دعوى: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يسبقه أحدٌ نبَّه على شرك القبور ..عرض ونقاش
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
إنَّ من أعظم ما يُثيره المناوئون تجاهَ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنَّ الشيخَ لم يسبقه أحد من العلماء المُتأخرين قد حذَّر من شرك القبور أو أسماه شركًا، خلا شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن العصور المُتأخرة قد تصالحت مع فكرة تعظيم القباب والأضرحة ودعاء غير الله منذ دهور طويلة، ثم يوردون سؤالًا: هل كان المسلمون في ضلال حتى ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟!
وما سبق أقربُ للمغالطات المنطقية منه إلى البحث العلمي، ففضلًا عن مغالطة تقليد العصور المتأخِّرة دون نظر أو افتراض صحَّة الوضع القديم، ودون تأمل في الظروف والمُسببات واعتبارية قدرة العلماء على التغيير، ففيه أيضًا الوقوع في مغالطة الاستقراء الناقص، فصاحب هذه الشبهة قد سارع في افتراض أن جميع المتأخرين قد تصالحوا مع هذه الأوضاع الشركية، وهذا الفرض ينقصه الاستقراء التام.
بل نحن نقول: إن هذه الفرضية القائلة بأن المتأخرين قد تصالحوا مع شرك القبور هي فرضية لا أساسَ لها من الصحَّة، فلا تزال طائفة من الأمّة بالحقّ ظاهرين، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهم في كل عصرٍ ومصر لا يخلو منهم زمان، حتى وإن استفحل الباطل في زمن المتأخرين؛ فلا ريب في وجود طائفة كبيرة من العلماء ينكرون ذلك -على تفاوت فيما بينهم-، ويُبيِّنون التوحيد الخالصَ، وينهون الناس عن الممارسات الشركية.
وهذا يشمل أيضًا الحقبة التي سبقت دعوة الشيخ؛ إذ لا يخلو زمان من قائمٍ لله بحجة، والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يعتدّ بمتأخري المذاهب ويحتج بهم على مخالفيه.
ففي رسالته إلى عبد الرحمن السويدي قال: “قلت لهم: أنا أخاصم الحنفيَّ بكلام المتأخِّرين من الحنفيّة والمالكيَّ والشافعيَّ والحنبليَّ كلّ أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك نقلتُ لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرتُ ما قالوا بعدما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها، فصرفوا ذلك وتحقَّقوه ولم يزدهم إلا نفورا”([1]).
ويُفهم من ذلك أنَّ الشيخ محمدَ بن عبد الوهاب لا يعتبر التوحيدَ مذهبَ ابن تيمية وحده، بل يتترس بمتأخِّري علماء المذاهب، حتى وإن وُجد عندهم نوع من البدع، فلا يُهدرهم -كما يظن البعض- فضلًا عن أن يُكفِّرهم.
وقبل أن نشرعَ في ذكر السابقين للدعوة نبدأ بالعلماء الثقات الذين عاصروا الشيخ تاريخًا ولم يلتقوا به، ولم يتأثَّروا بالدعوة الوهابية، بل كانوا على منوال السابقين.
أولا: بعض أقوال من عاصروا الدعوة في إنكار شرك القبور:
1- الشاه ولي الله الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم الحنفي (1114-1176هـ):
يقول: “كل من ذهب إلى بلدة أجمير، أو إلى قبر سالار مسعود([2]) أو ما ضاهاها لأجل حاجة يطلبها، فإنه آثمٌ إثمًا أكبر من القتل والزنى، ليس مَثَلُه إلا مثل من كان يعبد المصنوعات، أو مثل من كان يدعو اللات والعزى”([3]).
2- محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (1114-1188هـ):
يقول رحمه الله: “أما من كان قصده بالزيارة أن يطلبَ حوائجه من الميت، فهذا لا يشك عاقل في قُبحه وتحريمه، إذ الحوائج منوطة لخالقها، فليس إلا الله يقضي حاجة، ومن شكَّ في هذا طغى وتمرد، وأما إذا كان قصده الدعاء عند قبر الميت والتوسل به فليس بمُحرَّم، نعم إنِ اعتقد أن الدعاءَ عند القبور أفضلُ منه في نحو المساجد أو أنه لا يُجاب إلا ثَمَّ كان هذا قبيحًا”([4]).
