خطاب التكفير في الاختلاف الأشعري الأشعري
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
إنَّ من خصائص أهل السنة والجماعة اجتماعَ كلمتهم على اتباع الحقّ واقتفاء أثر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف أهل البدع والأهواء الذين يكثر بينهم الطعنُ واللعنُ والتباغض والتشاحن، وهذا ما لم يسلَم منه أحد من طوائف أهل البدع.
يقول الإمام أبو المظفر السمعاني في كلام طويل يحسن إيراده في هذا المقام: (ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعتَ جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا ولا تفرقا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟! قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ} [آل عمران: 103].
وأما إذا نظرتَ إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين، شيعًا وأحزابًا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يُبدِّع بعضُهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه والرجل أخاه والجار جاره، تراهم أبدًا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. أوما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي؟! وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم مُتفرّقين يُكفِّر بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض، كذلك الخوارج والروافض فيما بينهم، وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا؟! قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159])([1]).
ولك أن تقول: إن هذا القانون الذي نبّه إليه أبو المظفر السمعاني بنظره في حال أهل الأهواء يجري بمقدارِ ما يشاءُ الله أن يجري على الأشعرية، كما يجري على غيرهم.
ثم يبين الإمام أبو المظفر السمعاني سبب ذلك الافتراق بين أهل الكلام، وهو الخلل في منهجهم في التلقي والاستدلال حيث يقول: (وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف. فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، أما دلائل العقل فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بَيِّنٌ، والحمد لله)([2]).
وقد نظم الشيخ محمد علي آدم الأثيوبي رحمه الله كلام أبي المظفر بقوله:
قال أبو المظفَّرِ: السببُ في |
|
وَفق المحدِّثين في النهج الوفِي |
أخذُهُمُ الدينَ من السنة أو |
|
من كتابِ ربهم ونعمَ ما اقتَفَوا |
أما ذَوو البِدَع بالعقل اكتَفَوا |
|
فكثُرَ اضطرابُهم لما قَفَوا |
نقلُ الرواة قلَّمَا يختلفُ |
|
لأنَّ أصلَهُ نصوصٌ تعرفُ |
وقلَّمَا تتفقُ الآراءُ |
|
لأنَّ أصلها الهوى الهُرَاءُ([3]) |
ثم يبين أبو المظفر السمعاني الفرق بين الاختلاف السائغ وغير السائغ، وأن الأول هو الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم، بخلاف الثاني: (وبهذا يظهر مقارفة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول، فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم اختلفوا في أحكام الدين فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعا؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة، مثل مسألة الجد، والمشتركة وذوي الأرحام، ومسألة الحرام وفي أمهات الأولاد وغير ذلك مما يكثر تعداده من مسائل البيوع والنكاح والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة وهيئات الصلاة وسائر العبادات. فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الآمة حيث أيدهم باليقين.
ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة، فكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة.
فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار ظهرت العداوة، وتباينوا وصاروا أحزابًا، فانقطعت الأخوة في الدين، وسقطت الألفة.
فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة إنما حدثت من المسائل المحدثة، التي ابتدعها الشيطان فألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا، ويرمي بعضُهم بعضًا بالكفر، فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس فتفرقوا واختلفوا، فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا تفرُّقًا، وبقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعًا لا تكفيرًا، كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة.
فكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض، والتدابر والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير، علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها، ويعرض عن الخوض فيها؛ لأن الله شرط في تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخوانا، فقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103])([4]).
ويقول أبو عبد الله الذهبي: (علم أصول الدين: هذا اسم عظيم، وهو منطبق على حفظ الكتاب والسنة، فهما أصول دين الإسلام ليس إلا، وأما العرف في هذا الاسم فهو مختلف باختلاف النحل، فأصول دين السلف الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله وملائكته وبصفاته، وبالقدر، وبأن القرآن المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق، والترضي عن كل الصحابة، إلى غير ذلك من أصول السنة. وأصول دين الخلف هو ما صنفوا فيه، وبنوه على العقل والمنطق، وبينهم اختلاف شديد في مسائل منه، تركها من حسن إسلام المرء، فإنه يورث أمرضًا في النفوس، ومن لم يصدقني يجرب، فإن الأصولية بينهم السيف يكفر هذا هذا، ويضلل هذا هذا)([5]).
