حادثة قَتلِ بني قُريظَة، وهل تقدح في النبوة؟ شبهةٌ وجواب
حقيقةُ الشُّبهة:
حقيقةُ هذه الشُّبهة الطعنُ في نُبوة محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والطعن في عدل الله تعالى، من جِهة النصارى والمُستَشرِقين والملحدين، والجواب عنها يحتاج إلى كشف مُلابَسات تنفيذ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لحُكم سعد بن معاذ رَضيَ الله عنه في يهود بَني قُرَيْظةَ، وهو أن (تُقتَلَ المُقاتِلةُ، وأنْ تُسبَى النساءُ والذُّريَّةُ، وأنْ تُقسَمَ أموالُهم)([1]).
يقول أحد الملحدين في الاعتراض على هذه الحادثة في كلام مَلأه بالكفر بالله تعالى وبنبيِّه صلى الله عليه وسلم: (انظر رسول الرحمة والإنسانية المبعوث من إله الإسلام يُصدِّق على حكم معاذ الإرهابيّ، ويقتل بالسيف كلّ رجال قبيلة بني قريظة، ويبيع النساء والأطفال كعبيد، ويقسم كُلَّ ممتلكاتهم بين المسلمين، أين العفو عند المقدرة الذي تغنى به محمد في القرآن؟! أين رحمة رسول الرحمة؟!).
ويسعى مثيرو هذه الشبهة إلى الوصول من ذلك إلى القول بأن الإسلام انتشر بالسيف، وهي شبهةٌ نوقشت في محلٍّ آخر.
يقول الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى: (من درس غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه وجدها إما حربًا لعدو لم يدَع أذى وصلت إليه يده إلا فعله كغزوة بدر، أو دفاعًا لعدو مهاجم كغزوة أحد وغزوة حنين، أو مبادرة لعدو تحفز للشر كغزوة بني قريظة وغزوة المريسيع وغزوة دومة الجندل وغزوة ذات السلاسل، أو كسرًا لشوكة عدو نقض العهد، وعرف بمحاربة الدعوة، واتخذ كل وسيلة للانتقام من القائمين بها، والقضاء عليها كفتح مكة.
حارب صلى الله عليه وسلم أولئك الأعداء، وكان يحاربهم في جانب عظيم من السماحة، فنهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، ونهى عن المثلة، وكان يمضي كل تأمين يصدر من أحد من المسلمين لبعض المحاربين، ولو صدر التأمين من امرأة أو عبد، وقال: «ويسعى بذمتهم أدناهم»، وكان يوصي بالإحسان إلى الأسرى، وقد يطلق سبيلهم من غير فداء؛ كما أطلق سبيل سبعين رجلًا من المشركين هبطوا عليه في صلح الحديبية يريدون غرته، وقد أشار القرآن المجيد إلى هذه القضية، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24].
وإذا عقد مع قوم عهدًا حافظ على العهد إلى أن ينقضوه بأنفسهم، ومن أظهر المثل التي نسوقها على هذا: قصة أبي رافع الذي بعثه إلى قريش، فإنه لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وقع في قلبه الإيمان، وقال: يا رسول الله، لا أرجع إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن، فارجع».
ونص الفقهاء على أنه لا يقتل المعتوه، ولا الأعمى، ولا الزَّمِن، ومن الفقهاء من يقول: لا يقتل الأعمى والزمن ولو كانا ذوَي رأي وتدبير)([2]).
مختصر خبر غزوة بني قريظة:
قبل أن نورد الجواب عن هذه الشبهة يحسن بنا أن نذكر خبر غزوة بني قريظة مختصرًا، كما أورده أهل المغازي والسير.
قال الحافظ مغلطاي في خبر هذه الغزوة بعد ذكره فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق: (ولما انصرف ووضع السلاح جاءه جبريل عليه السلام الظهر، فقال: إن الملائكة ما وضعت السلاح بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، فمزلزل بهم. فحاصرهم خمسة عشر يومًا، وقيل: خمسًا وعشرين.
فسألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة ليشاوره في أمرهم، فأشار إليهم بيده أنه الذبح.
ثم ندم واسترجع، وربط نفسه إلى سارية في المسجد ست ليال. ويقال: بضع عشرة ليلة. ويقال: قريبًا من عشرين يومًا، حتى ذهب سمعه، وكاد يذهب بصره. ويقال: إن هذه الحالة جَرَت له حين تخلف عن تبوك، فأنزل الله توبته.
ونزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فحكَّم فيهم سعد بن معاذ، وكان ضعيفًا، فحكم بقتل الرجال، وقسم الأموال، وسبي الذراري والنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك».
وفرغ منهم يوم الخميس، لخمس ليال خلون من ذي الحجة.
