَ الله بقوم لوط عذابًا أليمًا، وجعلَ عالي قريتهم سافِلَها، ولعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلها ثلاثًا، كما استحقَّ فاعلها عقوبة شديدة وعذابًا أليمًا.
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 80-84].
وقال الله تعالى في آية أخرى واصفًا هذا العمل بالخبيث: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «لعَنَ اللهُ مَن ذبَحَ لِغَيرِ اللهِ، لعَنَ اللهُ مَن غيَّرَ تُخومَ الأَرضِ، ولعَنَ اللهُ مَن كمَهَ الأَعمى عن السَّبيلِ، ولعَنَ اللهُ مَن سَبَّ والِدَه، ولعَنَ اللهُ مَن توَلّى غَيرَ مَواليه، ولعَنَ اللهُ مَن عمِلَ عَمَلَ قَومِ لوطٍ، ولعَنَ اللهُ مَن عمِلَ عَمَلَ قَومِ لوطٍ، ولعَنَ اللهُ مَن عمِلَ عَمَلَ قَومِ لوطٍ»([1]).
وعن جابر بن عبد الله أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أخوفَ ما أخاف على أمتي عملُ قومِ لوطٍ»([2]).
وقد اختلف العلماء في عقوبتها على ثلاثة أقوال:
الأول: أن عقوبتها القتل، سواء كان فاعلها محصنًا أو غير محصن، ثم اختلفوا في كيفية قتله.
والثاني: أن عقوبتها كعقوبة الزنا.
والثالث: أن عقوبتها تعزيرية يقدرها الإمام([3]).
والبشرية اليوم تعاني من موجةٍ غير مسبوقة في التطبيع مع الشذوذ الجنسي، وتقنينه، والدفاع عن حقوق مرتكبيه، بمستندات واهية أقيمت على أساسها منظومات قانونية وتربوية وأخلاقية وطبية وأفلام وبرامج ومسلسلات وأغانٍ، وصيغت على أساسها أسطورة الهوموفوبيا (الرهاب من المثلية) بحيث أصبح الشاذ-علميًّا وقانونيًّا وثقافيًّا هو الطبيعي، والمعترض على الشذوذ هو المريض.
وقد حاول المبررون للشذوذ الجنسي من الملاحدة أن يأتوا بأدلّةٍ على ذلك، وكانت أدلتهم على نوعين:
النوع الأول: شبهات واهية مستندة إلى العلم التجريبي والطبيعة: فذكروا وجود المثلية في الحيوانات، وكأن سلوك الحيوانات مصدر في التحسين والتقبيح!
وذكروا أن المنظمات الصحية حذفت المثلية من قائمة الأمراض العقلية، وكأن تلك المنظمات منظمات نزيهة لا تباع ذمم أصحابها وتشترى!
وذكروا أن الشاذ هو بمثابة الأعسر الذي يكتب ويأكل بيده اليسرى، فما أسخف هذا القياس!
وذكروا أن الميل إلى نفس الجنس أحد أنواع الميول الطبيعية الثلاثة، فالفرد إما أن يميل إلى الجنس الآخر، أو يميل إلى نفس جنسه، أو يكون له المَيْلَان. إلى غير ذلك من المستندات الواهية الدالّة على الانحطاط الفكري.
غير أن دراسة صادمة نشرتها مجلة Science ونقلتها مجلة Nature سنة 2019، بينت أن باحثين فحصوا بيانات نصف مليون إنسان، ولم يجدوا دليلًا على ارتباط الشذوذ الجنسي بالجينات، ومَثَّلَ ذلك أكبر صدمة في تاريخ (المثلية).
يقول الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله: (الأمراض التي تنشأ عن اللواط هي عين الأمراض التي تنشأ عن الزنا، وتزيد عنها غالبًا في إحداث جروح في الذكر وفي الشرج، وإذا تضاعفت هذه الجروح ببعض الأمراض نشأ عنها ما لا تُحْمَد عقباه، وترتخي عضلات الشرج حتى قد يسهل نزول البراز وغيره بغير إرادة الإنسان.
وهو مفسد للأخلاق، ومبيد للشهامة والرجولية، وقاضٍ على الآداب كافة، وما انغمست فيها أمة إلا انحطَّت وتدهورت لتخنّث رجالها، وذهاب نجدتهم ومروءتهم وهمتهم، فلا تصلح بعد ذلك لمقاومة أعدائها؛ فيتغلّبون عليها وتَبيد شيئًا فشيئًا.
زد على هذا أن الرجال المنغمسين في تلك الشهوة الدنيئة يقلّ ميلهم إلى النساء كثيرًا؛ فيقل عدد الأمّة، فتضعف أيضًا من هذه الوجهة.
نعم، إن اللواط أخفّ ضررًا من الزنا من وجهة واحدة اجتماعيّة، وهي أنه لا تضيع بسببه الأنساب، ولا توجد به اللقطاء، فهو أقلّ بذلك إضاعة لحقوق العباد والأولاد)([4]).
والنوع الثاني من مستندات الملاحدة لتبرير الشذوذ الجنسي: مستندات ثقافية وتاريخية، وحاصل ما يذكره الملاحدة العرب: أن الحديث عن فعل اللواط ليس أمرًا مستنكرًا في التراث العربي الإسلامي، فقد فعله الخلفاء والعلماء، وذكروه في أشعارهم. ومن ينظر في ما يذكره هؤلاء سيجدهم يعتمدون في كثيرٍ منه على ما يثيره الرافضة ضدَّ أهل السنة بقصد التشنيع عليهم.
وهذا النوع هو ما سنتحدّث عنه في هذه المقالة بإذن الله تعالى، وسيكون ذلك ضمن المحاور الآتية:
المحور الأول: ندرة فعل قوم لوط في العرب:
قال الإمام أبو بكر القفال الشاشي الشافعي (ت: 365هـ) في ذكر حجة من رأى تأديب من أتى الذكران والبهائم بغير القتل: (وهذان الأمران وإن كانا في نهاية الفظاعة والشناعة فمرتكبهما قليل، وخصوصًا العرب، فإنهم لم يكونوا يعرفونهما إلا في النادر من الناس، فلِقِلَّتِهِما وقِلَّةِ المتدنِّس بهما لا ينكر أن يقع الردع عنهما بعقوبة غير مؤقّتة من الضرب المؤلم والحبس الطويل، إلى أن تظهر توبة المرتكب لما يرتكبه منها)([5]). وهذا ما يؤكّده ابن تيمية بقوله: (ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب)([6]).
وقد كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يستبعد وقوع فعل قوم لوط من أحدٍ، ويقول: (لولا أن الله ذكر آلَ لوطٍ في القُرآن ما ظننتُ أن أحدًا يفعل هذا)([7]).
يتحدّث أبو هلال العسكري (ت: 395هـ) في كتابه الأوائل عن مصدر ظهور هذا الفعل في تاريخ المسلمين، وبين سبب ذلك فقال: (أول ما ظهر اللواط حين كثر الغزو في صدر الإسلام، وطالت غيبة الناس عن أهليهم، وذلك حين افتتح خراسان، وجمع البعوث في ثغورها، وسبَوا ذرارى المشركين فيها، واتخذوهم وصفاء يخدمونهم في خاص أنفسهم، وطالت الخلوة معهم والصحبة لهم، وعلى حسبها يكون الأنس، ورأوهم يجرون مجرى النساء في بعض صفاتهن، فطلبوا منهم ذلك الفعل فأجابوهم، وأطاعوهم للأنس الذي بينهم، لما عوّدوهم من شدة الانقياد لهم.
