التَّقليدُ في العقائد عند الأشاعِرَة (3) هل كفَّر الأشاعرة عوامَّ المسلمين؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
من أكبر المسائل الخلافية بين أهل السنة والأشاعرة: مسألة التقليد في العقائد، وقد قال مجمل الأشاعرة بمنع التقليد في العقائد مطلقًا، وأوجبوا النظر الكلاميَّ -كما مرَّ بيانه في الجزأين الأولين-، ولهذا القول آثار عديدة، من أهمها مسألة إيمان المقلّد: هل يصح إيمانه أو لا يصح؟ وإذا لم يصحّحوا إيمان المقلد فهل يلزم تكفير عوام المسلمين كلّهم؟
هذا موضوع هذه الورقة، وستكون بدايتها بيان صحة إيمان المقلد عند الأشاعرة، ثم تنبني عليها مسألة تكفير عوام المسلمين.
أولا: صحّة إيمان المقلد:
هذه المسألة من أهمِّ المسائل المترتبة على القول بجواز التَّقليد في العقائد من عدمه، فالمسألة أثر من آثار القول في التقليد، ولا شكَّ أنه أعظم أثر وأهمه، وذلك لسببين:
الأول: أنَّها متعلقة بعموم المسلمين.
الثاني: أنَّها متعلقة بالإيمان والكفر، وهما من أعظم المسائل، وهذه المسألة ليست فقط متعلقة بتكفير فئة معينة، وإنما بتكفير عوامِّ المسلمين كلّهم -وسيأتي القول في حقيقته- أو في تكفير المقلدة على الأقل وهم كثيرون.
والصواب أو الخطأ في مسألة التقليد في العقائد يُلقي بظلاله على هذه المسألة، بل هذه مبنيّة تمامًا على القول بجواز التقليد من عدمه، وقد انقسم الناس في صحة إيمان المقلد إلى ثلاثة أقوال في المجمل([1])، والأشاعرة أنفسهم انقسمت أقوالهم إلى هذه الثلاثة، وإن كان الأكثرون على القول الأول والثاني، وهي:
القول الأول: عدم صحَّة إيمان المقلِّد:
ذهب عدد من الأشاعرة إلى أنَّ إيمان المقلد إيمانٌ غير صحيح، وبناءً عليه فإن المقلد كافرٌ ليس بمسلم وإن كان يأتي بكلِّ شعائر الإسلام ما دام أنَّه لم يسلم عن نظرٍ واستدلال، وقد قال بهذا القول طائفةٌ من المتكلمين من المعتزلة، ونسب إلى الجهم، يقول الآمدي (ت: 631هـ): “وصار أبو هاشم -من المعتزلة- إلى أنَّ من لا يعرف الله تعالى بالدليل فهو كافر؛ لأنَّ ضد المعرفة النَّكرة، والنكرة كفر”([2]).
أمَّا الأشاعرة فإن هناك من ينفي التكفير عن علماء الأشاعرة، ويزعم أنَّ هذا القول غير موجود في المذهب الأشعري، يقول البيجوري بعد أن رجَّح عصيان المقلد: “وحكى الآمدي اتفاق الأصحاب على انتفاء كفر المقلِّد، وأنَّه لا يُعرف القول بعدم صحَّة إيمانه إلا لأبي هاشم الجبائي من المعتزلة”([3]). وقول الآمدي الذي ذكره هو: “وصار أبو هاشم -من المعتزلة- إلى أن من لا يعرف الله تعالى بالدَّليل فهو كافر؛ لأنَّ ضد المعرفة النكرة، والنكرة كفر، وأصحابنا مجمعون على خلافه”([4]).
لكنَّ هذا النَّفي بهذا الإطلاق غير صحيح، بل هذا القول -وهو التكفير- ثابتٌ عن عدد من أئمتهم، يقول الجوينيّ (ت: 478هـ): “ولو انقضى من أوّل حال التكليف زمنٌ يسع النَّظر المؤدّي إلى المعارف ولم ينظر مع ارتفاع الموانع، واخترم بعد زمان الإمكان؛ فهو ملحَقٌ بالكفرة. ولو مضى من أول الحال قدرٌ من الزمان يسَع بعض النَّظر ولكنَّه لم ينظر مقصِّرا، ثم اخترم قبل مضي الزمان الذي يسع في مثله النظر الكامل؛ فقد قال القاضي: يمكن أن يقال: إنه لا يلحق بالكفرة، إذ تبين لنا بالآخرة أنه لو ابتدأ النظر ما كان له في النظر نظرة، ولكان لا يتوصّل إلى مطلبه.
وقال: والأصح الحكم بكفره لموته غير عالم، والتقصير منه فيما كلف… قال القاضي: والحكم بتكفير من مات في الصورة التي قدَّمناها يضاهي الحكم بتأثيم المفطرة وهي مؤثمة وإن طرأت الحيضة عليها. وهذا ظاهر، ولكنه أومأ مع ذلك إلى أن المسألة يُجتهد فيها وليست من القطعيات”([5]).
وقد علق السنوسي (ت: 895هـ) على كلام الجويني بأنه لعلّه أراد غير الجازم، فقال: “ولإمام الحرمين في الشامل تقسيم المكلفين إلى أربعة أقسام: فمن عاش بعد البلوغ زمنًا يسعه للنظر فيه ونظر لم يُختلف في صحة إيمانه، وإن لم ينظر لم يختلف في عدم صحة إيمانه، ومن عاش بعده زمنًا لا يسعه النظر وشغل ذلك الزمان اليسير بما يقدر عليه فيه من بعض النظر لم يختلف في صحة إيمانه، وإن أعرض عن استعمال فكره فيما يسعه ذلك الزمان اليسير بما يقدر عليه فيه من النظر ففي صحة إيمانه قولان: والأصح عدم الصحة. قلت: ولعل هذا التقسيم إنما هو فيمن لا جزم عنده بعقائد الإيمان أصلًا ولو بالتقليد”([6]).