وقفة مع محمد زاهد الكوثري في رميه أهل السنة بخرق حجاب الهيبة في التكفير:
قد أغاظ كلامُ الذهبي الكوثريَّ، فأراد في تسويداته على رسالة الذهبي آنفة الذكر تبرئة الأشعرية والماتريدية (الذين يسميهم: أهل السنة) من تهمة الغلو في تكفير المخالف، وإلصاق ذلك بأهل الحديث (الذين يسميهم: الحشوية)، فقال: (وأجرأ الناس وأكثرهم خرقًا لحجاب الهيبة في إكفار المخالف -مع ما ورد في ذلك من الوعيد الشديد- جماعة الحشوية، كما يقول ابن دقيق العيد، وكما يظهر من كتبهم في الصفات والتوحيد، والرد على الجهمية، وذم الكلام، والسنة، ومما ألفوه في نقد الرجال. ومذهب أهل السنة عدم إكفار المخالف من أهل القبلة)([6]).
وهذه تهمة قديمة، تجدها في كلام أبي الحسن تقي الدين السبكي مكررة في كثير من المواطن، ومن ذلك قوله في أول وصف نونية ابن القيم: (هي حمل العوام على تكفير كل من سواه وسوى طائفته)([7])، وإن كان بعض المعتزلة ينسبون لأصحاب الحديث نقيض ذلك من عدم تكفير المتأول بوجه([8]).
ومما يبطل هذه التهمة ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: (كنتُ أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنتُ كافرًا مَريدًا؛ لعلمي بأن هذا كفر مُبين، وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعُون له ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلمُ والإيمان ظاهرًا لقومٍ دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين)([9]).
والحق أن ألفاظ الأئمة في التكفير التي يستند إليها من يرمي أهل السنة بخرق حجاب الهيبة في إكفار المخالف تحمل على محامل معروفة لدى المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها ألفاظ لا تقتضي التكفير أصلًا، فيتمسك بها أهل البدع ويتشكون من بغي أهل السنة عليهم، ولا يكون الحال كذلك، كما سيأتي في الجواب على كلام ابن المعلم.
وأما قول الكوثري: (ومذهب أهل السنة عدم إكفار المخالف من أهل القبلة) فهو يعني بهم الأشاعرة والماتريدية، ومعلوم أن لهم في تكفير من يعدونهم من أهل الأهواء قولين، وكلامهم في ذلك مبسوط في كتب الفقه.
وكان الأجدر بالكوثري -إن كان باحثًا عن الجرأة وخرق حجاب الهيبة في التكفير- أن يبحث عن ذلك في كلامه وكتبه وتعليقاته وفي كلام أصحابه، لا في مصنفات إثبات الصفات والتوحيد والرد على الجهمية وذم الكلام والسنة وكتب الرجال.
وقفة مع ابن المعلم الشافعي في ما نسبه لابن قدامة من تكفير الأشاعرة:
من أمثلة كلام بعض الأئمة في الأشعرية الذي لا يستلزم تكفيرًا لأعيانهم وهم فهموه على ذلك: قول ابن قدامة في عقيدته: (وكل متَّسم بغير الإسلام والسنة مبتدع، كالرافضة والخوارج والجهمية والقدرية والمرجئة والكرامية والسالمية والكلابية والمعتزلة والأشعرية، فهذه فرق الضلال وطوائف البدع، أعاذنا الله منها. وأما بالنسبة إلى إمام في فروع الدين -كالطوائف الأربعة- فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة)([10]).
وتسمية المرء نفسه أشعريًّا وانتسابه إلى الأشعري بدعة، بخلاف الانتساب إلى المذاهب الأربعة، يقول شيخ الإسلام: (مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر)([11]).
وقد أورد ابن المعلم كلام ابن قدامة، وحمّله ما لا يحتمل فقال: (فعَدَّ الأشعريَّة مع من اتَّسَم بغير الإسلام، فمن عذيرنا ممن مذهبه واعتقاده تكفيرنا؟! ولعمري لقد عَيَّر بُجير بُجرة، نسي بجير خبره)([12]).
ومما يدل على بطلان نسبة ذلك لابن قدامة أنه كان له تلامذة من الأشاعرة، كانوا يسمعون عليه الحديث، كأبي شامة المقدسي([13])، ولو كانوا كفارًا عنده لما عاملهم بذلك، ويبعُد أن يخفى على مثله كونهم أشاعرة.
فابنُ المعلم لم يُحرِّر قولَ ابن قدامة، ثم بنى على ذلك مقابلته بنظير ما توهمه مذهبًا له، فألمَح إلى القول بتكفير الحنابلة بقوله: (ولعمري لقد عَيَّر بُجير بُجرة، نسي بجير خبره).
