دعوى تفريق الإسلام بين المسلمين وأهل الذِّمَّة في الحقوق الاجتماعية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
تتجاذب التشريعاتِ الإسلاميةَ المتعلقة بحقوق غير المسلمين من الذمّيين والمعاهدين والمستأمنين([1]) نظرتان:
النظرة الأولى: هي النظرة الليبرالية والتنويرية، التي جعلت دأبها الاعتراض على النصوص والإجماعات وتقريرات الفقهاء والأئمة بدعوَى مخالفتها للحرية، وحقوق الإنسان، والمساواة.
والنظرة الثانية: هي نظرة الغلاة الذين شوَّهوا صورة الإسلام بما يقومون به من نقضٍ للعهود والمواثيق؛ باستحلال حرمات المعاهدين من غير المسلمين، مع أن الغدر حرام في جميع الشرائع والملل والسياسات، كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله([2]).
ومن تأمّل في النصوص الشرعية وجدها قاضيةً ببطلان كلتا النظرتين، دالةً على أن الشريعة الإسلامية لم تخرج في التعامل مع غير المسلمين في حالٍ من الأحوال عن مهيع الحقّ والعدل الذي أساسه وجوهره تحقيق العبودية للخالق جلّ وعلا، كما سنفصّله في هذه المقالة بإذن الله تعالى.
نصّ الشبهة:
يقول المعترضون: إنَّ التشريعات الإسلاميّة تفرّق بين المسلمين وأهل الذمة في الحقوق الاجتماعية، وهذا يدُلُّ على عدم احترام الإسلام لمبدأ المواطنة الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون؛ بل ومخالفة الإسلام للمواثيق الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
الجواب:
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: للذمِّي المعاهد الذي يدخل في ذِمَّةِ المسلمين وعهدِهم وأمانهم أن يُوفَّى له بعهدِه وأمانه، وأن لا يُساءَ إليه في شيء من حُرُمَاته وحقوقِه؛ لا في نفسِه، ولا مالِه، ولا عِرضه:
فقَد أمرَ الله تعالى بالوَفَاء بالعهد في نصوص كثيرة في كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91]، وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء: 34]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: 72]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾، إلى قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 20-24]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المعارج: 32]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 27]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25]، وقال تعالى: ﴿لَّا يَنْهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8، 9]، وقال تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُواْ إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 9].
وعن صفوان بن سُلَيم عن عِدَّة من أبناء أصحابِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، عن آبائِهم دِنْيَةً، عن رسولِ الله صَلى الله عليه وسلم قَال: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([3]).
وعن العِرباض بن سَارِية رضي الله عنه أنَّ صاحبَ خيبرَ جاءَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فشَكا إليه بعض ما يَلْقَوْن، فأمر الناسَ فاجتمعوا، وخطَبهُم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «… وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ، إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ»([4]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»([5]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلامٌ يهوديٌّ يخدمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُهُ، وقَعدَ عند رأسِهِ، فقال له: «أَسْلِم»، فنظرَ إلى أبيه وهو عندَهُ، فقال: أَطِع أبا القاسِم، فأَسلَمَ، فخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ»([6]).
وعن أبي عثمان النهدي قال: كتبَ أبو موسى إلى دِهْقَانٍ يُسلِّم عليه في كتابه، فقيل له: أتُسلِّمَ عليه وهو كافر؟! قال: (إنه كتبَ إليَّ فسلَّمَ عليَّ، فرددتُ عليه)([7]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ردُّوا السلامَ على من كان يَهُوديًّا أو نَصْرَانيًّا أو مَجُوسيًّا؛ وذلك أن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86])([8]).
وعنه قال: (لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات)([9]).
وعن أبي بكرة قال: مرَّ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائلٌ يسأل، شيخٌ كبيرٌ ضريرُ البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذَ عُمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذلُه عند الهرم: {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلفُقَرَاءِ وَٱلمَسَٰكِينِ}، والفقراءُ هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضعَ عنه الجزية وعن ضربائه. قال: قال أبو بكرة: أنا شهدتُ ذلك من عمر، ورأيتُ ذلك الشيخ([10]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([11]).
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([12]).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ([13]) حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»([14]).
وقال أبو محمد ابن حزم: (اتَّفَقُوا أَن دم الذِّمِّيِّ الذِي لم ينْقض شَيْئا من ذمَّته حرَامٌ)([15]).