إلا أن الدّسوقي (ت: 1230هـ) ردَّ عليه فقال: “وهذا الجواب الذي ذكره الشارح بعيد، فالأحسن أن يحمل كلام إمام الحرمين على المقلّد الجازم كما في الذي قبله، ويكون ما ذكره إمام الحرمين من عدم الخلاف في كفر المقلّد طريقة، والذي قبله من جريان الخلاف فيه طريقة أخرى، فلأهل هذا الفن طريقتان: طريقة تحكي الخلاف في إيمانه وكفره، وطريقة تحكي الاتفاق على كفره، كذا قرر شيخنا العلامة العدوي”([7]). وهنا حكاية القول بالتكفير عن الأشاعرة.
بل حُكي الاتفاق على تكفير المقلّد، يقول البيجوري (ت:1276هـ) في شرحه لتعليق السنوسي على هذا الكلام: “قوله: (وإن لم ينظر لم يختلف في عدم صحة إيمانه) ظاهره ولو كان عنده اعتقاد لكونه مقلدًا، وهذا صريح في أن المقلد كافرٌ اتفاقًا، فيخالف ما تقدم له من الجزم بالخلاف في كفره وعدم كفره، ثم إن ما ذكره من عدم صحة الإيمان في هذا القسم مقيد بما إذا كان تركه للنظر اختيارًا، ولم تحصل له المعرفة بإلهام من الله”([8]).
ويقول سعد الدين التفتازاني (ت: 792هـ): “ذهب كثير من العلماء وجميع الفقهاء إلى صحة إيمان المقلد وترتُّب الأحكام عليه في الدنيا والآخرة، ومنعه الشيخ أبو الحسن والمعتزلة وكثير من المتكلمين… قال: وأمَّا المانعون -يعني القائلين بأن إيمان المقلد ليس بصحيح أو ليس بنافع- فمنهم من قال: لا يشترط ابتناء الاعتقاد على استدلال عقلي في كل مسألة، بل يكفي ابتناؤه على قول من عرف رسالته بالمعجزة مشاهدةً أو تواترًا أو على الإجماع، فيقبل قول النبي ﷺ بحدوث العالم وثبوت الصانع ووحدانيته، ومنهم من قال: لا بدَّ من ابتناء الاعتقاد في كلّ مسألة من الأصول على دليل عقليّ، لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه، وعلى مجادلة الخصوم ودفع الشبه، وهذا هو المشهور عن الشيخ أبي الحسن الأشعري حتى حكي عنه أنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنًا“([9]).
ويقول ابن عرفة (ت: 803هـ) وهو يقرّر الخلاف في هذه المسألة عند الأشاعرة ويبين أقوالهم فيها: “ثالثها: هو كافر”([10]).
ويقول البيجوري (ت: 1276هـ) وهو يحكي الأقوال في إيمان المقلد: “حاصل الخلاف فيه ستة أقوال: الأول: عدم الاكتفاء بالتقليد، بمعنى عدم صحة التقليد، فيكون المقلد كافرًا، وعليه السنوسي في الكبرى”([11]). فنسب هذا القول إلى السنوسي وهو من أئمة الأشاعرة، وستأتي أقواله الصريحة في ذلك.
أما السنوسي فإنه ذكر القول واختاره في عدَّة مواضع، يقول: “والحق الذي يدلُّ عليه الكتاب والسنة: وجوب النَّظر الصحيح، مع التردد في كونه شرطًا في صحَّة الإيمان أو لا، والرَّاجح أنه شرط في صحته”([12]). فالنظر عند السنوسي شرط في صحة الإيمان، فلا يصح بدونه.
ويقول وهو يذكر الخلاف في إيمان المقلد: “الثالث: أنَّه كافر، وكان هذا يرى أن المعرفة فرض على الأعيان، وأنها نفس الإيمان -كما يقول الشيخ الأشعري- أو لازمة له، وأنَّ الإيمان هو حديث النفس التابع للمعرفة كما يقول القاضي. وهذا القول الثالث هو مذهب جمهور المتكلمين عند بعضهم”([13]). ثم يقول: “ففي كفره قولان للقاضي، والأصح كفره، وقد أشبعنا الكلام في أدَّلة هذا القول الثالث والردِّ على من خالفه في شرح العقيدة الكبرى، فلينظر هناك، وبالله تعالى التوفيق”([14]). فهو إذن يختار القول الثالث وهو القول بالتكفير، وقد فصَّل الكلام فيه في الكبرى([15]).
وخلاصة هذا القول: أنَّ المقلد لا يصح إيمانه، بل هو كافر، وهو محكي عن كثير من كبار الأشاعرة قديمًا وحديثًا.