وكان ابتداؤه أول ما ظهر من خراسان في صدر الإسلام، ولم يعرفه أهل الجاهلية من العرب والعجم أصلًا، والدليل على ذلك أنه لم يرو فيه شعر ولا مثل، وكان من عادتهم أن يقولوا الأشعار الكثيرة في الشىء الزهيد كقولهم في الفأر والجوز، وحكايتهم عن لسان الضب واليربوع وغير ذلك، ولو كان معروفًا ذلك الفعل عندهم لعُيِّرُوا به أو وصفوه، فإنهم يصفونَ ما دُونَه.
أما ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أو عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه رأى رجلًا ينكح رجلًا فألقى عليهما حائطًا، فإن المنكوح كان مبتلى بالداء الذي يسمى الأبنة، ولم يكن ذلك لشهوة النكاح، وقد ذكر جماعة من رؤساء العرب في الجاهلية بهذا الداء، منهم أبو جهل، وكانت الفُرْس ترى على من به هذا الداء ثم مكَّن من نفسه ضرب الرقبة، وعلى من فعل به ذلك مثله أيضًا، وكانوا يجعلون الناكح بمنزلة القاتل لأنَّهُ ضيَّع نطفة كان يكون منها إنسان، فكانوا يرون قتله لذلك)([8]).
وهذه الحجة التي ذكرها أبو هلال العسكري على عدم شيوع اللواط في العرب ذكرها الجاحظ أيضًا، حيث قال: (ولو كانت هذه الشهوة شائعة في الأعراب لتعشّقوا الغلمان، ولو تعشّقوهم لنسبوا بهم، ولجاءهم فيه باب من النسيب، ولتهاجَوا به، وتفاخروا، ولتنافسوا في الغلمان، ويجري في ذلك ما لا يخفى، ولحدثت فيه أشعار وأخبار، والذي يدل على سلامتهم من ذلك عدم هذه المعاني، وإن كان هناك شيء من هذا فليس هو إلا في بعض من ينزل قارعة الطريق، أو يقرب الأسواق، وهؤلاء ليس فيهم من خصال الأعرابية إلا الجوهرية، فأما الأخلاق والفصاحة والأنفة والفروسية فهم على خلاف ذلك كله.
وقد ذكر الناس أن بالهند شيئًا من هذه الفاحشة ليس بالفاشي، وذكر بعض أهل البلدان وبعض قبائل الجاهلية وبعض ملوك اليمن بهذا الشأن، ولكن لم نجد الأشعار بذلك متسعة والأخبار به متفقة)([9]).
فأين هذا مما يدّعيه الملاحدة؟! وهل وقوع اللواط من العرب على سبيل الندور والقلة دون أن يكون عادةً أو ثقافةً، هل ذلك يُقارن بموجة الشذوذ الجنسي في عصرنا التي تريد أن تحمي الشذوذ الجنسي وتجعله ثقافةً مقبولة، وتحمي مرتكبيه بالقوانين، وتجعل من يحذر منه مختلًّا؟! شتان بين الأمرين.
ولو سلّمنا جدلًا أن العرب كان اللواط فيهم مشتهرًا، فلا نسلم أن فعل العرب مما يصحّ أن يستند إليه في تحسين الأفعال أو تقبيحها بالإطلاق، فإن العرب في جاهليتهم كانوا يصنعون عجائب تدلّ على غاية الجهل، وقد أنكرها عليهم القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}»([10]).
ودعاة الشذوذ الجنسي يدّعون شيوع هذا الفعل في الخلفاء والقضاة العرب، وممن يحتجون به في ذلك الوليد بن يزيد بن عبد الملك الشهير بالفسق، وليس لهم فيه حجة، فإن اشتهاره باللواط كان من أسباب خلعه، ولم يقره المسلمون على ما فعله، وهذا ما يُغفله من ينسبون له هذا الفعل، يقول الذهبي: (ولم يصحّ عن الوليد كفر ولا زندقة، نعم اشتهر بالخمر والتلوّط، فخرجوا عليه لذلك)([11]).
وهو كان مختلًّا في عقله كما رجّح ذلك بعض المؤرخين، قال ابن تغري بردي: (والذي أقوله أنا في حق الوليد هذا: إنه كان في عقله خلل، وإلا وإن كان زنديقًا كان يمكنه أن يتستر فيما يفعله من الإلحاد والزندقة؛ خوفًا من عواقب الأمور الدنيوية من قيام الناس عليه وخلعه من الخلافة وما أشبه ذلك، غير أنه كان ناقص العقل مع سوء اعتقاد؛ فحملاه على ما وقع منه. ولما كثر فسقه وزاد أمره خرج عليه الناس قاطبة، ونصبوا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، ورشحوه للخلافة، وقاتلوا الوليد هذا، ووقع لهم معه أمور يطول شرحها)([12]).
ومن علماء المسلمين وقضاتهم الذين أكْثَرَ الرافضة المعاصرون من رميهم باستباحة الشذوذ الجنسي، واستمد ذلك منهم المدافعون عن الشذوذ الجنسي من العلمانيين: القاضي يحيى بن أكثم رحمه الله، ورموه بذلك استنادًا إلى كلمات وأبيات شعرية، ونقولات من كتب الأدب([13])، وقد بين الإمام أحمد وغيره عدم صحة نسبة ذلك إليه.
قال أبو مزاحم الخاقاني عن عمه: سألتُ أحمد عن يحيى بن أكثم فقال: ما عرفناه ببدعة، وكذا قال عبد الله بن أحمد عن أبيه، وزاد: وذكر له ما يرمِيهِ الناس، فقال: سبحان الله! سبحان الله! ومن يقول هذا؟! وأنكر هذا إنكارًا شديدًا([14]).
ويحيى بن أكثم معدود من الحنابلة، حيث ترجم له ابن أبي يعلى في طبقاته([15]).
وقال القاضي أبو عمر محمد بن يوسف: سمعتُ إسماعيل بن إسحاق يقول: كان يحيى بن أكثم أبرأ إلى الله تعالى من أن يكون فيه شيء مما رُمِيَ به من أمر الغلمان، ولقد كنت أقف على سرائرِه فأجده شديد الخوف من الله تعالى، ولكن كانت فيه دُعَابة([16]).
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: (لا يُشتَغَل بما يُحكَى عنه، لأن أكثرها لا يصح عنه)([17]).
المحور الثاني: اتّجاه الغزل الشاذّ أو الغزل المذكر في الشعر العربي:
إن العرب أيضًا لا تعرف التغزل بالمردان تبعًا لندرة اللواط فيهم، وإن كان ذلك قد ظهر بعد خُلطَتِهم بالأمم الأخرى في العصر العبَّاسي، ووجد في أشعار بعض الشعراء المجّان كأبي نواس([18]) الذي يحتج بشعره دعاة الشذوذ الجنسي.
قال حمزة بن حسن الأصفهاني: (إن الشعراء قاطبة من أيام مولد الشعر قبيل الإسلام في آخر بني أمية كان تشبيبهم بالنساء لا غير، إذ كانت دواعي عشقهم من جهة النساء، فلما أقبلت المُسوَّدَة -بنو العباس- من المشرق من أهل خراسان أحدث فيهم اللواط لارتباطهم الغلمان، فشبب شعراء الدولة بالذكران، وكان لحدوث هذه الفاحشة في الخراسانيين سبب حكاه الجاحظ في كتاب المعلمين، زعم أن السبب الذي أشاع اللواط في أجناد خراسان خروجهم في البعوث مع الغلمان، وذلك حين تعذّر عليهم اصطحاب النساء والجواري حين سنّ أبو مسلم الخراساني صاحب الدولة تلك العساكر ألا يصحبها النساء، خلافًا على بني أمية في إخراجهم النساء معهم في العساكر، ولم يكن لهم بد من غلمان يخدمونهم، فتعود القوم ذلك في أسفارهم، فلم يقفلوا منها إلى منازلهم إلا وقد تمكنت منهم.