وقال الشوكاني: (المعاهِد هو الرجُل من أهل دار الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان، فيحرم على المسلمين قتلُهُ بلا خِلاف بين أهل الإسلام حتى يرجِعَ إلى مأمَنِه)([16]).
فهذه النصوص الكثيرة والإجماعات تَدُلُّ على مَبلغ سماحةِ الإسلام في التعامل مع أهل الذِّمَّة والمعاهدين، بحيثُ جاءَ التشديدُ والوعيدُ لمن يقعُ منه ظُلم عليهم، وذلك لما يترتب على عقد الذمّة من الحقوق الأكيدة التي يجب على الإمام والأمة مراعاتها.
يقول القرافي في بيان الفرق بين برّ أهل الذمة والتودّد لهم: (سِرُّ الفرق أن عَقدَ الذمة يُوجب حقوقًا علينا لهم لأنهم في جِوَارنا وفي خَفارتنا، وذمةِ الله تعالى وذمةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ودينِ الإسلام، فمن اعتدَى عليهم ولو بكلمةِ سُوء أو غيبةٍ في عِرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام.
وكذلك حكى ابنُ حزم في (مراتب الإجماع) له أنَّ مَن كان في الذِّمَّة وجاء أهلُ الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرُج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونًا لمن هو في ذِمَّة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة؛ فقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صونًا لمقتضاه عن الضياع، إنه لعظيم، وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة، وتعيَّن علينا أن نبرَّهُم بكل أمر لا يكون ظاهرُه يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نُهِي عنه في الآية وغيرها)([17]).
قال: (وأما ما أمرَ به من بِرِّهم من غير مودة باطنية:
[1] فالرِّفقُ بضعيفهم.
[2] وسَدُّ خلَّة فقيرهم.
[3] وإطعامُ جائعهم.
[4] وإكساءُ عاريهم.
[5] ولِينُ القول لهم على سبيل اللُّطفِ لهم والرحمة، لا على سبيلِ الخوف والذلة.
[6] واحتمالُ إذايَتِهم في الجوار مع القُدرة على إزالته، لطفا منا بهم لا خوفًا وتعظيمًا.
[7] والدعاءُ لهم بالهداية، وأن يُجعَلُوا من أهل السعادة.
[8] ونصيحتُهم في جميع أمورهم في دينِهم ودنياهم.
[9] وحفظُ غيبتهم إذا تَعرَّضَ أحدٌ لأذيَّتِهم.
[10] وصونُ أموالهم وعيالهم وأعراضِهم وجميع حقوقِهم ومصالحهم.
[11] وأن يُعانُوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميعِ حقوقهم.
وكلُّ خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدوِّ أن يفعله مع عدوه، فإن ذلك من مكارم الأخلاق.
فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والجلالة منا، ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم.
وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشدِّ العصاة لربنا ومالِكنا عز وجل.
ثم نُعاملهم بعد ذلك بما تقدَّمَ ذكرُه امتثالًا لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، لا محبةً فيهم، ولا تعظيمًا لهم، ولا نظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة؛ لأن عقد العهد يمنعنا من ذلك، فنستحضرها حتى يمنعنا من الوُدِّ الباطن لهم، والمحرم علينا خاصَّةً)([18]).