ثم نقل السفاريني عن ابن تيمية وابن القيم ما يُفيد شركيةَ هذه الممارسات مُحتجًّا بهما؛ ما يدلّ على أنه يوافقهما على ذلك([5]).
3- الشاه إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي (1193-1246هـ) حفيد ولي الله:
يقول: “وقال اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: ٥]، وقد دلت هذه الآية على أن المشركين قد أمعنوا في السفاهة، فقد عدلوا عن اللَّه القادر العليم إلى أناس لا يسمعون دعاءهم، وإن سمعوا ما استجابوا لهم، وهم لا يقدرون على شيء، فظهر من ذلك أن الذين يستغيثون ويظنون أنهم ما أشركوا، فإنهم ما طلبوا منهم قضاء الحاجة، وإنما طلبوا منهم الدعاء، وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة، فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد، كما يسمعون نداءهم عن قرب”([6]).
4- عبد الله باسودان الكِندي الدوعني الشافعي (1178-1266هـ) شيخ الصوفية:
قال تحت فصل (اعتقادات العامة في الأولياء): “فلما اعتقدوا نفعهم وضرَّهم حلفوا بهم من دون الله، ونذروا لهم من دون الله، واستسقوا بهم من دون الله… ويقع من هؤلاء في زيارة قبور الأولياء كثير من الجهالات، ولا شك أن أهل الجرأة من هؤلاء ممن لا يُبالون بجريمة الكفر يخرجون بذلك من الإسلام، وأما العامة الذين لم يبلغوا هذه الدرجة فهم آثمون، لكنهم لا يخرجون من الإسلام”([7]).
وقال تحت فصل (آداب الزيارة): “… وبمراعاة آداب الزيارة من ترك التمسح بالقبور وعدم الصلاة عند القبر للتبرك، وإن كان عليه مسجد للنهي عن ذلك”([8]).
5– شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي الحنفي المفسِّر (1217-1270هـ):
قال عند قوله تعالى: {ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ}: “وفي الآية ما يدل على أنّ صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم -بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا- عند إصابة الضر لهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفهٌ عظيم وضلال جديد، لكنه أشد من الضلال القديم. ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود، فضلًا عن المؤمنين باليوم الموعود أن بعض المتشيِّخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطْبٌ دهاك، فإنّ الله تعالى لا يعجل في إغاثتك ولا يهمّه سوء حالتك، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجِّلون في تفريج كربك ويهمّهم سوء ما حلّ بك، فمجّ ذلك سمعي، وهمى دمعي، وسألتُ الله أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلالِ المبين، ولكثير من المتشيِّخين اليوم كلمات مثل ذلك”([9]).
ثانيا: بعض أقوال من سبقوا الدعوة في إنكار شرك القبور:
1- أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي (513هـ):
قال رحمه الله: “لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفارٌ بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالألواح وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها”([10]).
وقال أيضًا: “قد سمعنا منهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخدّة مجاب، وذلك أنهم يعتقدون أنه قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، قال: وهذا كفر؛ لأن من اعتقد الحرام أو المكروه قربة كان بهذا الاعتقاد كافرًا، قال: والناس بين تحريمه وكراهيته”([11]).
وقال: “لا يخلّق القبور بالخلوق والتزويق والتقبيل لها والطواف بها والتوسل بهم إلى الله، قال: ولا يكفيهم ذلك حتى يقولوا بالسر الذي بينك وبين الله. وأي شيء من الله يسمى سرا بينه وبين خلقه. قال: ويكره استعمال النيران والتبخير بالعود والأبنية الشاهقة الباب، سموا ذلك مشهدا، واستشفوا بالتربة من الأسقام وكتبوا إلى التربة الرقاع ودسوها في الأثقاب، فهذا يقول: جِمالي قد جَرِبت، وهذا يقول: أرضي قد أجدبت، كأنهم يخاطبون حيًّا ويدعون إلها”([12]).
2- إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني الشافعي قوام السنة (535هــ):
قال رحمه الله مُحرمًا الاستغاثة بغير الله تعالى: “ومن أسمائه الوهاب: يهب العافية، ولا يقدر المخلوق أن يهبها، ويهب القوة ولا يقدر المخلوق أن يهبها، تقول: يا رب هب لي العافية، ولا تسأل مخلوقا ذلك، وإن سألته لم يقدر عليه، وتقول عند ضعفك: يا رب هب لي قوة، والمخلوق لا يقدر على ذلك”([13]).