هل بلغ الاختلاف بين الأشاعرة حدَّ التكفير؟
إن جوابَ هذا السؤال لدى رموز النشاط الأشعري المعاصر النفيُ القاطع، فهم ينفون أن يكون الاختلاف بين أئمتهم اختلافًا حقيقيًّا، فضلًا عن أن يصل ذلك الاختلاف إلى درجة التكفير.
يقول أحدهم: (الاختلاف أنواع، فمنه اختلاف في الأصول وفي الفروع، واختلاف حقيقي وآخر لفظي، أما الخلاف اللفظي فهو موجود بين الأشاعرة المتقدمين والمتأخرين وبين المتقدمين والمتأخرين من جهة، أما الاختلاف الحقيقي الأصلي فليس موجودًا لا من الأشاعرة المتقدمين ولا المتأخرين ولا المتقدمين والمتأخرين. وأما الاختلاف المعنوي الفرعي الذي لا يعودُ بالنقض على الأصول فهو موجود، ومسائِلُه محدودة، ولا يستلزمُ خروجًا على أصول المذهب)([14]).
وهذا الكلام يُثيرُ العَجَب، فمن ينظر في السجالات البينية بين علماء الأشاعرة يجد في جملةٍ منها الذم والتحذير والمبالغة في الإنكار، وليس هذا شأن الاختلاف الفرعي، فمن ذلك:
1- قول القاضي عياض في كلامه على قوله تعالى: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ} [الملك: 16]: “ثم من صار من دهماء الفقهاء والمحدثين وبعض متكلمي الأشعرية وكافة الكرامية إلى الجهة أوّل (في) بـ(على)”([15]).
وهذا الإقرار بوجود طوائف من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين يقولون بإثبات العلوّ لله تعالى لم يرض به جمع من الأشاعرة، فإن هذا القول محض كفر عندهم، لا يقبلون سَوْقَه في القالب الذي أورَدَه به القاضي عياض، فتعقَّبَه الأُبِّي تعقبًّا شديدًا، ثم نقل عن الفقهاء -التونسيين كابن عبد السلام وابن هارون، والفاسيين كالسطي وابن الصباغ- اتِّفَاقهم على إنكار ذلك في مجلس الأمير أبي الحسن ملك المغرب، حتى قال بعضهم: الله حسيبُه([16]).
وقال السنوسي مُعلقًا على كلام القاضي عياض: (كلام شنيع، ليتَهُ لم يَقُلْه)([17]).
واعتراض هؤلاء المعترضين على القاضي عياض لا يقال فيه: إنه اختلاف فرعي.
هذا، وقد حاول الكوثري أن يحرّف مقصود القاضي عياض بالتقليل من شأن من نقل عنهم إثبات العلو لله تعالى، فأتى بما لا يفيد، فإن تفسير (على) بمعنى (في) الذي ذكره القاضي عياض قرره الحافظ البيهقي([18])، ولا يمكن للكوثري أن يقلل من شأنه([19]).
2- قول الحافظ ابن حجر في ترجمة القطب التحتاني: (رأيت له سؤالًا سأل فيه تقي الدين السبكي عن قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»، وجواب السبكي له عما استشكله، فنقض هو ذلك الجواب وبالغ في التحقيق والتدقيق، فأجابه السبكي وأطلق لسانه فيه، ونسبه إلى عدم فهم مقاصد الشرع والوقوف مع ظواهر قواعد المنطق، وبالغ في ذمه)([20]).
وبعيدًا عن تفاصيل ذلك السجال فللناظر أن يتساءل: إذا كان الاختلاف بين علماء الأشاعرة كله من الاختلاف الفرعي الذي لا يعود بالنقض على الأصول، فلم يطلق السبكي لسانه في القطب التحتاني؟! ولم يبالغ في ذمّه؟!
فإما أن يكون السبكي لا يعرف الأصول من الفروع، أو أن ذلك الذي يدعي أن اختلاف علماء الأشاعرة كله من الاختلاف الفرعي لا يعرف حقيقة أقوال الأئمة الذين يدعي الانتساب إليهم.
3- انتقد أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي -الذي اعتمد متأخرو الأشعرية كتبه غاية الاعتماد- فخرَ الدين محمد بن عمر الرازي انتقاداتٍ ليست من قبيل الخلاف الفرعي، حيث قال فيه: (له زَلَّات معروفة في العقائد، نبّه عليها ابن التلمساني وغيره)([21]).