وقد أحسن الشيخ حسين الجسر المصري رحمه الله حين عقد في منظومته (هدية الألباب في جواهر الآداب) حقوق أهل الذمّة فقال:
وارعَ مواثيقَ مليكِ الأُمهْ *** فيما يصون حقوقَ أهل الذمهْ
فصَونُ حقِّهم به قَدْ أمَرَا *** شرعُ النَّبِيِّ المُصطفى وقرَّرَا
ومن يسُوءُهم بهضمِ الحقِّ *** يخالفُ الأمرَ لربِّ الخلقِ
يكون خصمُهُ بيوم الحشر *** رسولُنُا طه مفيضُ البرِّ
وجاء أن ظُلمَهم إن وُجِدَا *** يُسلَّطُ الأعدا علينا بالرَّدَى
كيفَ يَجُز ضرُّهم وهم لنا *** عونٌ على الأعدَا إن خطبٌ جَنا
وهم من الجيرة في الأوطان *** لهم حقوقُ الوطنِ المُصانِ
كما لهم حقوقُ الانسانيهْ *** وهذه لذي النُّهى مرعيَّهْ
والدين يُرجَى فيه يوم الآخرة *** يُنفِذُ فيه ربُّنَا أوامِرَهْ
أما بهذِي الدار فالمطلوبُ *** منَّا امتثالُ الأمر يا لبيبُ
نسعى كما المولى علينا فرَضَا *** في حفظ حق خلقِهِ كيف قَضَى
ثم سياسةُ وفاءِ العهدِ *** تسدُّ عنَّا بابَ مكرِ الضِّدِّ
من يجعل انتصارَه لمن ظُلِم *** وسيلةً لمقصد منهُ عُلِمْ
فيبلغُ الغاية فينا مُسرِعا *** ويَهْضم الحقوقَ منا أجمعَا
ولا يراعي غير جنسه كما *** يظهر بالقياس يا مَن فَهِمَا
فالاتفاقُ بيننا يدافعُ *** عنا شرورًا كلُّها صوادعُ
الوجه الثاني: الحِكْمة من بعض التشريعات المميزة بين المُسْلِم والذِّمِّيِّ:
إن التعاقدَ والتحالفَ أساس كلّ مجتمع من المجتمعات؛ إذ لا يمكن لبني آدم أن يعيشوا بدون اتّفاق على ما يشتركون فيه مِن جَلْب المنافع والمحبوبات ودفع المضار والمكروهات، ولازم ذلك وجود الموالي والمعادي لكل طائفة تعاقدت على مشترك من المشتركات، فالموالي هو من يشاركهم في ما تعاقدوا عليه واتّفقوا، والمُعَادي هو من يخالفهم في ذلك.
والتعاقد الذي يتأسّس عليه المجتمع الإسلامي هو التعاقد على جَلْب المنافع والمحبوبات التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ودفع المضار والمكروهات التي يكرهها الله تعالى، فهو تعاقد مُتَّجِه نحو الغاية التي أرادها الله تعالى مِن خَلْقِه الخَلْق وهي إفراده بالعبادة التي هي كمال المحبة مع كمال الخُضُوع، وإذا كان هذا التعاقد متجهًا نحو هذه الغاية، فإن الولاية والعداوة لدى المجتمع الإسلامي متجهةٌ نحو هذه الغاية تبعًا، فأولياء الله تعالى هم أولياء المؤمنين وأعداؤه هم أعداؤهم.
ولذا وجدنا مبنى شريعةِ محمد صلى الله عليه وسلم -التي تبين ما يحبه الله تعالى وما يكرهه من الأفعال والأقوال أتم البيان- على التفريق بين أولياء الله تعالى وأعدائه في الأحكام، وعلى هذا تجد كتب الفقه التي دونها علماء المسلمين لحفظ الشريعة وفهمها.
وإذ ضَعُفَت المعرفة بالله تعالى وسيطرت المفاهيم الغربية الليبرالية الإلحادية التي لا تُقِرُّ بخالق آمرٍ ناهٍ حكيمٍ؛ انحرفت تبعًا لذلك المعرفة بالغاية التي يتجه نحوها المجتمع الإسلامي في تعاقده الذي به يكون مُجتمعًا، وهي تحقيق عبودية الله تعالى، واتجهت نحو الغايات واللذائذ المادية التي يُوجِّه الفكر الليبرالي الناس إليها.
ومن هنا فإن فهم الحِكْمة من بعض التشريعات التي تفرّق بين أهل الذِّمَّة وبين المسلمين -مثل الجِزْيَة وعدم قتل المُسْلِم بالذِّمِّيِّ- مُؤَسَّس على التصوّر الصحيح للنظام السياسي في الإسلام([19]).
أولًا: الحكمة من إلزام أهل الذِّمَّة بالجزية:
بيّن العلماء الحكمة من إلزام أهل الذّمّة بالجزية، فذكروا لذلك أوجهًا متعدّدة، كلها تتسق مع الغاية من النظام السياسي في الإسلام، وهي تحقيق العبودية لله تعالى، ونُورِد هنا بعضًا من كلامهم.
يقول ابن الجوزي: (تفكّرت في إبقاء اليهود والنصارى بيننا وأخذ الجزية منهم؛ فرأيت في ذلك حكمًا عجيبةً، منها ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفًا، فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم، ومنها: ظهور عزه بذلّهم، إلى غير ذلك مما قد قيل.
ووقع لي فيه معنى عجيب، وهو أن وجُودَهم وتعبُّدَهم وحفظهم شرع نبيهم صلى الله عليه وسلم دليل على أنه قد كان أنبياء وشرائع، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل؛ فقد اجتمعت الجن وهم على إثبات صانع وإقرار برسل، فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن. وهم يصبرون على باطلهم، ويؤدّون الجزية، فكيف لا نصبر على حق والدولة لنا؟! وفي بقائهم احترام لما كان صحيحًا من الدين، وليرجع متبصر، وليستعمل متفكر)([20]).