ولو كانت هذه الشهوة شائعة في الأعراب لتعشّقوا الغلمان بها، ولو تعشّقوا الغلمان لنسبوا بهم، ولتهاجوا ولتفاخروا ولتنافسوا فيهم، ويجري في ذلك من الشر ما لا يخفى مكانه)([19]).
ويقول عبد الحي الحسني الهندي: (اعلم أن أهل بلاد الفرس يتغزلون بالأمارد خلافًا للعرب وأهل الهند، فإن أهل العرب يتغزلون بالنساء، وأهل الهند يتغزلون بالرجال على لسان النساء)([20]).
يقول الدكتور شوقي ضيف في حديث له عما أصاب بغداد من الفساد في العصر العبّاسي: (وليس معنى ذلك أن الحياة في بغداد كانت كلها مجونًا وتهالكًا على الفجر والعهر، فإن تعدد الزوجات الذي أباحه الإسلام وما أعطاه للرجل من حق تسرّي الجواري، كل ذلك كان يحول دون سقوط بغداد جميعها في هوة الفساد، ومن أجل ذلك ينبغي أن لا نبالغ في تصور موجة المجون والعبث حينئذ، وأن نظن أن أهل بغداد جميعًا قد تخلوا عن الحياة المستقيمة الطاهرة التي يحوطها الخلق والتقاليد والدين، إنما هو الكرخ حيث بيوت النخاسين والمقينين ومن يفدون عليها من الفتيان والشعراء للشراب والمجون في غير استخفاء ولا حياء.
وقد أشاع هؤلاء المجان والخلعاء آفة مزرية هي آفة التعلق بالغلمان المرد، وكان أول من اشتهر بالغزل فيهم والبة بن الحباب، وهو يصرح بذلك تصريحا في غير مواربة ولا استحياء، ويقال: إنه هو الذي يتحمل وزر إفساد أبي نواس، بل هو في رأينا الذي يتحمل وزر العصر كله وما شاع فيه من هذا الغزل المقيت الذي يخنق كرامة الشباب والرجال خنقًا.
وربما كان من أسباب شيوعه كثرة الغلمان الخصيان في بغداد وغيرها من مدن العراق، وكان منهم من تسقط عنه رجولته حتى ليلبس لبس النساء.
وكان من الجواري من يلبس لبس الغلمان لفتًا للشباب والرجال، ويروى أن الأمين حين أفضت إليه الخلافة قدّم الخصيان وآثرهم، فشاعت قالة السوء فيه، ورأت أمه زبيدة درءا لتلك القالة أن تبعث إليه بعشرات من الجواري، ألبستهن لبس الرجال، حتى ينصرف عن الخصيان، فكن يختلفن بين يديه، وأبرزهن للناس، ولم يلبث كثيرون أن جاروه في هذا الصنيع، وكن يسمّين بالغلاميات، وعمّت هذه البدعة في الساقيات بالحانات، ولعل ذلك هو السر في أن أبا نواس كثيرًا ما يتحدث عن بعض الجواري بضمير المذكر.
ومن تتمة هذا التبادل بين الجواري والخصيان في الزي والهيئة حينئذ كثرة المخنثين بين المغنين والضاربين على الدفوف، وكانوا يتشبهون بالنساء في عاداتهن وثيابهن وضفر شعورهن وصبغ أظافرهن بالحناء)([21]).
ويقول الدكتور عمر فروخ: (إذا درسنا الغزل المُذَكَّر المقصود وجدناه ينشأ في بيئات أجنبية عن العرب والمسلمين، إذ إننا نعلم جيدًا أنه إنما بدأ في الحانات، وهذه لم يكن يديرها سوى الروم أو الفرس المجوس أو اليهود، تلك نقطة لا تحتمل الجدل أبدًا، وإذا قيض لك أن تقرأ البيت أو البيتين، أو القطعة أو القطعتين، وكانت كلها تدل على ذلك، قلت مع الإنكليز: الشاذ يثبت القاعدة)([22]).
ويقول في شأن أبي نواس: (إنه لم يبتدع الغزل المذكر، وإن كان هو الذي شيعه ووجهه إلى نواحيه المعروفة التي استقر فيها فيما بعد، إننا لا نجد مندوحة من القول مع الزيات: إن هذه الطريقة -الغزل المذكر- التي شرعها هذا الشاعر الماجن كانت جناية على الأدب، ووصمة في تاريخ شعر العرب)([23]).
ووجود هذا النوع من الغزل في شعر العرب في زمن الدولة العباسية وما بعدها ليس دليلًا على مشروعيته([24])، إذ كان مستنكرًا حتى من الأفاضل الذين استعلموه في بعض أشعارهم، واعتذروا -واعتُذِرَ لهُم- بأن استعمالهم لهذا النوع كان لترويج أشعارهم بإثبات اقتدارهم على مجاراة أهل عصرهم وتوليد المعاني الأدبية، لا لترويج الفاحشة، وفي ذلك يقول ابن الوردي:
مَـنْ قـالَ بالمُردِ فاحذر أنْ تصاحبَهُ … فـإنْ فـعـلْتَ فـثـقْ بـالعـارِ والنـارِ
بـضـاعـةٌ مـا اشـتـراها غيرُ بائعها … بـئسَ البـضـاعـةُ والمبتاعُ والشاري
يا قومُ صارَ اللواطُ اليومَ مشتهرًا … وشائعًــا ذائعًا مِـنْ غـيـرِ إنكارِ
ذنــبٌ بــهِ هلكـتْ مـنْ قـبـلنـا أمـمٌ … والعــرشُ يــهــتــزُّ مـنْهُ هـزَّ إكبارِ
جـنـاتُ عدنٍ عـلى اللّوطـيِّ قد حرمَتْ … اللهُ أكبــرُ ما أعصاهُ للباري
أسـتـغـفـرُ اللهَ من شـعـرٍ تـقدَّمَ لي … فـي المردِ قصدي بهِ ترويجُ أشعاري([25])
لكنَّ ذلكَ قولٌ ليسَ يـتبعُهُ … خـنا وحـاشـايَ منْ أفعالِ أشرارِ
قومٌ إذا حاربـوا شدوا مآزرَهُـمْ … دونَ النـسـاءِ ولوْ بـاتـتْ بـأطهارِ([26])
فرحم الله الإمام ابن الوردي، وما ذكره من اعتذار هو أحسن ما يجاب به عن أبياته المعروفة في لاميته التي جاء فيها وصف المردان، حيث قال فيها:
وَالْهَ عَنْ آلَةِ لَهْوٍ أَطْرَبَتْ … وَعَنِ الأمْرَدِ مُرْتَجِّ اْلْكَفَلْ
إِنْ تَبَدَّى تَنْكَسِفْ شَمْسُ الضُّحَى … وَإِذَا ما مَاسَ يُزْرِي بِالأَسَلْ
زَادَ إِنْ قِسْنَاهُ بِالبَدْرِ سَنَا … وَعَدَلْنَاهُ بِغُصْنٍ فَاعْتَدَلْ
وافْتَكِرْ في مُنتَهَى حُسنِ الذِي … أنتَ تهواهُ تجدْ أَمْرًا جَلَلْ
وقد أشار إلى هذا العذر نجم الدين الغزي في شرحه لهذه الأبيات فقال: (ولما كان الناظم أديبًا غلبت عليه صناعة الأدب، فتغزَّلَ بذكر أوصاف الأمرد، ولا شك أن النظر إلى الأمرد الجميل حرام ولو بغير شهوة، ولكنه أخذته رقة الأدب ولطافة التغزل، ولكنه صغّر أمر ذلك الأمرد، ولما جمع جزءًا من نظمه في وصف مئة غلام وسماه “الكلام على مئة غلام” أنشد في أوله معتذرًا:
والله ما المُرْدُ مُرَادِي وإن … نظمتُ فيهم كعقود الجمان
ولكن من رام نَفَاق الذي … يقوله ينظم خرج الزمان)([27]).