3- عبد القادر الجيلاني (561هـ):
من وصاياه رحمه الله ما قاله لولده حين استوصاه وهو في مرض الموت: “عليك بتقوى الله وطاعته، ولا تَخَفْ أحدًا ولا ترجه، وَكِلِ الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى الله عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد، وجماع الكل التوحيد… كل من يرى الضر والنفع من غير الله تعالى فليس بعبدٍ له، من رأى ذلك منه فهو إلى نار المقت والحجاب، وغدًا في نار جهنم إلا المتقون الموحدون المخلصون”.
وقال أيضًا: “يا من يشكو إلى الخلق مصائبه، إيش ينفعك شكواك إلى الخلق؟! لا ينفعونك ولا يضرونك، وإذا اعتمدت عليهم وأشركت في باب الحق عز وجل يبعدونك، وفي سخطه يوقعونك، وعنه يحجبونك”([14]).
4- السيد أحمد الرفاعي الصوفي (578هـ):
قال رحمه الله في وصاياه: “إذا استعنتم بعباد الله وأوليائه، فلا تشهدوا المعونة والإغاثة منهم، فإن ذلك شرك، ولكن اطلبوا من الله الحوائج بمحبته لهم”([15]).
5- فخر الدين الرازي إمام المتكلمين (606هــ):
يقول رحمه الله تفسير قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18]: “ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله”([16]).
وقال في تفسير: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة: 22]: “ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله، اتخذوا صنما على صورته يعبدونه، على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى، على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ}”([17]).
6- أبو شامة المقدسي مجتهد الشافعية (665هـ):
قال رحمه الله: “وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضًا ما قد عمّ الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرح مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدا ممن اشتهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم”([18]).
7- أبو الفداء إسماعيل بن كثير الشافعي المفسِّر (774هـ):
قال رحمه الله معرض كلامه عن قبر السيدة نفيسة: “وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرًا جدّا، ولا سيما عوامّ مصر، فإنهم يُطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدّي إلى الكفر والشرك، وألفاظًا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنه لا تجوز”([19]).
8- شهاب الدين الأذرعي الشافعي (783هــ):
قال رحمه الله: “وأما النذر للمشاهد الذي بُنيت على قبر ولي أو نحوه، فإن قصد به الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا، وإن قصد به -وهو الغالب من العامة- تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دُفن فيها أو نُسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد؛ فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لا تُفهم! ويرون أنّ النذر لها مما يدفع البلاء. قال: وحكم الوقف كالنذر فيما ذكرناه”. ووافقه ابن حجر الهيتمي، وقال: “لأن القُرب إنما هي لله تعالى”([20]).
ويُستفاد من كلام الأذرعي وتعليل الهيتمي السابق أن العِلة في التحريم أن هذا الصنيع من القُرب، أي: من العبادة التي لا تصح إلا لله.
9- السعد التفتازاني (792هــ):
قال رحمه الله: “أما عبادة الكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا بأنها مؤثرة في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة وشفعاء العباد عند الله، وأما الأصنام فلا خفاء في أن العاقل لا يعتقد فيها شيئا من ذلك، قال الإمام: لهم فيها تأويلات باطلة”.
ثم ذكر وجوها لهذه التأويلات، ثم قال في الوجه الخامس:
“الخامس: أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته وعظّموه تشفعًا إلى الله تعالى وتوسلًا”([21]).
10- أبو زرعة العراقي (826هـ):
قال رحمه الله: “سُئلتُ عمن يزور الصالحين من الموتى فيقول عند قبر الواحد منهم: يا سيدي فلان، أنا أستجير بك أو متوسل بك أن يحصل لي كذا وكذا…”.
فأجاب العراقي بعد أن بيَّن أن زيارة القبور مندوبة: “ولا امتناع في التوسل بالصالحين، فإنه ورد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصلحاء أمته وأما قوله: (أنا أطلب منك أن يحصل لي كذا وكذا) فأمرٌ مُنكر، فالطلب إنما هو من الله تعالى، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة أو بأصحابها أحياءً وأمواتا”([22]).
فقد فرَّق العراقي بين الاستغاثة أو الطلب من الأولياء وبين التوسل، لما جاءه السؤال مُبهمًا، ولو أنه يعلم أن فيها خلافًا معتبرًا لما نبَّه السائل ولما وصفها بالأمر المُنكر؛ وذلك أن من قواعد الفقهاء المقررة: أن المسألة التي يكون الخلاف فيها قويَّا لا يجوز الإنكار على من فعلها، فضلًا عن وصفها بالمُنكرات.