وقال في تفسير سبب دعائه بالموت على دين العجائز: (وقد يحتمل أن يكون سبب دعائه بهذا ما علم من حالِهِ من الوُلُوع بحفظ آراء الفلاسفة وأصحاب الأهواء، وتكثير الشُّبَه لهم، وتقوية إيرادها، ومع ضعفه عن تحقيق الجواب عن كثير منها على ما يظهر من تواليفه، ولقد استرقوه في بعض العقائد، فخرج إلى قريب من شنيع أهوائهم، ولهذا يحذر الشيوخ من النظر في كثير من تواليفه. قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني رحمه الله تعالى ورضي عنه: من تحقق كلام ابن الخطيب وجده في تقرير الشبه أشد منه في الانفصال عنها، وفي هذا ما لا يخفى.
وأنشدني شيخي أبو عبد الله الآبلي قال: أنشدني عبد الله بن إبراهيم الزموري قال: أنشدني تقي الدين ابن تيمية لنفسه:
محصل في أصول الدين حاصله .. من بعد تحصيله علم بلا دين
أصل الضلالة في الإفك المبين فما .. فيه فأكثره وحي الشياطين
قال: وكان بيده قضيب فقال: لو أدركت فخر الدين لضربته بقضيبي هذا على رأسه. انتهى)([22]).
وقد هاجم محقق الكتاب([23]) شيخ الإسلام ابن تيمية لقوله ما قاله في كتاب (المحصل في أصول الدين)، فنقل عن بعض المحشين أن البيتين إساءة أدب، وأنه لا يلتفت إليه، وحقيقة هذا الاعتراض هو على السنوسي لا على ابن تيمية، فإنه هو من نقل عنه البيتين وأشاعهما.
وأكّد السنوسي هذا المعنى في موضع آخر فقال: (وليحذرِ المبتدي جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حُشِيَت بكلام الفلاسفة، وأُولِع مُؤلِّفُوها بنقل هَوَسِهم وما هو كفرٌ صراح من عقائدهم، التي ستروا نجاستها بما ينبَهِمُ على كثير، من اصطلاحاتهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات، وذلك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام، وطوالع البيضاوي ومن حذا حذوهما في ذلك)([24]). قال الدسوقي في حاشيته: (أي: ومن سلك مسلكهما كالأرموي والعلامة السعد والعضد وابن عرفة)([25]). ثم نقل عن البرهان اللقاني دفاعًا عن الرازي وأتباع مدرسته في نقلهم شبهات الفلاسفة في كتبهم، وقد سبقه التاج السبكي في الدفاع عن الفخر الرازي([26]).
ومن نظر في كتب الأشاعرة يجد مواضع يصل فيها الاختلاف بينهم إلى حد التكفير، لا إلى المبالغة في الذم فحسب، فمن ذلك:
1- قولُ الفخر الرازي منتقدًا قولَ القاضي أبي بكر ابن الطيب في حد الكفر بأنه الجحد بالله تعالى المفسر بالجهل: (فقد تقرر شدة وقوع الاختلاف في صفات الله تعالى بين الأصحاب، ولا يجوز الالتفات إلى ما يتكلف في إزالة هذه الاختلافات، فإن أمثال تلك التكلُّفَات مما لا يعجز عنها أحدٌ من أرباب المذاهب. فثبتَ أنَّا لو حكمنا بأن الجهل بشيء من صفات الله تعالى يكون كفرًا يلزمنا تكفيرُ أئمتنا ومشايخنا، وإنه غير جائز)([27]).
وموضع الشاهد في ما نقله الرازي: أن اختيار القاضي أبي بكر ابن الطيب في حد الكفر يقتضي تكفير بعض أئمة ومشايخ الأشعرية، لنفي بعضهم صفاتٍ يرى هو إثباتها، وهذا الإيراد ورد أيضًا على المعتزلة؛ لكونهم عرفوا الكفر بالجهل أيضًا([28]).
وهذا كافٍ في المقصود، ولا يضر أن يكون الرازي قد خالفه في اختياره؛ إذ محل الشاهد في مذهب القاضي لا في مذهب الرازي.
2- قول ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـينَ} [الأحزاب: 40]: (وما ذكره الغزالي في هذه الآية وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بـ(الاقتصاد) إلحادٌ عندي، وتطرُّقٌ خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوءة، فالحذرَ الحذرَ منه، والله الهادي برحمته)([29]).
وقد جاء البرهان البقاعي بعد قرون، وناقش ابن عطية في ما قاله، وحذر من الإصغاء إليه([30])، وإن كان قد أحسن الظن فيه، وتأدب معه، فلم يذكر اسمه صونًا عن الوقيعة فيه([31]).