ويقول ابن الوردي أيضًا:
ما المُرْدُ أكبرُ همِّي … ولا نهايةُ علمِي
ولسْتُ من قومِ لوطٍ … حاشا تُقاي وحلمِي
وإنما خرْجُ دهري … كذا فنفَّقْتُ نظمِي
المحور الثالث: فعل قوم لوط في التاريخ الإسلامي هو ظاهرة فِسْقِيَّة لا شرعية:
إنّ حديث الملاحدة عن قصص اللواط في التاريخ الإسلامي وجمعهم لها، وذكرهم الأشعار في ذلك، وكل ما يأتون به من منقولات صحيحة ومكذوبة، معتمدين في ذلك على الروافض وغيرهم، كل ذلك في غير محل النزاع، فإننا لا ننازع في إمكانية أن يكون التاريخ الإسلامي اشتمل على ممارسات فردية من هذا القبيل، كما اشتمل على ما هو أعظم منه من البدع والضلالات والانحرافات العقدية والسلوكية، غير أن وجود ذلك ليس دليلًا على مشروعيته، ولا مبررًا لفعله.
فقد وُجِد هذا الفعل كظاهرة فِسقيَّة، أو خروج عن السلوك الإسلامي القويم في عصور المسلمين، حتى إننا نجد نقولًا كثيرة عن السلف فمَن بعدهم في التحذير من فتنة المُردَان، وصنف أبو بكر الآجري في القرن الرابع الهجري على طريقة المحدّثين كتابًا خاصًّا في ذلك سمّاه: (ذمّ اللواط)، وصنف السفاريني من المتأخرين رسالة مختصرةً في ذلك سمّاها: (قرع السياط في قمع أهل اللواط)، ولا يخلو كتابٌ من الكتب المفردة في الكبائر من ذكر اللواط في جملتها([28]).
وارتبط ذكر فتنة المردان بسلوكيات أهل البدع والضلال، وفي ذلك يقول أبو الطيب الطبري رحمه الله تعالى: (بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب والحواشي، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع، وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم.
قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وقال: { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، فعدلوا عما أمرهم الله به من الاعتبار إلى ما نهاهم عنه.
وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناه بعد تناول الألوان الطيبة والمآكل الشهية، فإذا استوفت منها نفوسهم طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص، والاستمتاع بالنظر إلى وجوه المرد، ولو أنهم تقللوا من الطعام لم يحنوا إلى سماع ونظر)([29]).
وفي عصر المماليك تجدُ وفرة في الحديث عن هذه الظاهرة من جوانب متعددة، وربطها بالعنصر التركيّ، إضافة إلى ربطها ببعض سلوكيات المتصوّفة.
ومما يدل على شيوع هذه الفاحشة في زمن المماليك ما ذكره ابنُ كثير لما ترجم لسلامش ابن الظاهر بيبرس، وكان قد ولي السلطنة أيضًا مثل أبيه، قال: (وقد كان سلامش من أحسن الناس شَكْلًا وأبهاهم منظرًا، وقد افتتن به خلقٌ كثيرٌ، واللوطية الذين يحبون المردان، وشبب به الشعراء، وكان عاقلا رئيسًا مهيبًا وقورًا)([30]).
وقد تقدّم قول ابن الوردي الذي عاصر زمن المماليك:
يا قومُ صارَ اللواطُ اليومَ مشتهرًا … وشائعًــا ذائعًا مِـنْ غـيـرِ إنكارِ
وقال ابن حجر في ترجمة جنكلي ابن البابا -وهو من أمراء التتار الذين التحقوا بالدولة المملوكية-: (ولم يكن له مَيْلٌ إلى المُردِ، ولا إلى السراري، بل مقتصر على أم أولاده التي حضرت معه من البلاد)([31]).
وبقي ربط ذلك بالعنصر التركي حتى زمن السفاريني الذي عاصر الدولة العثمانية، حيث قال: (فإن هذا الداء قد فشا وظهر وتداول، سيما بين الأتراك، واستفاض واشتهر، مع عظم قبحه وجرمه، وفظاعة اقترافه ووخمه)([32]).
والشأن ليس في مجرد وجود هذه الظاهرة في زمن المماليك أو غيرهم ليستدل بذلك العلمانيون والملاحدة على تبرير الشذوذ الجنسي، فإنها كانت ظاهرةً منكرةً مرفوضةً من الأئمة والعلماء، ولم يكونوا يبررونها بحالٍ من الأحوال.
يقول ابن القيم: (ومن أبلغ كيد الشيطان وسُخْريته بالمفتونين بالصور: أنه يُمَنّي أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمْرَدَ أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى، لا لفاحشة، ويأمره بمواخاته… ثم هُمْ بعد هذا الضلال والغيّ أربعة أقسام:
قوم يعتقدون أن هذا لله، وهذا كثير في طوائف العامة، والمنتسبين إلى الفقر والتصوف، وكثير من الأتراك.
وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله، وإنما يظهرون أنه لله خداعًا ومكرًا وتستُّرًا.
وهؤلاء من وجهٍ أقربُ إلى المغفرة من أولئك؛ لما يُرْجَى لهم من التوبة، ومن وجهٍ أخبث؛ لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرّم. وأولئك قد اشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة، ووقع في ذلك مَنْ شاء الله من الزهّاد والعُبّاد، وكذلك اشتبه على من هو أضعف علمًا وإيمانًا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقُربة.
القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى، فتارة يكونون من أولئك الضالِّين الذين يعتقدون أن هذه المحبة -التي لا وَطْء فيها- لله تعالى، وأن الفاحشة معصية، فيقولون: نفعل شيئًا لله تعالى، ونفعل أمرًا لغير الله تعالى، وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله، وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك، فيجمعون بين الكذب والفاحشة.
وهم في هذه المخادنة والمواخاة مُضاهِئون للنكاح، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين، وقد يزيد عليه تارة في الكَمّ والكيف، وقد ينقص عنه، وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابَّين في الله، لكن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، فإن المتحابَّين في الله يعظم تحابُّهما ويقوى ويثبت، بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية.
ثم قد يشتدُّ بينهما الاتصال حتى يسمُّونه زواجًا، ويقولون: تزوّج فلان بفلان، كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مُجَّان الفسقة، ويُقرّهما الحاضرون على ذلك، ويضحكون منه، ويُعجِبهم مثل ذلك المزاح والنكاح.
وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله، والملتحي عدو الله، وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح، وأنه مراد بقوله: «إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل، إني أحب فلانًا…» الحديث، وأنه توضع له المحبة في الأرض، فيعجبه أن يُحَبّ، ويفتخر بذلك بين الناس، ويعجبه أن يقال: هو معشوق، أو حُظْوة البلد، وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك.
وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المُرْدان على نكاح النسوان، وقالوا: هو أسلم من الحَبَل والولادة، ومَؤُونة النكاح، والشكوى إلى القاضي، وفرض النفقة، والحبس على الحقوق.
وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان؛ لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة.