11- تقيُّ الدين المقريزي الشافعي (845هـ):
قال رحمه الله: “والناس في هذا الباب -أعني: زيارة القبور- على ثلاثة أقسام: قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزّيارة الشرعيّة. وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء هم المشركون في الألوهيّة والمحبّة. وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»، وهؤلاء هم المشركون في الربوبيّة. وقد حمى النبيّ صلى الله عليه وسلم جانب التّوحيد أعظم حماية؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}”([23]).
وقال أيضًا: “وبالله إنّ الفتنة بهذا المكان([24]) والمكان الآخر من حارة برجوان الذي يعرف بجعفر الصادق لعظيمة، فإنهما صارا كالأنصاب التي كانت تتخذها مشركو العرب، يلجأ إليهما سفهاء العامّة والنساء في أوقات الشدائد، ويُنزلون بهذين الموضعين كربهم وشدائدهم التي لا يُنزلها العبد إلا بالله ربه، ويسألون في هذين الموضعين ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده، من وفاء الدين من غير جهة معينة، وطلب الولد ونحو ذلك، ويحملون النذور من الزيت وغيره إليهما، ظنا أن ذلك ينجيهم من المكاره، ويجلب إليهم المنافع، ولعمري إن هي إلّا كرّة خاسرة، ولله الحمد على السلامة”([25]).
12- ابن حجر العسقلاني (852هـ):
سُئل عن السيدة نفيسة وعن مكان قبرها، فأجاب: “وأما كونها قُبِرَت إلى آخره فهو المشهورُ، لكن ذكَرَ بعضُ أهلِ المعرفة أن خُصوصَ هذا القبر الذي يُزارُ ليس هو قبرها، لكنها دُفِنَتْ في تلك البقعة بالاتفاق، وما زال قبرُها مقصودًا بالزيارة والتبرك به، حتى اشتهر عَنْ نقل بعض العلماء أن المصريين كانوا يُسَمونَ الدعاء عندها الترياقَ المجرَّبَ وقد غلا في ذلك بعضُ العوامِّ، بل كلهم، حتى إن بعضهم يقع في الكفر وهو لا يشعُرُ، واللَّه المستعان”([26]).
ويُستفاد من كلام ابن حجر ما يلي:
– أن الوصف بالغلو في القبور ليس وصفًا مُستهجنًا كما يدَّعي بعض المعاصرين، فإن ابن حجر وصف جميع العوام بالغلو بقوله: (بل كلهم).
– قول ابن حجر: (يقع في الكفر وهو لا يشعر)، ولم يقل: مهما فعلوا لن يقعوا في الكفر، ولم يستصحب “أصل الإسلام” ويجعله مانعًا، نعم قد لا يُكفَّر الجاهل حتى يُعلَّم، ولكن هذا باب آخر غير الحكم على الفِعل نفسه.
13- بدر الدين الأهدل الصوفي الأشعري (855هـ) فقيه الشافعية في اليمن:
قال مُنكرًا على الصوفية المتأخرين: “والاستغاثة بالمشايخ الأموات والأحياء مما أطبق عليه المتأخرون من المتصوّفة، ولم يُنقل عن السلف المتقدمين؛ لمعرفتهم بأنّ الاستغاثة بغير الله تعالى لا تجوز ولا تنفع، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}، وغير ذلك من الآيات. ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لأحد من الصحابة رضي الله عنهم في الاستغاثة به في شدّةٍ قطّ، وكان حاضرًا يوم أُحد فلم يملك من الأمر شيئًا كما قال الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، وإنما يُستشفع به إلى الله تعالى في تفريج الكرب وتسهيل الشدائد، وكذا بالصالحين من عباد الله، فاعلم ذلك ولا تتبع جهالات المتأخرين”([27]).
14- قاسم بن قطلوبغا (879هـ):
قال رحمه الله: “وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون لإنسان غائبٌ أو مريضٌ أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعض الصلحاء، فيجعل ستره على رأسه فيقول: (يا سيدي فلان) إن رُدّ غائبي أو عُوفي مريضي أو قُضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء كذا أو من الشمع كذا أو من الزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه.. منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق، ومنه أن المنذور له ميت، والميت لا يملك”.