وانفجر جرح سعد بن معاذ بعد ذلك، فمات شهيدًا رضي الله عنه، وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز له عرش الرحمن. وقال فيه عليه الصلاة والسلام وقد أهديت له حلة سندس: «لمناديل سعد في الجنة، أحسن من هذه»)([3]).
وقال الحافظ ابن حجر في بيان الاختلاف في عدد الذين قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم من بني قريظة: (واختلف في عدتهم: فعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستمائة، وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد بن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة: كانوا سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول: إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة، وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح: أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعًا، وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل: إنهم كانوا تسعمائة)([4]).
هل صحيحٌ أنَّ يَهودَ بَني قُرَيْظةَ قُتِلوا بوحشية؟
ولْننتَقِلِ الآن إلى النقض التفصيلي ببيان ما جرى في تلك الحادثة، والحكم الشرعي فيه:
أولًا: بنو قريظة خانوا النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المهادن إذا ظهر منه ما يدل على خيانة أن ينبذ إليه العهد:
وأصل ذلك في كتاب الله قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمْ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].
وقد ثبت أن بني قريظة قاموا بنقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن طلب منهم ذلك مشركو قريش، ومنوهم الأماني.
وكان نقض العهد من كعب بن أسد القرظي، بتوجيه من حيي بن أخطب لعنهما الله.
قال ابن إسحاق : (وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حيي: ويحك يا كعب! افتح لي، قال: ويحك يا حيي! إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، قال: ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها، فأحفظ الرجل، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقًا: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)([5]).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بطبيعة اليهود الغادرة، لا يطمئن إلى عهودهم ويخشى غدرهم، وهو صلى الله عليه وسلم مشغول بمواجهة أعدائه المتحزّبين عليه، وكان صلى الله عليه وسلم أحسّ روح الغدر تمشي في الظلام إلى بني قريظة، فأرسل الزبير بن العوام رضي الله عنه لاستطلاع خبرهم([6]).
فعن جابر بن عبد الله قال: اشتد الأمر يوم الخندق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتينا بخبر بني قريظة؟» فانطلق الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتدَّ الأمر أيضًا، فذكره ثلاث مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريًا، وإن الزبير حواري».
وفي لفظ النسائي: لما اشتد الأمر يوم بني قريظة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبرهم؟» فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبرهم؟» فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، ثم اشتد الأمر أيضا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبرهم؟» فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، فجاء بخبرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريا، وإن الزبير حواري»([7]).
ولما انتهى خبر بني قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم نقضوا العهد أراد أن يتأكد مما بلغه حتى يأمن على العامة عند بلوغهم ما بلغه، وهو على يقين مما بلغه، فلا يصل الخبر إلى عامة الصحابة إلا وهم قد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحاط خبرًا واتخذ له من الأحداث أقرانه([8]).
قال ابن إسحاق: (فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف، فقال: «انطلقوا حتى تنظروا: أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس».
قال: فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلًا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة، أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين»)([9]).
يقول محمد الصادق عرجون رحمه الله: (وفي بعث السعدين ومن معهما لون من الحكمة السياسية، يمثل معلمًا من معالم منهج الرسالة الخالدة التي قصد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذه بني قريظة بغدرهم ونقضهم لعهده.
ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حين بعث حواريه الزبير بن العوام إلى بني قريظة ليتعرف حالهم، فذهب إليهم الزبير ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أنهم على أخبث حال؛ يضمرون الغدر وينقضون العهد، لم يشك لحظة في صدق خبر الزبير عنهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان على أكمل العلم بما بين الأنصار وطوائف اليهود من روابط جاهلية لم تنفصم عراها، وكانت هذه الروابط تبرز عند مناسباتها في أوقات الأزمات والمحن، وكان بين الأنصار من الأوس والخزرج تنافس، وكانت فيهم حمية لهذه الروابط، يكرهون أن تمس من غيرهم، وكثيرًا ما كان يقع التقاول والتصاول بين الحيين من جراء هذه الروابط الجاهلية.
فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتاط ويجعل أمر بني قريظة في أخذهم بغدرهم قائمًا على أخبار حلفائهم ومواليهم الأنصار الذين أصبحوا سادة المجتمع المدني، حتى إذا أخذوا بغدرهم كان أخذهم بأيدي من يرتبطون بهم ويدافعون عنهم.
ولذلك اختار القرظيون تحكيم سعد بن معاذ في نهاية أمرهم بعد أن حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حصارًا شديدًا، ولكن سعد بن معاذ كان رجلًا قوي الإيمان، راسخ اليقين، غسل الإيمان قلبه من تلك الروابط الجاهلية، فلم تأخذه فيهم لومة لائم، وحكم فيهم بحكم الله تعالى الذي ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقد كان الأوس قوم سعد بن معاذ يرجون منه أن يحسن إليهم وينقذهم من أسوأ مصير ينتظرهم، فقالوا له: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
وهذه سياسة حكيمة رسمت للمجتمع المسلم جانبًا من جوانب منهج الرسالة الخالدة، ليكون دعامة الدعائم الاجتماعية في سياسة المجتمع المسلم في مستقبل حياته)([10]).