وقسّمت هذه الطائفة المفعولَ به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر، ومملوك، ومعشوق خاصّ.
فالأول: إزاء البغايا المؤجِّرات أنفسهن.
والثاني: بإزاء الأمة والسُّرِّيَّة.
والثالث: بإزاء الزوجة، أو الأجنبية المعشوقة.
وتعوض كلٌّ منهم بقسم عن نظيره من الإناث، وربما فضَّل بعضهم اتخاذ المردان واستفراشهم على النساء من وجوه، وهذا مضادَّة ومحادَّة لله ودينه وكتبه ورسله)([33]).
وقال ابن حجر الهيتمي: (وقد فشا ذلك في التجار والمترفين، فاتَّخَذوا حسان المماليك سودًا وبيضًا لذلك؛ فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة، وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة ما داموا على هذه القبائح الشنيعة البشيعة الفظيعة، الموجبة للفقر وهلاك الأموال، وانمحاق البركات، والخيانة في المعاملات والأمانات.
ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه وموجده ورازقه، بل بارَزَه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروءة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة، والتحلي بصفات البهائم، بل بأقبح وأفظع صفة وخلة، إذ لا نجد حيوانا ذكرًا ينكح مثله، فناهيك برذيلة تعففت عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير، كلا بل هو أسفل من قذره، وأشأم من خبره، وأنتن من الجيف، وأحق بالشرر والسرف، وأخو الخزي والمهانة، وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة، فبعدًا له وسحقًا، وهلاكًا في جهنم وحرقًا)([34]).
وبهذا يتبين أن جريمة الشذوذ الجنسي في زمن المماليك وغيره كانت ظاهرة فسقية ترتبط بسلوكيات فئات منحرفة في المجتمع، رفضها العلماء أشدَّ الرفض، وبينوا أن من يستحلها أو يتدين بها يُحكَمُ بكُفرِه وردّته عن الإسلام، ولم تكن ظاهرةً مدعومةً من مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام، ولا محمية بالقوانين كما يريدها الملاحدة اليوم أن تكون.
وقد بقي أهل البدع والضلال يستبيحون اللواط بالمردان حتى زماننا هذا، ففي كلام لمحمد الحسن الرضوي الكشميري ما نصه: (ﺑﺎلمقاﺑﻞ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺤﻮﺯﻭﻳﻮﻥ ﻭﺭﺅوﺳﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻂ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﻭﻫﻮ ﺧﻂ ﺍلإﻣﺎﻡ ﺍﻟﺨﻮﺋﻲ ﻭﺧﻠﻴﻔﺘﻪ ﻭﺑﺤﺴﺎﺏ ﻭﺗﻨﺴﻴﻖ ﻓﻲ إﻗﺎﻣﺔ ﻣﺠﺎﻟﺲ ﻳﺴﻤﻮﻧﻬﺎ: (ﻋﻴﺪ ﻋﻤﺮ، ﻭﺗﺒﺴﻂ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺍﺋﺪ، ﻭﺗﺘﺨﻠﻠﻬﺎ أﻋﻤﺎﻝ ﻗﺒﻴﺤﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ إﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﻌﻮﺭﺓ ﻭﺍﻟﻜﻼﻡ ﺍﻟﺮﺧﻴﺺ ﻭﺍﻟﺴﻔﺎﺳﻒ ﺍﻟﻤﻀﺤﻜﺔ، ﺑﺪﻋﻮﻯ أﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺣﺪﻳﺜًﺎ للإﻣﺎﻡ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ أﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺭﻓﻊ ﺍﻟﻘﻠﻢ!
ﻭﺃﺗﺬﻛﺮ ﺃﻧﻪ ﻗﺒﺾ ﻋﻠﻰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺎﺕ ﺍﻟﺤﻮﺯﻭﻳﺔ ﻭﺑﻌﺾ ﺍﻟﺨﻄﺒﺎﺀ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ، ﻭﺫﻟﻚ ﻓﻲ أﻭﺍﺳﺎﻁ ﺍﻟﺜﻤﺎﻧﻴﻨﺎﺕ ﻭﻫﻢ ﻳﺤﺘﻔﻠﻮﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻓﻲ ﺷﻤﺎﻝ ﻃﻬﺮﺍﻥ ﻓﻲ ﻣﻜﺎﻥ ﺳﺮﻱ، ﻭﻳﺘﺮﺍﻗﺼﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻐﺎﻡ ﺍﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻰ، ﻭﻳﺘﻮﺳﻄﻬﻢ ﻏﻼﻡ ﺃﺭﻣﻨﻲ ﺃﻣﺮﺩ ﺟﻤﻴﻞ ﺫﻭ ﺟﺪﺍﺋﻞ، ﺛﻢ ﻳﺘﻌﺎﻗﺒﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﺭﺗﻜﺎﺏ ﺑﻌﺾ ﺍلأﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺪﺍﻋﺮﺓ ﻭﺍﻟﻼأﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﻌﻪ)([35]).
المحور الرابع: ردود العلماء على المستحلين لممارسة الشذوذ الجنسي مع العبيد:
هذه الفعلة في العصر المملوكي وجَدَت من يستبيحُها بالتأوُّل الديني، ولم تعد فقط ظاهرة فِسقية تُعالج بالزجر والترهيب من ذوي البيان، وبالعقوبة القضائية من ذوي السلطان، بل احتاجت إلى علاجٍ فقهي، لا سيما ما يتعلَّق باللواط بالعبيد.
يقول ابن تيمية: (ومن هؤلاء من يستحلّ بعض الفواحش، كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعما منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان محرمًا في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك من المردان، ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين، حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن التلوُّطَ مباح بملك اليمين، فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم وغير ذلك من المحرمات التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا، لكن من الناس من يكون جاهلًا ببعض هذه الأحكام جهلًا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة)([36]).
ويتحدّث ابن تيمية عن اشتباه الحكم الشرعي في اللواط بالغلام المملوك على طبقات مختلفة من المجتمع الذي عاش فيه، وأنه وقع منهم سؤال له ومخاطبة في هذه القضية: (خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء، وكان عندهم من هذه الاعتقادات الفاسدة ألوان مختلفة قد صدتهم عن سبيل الله)([37]).
ويتحدّث أيضا عن مبلغ الفساد الذي أدّى إليه هذا التأول في استباحة التلوط بالغلام المملوك، فيقول: (ثم ذلك الخلاف قد يكون قولًا ضعيفًا، فيتولَّدُ من ذلك القول الضعيف الذي هو خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين، ومن الكذب الذي هو فرية بعض الظالمين تبديلُ الدين، وطاعة الشياطين، وسخط رب العالمين. حتى نقل أن كثيرًا من المماليك يتمَدَّحُ بأنه لا يعرف إلا سيده كما تتمدح الأمة بأنها لا تعرف إلا سيدها وزوجها. وكذلك كثير من المردان الأحداث يتمدَّحُ بأنه لا يعرف إلا خدينه وصديقه ومؤاخيه كما تتمدح المرأة بأنها لا تعرف إلا زوجها.
وكذلك كثير من الزناة بالمماليك والأحداث من الصبيان قد يتمدَّح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذي هو قرينه كالزوجة، أو عما سوى مملوكه الذي هو قرينه كما يتمدح المؤمن بأنه عفيف إلا عن زوجته أو ما ملكت يمينه)([38]).
ويذكر أن هذا التأوّل لاستباحة اللواط بالمملوك انبنى على تحريف للوحي، وتحريف لكلام أهل العلم:
أما التحريف للوحي فالاستدلال بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6، المعارج: 30] على إباحة أن يستمتع الرجل بمملوكه الذّكَر، والاستدلال بقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِك} [البقرة: 221] على نفس المدلول.