ونقل كلامه الطحطاوي في حاشيته ثم قال: “اللهم إلا أن يقول: يا الله إني نذرت لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أطعم الفقراء الذين بباب السيدة نفيسة أو الفقراء الذين بباب الإمام الشافعي رضي الله عنه أو الإمام الليث، أو أشتري حصرا لمساجدهم أو زيتا لوقودها أو دراهم لمن يقوم بشعائرها إلى غير ذلك مما يكون فيه نفع للفقراء، والنذر لله عز وجل“([28]).
ونقل كلامه علاء الدين الحصفكي ثم قال: “وقد ابتُلي الناس بذلك، ولا سيما في هذه الأعصار”. قال العلامة ابن عابدين: “(قوله: ولا سيما في هذه الأعصار) ولا سيما في مولد السيد أحمد البدوي”([29]).
ويُستفاد مما سبق: أن العلة التي ذكرها العلامة قاسم قطلوبغا وتتابع عليها الأحناف في عدم صحة النذر كونه عبادة بقولهم: (يا فلان)، وأن الميت لا يملك من أمره شيئًا، وهذا هو وجه النكتة التي أقضّت مضاجع القبورية، فوصف أفعال العوام بكونها عبادة -حتى ولو أنكروا ذلك بألسنتهم- يُبطل قول القبورية أن التحريم خرج مخرج التحريم الفقهي الفروعي الخفيف، ونحو ذلك مما يذكره المخالفون.
15- ابن حجر الهيتمي (904هــ):
قال رحمه الله مُتحدثًا عن القبور المُشرفة والأضرحة: “فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره”([30]).
16- جلال الدين السيوطي (911هــ):
قال رحمه الله: “الدعاء عند القبر ذريعة للشرك، ومحادّة لله ورسوله، ومخالَفة للشرع وابتداع، فكيف بدعاء صاحب القبر من دون الله؟!”([31]).
وقال أيضا: “وهذه العلة -أي: التي من أجلها نهى الشارع- التي أوقعت الناس في الشرك الأكبر.. ولهذا تجد أقواما كثيرة من الضالين يتضرّعون عند قبور الصالحين”([32]).
17- محيي الدين البِرْكوي الحنفي الماتريدي (926-981هـ)([33]):
قال في رسالته في زيارة القبور: “وأمّا الزّيارة الشّرعيّة التي أَذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزّائر؛ وهي: الاعتبار والاتّعاظ، والثاني: راجع إلى الميّت؛ وهو: أن يُسَلِّم عليه الزّائر، ويدعو له، ولا يطول عهده به؛ فيهجره وينساه، كما أنّه إذا ترك أحدًا من الأحياء تناسه، وإذا زاره فرح بزيارته وسُرَّ بذلك. فالميّت أولى به؛ لأنّه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم؛ فإذا زاره أحد وأهدى إليه هبة من سلام ودعاء ازداد بذلك سروره وفرحه.
وأمّا الزّيارة البدعيّة فزيارة القبور لأجل الصّلاة عندها، والطّواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها وأخذ تُرابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النّصر والرّزق والعافية والولد وقضاء الدّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها من أوثانهم، فليس شيء من ذلك مشروعًا باتّفاق أئمّة المسلمين؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصّحابة والتّابعين وسائر أئمّة الدّين؛ بل أصل هذه الزّيارة البدعيّة الشّركيّة مأخوذة من عبادة الأصنام؛ فإنّهم قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”.
إلى أن قال: “وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم”([34]).
فتأمل قول البركوي: (وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم).
وإذا علمت أن البركوي توفي سنة ٩٨١هـ -أي: قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحوالي ٢٢٥ سنة- فلا شبهة بتأثره بالدعوات الإصلاحية.
18- محمد طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي (986هـ) ملك المحدِّثين:
قال رحمه الله: “فإنّ منهم من قصد بزيارة قبور الأنبياء والصلحاء أن يصلي عند قبورهم، ويدعو عندها، ويسألهم الحوائج، وهذا لا يجوز عند أحد من علماء المسلمين؛ فإنّ العبادة وطلب الحوائج، والاستعانة حق لله وحده”([35]).
ومن النقل السابق يُستفاد: أن العلامة ابن طاهر نقل الإجماع على حرمة الاستغاثة بالأولياء، كما وصف تلك الممارسات بالعبادة، وفيه رد على من زعم أن تحريم الفقهاء خرج مخرج التقليد الفقهي الفروعي.