القول الثاني: صحة إيمان المقلد مع الإثم:
وإلى هذا القول ذهب كثيرٌ من الأشاعرة بل مجملهم، فإنَّهم مع إيجابهم النظر يقولون بصحة إيمان المقلد مع إثمه بترك النظر، يقول عبد القاهر البغدادي (ت: 429هـ): “المسألة الخامسة من هذا الأصل في إيمان من اعتقد تقليدًا، قال أصحابنا: كل من اعتقد أركان الدين تقليدًا من غير معرفة بأدلتها ننظر فيه، فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال: لا آمن أن يرد عليها من الشُّبه ما يفسدها، فهذا غير مؤمن باللّه ولا مطيع له، بل هو كافر، وإن اعتقد الحقَّ ولم يعرف دليله، واعتقد مع ذلك أنَّه ليس في الشبه ما يفسد اعتقاده، فهو الّذي اختلف فيه أصحابنا: فمنهم من قال: هو مؤمن، وحكم الإسلام له لازم، وهو مطيع للّه تعالى باعتقاده وسائر طاعاته وإن كان عاصيا بتركه النظرَ والاستدلال المؤدّي إلى معرفة أدلة قواعد الدين، وإن مات على ذلك رجونا له الشفاعة وغفران معصيته برحمة اللّه، وإن عوقب على معصيته لم يكن عذابه مؤبّدًا، وصارت عاقبة أمره الجنة بحمد اللّه ومنِّه. هذا قول الشافعي ومالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر، وبه قال المتقدّمون من متكلمي أهل الحديث كعبد اللّه بن سعيد، والحارث المحاسبي، وعبد العزيز المكي، والحسين بن الفضل البجلي، وأبي عبد اللّه الكرابيسى، وأبي العباس القلانسي، وبه نقول”([16]).
القول الثالث: صحة إيمان المقلد دون إثم:
أصحاب هذا القول هم من أجازوا التقليد في العقائد، فما دام أن التقليد جائز بشروطه فإن الإيمان المترتّب عليه إيمانٌ صحيح، وقد ذهب إلى هذا مجمل أهل السنة وبعض الأشاعرة. يقول السنوسي (ت: 895هـ): “وقد رجَّح هذا القول ابن رشد، وزاد أنَّ النَّظر مستحبّ لا واجب، ومال إليه حجَّة الإسلام والغزالي”([17]).
فمجمل قول الأشاعرة في الباب هو إما عدم صحة إيمان المقلد، أو صحته مع الإثم.
ثانيًا: تكفير الأشاعرة عوامَّ المسلمين:
من الأخطاء التي يرتكبها من يدافع عن الأشعرية: القول بأنهم لم يقولوا بعدم صحة إيمان المقلّد مطلقًا، أو أنهم لم يكفّروا المقلّدة، وقد بينتُ أن عددًا من الأشاعرة المعتبرين قالوا بعدم صحة إيمان المقلد، وقدّمت نصوصَ بعض الأشاعرة في التكفير، فالصحيح أنَّ هناك من يقول بعدم صحة إيمان المقلد، واختار هذا القول جمعٌ من الأشاعرة، وقد ذكر عددٌ من العلماء تكفير الأشاعرة لعوام الناس، يقول السمعاني (ت: 489هـ) مبينًا أنَّ تكفير العوام لازم القول بتكفير المقلِّد: “ومن قبيح ما يلزمهم في اعتقادهم: أنَّا إذا بنينا الحقّ على ما قالوا وأوجبنا طلب الدين بالطريق الذي ذكروه وجب من ذلك تكفير العوام بأجمعهم؛ لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرّد، ولو عرض عليهم طريق المتكلمين في معرفة الله تعالى ما فهمه أكثرهم فضلًا من أن يصير فيه صاحب استدلال وحجاج ونظر، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه سلفَهم وأئمتهم في عقائد الدين، والعضّ عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات، وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبهات والشكوك، تراهم لا يحيدون عمَّا اعتقدوه وإن قطِّعوا إربًا إربًا، فهنيئًا لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة، فإذا كفروا هؤلاء النَّاس -وهم السَّواد الأعظم وجمهور الأمَّة- فما هذا إلا طيُّ بساط الإسلام، وهدم منار الدين وأركان الشريعة وأعلام الإسلام، وإلحاق هذه الدار -أعني دار الإسلام- بدار الكفر، وجعل أهليهما بمنزلةٍ واحدة، ومتى يوجد في الألوف من المسلمين على الشَّرط الذي يراعونه لتصحيح معرفة الله تعالى؟! أوَلا يجِد مسلم ألم هذه المقالة القبيحة الشنيعة في قلبه؟! بل لو تقطع حسرات من عظيم ما اخترعوه في الدين وموّهوه على الناس كان جديرًا بذلك. وإن قالوا: إنَّا لا نكفر العوام فقد ناقضوا أصولهم حين أثبتوا حقيقة المعرفة والإيمان بغير طريقها على أصولهم، وأظن أن من قال عنهم ذلك فإنما هو سلوك طريق التقيّة ورد تشنيع الناس عليهم، وإلا فاعتقادهم وطريقتهم في أصولهم ما ذكرنا”([18]).
وفي بيان هذا يقول الغزالي (ت: 505هـ): “من أشدّ الناس غلوًّا وإسرافًا طائفةٌ من المتكلّمين كفَّروا عوامّ المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر، فهؤلاء ضيَّقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولًا، وجعلوا الجنة وقفًا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيًا، إذ ظهر لهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظنَّ أن مدرَك الإيمان الكلام والأدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقد بعُد عن الإنصاف”([19]).
ويقول القرطبي: “ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقًا بالذمّ، إحداهما: قول بعضهم: إنَّ أول واجب الشكّ؛ إذ هو اللازم عن وجوب النَّظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله: ركبتُ البحر. ثانيتهما: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتّبوها والأبحاث التي حرروها لم يصحّ إيمانُه، حتى لقد أورد على بعضهم أنَّ هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال: لا تشنِّع عليَّ بكثرة أهل النار!”([20]).