ويذكر ابن تيمية وقوع الاستدلال الأول ممن سماهم: (جُهَّال الترك)، ووقوع الاستدلال الثاني من واحدٍ ممن كان يقرأ القرآن ويطلب العلم، وأنه سأل ابنَ تيمية عنه.
أما التحريف لكلام أهل العلم في المسألة فبدعوى أن هذه المسألة خلافية، ونسبتها إلى مذهب مالك وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، مع أن الإجماع قد انعقد على أن إتيان المملوك يعد من اللواط، وأن مستحلّ ذلك كافر.
قال ابن تيمية: (ومن المعلوم أن هذا كفر بإجماع المسلمين، فالاعتقاد بأن الذكران حلال بملك أو غير ملك باطل وكفر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم)([39]).
وقال الذهبي: (وأجمعت الأمة على أن من فَعَلَ بمملوكه فهو لوطيٌّ مجرم)([40]).
وقال ابن حجر الهيتمي: (وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين؛ فعليه لعنة الله، ثم عليه لعنة الله، ثم عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)([41]).
وقد استند المستحلون للواط بالعبد وخصوم أهل السنة المشنعون عليهم إلى الإمام مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وبين العلماء -كابن تيمية وابن القيم- فساد ذلك، وهذا ما سنوضحه في النقاط الآتية:
- إبطال نسبة ذلك إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى:
يشرح ابن القيّم وجه نسبة هذا القول لمذهب مالك فيقول: (وصنَّف بعضُهُم كتابًا في هذا الباب، وقال في أثنائه: «باب في المذهب المالكي»، وذكر فيه الجماع في الدُبُر من الذكور والإناث.
وقد عُلِم أن مالكًا رحمه الله تعالى من أشدِّ الناس وأسدِّهم مذهبًا في هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدًّا، بكرًا كان أو ثيبًا، وقوله في ذلك هو أصح المذاهب، كما دلت عليه النصوص، واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله…
وسبب الغلط أنه قد نُسِب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأتَه في دبرها، وهو كذبٌ على مالك وعلى أصحابه، فكتُبُهم كلُّها مُصرِّحة بتحريمه، ثم لمَّا استقرَّ عند هؤلاء أنَّ مالكًا يُبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور، وجعلوا البابين بابًا واحدًا، وهذا كفرٌ وزندقة من قائله بإجماع الأمة)([42]).
ويتحدّث ابن تيمية عن ظروف الجرأة على هذا التأول فيقول: (وآخرون قد يجتمع بهم من يقول لهم: إن في هذه المسألة خلافًا، ويكذب أئمة المسلمين الذين لا تكون مذاهبهم ظاهرة في بلاده، مثل من يكون بأرض الروم فيكذب على مذهب مالك، ويقول هو مباح في مذهب مالك)([43]).
فهنا يتبين أنّ الإقدام على الكذب على مذهب مالك في هذه القضيّة لا يكون في بلد ينتشر فيه العارفون بمذهبه وأتباعه وحملته، وإنما في بلد لا يشتهر فيها مذهبه، بل يكون الإسلام فيها أصلًا ضعيفًا، وقد كانت بلاد الروم (تركيّا) في عصر ابن تيمية محتلّة من التتار والنصارى.
وقد نسب بعضُ مجّان الشعراء هذا القول للإمام مالك، فقال في ذلك:
الشافعيّ من الأئمة قائل: … اللعب بالشِطْرَنج غير حرام
وأبو حنيفة قال وهو مصدَّق … في كل ما يروي من الأحكام:
شرب المثلَّث والمربَّع جائز … فاشرب على أمن من الآثام
وأباح مالك الفِقاح([44]) تكرُّما … في ظهر جارية وظهر غلام
والحبر أحمد حل جلد عُمَيرة … وبذاك يستغنى عن الأرحام
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج … في كل مسألة بقولِ إمام
قال ابن السبكي معلقًا على هذه الأبيات: (رأيي في مثل هذا الشاعر أن يُضرب بالسياط، ويُطاف به في الأسواق. فقبَّحه اللَّه تعالى وأخزاه! لقد أجترأ على أئمة المسلمين وهداة المؤمنين. وقد افترى على مالك فيما عزاه إليه، وعلى الكل في تسمية الشطرنج قمارًا، وإطلاق الزنا واللواط والشرب على ما سمَّاه؛ ومَنْ هذه حاله يؤول -والعياذ باللَّه تعالى- إلى الزندقة)([45]).
والرافضة ينسبون هذا القول للإمام مالك([46])، وقد ذكر ذلك ابن المطهر الحلِّي في كتابه (منهاج الكرامة)، وبيّن ابن تيمية بطلان كلامه فقال: (وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد فهو كذب لم يقله أحد من علماء أهل السنة، وأظنه قصد التشنيع به على مالك، فإني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك.
وأصل ذلك ما يحكى عنه في حشوش النساء، فإنه لما حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك، وحكي عن مالك فيه روايتان، ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك.
وهذا من أعظم الغلط على من هو دون مالك، فكيف على مالك مع جلالة قدره وشرف مذهبه وكمال صيانته عن الفواحش، وأحكامه بسد الذرائع، وأنه من أبلغ المذاهب إقامة للحدود، ونهيًا عن المنكرات والبدع؟!
ولا يختلف مذهب مالك في أن من استحل إتيان المماليك أنه يكفر، كما أن هذا قول جميع أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن استحلال هذا بمنزلة استحلال وطء أمته التي هي بنته من الرضاعة، أو أخته من الرضاعة، أو هي موطوءة ابنه أو أبيه، فكما أن مملوكته إذا كانت محرمة برضاع أو صهر لا تباح له باتفاق المسلمين، فمملوكه أولى بالتحريم، فإن هذا الجنس محرم مطلقًا لا يباح بعقد نكاح ولا ملك يمين، بخلاف وطء الإناث محصنا كان أو غير محصن، سواء تلوط بمملوكه أو غير مملوكه، فإنه يقتل عندهم الفاعل والمفعول به، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أبو داود وغيره.
وهذا مذهب أحمد في الرواية المنصوصة عنه، وهو أحد قولي الشافعي، فمن يكن مذهبه أن هذا أشد من الزنا، كيف يحكى عنه أنه أباح ذلك؟!
وكذلك لم يُبِحْهُ غيره من العلماء، بل هم متفقون على تحريم ذلك، ولكن كثيرًا من الأشياء يتفقون على تحريمها، ويتنازعون في إقامة الحد على فاعلها: هل يحد أو يعزر بما دون الحد، كما لو وطئ أمته التي هي ابنته من الرضاعة)([47]).
- إبطال نسبة ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله:
وأيضًا نُسب هذا القول إلى الإمام أبي حنيفة؛ لكونه لا يوجب الحدّ على هذا الفعل، فظنوا أن عدم إيجاب الحدّ يلزم منه عدم التحريم.
يقول ابن القيِّم: (ونظير هذا ما يتوهَّمه كثير من الفسقة وجُهَّال التُّرْك وغيرهم: أن مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر، وغايته أن تكون صغيرة من الصغائر.
وهذا من أعظم الكذب والبَهْت على الأئمة، فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك، وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة أنهم لمَّا رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحدّ، ركّبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها، وهذا ظن كاذب، فإن أبا حنيفة لم يُسقط فيه الحدّ لخفَّة أمره، وإن جُرْمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنى، ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمّة من الأمم، وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم.
وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فُحش هذا مركوز في طباع الأمم، فاكتُفِيَ فيه بالوازع الطَّبْعي، كما اكتُفِيَ بذلك في أكل الرّجيع وشرب البول والدم، ورُتب الحدّ على شرب الخمر؛ لكونه مما تدعو إليه النفوس.
والجمهور يجيبون عن هذا بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك، فالحدّ فيه أولى من الحدّ في الزنى، ولذلك وجب الحدّ على من وطئ أمه وابنته وخالته وجَدّته، وإن كان في النفوس وازعٌ وزاجر طَبْعي عن ذلك، بل حَدُّ هذا القتل بكل حال، بِكْرًا كان أو مُحْصَنًا، في أصح الأقوال، وهو مذهب أحمد وغيره.
هذا، ونُفْرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نُفرتها عن المُرْدان)([48]).
ومن أئمة الحنفية الذين نُسِبَ إليهم القول بإباحة اللواط بالعبيد ولا يصح عنهم: الإمام أبو جعفر الطحاوي، حيث قال ابن النديم المعتزلي الشيعي في ترجمته في الفهرست: (ويقال: إنه تعمل لأحمد بن طولون كتابًا في نكاح ملك اليمين، يرخص له في نكاح الخدم)([49]). وابن النديم كما قال الحافظ ابن حجر: (غير موثوق به، ومصنَّفُه المذكور ينادي على من صنفه بالاعتزال والزيغ)([50]).
ومما يدلّ على بطلان نسبة هذا القول للإمام الطحاوي: أنه من أشد العلماء ردًّا على مبيحي الإثفار([51]).
وفي كتاب لسان الميزان([52]) لابن حجر في ترجمة الطحاوي عن محمد بن معاوية القرشي: (دخلت مصر قبل الثلاث مِئَة وأهل مصر يرمون الطحاوي بأمر عظيم فظيع. يعني: من جهة أمور القضاء، أو من جهة ما قيل: إنه أفتى به أبا الجيش([53]) من أمر الخصيان). وهذا التفسير لا حجةَ فيه لكون ابن حجر ذكره بصيغة تمريض.
وقد أساء الكوثري لابن حجر، وحَطَّ عليه بسبب نقله ما نقله، فقال: (وكان الطحاوي رضي الله عنه من أشد العلماء ردًّا على مبيحي الإثفار، بخلاف ابن حجر فإنه قوى ثبوت القول به في التلخيص الحبير، وهذا مما يندي جبين العالم خجلًا، لكن من لم يأب التغزُّل في الغزلان، وألف خمس رسائل في هذا الشان، لا يأبى أن يلطخ الجباه الطاهرة بصنوف الأقذار من الهذيان)([54]).
ولا نطوّل في مناقشة كلام الكوثري حتى لا نخرج عن المقصود، غير أن ما يندى له الجبين حقًّا هو التعصُّبَات العقدية والفقهية التي أدت لقذف العلماء في أعراضهم انتصارًا لإمام معظّم لا يجوز الانتصار له بمثل ذلك، ونظير ذلك ما رمى به الأهوازيُّ الأشعريَّ من الموت على ظهر غلامٍ([55])، فانتصر ابنُ عساكر للأشعري برمي الأهوازيِّ بمثل ذلك([56]).
- إبطال نسبة ذلك إلى بعض الشافعية:
ومن الشافعية من يقول بسقوط الحدّ في بعض الصور، وهو التلوُّط بغلامِه المملوك، لوجود الشبهة، قال ابن الرفعة: (ولا فرق في ذلك بين أن يصدر هذا الفعل في أجنبي أو في مملوكة، على الصحيح.
وقيل: إذا جرى في مملوكه كان في وجوب الحد قولان؛ لقيام الملك، كما لو وطئ أخته من الرضاع المملوكة، وهذا ما نسبه القاضي الحسين إلى الشيخ أبي سهل الأبيوردي([57]).
والقائلون بالأول فرقوا بأن الملك ثَمَّ يبيح الإتيان في القُبُل على الجملة، فإذا لم يتجه في الأخت انتهض شبهة، ولا يبيح هذا النوع بحال)([58]).
يقول ابن تيمية معلقًا على الاحتجاج بمثل هذا القول: (ومنهم من قد بلغه خلافُ بعض العلماء في وجوب الحدِّ في بعض الصور، فيظنُّ أنَّ ذلك خلافٌ في التحريم، فربما قال ذلك أو اعتقده، ولا يفرق بين الخلاف على الحدِّ المُقدَّر والتحريم، وأن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالدم والميتة ولحم الخنزير وليس فيه حدٌّ مقدر)([59]).
وبهذا يتبين أن اللواط بالعبيد اعتمد على تأويلات منحرفة، وهي تأويلات لم يفطن إليها الملاحدة والحداثيون في زماننا كمحمد شحرور وأركون وأمثالهما، فقد كان أولئك الأتراك الجهلة الذين ناقشهم ابن تيمية والذهبي وابن القيم -على جهلهم- أسبق من هؤلاء الحداثيين في (تجديد قراءة النص الديني)!
المحور الخامس: ذكر الولدان المخلدين في القرآن ليس مبررًا للشذوذ الجنسي:
يزعم أنصار الشذوذ الجنسي أن الآيات التي ورد فيها ذكر الولدان المخلدين في الجنة من مبررات الشذوذ الجنسي!
يقول الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] ويقول: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19]، ويقول: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} [الطور: 24].
ومن أوضح ما وقفت عليه في هذه المسألة ما قاله الإمام ابن مفلح: (قال ابن الجوزي في كتابه السر المصون: كل مستحسَن ومُستَلَذٍّ في الدنيا أنموذج ما في الآخرة من ثواب، وكل مؤلم ومؤذ أنموذج عقاب.
فإن قيل: فهل يجوز أن يكون حُسْنُ الأمرد أنموذجًا لحصول مثله في الآخرة؟
فالجواب: أنه أنموذج حسن، فإذا وجد مثله وأضعافه في جارية حصل مقصود الأنموذج.
والثاني: أنه يجوز أن ينال مثل هذا في الآخرة، فيباح مثل ما حظر مما كانت تشرئب إليه، فيوجد الصبيان على هيئة الرجال من غير ذَكَر، وربما كان الولدان كذلك.
قال ابن عقيل: جرت هذه المسألة بين أبي علي بن الوليد وأبي يوسف القزويني([60])، فقال أبو علي: لا يمتنع جماع الولدان في الجنة وإنشاء الشهوات لذلك، فيكون هذا من جملة اللذات؛ لأنه إنما منع منه في الدنيا لكونه محلًّا للأذى، ولأجل قطع النسل، وهذا قد أمن في الجنة؛ ولذلك أبيحوا شرب الخمر لما أمنوا من غائلة السكر، وهو إيقاع العربدة الموجبة للعداوة وزوال العقل.
فقال أبو يوسف: الميل إلى الذكور عاهة، ولم يخلق هذا المحل للوطء.
فقال أبو علي: العاهة هي الميل إلى محل فيه تلويث وأذى، فإذا أزيل ولم يكن نسل لم يبق إلا مجرد الالتذاذ والمتعة، ولا وجه للعاهة. انتهى ما ذكره ابن الجوزي.
وفي فنون ابن عقيل أيضًا: سئل عمن له من أهل الجنة أقارب في النار هل يبقى على طبعه؟
فقال: قد أشار إلى تغير الطبع بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] فيزيل التحاسد، والميل إلى اللواط، وأخذ مال الغير)([61]).
فأنت ترى أولًا أن هذا القول ليس محل إجماع في تفسير الآيات، بل قدم ابن الجوزي القول الأول الذي ليس فيه ذكرٌ لجماع الولدان.