19- أحمد بن عبد الأحد السرهندي الحنفي (1034هـ):
الصوفي النقشبندي، الموصوف عند الحنفية: بمجدد الألف بعد الهجرة.
قال رحمه الله: “التبرِّي من الكفر هو شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام هو عين الشرك والضلالة… ونشكو إلى الله تعالى شكاية عن حال أهل الضلال يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.. وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل فيهن، يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات، ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}، وما يفعلونه من ذبح الحيوانات عند قبور المشايخ المنذورة لهم جعله الفقهاء في الروايات الفقهية داخلًا في الشرك، ومثل ذلك يصُمن بنيَّتهم ويطلبن حوائجهن منهم بواسطة هذا الصيام، ويزعمن قضاء حوائجهن منهم! وهذا الفعل إشراك للغير في عبادة الله تعالى وطلب لقضاء الحوائج من الغير بواسطة العبادة إليه”([36]).
20- أحمد بن محمد الأقحصاري الحنفي الخلوتي (1041هـ):
وهو يسبق الدعوة بمائتي عام تقريبًا، وقد صنف رحمه الله كتاب (مجالس الأبرار ومسالك الأخيار ومحائق البدع ومقامع الأشرار الفجار)، وقال في سبب تصنيفه للكتاب: “وأُبيّن فيه من الاعتقادات الصحيحة والأعمال الآخرة، وأحذر عما فيه من استمداد القبور وغيره من فعل الكفرة، وأهل البدع الضالة المضلة الفجرة، لما رأيت كثيرًا من الناس في هذا الزمان جعلوا القبور كالأوثان، يصلون عندها ويذبحون القربان، ويصدر منهم أفعال وأقوال لا تليق بأهل الإيمان، فأردت أن أبين ما ورد به الشرع في هذا الشأن، حتى يتميز الحق من الباطل عند من يريد تصحيح الإيمان والخلاص من كيد الشيطان، والنجاة من عذاب النيران، والدخول في دار الجنان. والله الهادي وعليه التكلان”.
وقال: “ومنهم من يستغيث بالمخلوق سواء كان المخلوق حيا أو ميتا، أو مسلما أو غير مسلم، ويتصور الشيطان بصورته، ويقضي حاجة من يستغيث به، فيظن أنه هو الذي استغاث به، وليس كما يظن، بل إنما هو الشيطان أضلّه لما أشرك بالله فإن الشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته… فإنه إذا أعانهم على مقاصدهم فهو يضرهم أضعاف ما ينفعهم، فإذا كان منتسبًا إلى الإسلام إذا استغاث بمن يحسن به الظن من شيوخ المسلمين، يجيء إليه الشيطان في صورة ذلك الشيخ، فإن الشيطان كثيرًا ما يجيء على صورة الصالحين، ولا يقدر أن يتمثل بصورة رسول رب العالمين”([37]).
21- ضياء الدين صالح بن مهدي المقبلي الكوكباني الزيدي (1047-1108هـ):
قال رحمه الله: “إذا مسَّهم الضرّ في البحر لا تسمعهم إلا يدعون المشايخ، ويهتفون بالركبان: ليدع كلٌّ منكم شيخه، فيرتجّ المركب بالأصوات بذكر الشيخ، فإذًا الكفّار كانوا خيرًا من هؤلاء؛ لأنهم كانوا إذا مسهم الضر في البحر ضلّ من يدعون إلا إياه. اللهم إنا نبرأ إليك من حال هؤلاء، ونسألك أن تكتبنا من الناهين عن ضلالهم والمناوئين لهم.
جاءني شريف من أشراف مكة، وكان يعتقد متصوفًا وأنا أنهاه عنه، فجاءني مذعورًا يقول: ذكرتُ الله ورسوله، فغضب فلان وقال: لا أعرفُ الله ولا رسوله إنما أعرف شيخي! وزار بعضُ العقلاء ابنَ عباس فرأى غلوَّ الناس فيه، فقال لرجل من عمد مكة ومدرّسيهم ومتصوفتهم: (أهلُ الطائف لا يعرفون الله، قد اتَّخذوا ابن عباس إلهًا من دون الله)، فسقط من عين ذلك المدرس، وقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة من الجهل والغفلة، هم لا يعرفون الله، ولكن تكفيهم معرفة ابن عباس، وهو يعرف الله.