وممَّا يبيّن وجود تكفير المقلّد -بل انتشاره وربط ذلك بتكفير عوام المسلمين- قول محمد شقران الوهراني في كتابه الذي ألّفه بهذا الخصوص، وهو بيان أن تكفير عموم المسلمين مرتبطٌ بتكفير المقلّد، يقول: “فقد سألني جماعة من إخواني المسلمين وجماعة كثيرة من عوام المسلمين على مسألة إيمان المقلّد في العقائد، ومن لا يعرف الدلائل والبراهين، وينزه الله ورسوله، وينطق بالشهادتين لا زائد: هل إيمانه صحيح أم هو كافر وإيمانه فاسد؟ ونصُّ سؤالهم أرشدهم الله: جوابكم فيمن يعرف الله ورسوله ويفرّق بينهما، ويعلم أن الله قديم باق، وأنَّه يحيي ويميت ويغني ويفقر، ولا يعرف في ذلك دليلًا ولا برهانًا: هل إيمانه صحيح وليس هو كافرًا أم لا؟ وهل تصح إمامته وشهادته أم لا؟ وهل يطلب من عوام المسلمين الذين لا قابلية فيهم معرفة الدليل والبرهان وهم غير قادرين عليه ولا على التعبير عنه، أم لا يطلب منهم ذلك، ويكتفى منهم باليسير في ذلك؟ بأن بعض الطلبة كفر عامة المسلمين بعدم معرفتهم لذلك، وأراد استباحة أموالهم وفساد أنكحتهم، وغير ذلك مما ينشأ عن التكفير بزعمه هل يصح قوله أم لا؟ جوابكم والسلام.
وطلبوا مني -وفقهم الله- صريح الجواب وإظهار الصواب وبيان المسألة لأولي الألباب، وقالوا: إن بعض من يدرس العلم ويدعيه، ويزعم أنه ممن يحفظه ويعيه، ويتعرض في علم التوحيد للتدريس والفتوى، ويميز بزعمه بين الصريح والنجوى، ويرى أنه ممن ينصح المسلمين والإسلام، وينصر دين مولانا محمد عليه الصلاة والسلام، أداه علمه إلى الحكم بتكفيرهم المؤدّي إلى ما ظهر في السؤال من تقريرهم ظنًّا منه أن كلّ ناطق له أتباع، وأن الحقّ ليس له ناصر ولا داع، فحين علمت أنه شاع في ذلك فعله، وما انتهى إليه تحصيله، واشتهرت عنه بذلك الفتوى، وعمَّت بسببه في العامة البلوى، فبادرت إلى إسعافهم في الجواب عن هذا السؤال، موضّحًا إن شاء الله بأحسن مقال”([21]). فكان الباعث له على كتابة هذه الرسالة انتشار هذا التكفير عند البعض، بل وظهور آثاره من إرادة استباحة الدماء والأموال!
فالشاهد أن تكفير المقلِّدة موجود في المذهب الأشعري وغيره، لكن هل يعني ذلك أن الأشاعرة يقولون بتكفير عوام المسلمين؟
الجواب: أن هذا لازم قولهم كما صرّح بذلك السمعاني في نصّه السابق، وكما يقول السيوطي (ت: 911هـ): “على القول الأول -وهو المنع عن التقليد- يصحُّ إيمان المقلد مع عصيانه. وقال أبو هاشم: لا يصحّ ولا بد لصحته من النظر، وحكي هذا القول عن الأشعري، وقد شنّع عليه أقوام بسبب ذلك؛ لأنه يلزم منه تكفير العوام، وهم غالب المؤمنين”([22]).
ويقول الوهراني: “قال القاضي أبو الفضل عياض: أكثر الفقهاء والمتكلمين على عدم تكفيرهم وعدم إخراجهم من سواء المؤمنين، وأسماهم: فساق وعصاة ضلال، ونورثهم من المسلمين، ونحكم لهم بجميع أحكامهم. واضطرب آخرون في ذلك، ووقفوا عن القول بالتكفير وضدّه. إلى هذا التوقف ذهب القاضي الباقلاني إمام أهل التحقيق، وقال: إن هذه المسألة من المعوّصات؛ إذ القوم لم يصرحوا بالكفر وإنما قالوا قولًا يؤدِّي إليه“([23]).
ومع أن هذا اللازم له حظٌّ كبير من القوَّة، ولا يستطيعون الانفكاك عنه بالأجوبة التي قدّموها، إلا أن هذا ليس صريحَ أقوالهم، بل يصرحون بأنهم لا يكفّرون عوامَّ المسلمين، وقد ذكر القشيري أن نسبة الأشاعرة إلى القول بتكفير عوام المسلمين إنما هي من جناية الكرامية على الأشاعرة، يقول: “وأما ما قالوا: إنَّ الأشعري يقول بتكفير العوام فهو أيضًا كذبٌ وزور، وقصَد من يتعنَّت بذلك تحريشَ الجهلة والذين لا تحصيل لهم عليه، كعادة من لا تحصيل له في تقوّله بما لا أصل له، وهذا أيضًا من تلبيسات الكراميَّة على العوام ومن لا تحصيل له”([24]).
فيجب هنا أن نفرّق بين مسألتين: مسألة تكفير المقلّد، ومسألة تكفير عوام المسلمين.