ثم إن في تفاصيل ما ذكره من ذهب إلى إمكانية جماع الولدان في الجنة ما يزيل الشناعة التي يشنع بها دعاة الشذوذ الجنسي، وأن لهم في ذلك أصلًا وهو التنعم المتفق عليه لأهل الجنة بالخمر، فشأنهم كشأن من يبرر لأهل الخمور شرب خمورهم وبيعها وعصرها؛ لأن أهل الجنة يتنعمون بشرب الخمور، ولا يخفى ما في ذلك من السُّخْف.
والخلاصة: أن سبب فشو هذه الفاحشة هو الترف واتباع خطوات مدنية أوربا في التمتع بالشهوات واللذات -كما يقول صاحب المنار-، فالمبررون لتلك الفاحشة هم عبيد الغرب، وإن تدثّروا بكلمات من التراث العربي، يعتمدون فيها على تشنيعات الروافض على أهل السنة، وعلى منقولات رديئة من كتب الأدب، لا يفرّقون فيها بين الشرع المعصوم والتاريخ الذي هو تسجيل لحوادث البشر غير المعصومين، ولا يميزون المنقولات الصحيحة من الواهية، ولا ما يعد حجةً معتبرةً في دين الله وما ليس كذلك، وهم في ذلك في غاية التلبيس والتدليس، نسأل الله السلامة والعافية.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أحمد (2816)، وأبو يعلى (2539)، وصححه ابن حبان (4417)، وهو في السلسلة الصحيحة (3462).
([2]) أخرجه أحمد (15092)، والترمذي (1457) وقال: “هذا حديث حسن غريب”، وهو في صحيح الجامع (1552).
([3]) انظر تفاصيل تلك الأقوال وأدلتها معزوة لمصادرها مبينة بشكل ميسر في: تنوير البصائر لشرح منظومة الكبائر للشيخ عبد الله الفوزان (ص: : 63-67)، ولا نطول بالعزو للمصادر الأصلية حتى لا نخرج عن المقصود.
([4]) مجلة المنار، المجلد 18. وانظر في المقارنة بين مفسدة الزنا واللواط: قرع السياط للسفاريني، ضمن المجموع البهي (1/ 432)، حيث قرر أن الزنا أفحش في لوازمه، واللواط أفحش في ذاته.
([6]) محاسن الشريعة (32/ 248).
([7]) ينظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 169).
([9]) ينظر: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي (ص: 554).
([11]) تاريخ الإسلام (3/ 555).
([12]) مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة (ص: 104).
([13]) انظر مثلًا: ثمار القلوب للثعالبي (ص: 156-158).
([14]) ينظر: تهذيب التهذيب (11/ 180).
([15]) طبقات الحنابلة (1/ 410-413).
([16]) ينظر: تهذيب التهذيب (11/ 181).
([17]) الثقات (9/ 266). وللذهبي رأي في أن ميله للمُرد كان أيام الشبيبة، ثم ترك ذلك، انظر: تاريخ الإسلام (5/ 1283)، وسير أعلام النبلاء (12/ 10).
([18]) انظر بحثًا مطولًا في ظاهرة الغزل المذكر في العصر العباسي، وما جاء في الدراسات الأدبية من آراء بشأن أبي نواس والشذوذ الجنسي في كتاب: اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري ليوسف حسين بكار (ص: 195-295).
([19]) ينظر: تاريخ الأدب العربي لعمر فروخ (2/ 44-45).
([20]) الثقافة الإسلامية في الهند: معارف العوارف في أنواع العلوم والمعارف (ص: 283).
([21]) الثقافة الإسلامية في الهند: معارف العوارف في أنواع العلوم والمعارف (ص: 283).
([22]) أبو نواس: شاعر هارون الرشيد ومحمد الأمين (ص: 53-54).
([23]) تاريخ الأدب العربي (3/ 73-74).
([24]) انظر في حكم التغزل بالمردان: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (32/ 251-252).
([25]) انظر اعتذار أبي الفضل القونوي لخليل بن أيبك الصفدي بما اعتذر به ابن الوردي في هذا البيت في موقف الصفدي من ابن تيمية (ص: 45)، وبه يُعتَذر للحافظ ابن حجر إن صح ما نسبه إليه الكوثري في الحاوي في سيرة الإمام أبي جعفر الطحاوي (ص: 28) من التغزل بالغلمان، وقد ورد هذا النوع من الغزل في شعر أبي حيان الأندلسي وغيره من أدباء العصر المملوكي وعلمائه.
([26]) ديوان ابن الوردي (ص: 288-289).
([27]) التحفة الندية (ص: 70-71).
([28]) انظر مثلًا: الكبائر للذهبي (ص: 201-208)، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي (ص: 228-235)، والذخائر لشرح منظومة الكبائر للسفاريني (ص: 178-185)، وتنوير البصائر لشرح منظومة الكبائر للفوزان (ص: 63-67).
([29]) ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 238-239). وانظر ما ذكره القناوي الشافعي عن فئات من متصوفة زمانه في فتح الرحيم الرحمن شرح نصيحة الإخوان (ص: 71-72).
([30]) البداية والنهاية -ط: إحياء التراث- (13/ 358).
([31]) الدرر الكامنة، ترجمة رقم (1461).
([32]) قرع السياط في قمع أهل اللواط، ضمن المجموع البهي لرسائل ومصنفات الفقه الحنبلي (1/ 415).
([33]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 866-870).
([34]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 235).
([35]) محنة الهروب من الواقع (ص: 74).
([36]) مجموع الفتاوى (11/ 405-406).
([37]) قاعدة في المحبة (ص: 186).
([38]) قاعدة في المحبة (ص: 187).
([39]) قاعدة في المحبة (ص: 186).
([41]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 235).
([42]) إغاثة اللهفان (2/ 870).
([43]) قاعدة في المحبة (ص: 186).
([45]) معيد النعم ومبيد النقم (ص: 81).
([46]) استشهد الرافضي علي آل محسن بهذه الأبيات في ما يفترونه على الأئمة في كتابه مسائل حار فيها أهل السنة (ص: 196).
([47]) منهاج السنة النبوية (3/ 435-437).
([48]) إغاثة اللهفان (2/ 870-871).
([51]) انظر: شرح معاني الآثار (2/ 23). والإثفار: هو إتيان المرأة في دبرها.
([53]) أبو الجيش هو: خمارويه بن أحمد بن طولون، جاء في ترجمته: (يقال: قتله مماليكه للفاحشة في ذي الحجة، سنة اثنتين وثمانين ومائتين بدير مران، ثم ضربت رقابهم). سير أعلام النبلاء (13/ 448).
([54]) الحاوي في سيرة الإمام أبي جعفر الطحاوي (ص: 28).
([55]) انظر: رسالة مثالب ابن أبي بشر، ملحقة بكتاب تبيين كذب المفتري (ص: 771). وقد نقل محقق الكتاب (ص: 710-711) عن الإمام الذهبي أن القصتين مكذوبتان.
([56]) تبيين كذب المفتري (ص: 710). وانظر ردّ ابن عبد الهادي عليه في جمع الجيوش والدساكر (ص: 469-470).
([57]) نسب ذلك إليه القاضي حسين في تعليقته، وهي غير مطبوعة، وانظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/ 45).
([58]) كفاية النبيه في شرح التنبيه (17/ 189-190).
([59]) قاعدة في المحبة (ص: 186-187).
([60]) وهم السفاريني فنسب هذا الكلام لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، انظر: قرع السياط في قمع أهل اللواط، ضمن المجموع البهي (1/ 437).