ثم قد صوَّروا كذبات قالوا: مشى الجنيد في البحر وهو يقول: يا الله يا الله، وقال لتلميذه: قل أنت: يا جنيد يا جنيد. قال: مشيا ثم قال تلميذه: يا الله، فغرق، فنهره الشيخ، فتاب، وقال: يا جنيد، فمشى فوق الماء. وقالوا: جاء منكر ونكير لميت فقالا: من ربك؟ فقال: شيخي فلان، وكرروا سؤاله وهو يكرر قول: شيخي فلان، فقالوا: صدق، وذهبوا عنه راضين.
ومن أنكر هذا قالوا: جلمود مخذول، ولا يحب الأولياء، أو نحو ذلك من عبارات لهم، فهؤلاء زادوا على من قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وليس لهؤلاء من علاج غير السيف، ولكن أهل السيف الآن أجهل خلق الله، وأشدهم اغترارًا بتلك الأساليب، حيوانات مختلفة الطباع من ثعالب وسباع يعمها سلب الفلاح. والله المستعان”([38]).
ويستفاد مما قاله العلامة المقبلي ما يلي:
أولًا: الأحوال المزرية وانتشارها في عصره، ونقل عن عالم معاصر له قوله: (أهل الطائف لا يعرفون الله فقد اتخذوا ابن عباس إلها من دون الله)، وهو ما يؤكد صحة توصيف الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأحوال زمانه، ولا شبهة بتأثُّر المقبلي بالوهابية؛ فهو يسبقهم بقرن من الزمان.
ثانيًا: ذكر وجوب قتالهم بالسيف في قوله: (وليس لهؤلاء من علاج غير السيف، ولكن أهل السيف الآن أجهل خلق الله).
22- صنع الله بن صنع الله الحلبي المكي الحنفي ثم المالكي (1120هــ):
قال رحمه الله: “وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدَّعون أنّ للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تنكشف المُهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات. وقرّرهم على ذلك من ادعى العلم بمسائل، وأمدهم بفتاوى ورسائل.. وجوّزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. وهذا -كما ترى- كلام فيه تفريط وإفراط، وغلو في الدين بترك الاحتياط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لِما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدّق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. فكل بناء على غير أصولهم تلبيس، وفي غير مناهجهم مخايل إبليس”.
إلى أن قال: “وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، وأن يظنّ بهم أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامةٌ، فهذا ظنُّ أهل الأوثان كما أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. فهل يحل لمؤمن أن يستمد بغير الله في الشدائد، أو ينتصر بغيره ويترجى منه الفوائد مع قوله جل ذكره: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}، وقوله: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ}؟! فهل يحوم حول ذلك من استضاء بمنار القرآن أو ينطق بمثله من آمن بالله الواحد المنان؟! فما زعْمُ مَن أفتى بجواز ذلك؟! فهل على قول الله استدراك؟! كلا والله، ما هم فيه إلا في إنضاج بلا ضرام، واستسمان ذات أورام، {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}”([39]).
23- عبد الخالق المزجاجي الحنفي الزبيدي (1100هـ-؟؟؟؟)([40]):
قال رحمه الله: “وقد قال تعالى في إثر سماء: «أصبح من عبادي مؤمن وكافر، أما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»، وقد ذهب العامة هذا المذهب في الأولياء، فإن مرضوا قالوا: هذا من فلان، وإن شفوا قالوا: ببركة سيدي فلان، فلما اعتقدوا ضرهم ونفعهم حلفوا بهم من دون الله، ونذروا لهم من دون الله، واستسقوهم من دون الله. فإن أجرى الله تعالى الوادي قالوا: شيء لله يا فلان، وإن قبض عنهم المطر قالوا: حمقة فلان، والله سبحانه القابض الباسط المحيي المميت، وكل شيء بيده من ملك وملكوت، ولو ذهبنا نتكلم في الكتاب والسنة من التحذير عن ذلك لكان يرى الناس قد هلكوا، ولهذا تراهم أكثر أتباع الدجال. فافهم هذه الجملة”([41]).
ولتلخيص ما سبق نقول:
إن قضيَّة إفراد الله بالعبادة من دعاء ونذر وتوكل واستغاثة، وكذا إنكار ما يُنافي ذلك من تعظيم القبور وسؤال أصحابها من دون الله ونحو ذلك هي قضية إيمانية في المقام الأول، نبَّه عليها علماء المسلمين بمختلف مذاهبهم في كل عصرٍ وفي كل مصر -كما مرَّ بك-، وليست هي من خصوصيات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم، ولا من خصوصيات محمد بن عبد الوهاب.