ويقول ابن القيم في تقرير نحو هذا المعنى: (ولله تعالى حِكَمٌ في إبقاء أهل الكتابين بين أظهُرِنا، فإنهم مع كفرهم شاهدون بأصل النبوات والتوحيد واليوم الآخر والجنة والنار، وفي كتبهم من البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرِ نعوته وصفاته وصفات أمته ما هو من آيات نبوته وبراهين رسالته، وما يشهد بصدق الأول والآخر.
وهذه الحكمة تختصّ بأهل الكتاب دون عَبَدة الأوثان، فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكري النبوات والمعاد والتوحيد، وقد قال الله تعالى لمنكري ذلك: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، ذكر هذا عقب قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، يعني: سلوا أهل الكتاب: هل أرسلنا قبل محمد رجالًا يوحى إليهم أم كان محمد بِدْعًا من الرسل لم يتقدمه رسولٌ، حتى يكون إرساله أمرًا منكرًا لم يَطْرُقِ العالمَ رسولٌ قبله؟
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 44]، والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به: هل فيه أن الله شرع لهم أن يُعبدَ من دونه إلهٌ غيره؟
قال الفراء: المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل، فيخبرونه عن كتبهم وأنبيائهم.
وقال ابن قتيبة: التقدير: واسألْ من أرسلنا إليهم رُسُلًا من قبلك، وهم أهل الكتاب.
وقال ابن الأنباري: التقدير: وسَلْ تُبَّاعَ من أرسلنا من قبلك.
وعلى كل تقديرٍ، فالمراد التقرير لمشركي قريشٍ وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد، وأن الله أرسل رسولًا أو أنزل كتابًا أو حرَّم عبادة الأوثان. فشهادة أهل الكتاب بهذا حجةٌ عليهم، وهي من أعلام صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدَّموه من رسل الله سبحانه، ولم يكن بِدْعًا من الرسل، ولا جاء بضدِّ ما جاؤوا به، بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهدٍ ولا اقترانٍ في الزمان، وهذا من أعظم آيات صدقه)([21]).
وقد نبّه التقي السبكي إلى حكمةٍ أخرى لفرض الجزية على أهل الذمّة فقال: (فإنا لو لم نبقهم في بلاد الإسلام لم يسمعوا محاسنه فلم يسلموا، ولو أبقيناهم بلا جِزْيَة ولا صَغَار اغتروا وأَنِفُوا، فأبقيناهم بالجِزْيَة لا قصدًا فيها؛ بل في إسلامهم.
ولهذا إذا نزل عيسى عليه السلام لا يقبلها؛ لأن مدة الدنيا التي يرجى إسلامهم فيها فرَغت، والحُكْم يزول بزوال عِلَّتِه، فزال حُكْم قبول الجِزْيَة بزوال عِلَّتِه، وهو انتظار إسلامهم، وذلك حُكْمٌ من أحكام شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس حُكْمًا جديدًا، فإن عيسى عليه السلام إنما ينزل حاكمًا بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم)([22]).
ويقول الشيخ مصطفى صبري التوقادي: (وأعيب المعائب على أمّة عندي أن تحارب لتشبع هي وتجوع غيرها، فكل غاية ماديّة تبنى عليها المحاربة والمقاتلة بين البشر غاية خسيسة، منشؤها الشره المعيب الحيواني، وأين هي بالنسبة إلى حرب دينية يقصد بها إعلاء كلمة الله وسوق الناس إلى ما يرشدهم ويسعدهم في الدارين، فضلا عن أن المحارب لله تمنعه مخافة الله عن أن يظلم في الحرب، وتجعل له فيها حدودًا لا يجاوزها أثناء المحاربة، ولا بعد انتهائها بالغلبة؟! وهذه الحدود لا تشبه ما يسمى: حقوق الدول، التي هي ملعبة في أيدي المتحاربين لا سيما في يد الغالب.