والمقصود أنه لا مجال للطعن بوجه من الوجوه في ثبوت غدر اليهود في هذه الحادثة، وكان ذلك الغدر في أحلك الظروف التي مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتي وصفها الله تعالى في سورة الأحزاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى غاية التحرّي في ثبوت ذلك الغدر ونقض العهد، قبل أن يوقع ببني قريظة ما أوقعه من قتل عظيم، وسبي للنساء والذراري.
ثانيًا: لا يشترط أن يصرح جميع المهادنين بالخيانة حتى يستحقّوا ما يترتب على ذلك من نبذ العهد إليهم، بل يكفي متابعتهم وعدم إظهارهم المخالفة لمن خان منهم، وذلك إذا كان فعل الخيانة ظاهرا؛ لأن هذا يدل على إقرارهم ورضاهم:
قال الإمام الشافعي: (إذا نَقَضَ الذين عَقَدُوا الصُّلْحَ عليهم، أو جماعَةٌ منهم، فلم يُخالِفُوا الناقِضَ بقَوْلٍ أو فِعْلٍ ظاهِرٍ، أو اعْتِزالِ بلادِهِم، أو يُرْسِلُون إلى الإمامِ أنّهم على صُلْحِهم.. فللإمامِ غَزْوُهُم، وقَتْلُ مُقاتِلَتِهم، وسَبْيُ ذَرارِيِّهم، وغَنِيمَةُ أمْوالِهِم، وهكذا فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسَبْيِ قُرَيْظَةَ، عَقَدَ عليهم صاحِبُهُم، فنَقَضَ ولم يُفارِقُوه، ولَيْسَ كُلُّهُم أشْرَكَ في المعُونَةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصْحابِه، ولكنَّ كُلَّهُم لَزِمَ حِصْنَه فلم يُفارِق النّاقِضَ إلّا نَفَرٌ منهم، وأعان على خُزاعَةَ وهم في عَقْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثلاثةُ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فشَهِدُوا قِتالَهُم، فغَزا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا عامَ الفَتْحِ بغَدْرِ ثلاثةِ نَفَرٍ وتَرْكِهِم مَعُونَةَ خُزاعَةَ وإيوائِهم مَنْ قاتَلَها)([11]).
وقصة بني قريظة ليست شاذة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل لها نظير في العرب وفي أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خزاعة -وهم في عقد النبي صلى الله عليه وسلم وحلفه- عدا عليهم بنو بكر -وكان بنو بكر في حلف قريش وعقدها- فدخلت خزاعة الحرم وقريش لم تحرك ساكنًا، بل أعان ثلاثة نفر من قريش بني بكر على قتال خزاعة، وأمدوهم بالسلاح، وشهدوا قتالهم، فعد الرسول ذلك نقضًا للعهد، فغزا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا عام الفتح بغدر ثلاثة نفر منهم، وتركهم معونة خزاعة، وإيوائهم من قاتلها.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة من بني قريظة دون النساء والذراري، فقد كان نص حكم سعد: (أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم)، فلم يأمر بقتل النساء ولا الذراري كما يدَّعي كثير من أصحاب هذه الشبهة، وليس في حكم سعد خروج عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه وغزواته.
ثم إنك إذا نظرت في هذه الحادثة نَظرًا مُنصِفًا أدركتَ شيئًا من أوجه اتّصاف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه نبي الرحمة، وأنه لا اعتراض بهذه الحادثة ولا بغيرها من غزواته صلى الله عليه وسلم للكفار بوجهٍ من الوجوه على استحقاق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف الاستحقاقَ التام، فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة، وأما الكفار: فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم -كهؤلاء اليهود- فإنه عجل به إلى النار، وأراحه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة عذاب في الآخرة([12]).
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (5/ 2، 142-143).
([3]) الإشارة إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ من بعده من الخلفاء (ص: 265-266).
([5]) الإشارة إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ من بعده من الخلفاء (ص: 265-266).
([6]) انظر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: منهج ورسالة، بحث وتحقيق، لمحمد الصادق عرجون (4/ 155).
([7]) سيرة ابن هشام (2/ 220-221).
([8]) انظر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: منهج ورسالة، بحث وتحقيق، لمحمد الصادق عرجون (4/ 155).
([9]) سيرة ابن هشام (2/ 221-222).
([10]) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: منهج ورسالة، بحث وتحقيق (4/ 156-157).