وهذا هو الباب الذي يخرجون عن طريقه من هذا الإلزام الصريح، فمخرجهم من هذا الإلزام هو أنَّ تكفير المقلّدة لا يعني تكفير عوام المسلمين، فإنَّ عوام المسلمين لديهم دليلٌ جملي خرجوا به عن ربقة التقليد، وبهذا أجاب السيوطي (ت: 911هـ) عن القول بتكفير المقلّد وأنه يلزم منه تكفير عوام المسلمين، فإنه حين نقل هذا القول وبين أنه نُسب إلى الأشعري وأنه يلزم منه تكفير العوام قال: “وقد شنع عليه أقوام بسبب ذلك؛ لأنه يلزم منه تكفير العوامّ وهم غالب المؤمنين، وأجيب عنه بأوجه؛ أحدها: أنه مكذوب عليه، قاله القشيري. ثانيها: أنَّه ليس المراد النظر على طريقة المتكلمين، بل على طريقة العامة، وذلك يتأتّى من العوام والأعراب كما قال الأصمعي لبعض الأعراب: بم عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدلّ على البعير، وأثر القدم يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟!”([25]).
ويقول السنوسي (ت: 895هـ): “واستُشكِل القول بأنَّ المقلّد ليس بمؤمن؛ لأنه يلزم عليه تكفير أكثر عوام المسلمين وهم معظم هذه الأمة، وذلك مما يقدح فيما علم أن سيدنا ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أتباعًا، وورد أن أمته المشرّفة ثلثا أهل الجنة. وأجيب بأنَّ المراد بالدليل الذي تجب معرفته على جميع المكلفين هو الدليل الجملي؛ وهو الذي يحصل في الجملة للمكلف العلم والطمأنينة بعقائد الإيمان بحيث لا يقول قلبه فيها: لا أدري! سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلته. ولا يشترط معرفة النظر على طريق المتكلمين من تحرير الأدلة وترتيبها، ودفع الشبه الواردة عليها، ولا القدرة على التعبير عما حصل في القلب من الدليل الجملي الذي حصلت به الطمأنينة، ولا شك أن النظر على هذا الوجه غير بعيد حصوله لمعظم هذه الأمة أو لجميعها، فيما قبل آخر الزمان الذي يرفع فيه العلم النافع، ويكثر فيه الجهل المضرّ، ولا يبقى فيه التقليد المطابق، فضلا عن المعرفة عند كثير ممن يظنّ به العلم، فضلا عن كثير من العامة، ولعلنا أدركنا هذا الزمان بلا ريب، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”([26]).
ويقول صلاح الدين الإدلبي وهو يرد على بعض من نسب تكفير العوام إلى الأشعرية: “فهم الباحث من أنَّ الأشاعرة يحكمون بالكفر أو العصيان على من آمن بالله بغير طريق النظر والاستدلال أنَّه يلزم من هذا القول تكفير الصدر الأول -أي: سلف الأمة-، وتكفير عوام المسلمين، وقوله: هذا يتضمن أن السلف من الصحابة والتابعين آمنوا بالله تعالى تقليدًا لا عن دليل! أهكذا يُتّهم سلف هذه الأمة بأنهم آمنوا بالله تقليدًا بغير طريق النظر والدليل؟! ألم ينظروا في أنفسهم وفي السماء والأرض وما فيهما فيعلموا أن لها خالقًا؟! ألم ينظروا إلى الإبل والنحل والنمل؟! ألم ينظروا في إعجاز القرآن؟! ألم يشاهد الصحابة معجزات رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! ألم يقرؤوا ويتدبروا ويتفهموا الآيات القرآنية المشتملة على الأدلة والبراهين العقلية على الإيمان بالله تعالى وصدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه؟! يخطئ من يظن أنَّ عوام المسلمين على العموم لا يملكون دليلًا عقليًّا على الإيمان بالله؛ إذ لا يشترط في الدليل أن يكون على وفق صياغات الفلاسفة”([27]). فهو يعترف بأن المقلّد كافر، لكن يرى أن الصحابة وعوام المسلمين خرجوا عن ذلك بهذا الدليل الجُملي، وقد استند إلى هذا كثيرٌ من الأشاعرة ليخفِّفوا عن أنفسهم موضوع تكفير العوام.
وقد أنصفهم ابن تيمية (ت: 728هـ) حيّن بين أنَّ جمهورهم لا يقولون بتكفير عوام المسلمين، وإنما يقولون بإسلامهم، يقول: “وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم، ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة، وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون بإيمان العامة؛ إما لحصول المعرفة لهم ضرورة، وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة، وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة، ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم”([28]).
فالقول بتكفير عوام المسلمين ليس قولا صريحًا للأشاعرة، بل يصرّحون بعكسه، بيد أنه ينبَّه إلى قضيتين:
الأولى: أنَّ القول بتكفير عوام المسلمين هو لازم قولهم وإن لم يكن صريحَ قولهم، واللازم الباطل دليلٌ على بطلان القول، فهو واحد من أدلة عدم صحة القول بوجوب النظر، وهذا اللازم وإن لم يلتزموه إلا أن له حظًّا كبيرًا من النظر والصحة، وجوابهم عنه لم يكن مخلِّصا لهم من اللازم. يوضحه:
الثانية: أن الإيمان بالدليل الجملي قد اختلف الأشاعرة في تحديده ومرادِهم منه، فهو قولٌ غير منضبط، ويرجع في كثيرٍ من الأحيان إلى أن عوام المسلمين لا يقومون به، فيلزمهم نفس اللازم.