3- قول القاضي عياض بعد أن ذكر مذهب الجاحظ في إعذار مقلدة اليهود والنصارى: (وقد نحا الغزالي قريبًا من هذا المنحى في كتاب (التفرقة)، وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدًا من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم، أو شك)([32]).
وقد جاء ابن حجر الهيتمي بعد قرون ورد على القاضي عياض، وأورد في جوابه عليه قولَ ابن السبكي: (لا يبغض الغزالي إلا منافق أو زنديق)([33]).
فهذه النماذج الثلاثة تفي بالمقصود بإذن الله، وتبين بطلان قول من ادعى أن الاختلاف بين علماء الأشاعرة كله من الاختلاف الفرعي، وتبين أيضًا أن دعوى أن أهل السنة هم الذين خرقوا حجاب الهيبة في تكفير المخالف -مع هذه النصوص وغيرها- محض افتراء، يذكرك بقول القائل: رمتني بدائها وانسلّت.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) «الحجة في بيان المحجة وشرح اعتقاد أهل السنة» (2/ 239-240).
([2]) «الحجة في بيان المحجة وشرح اعتقاد أهل السنة» (2/ 241).
([3]) «التحفة المرضية في نظم المسائل الأصولية» (ص: 11).
([4]) «الحجة في بيان المحجة وشرح اعتقاد أهل السنة» (2/ 241-243).
([5]) «بيان زغل العلم» -بتحقيق الكوثري، ط. مطبعة الترقي بدمشق- (ص: 21-22)، وفي تحقيق أبي الفضل القونوي بعض اختلاف في هذا الموضع بسبب اعتماده على إبرازة أخرى للذهبي.
([6]) من تعليق الكوثري على «بيان زغل العلم» (ص: 22-23).
([7]) «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل» (ص: 20).
([8]) «البحث عن أدلة التكفير والتفسيق» لأبي القاسم البستي المعتزلي (ص: 50).
([9]) «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 10).
([10]) «لمعة الاعتقاد»، نسخة خطية محفوظة في جامعة ييل بالولايات المتحدة، تعود للقرن الثالث عشر الهجري، والنسخ الخطية لـ«لمعة الاعتقاد» منها ما أثبت فيه اسم الأشعرية، ومنها ما حذف منه، وقد اعتمد ابن المعلم على نسخة من النوع الأول، ولذلك عزوت لها. ولابن قدامة كلام آخر فيه إغلاظ شديد على الأشعرية والأشعري في (المناظرة في القرآن الكريم) و(جواب في القرآن).
([11]) «مجموع الفتاوى» (6/ 359-360).
([12]) «نجم المهتدي ورجم المعتدي» (1/ 78-79).
([13]) سمع عليه «مسند الشافعي» وكتاب «النصيحة» لابن شاهين، كما ذكره أبو شامة في «المذيل على الروضتين» (1/ 368)، وانظر ترجمة أبي شامة، وأبياته في الانتصار للعقيدة الأشعرية ردًّا على النجم ابن حمدان الحنبلي رحمهما الله في «نجم المهتدي ورجم المعتدي» لابن المعلم (2/ 108-114).
([14]) الكلام لسعيد فودة، وانظر بحث «النشاط الأشعري المعاصر» (ص: 103-106).
([15]) ينظر: «إكمال إكمال المعلم» للأُبِّي (2/ 241). وثمة اختلاف مع ما ورد من المطبوع من «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (2/ 465).
([16]) «إكمال إكمال المعلم» (2/ 241).
([17]) «مكمل إكمال الإكمال» بهامش «إكمال إكمال المعلم» (2/ 241).
([18]) «الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد» (ص: 116).
([19]) «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل» (ص: 113).
([20]) «الدرر الكامنة» (6/ 99).
([21]) «عمدة أهل التوفيق والتسديد» (ص: 168).
([22]) «عمدة أهل التوفيق والتسديد» (ص: 159-160).
([23]) محقق طبعة دار التقوى بدمشق الشام، نشرت سنة 2019م، وانظر معارضة الكوثري لابن تيمية في «صفعات البرهان على صفحات العدوان» (ص: 47-48).
([24]) «شرح أم البراهين» (ص: 137).
([25]) «حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين» (ص: 71).
([26]) «معيد النعم ومبيد النقم» (ص: 65).
([27]) «نهاية العقول» (4/ 274).
([28]) انظر «البحث عن أدلة التكفير والتفسيق» لأبي القاسم البستي (ص: 8).
([29]) «المحرر الوجيز» (4/ 388).
([30]) «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (15/ 366-367).
([31]) «تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان» (ص: 188-189).