نعم، قد تزيد المادة العلمية في قضية التوحيد عندهم أكثر من غيرهم تأصيلًا وتقعيدًا، وتوضيح الفرق بين الألوهية والربوبية وسد الأبواب وقلع الجذور الكلامية التي قد تجُر مآلًا -باللوازم- إلى تلك الشركيات، وإن لم يلتزمها أصحابها، لكن هذا لا يعني بالضرورة خصوصية ابن تيمية في وجوب سؤال الله وحده، بل الجميع يتفقون على تلك النتيجة النهائية.
وقد بينَّا في هذا المقال بما لا يدع مجالًا للشك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مسبوق بعلماء كبار محل تقديرٍ واحترام، أنكروا تلك البدع وسمَّوها شركًا أكبر، بل وبعضهم ذكر وجوب قتال أصحابها بالسيف.
وما ذكرناهم مجرَّد أمثلة أردنا بهم الإشارة والتمثيل وبيان فساد دعوى المُخالف، وإلا لو رحنا نتتبع من أنكروا تلك الشركيات من أهل العلم لبلغ ذلك مجلدة، وحسبُك من القلادة ما أحاط من العنق.
وصلِّ اللهمَّ على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الرسائل الشخصية (ص: 38).
([3]) التفهيمات الإلهية (2/ 45)، وتتمة البلاغ المبين (ص: 124).
([4]) البحور الذاخرة في علوم الآخرة (ص: 340).
([5]) المصدر السابق (ص: 340-341).
([6]) رسالة تقوية الإيمان (ص: 35).
([7]) ذخيرة أهل المعاد (ص: 24-25). وهو كتاب في التصوف.
([9]) روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني (14/ 166).
([10]) ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 345)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 195).
([11]) ينظر: تلبيس إبليس (ص: 306).
([12]) ينظر: الفروع لابن مفلح (2/ 214).
([13]) الحجة في بيان المحجة (1/ 144).
([14]) الفتح الرباني والفيض الرحماني (ص: 373).
([15]) البرهان المؤيد من وصايا الرفاعي، تأليف تلميذه شرف الدين الواسطي (ص: ٦٩).
([18]) الباعث على إنكار البدع (ص: 25-26).
([19]) البداية والنهاية (١٠/ ٢٦٢-٢٦٣).
([20]) الفتاوى الفقهية (4/ 280).
([21]) المقاصد في علم الكلام (3/ 29).
([22]) فتاوى العراقي (ص: 168).
([23]) تجريد التوحيد المفيد (ص: ١٩-٢٠).
([24]) أي: قبر أبي تراب النخشبي.
([25]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (٣/ ٩٤).
([26]) ينظر: الجواهر والدُرر للسخاوي (ص: 944).
([27]) مطالب أهل القربة في شرح دعاء أبي حربة (ص: 168).
([28]) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 693).
([29]) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (6/ 396).
([30]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (ص: 213).
([31]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: 118).
([32]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: 124).
([33]) قال ابن عابدين الحنفي واصفًا البركوي: (أفضل المتأخرين الإمام العالم العامل المحقق المدقق الكامل). رسالة منهل الواردين من بحار الفيض، مجموعة رسائل ابن عابدين (1/ 67).
([34]) هناك خلاف في رسالة زيارة القبور هل هي للبركوي أم لأحد تلاميذه، ولكن لا خلاف تاريخي في أن البركوي يعتقد نفس الاعتقاد، وخلافه مع أهل عصره في مسألة القبور معروف مشهور. ذكره المورخون العثمانيون.
([35]) مجمع بحار الأنوار (2/ 444).
([36]) مُلخَّصًا من المنتخبات من المكتوبات، للسرهندي (3/ 45).
([37]) مجالس الأبرار ومسالك الأخيار ومحائق البدع ومقامع الأشرار الفجار (ص: 5-8).
([38]) الأبحاث المسددة في فنون متعددة (ص: 158-165).
([39]) سيف الله على من كذب على أولياء الله (ص: 22-51).
([40]) لم يُذكر تحديدًا زمن وفاة المزجاجي، لكن لا شُبهة في كونه لم يتأثر بالدعوة.
([41]) ينظر: فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال لأبي بكر بن خوقير المكي (ص: 145).