ويتّضح هذا ببيان الدليل الجملي الذي يرون أنه يخلّص الناس من كونهم مقلّدة، فإنهم كثيرًا ما يستندون إلى موضوع النظر الإجمالي، وكونه هو المطلوب من الناس عمومًا، وبناء عليه فلا يصح إلزامهم بالإلزامات التي أُلزموا بها حين أوجَبوا النظر، ومن أهمها تعامل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام وعدم نظرهم، وكون ذلك معلومًا من حالهم بالضرورة، فلم يستطيعوا أن يثبتوا أنَّ الصحابة انتهجوا نهجهم في النظر، فهربوا من هذه المعضلة إلى أن الصحابة نظروا نظرًا مجملًا، وأنَّ هذا هو المطلوب، ومثل هذا كثير في تقريراتهم.
يقول الإيجي (ت: 756هـ) رادًّا على من استدلّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل العوام النظر: “منع الإجماع عليه([29])، بل الإجماع على خلافه؛ لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأهل سائر الأعصار العوام وهم الأكثرون مع عدم الاستفسار عن الدلائل؛ بل مع العلم بأنهم لا يعلموها قطعًا.
قلنا: كانوا يعلمون… يعلمون الأدلة إجمالًا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام على المسير… غايته أنهم قصروا عن التحرير والتقرير، وذلك لا يضر”([30]).
ويقول الآمدي (ت: 631هـ): “إن قلنا: الواجب هو المعرفة المستنِدة إلى الدليل المفصل لزم عليه تقرير العوام على تركه، فلم يبق إلا المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل، وذلك مما لا يسلم انتفاؤه في حقّ العوام حتى يقال بعدم وجوبه في حقهم مع التقرير لهم عليه؛ بل التقرير إنما هو على عدم المعرفة بالدليل المفصل، وهو غير واجب على الأعيان عندنا”([31]).
ويقول وهو يورد الإشكالات على وجوب المعرفة وكونها لا تحصل إلا بالنظر: “الوجه الثاني: هو أنّا نعلم أنه ما من عصر من الأعصار من زمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى زمننا هذا إلا وفيه العوام، ومن لا علم له بالله تعالى وذاته وصفاته على ما يليق به عن بديهة، ولا نظر؛ لعدم أهلية النظر والاستدلال في حقهم، وهم أكثر الخلق في كل عصر، بل غاية الموجود في حقهم مجرد الإقرار باللسان، والتقليد المحض الذي لا يقين فيه، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة من كل عصر حاكمون بإسلامهم، قاضون بإيمانهم، مقرون لهم على ذلك؛ بل وقد كانوا يقرون من يعلم بالضرورة عدم اعتقاد المسائل الغامضة في حقّه كدقائق مسائل الصفات وغيرها مما لا خطور لها بذهنه، فضلا عن كونه معتقدًا لها. ولو كانت المعرفة بالله تعالى واجبة شرعًا لما جاز من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة الإقرار على تركها، وإهمال التوصّل إلى تحصيلها، وإن سمى مسمّ الاعتقاد التقليد علمًا فلا منازعة معه في غير التسمية”([32])، ثم بدأ يرد عليه فقال: “وما ذكروه في الوجه الثاني من التفصيل فغير مسلم؛ وذلك لأن المعرفة الواجبة تنقسم إلى: ما حصولها عن معرفة الدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل بأن لم يكن مقدورًا على تحريره وتقريره، والانفصال عن الشبهة الواردة عليه.
وإلى ما حصولها عن الدليل المعلوم بجهة التفصيل المقدور على تحريره وتقريره، ودفع الشبهة الواردة عليه، وعلى المناظرة؛ فلا جرم اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من قال: المعرفة بالاعتبار الأول واجبة على الأعيان، والمعرفة بالاعتبار الثاني واجبة وجوب كفاية، إذا أضرب عنها الجميع أثموا، وإن قام بها البعض سقطت عن الباقين.
ومنهم من قال: إن المعرفة بالاعتبار الثاني واجبة على الأعيان، لكن إن كان الاعتقاد موافقًا للمعتقد من غير دليل ولا شبهة فصاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب”([33]).
وهذا التقرير هو ما قرره ابن تيمية عنهم أيضًا، وبين أنهم مختلفون في ذلك، فقال: “وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين: هل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات؟ والذين لا يجعلونه فرضًا على الأعيان منهم من يقول: الواجب هو الاعتقاد الجازم، ومنهم من يقول: بل الواجب العلم وهو يحصل بدونه، كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعرية وغيرهم، كـالرازي والآمدي وغيرهما.
والذين يجعلونه فرضًا على الأعيان، متنازعون: هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم، أم لا يصح؟ على قولين.
والذين جعلوه شرطًا في الإيمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطًا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان، ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام.
ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمَرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدَث، كطريق الأعراض والأجسام”([34]).
فأهل السنة لم يقوِّلوا المتكلمين بأنهم يقولون بطلب الدليل التفصيليّ لكل أحد، ويعلمون أنهم يعتبرون النظر الجملي أيضا، لكن هنا أمور مهمّة ينبغي التنبيه لها وهي:
1- أن بعض الأشاعرة لم يكتفوا بالدليل الجملي، وقد حكى بعضهم إجماع المتكلمين على أنَّ النظر التفصيلي واجب على الكفاية لا على الأعيان([35]).
إلا أن الإجماع غير صحيح، فقد ذكر عدد من المتكلمين وقوع الخلاف في المذهب حول كون النظر التفصيلي فرض كفاية أو فرض عين، يقول الآمدي (ت: 631هـ): “المعرفة الواجبة تنقسم إلى: ما حصولها عن معرفة الدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل بأن لم يكن مقدورًا على تحريره وتقريره، والانفصال عن الشبهة الواردة عليه.
وإلى ما حصولها عن الدليل المعلوم بجهة التفصيل المقدور على تحريره وتقريره، ودفع الشبهة الواردة عليه، وعلى المناظرة؛ فلا جرم اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من قال: المعرفة بالاعتبار الأول واجبة على الأعيان، والمعرفة بالاعتبار الثاني واجبة وجوب كفاية، إذا أضرب عنها الجميع أثموا، وإن قام بها البعض سقطت عن الباقين.
ومنهم من قال: إن المعرفة بالاعتبار الثاني واجبة على الأعيان، لكن إن كان الاعتقاد موافقًا للمعتقد من غير دليل ولا شبهة فصاحبه مؤمن، عاص بترك النظر الواجب”([36]). وهذا تصريح بأنهم اختلفوا في المسألة، فمنهم من جعل النظر التفصيلي فرض عين وإن صحّح إيمان من لم ينظر مع تأثيمه.
بل منهم من منع أن يكون هناك دليل جملي، وأن الدليل إن كان مكوَّنًا من عدد من المقدمات يجب تحصيلها جميعًا، يقول الرازي: “ونحن نعلم من حال الصحابة أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلّم علم الكلام في أول زمان بلوغه، وأيضًا الاشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش.
أجابوا: بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق الجملة لا على طريق التفصيل، ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الإجمال أمر سهل هيّن يحصل بأدنى سبب، بخلاف الاجتهاد في فروع الشرع، فإنه لا بد فيه من علوم كثيرة وتبحر شديد.
واعلم أن هذا الفرق إنما يتلخّص إذا سلّمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة ومباحث التفصيل، وعندي أن هذا الفرق باطل، وذلك لأن الدليل إذا كان مركبًا مثلًا من مقدمات عشرة، فالمستدل إن كان عالمًا بها بأسرها وجب حصول العلم النظري له لا محالة، وإن امتنعت الزيادة عليه؛ لأن تلك المقدمات العشر إذا كانت مستقلة بالإنتاج أخبرنا، فلو انضمت مقدمة أخرى إليها استحال أن يكون لها أثر البتة، وأما إن لم يحصل العلم بأسرها مثل أن يحصل العلم بتسع منها ولم تكن المقدمة العاشرة معلومة بالضرورة ولا بالدليل، بل مقبولة على سبيل التقليد، فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدًا لا يقينًا، فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة، مثاله أنهم يقولون: صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث من البرق والرعد والحر والبرد على وجود الصانع، فنقول: هذا لا يكفي؛ لأنا نقول: هذه الحوادث لا بد لها من مؤثر، وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلًا مختارًا، أما المقدمة الأولى فمعلومة للعوام، وأما الثانية فغير معلومة لهم؛ لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرًا لمؤثر موجب لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار، فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارًا من غير دليل عليه كان مقلدًا في هذه المقدمة، وإذا كان مقلدًا فيها لم يكن محققًا في النتيجة، وأيضًا إذا رأى حدوث فعل خارق للعادة على يد مدّعي النبوة، فلو قطع عند ذلك بنبوته كان ذلك تقليدًا؛ لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى، بل خاصية لنفس الرسول أو خاصية لدواء أو فعلا من أفعال الجن، وبتقدير أن يكون فعلا لله تعالى لكن يجوز أن لا يكون لله تعالى فيه غرض، وإن كان له فيه غرض جاز أن يكون ذلك الغرض شيئًا سوى التصديق، فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة لا بد وأن يكون دالا على صدق المدعي من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام كان مقلدًا في اعتقاد هذه المقدمة، فلم يكن محققا في النتيجة، فظهر بهذا فساد ما قالوه من الفرق بين صاحب الجملة وبين صاحب التفصيل.
وحينئذ لا يبقى إلا أحد أمرين: إما أن يقال بأن الإحاطة بأدلة الدين على تفصيلها وتدقيقها شيء سهل هين، وذلك مكابرة، وإما أن يقال: يجوز فيه التقليد كما جوزوا في فروع الشرع التقليد، وحينئذ لا يبقى بينهما فرق البتة”([37]).
2– أن النَّظر الجملي لفظ مجمل يجب الاستفصال عنه، فما حد النظر الجملي؟ هل هو النظر في حدوث الكون، أم هو التفكر في الآيات القرآنية التي ذكرها الله، أم هو النظر في الأدلة العقلية، أم هو ما يورث الطمأنينة بعقائد الإيمان؟([38])، فالنظر الجملي إذن مختلف في حقيقته وتحديده، فكيف نوجبه على كل الناس؟! بل كيف يكون هو أول واجب على المكلف؟!
3- إن كان المراد به: النظر الجملي في دليل الحدوث -وهو مقصودهم- فإنه لا دليل على أن كل الصحابة قد نظروا فيه، كما أنه لا دليل على طلب النظر في ذلك من كل الناس.
4- وإن كان المقصود بالنظر الجملي هو النظر في الآيات العقلية التي تضمنها القرآن الكريم، فإن هذا أيضًا لا يخلِّصهم من هذا الإلزام من جهتين:
– من جهة أن هذا لا يفيد وجوبَ النظر لكل الناس، فليس فيه دليل على ذلك، وإنما غاية ما فيه أنها كاشفة عن الفطرة السوية التي خلق الله الناس عليها، كما أنها أدلة عقلية ملزمة لمن أنكر وجود الله على ما سبق بيانه، ونحن لا ننكر النظر وكونه واجبًا لبعض الناس، وكونه مما يزيد الإيمان واليقين إذا كان بشروطه، فخلافنا ليس في أصل وجوب النظر العام الشرعي وليس الكلامي، وإنما في جعل الوجوب عامًّا للجميع.
– ومن جهة أنه لا يمكنهم إثبات أن كل الصحابة نظروا في الآيات القرآنية العقلية لتأسيس الإيمان بوجود الله. نعم، لا شك أن بعضهم قد وعى تلك الأدلة العقلية وآمن بسببها، ولا شك أن بعضهم حصل له زيادة الإيمان واليقين بالأدلة العقلية؛ لكن أنّى لهم أن يثبتوا أن الصحابة إنما أسسوا إيمانهم بالنظر في الأدلة العقلية الشرعية؟!
بل ثبت عكس ذلك، وهو إسلام كثير منهم -ثم أكثر منهم من التابعين- دون نظر، بل معظم أدلة القرآن العقلية في ما يتعلق بالله إنما هي عن وحدانيته لا عن وجوده؛ لظهور ذلك الأمر، مع كفاية الأدلة الواردة في باب وجود الله وقيام الحجة بها لكل منكر وجاحد.
5- كون أدلة الشرع سهلة يسيرة يدركها الأذكياء والأغبياء لا يعني وجوب النظر فيها عند تأسيس الإيمان، فسهولة إدراك أدلة الشرع شيء، ووجوب النظر شيء آخر.
6- أنه حتى وإن قلنا: إن المطلوب هو النظر الجملي في الأدلة العقلية الشرعية، وإن الصحابة كلهم فعلوا ذلك، فإن غاية ما يثبته هذا هو أنه فعل فعله الصحابة في حال إيمانهم، ولا يعني ذلك وجوبه على كل الأمة، فالوجوب يحتاج إلى دليل خاص، خاصة وأن الوجوب معارض بأدلة أخرى أصرح وأوضح في الدلالة على عدم الوجوب.
7- قولهم: إن النظر الجملي هو ما يحصل به طمأنينة القلب، ثم حصروا الوصول إلى الطمأنينة في النظر، وهذا خطأ، فالطمأنينة قد تحصل بالنظر، وقد تحصل بغيرها.
وخلاصة هذا الموضوع:
أن كثيرًا من الأشاعرة قد كفَّروا المقلّد، وفرّوا من تكفير عوام المسلمين، ومع هذا فإن القول بتكفير عوام المسلمين قول لازم لقولهم بعدم صحة إيمان المقلّد، وما ذكروه من الدليل الجملي غير مخلِّص لهم من هذا الإلزام، بل هو متّفق مع أصولهم في القول بوجوب النظر على كلّ أحد حتى يصحّ إسلامه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أوصلها البيجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد (ص: 77) إلى ستة أقوال. وينظر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى، لخالد عبد اللطيف محمد نور (ص: 322) فقد ذكر ستة أقوال أيضًا.
([2]) أبكار الأفكار في أصول الدين، للآمدي (1/ 164). وينظر: أصول الدين، لعبد القاهر البغدادي (ص: 255)، ولوامع الأنوار البهية، للسفاريني (1/ 275)، ورسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت، لأبي نصر السجزي (ص: 301).
([3]) حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد، والمسماة: “تحفة المريد على جوهرة التوحيد” (ص: 78).
([4]) أبكار الأفكار في أصول الدين (1/ 164) باختصار يسير.
([5]) الشامل في أصول الدين (ص: 122-123) باختصار.
([6]) شرح أم البراهين (ص: 15).
([7]) حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص: 56-57).
([9]) شرح المقاصد في علم الكلام (2/ 264- 265).
([10]) المختصر الكلامي (ص: 111).
([11]) تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص: 77).
([12]) شرح أم البراهين (ص: 15).
([13]) العقيدة الوسطى (ص: 38).
([17]) المنهج السديد في شرح كفاية المريد (ص: 49).
([18]) الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 73-74).
([19]) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ص: 70).
([20]) ينظر: فتح الباري، لابن حجر (13/ 350).
([21]) الجيش والكمين لقتال من كفّر عامة المسلمين (ص: 17-18).
([22]) شرح الكوكب الساطع (2/ 443-444).
([23]) الجيش والكمين لقتال من كفر عامة المسلمين (ص: 32).
([24]) ينظر: رسالة القشيرى إلى البلاد المسماة: شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة. في طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي (3/ 418).
([25]) شرح الكوكب الساطع (2/ 444).
([26]) شرح أم البراهين (ص: 17-18)، وينظر: مختصر نظم الفرائد ومبدأ الفوائد لمحصل المقاصد، لأحمد منجور (ص: 77).
([27]) عقائد الأشاعرة في حوار هادئ مع شبهات المناوئين (ص: 103).
([28]) درء تعارض العقل والنقل (7/ 357). وينظر مقالٌ بعنوان: مناقشة دفاعات الأشعرية المعاصرة في مسألة إيمان المقلد، لبراء محمد ياسين، مجلة البيان (ع: 363).
([31]) أبكار الأفكار في أصول الدين (1/ 164).
([32]) المرجع السابق (1/ 158-159).
([33]) المرجع السابق (1/ 163).
([34]) درء تعارض العقل والنقل (7/ 408).
([35]) ينظر: شرح معالم أصول الدين، لشرف الدين عبد الله ابن التلمساني (ص: 45)، والمختصر الكلامي، لابن عرفة (ص: 113). وأبكار الأفكار في أصول الدين، للآمدي (1/ 163).
([36]) أبكار الأفكار في أصول الدين (1/ 163-164).
([38]) كما يقول السنوسي في شرح أم البراهين (ص: 17-18)، وأحمد منجور في مبدأ الفوائد لمحصل المقاصد (ص: 71).