ثم إن كون الدين الذي يسعى لتأييده من وراء الحرب حقًّا أو باطلًا في نفس الأمر خارج عن بحثنا، ويكفينا في تفضيل هذه الغاية على غاية المنافع المادية فرض كونه حقًّا في اعتقاد المحاربين، وخصيصا يكفينا كون الكلام هنا في الإسلام، فقد كان المسلمون الذين يحاربون لنشر الهداية الإسلامية يذهبون إلى البلاد التي فتحوها بكل خير ونعمة، فيتخذون الداخلين في دينهم إخوانًا متساوين في المرتبة والشرف، لا مزية لأحد على الآخر من المسلمين القدماء الغالبين أو الجدد المغلوبين إلا بالتقى، ويقولون عن غير الداخلين إلى دينهم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا ما داموا يؤدون الجزية، وهي ضريبة غير مثقلة ترمي إلى الاستمرار في حث أهل الذمة على الإسلام.
وليُنظر في ما فعلت الدول العصرية الغالبة -سواء كانت في الحرب العالمية الأولى أو الثانية أو فيما قبلهما من الحروب- بالمغلوبين، وما لا تزال تفعل مجتهدة في امتصاص ما عندهم من المنافع، ولا يمكن أحدًا من أفراد الأمم المغلوبة بأي وسيلة من الوسائل أن يرتقي إلى درجة تساوي درجة الغالبين، فينظروا إليه نظرهم إلى واحد منهم، ويحبوه كما يحبون واحدًا منهم، وليس بمتصور مثلا أن يكون نظر الإنجليز إلى أحد من المصريين أو الهنديين كنظرهم إلى واحد من الإنجليز، ومكانه في قلوبهم كمكانه فيها)([23]).
وقدِ اعترف من أنصف من فلاسفة الغرب بسماحة الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب بإبقائه على حياتهم شريطة دفع الجزية، وفي ذلك يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل: (وفي المعارك الأولى بين المسيحية والإسلام كان المسيحيون هم المتعصّبون والمسلمون هم المنتصرون، وقد اخترعت الدعاية المسيحيّة قصصًا عن التعصب الإسلامي، ولكنها جميعًا كاذبة تمامًا إذا طبقناها على القرون الأولى في الإسلام، فقد تعلم كل مسيحي قصة الخليفة الذي دمر مكتبة الإسكندرية، وفي الواقع لقد دمرت هذه المكتبة مرارًا، وكان أول من دمرها هو يوليوس قيصر، وكانت آخر مرة وجدت فيها المكتبة قبل ظهور الرسول.
وقد تسامح المسلمون الأول -على نقيض المسيحين- مع من يطلقون عليهم أهل الكتاب على شريطة أن يدفعوا الجزية.
وقد قوبل المسلمون بالترحاب لاتساع أفقهم، وهذا هو ما سهل عليهم فتوحاتهم كثيرًا، على عكس المسيحيين الذين لم يقتصر اضطهادهم على الوثنيين، بل اضطهدوا بعضهم البعض)([24]).
ثانيًا: الحكمة من تحريم قتل المسلم بالذمّي:
إن حُرْمَة دَمِ الذِّمِّي التي تَقَدَّم تقريرها آنفًا لا تقتضي استواءَ دمه مع دم المُسْلِم عقلًا، ولا شرعًا، ولا مصلحة، بحيث يقال: إن المسلم إذا قتل ذِمِّيًّا فإنه يُقْتل به، وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم.
يقول ابن القيم: (فإنَّ الدِّين هو الذي فرَّق بين النَّاس في العِصمة، وليس في حكمة الله وحُسْن شرعِه أن يجعل دمَ وليِّه وعبده وأحبِّ خلقه إليه وخير بريَّته ومن خَلَقَه لنفسِه واختصَّه بكرامته وأهَّله لجواره في جنَّته والنَّظر إلى وجهه وسماع كلامه في دار كرامته كَدَم عدوِّه وأمقَتِ خلقِه إليه وشرِّ بريَّته والعادِل به العادِل عن عبادته إلى عبادة الشيطان الذي خَلَقه للنَّار وللطَّرد عن بابه والإبعاد عن رحمته.
وبالجملة؛ فحاشا حكمتَه أن تسوِّي بين دماء خير البريَّة ودماء شرِّ البريَّة في أخذِ هذه بهذه، سيَّما وقد أباح لأوليائه دماءَ أعدائه وجَعَلهم قرابينَ لهم، وإنما اقتضت حكمتُه أن يكفُّوا عنهم إذا صاروا تحت قَهْرهم وإذلالهم كالعبيد لهم، يؤدُّون إليهم الجِزيةَ التي هي خَراجُ رؤوسِهم، مع بقاء السَّبب المُوجِب لإباحة دمائهم.
وهذا التَّركُ والكفُّ لا يقتضي استواءَ الدَّمَيْن عقلًا، ولا شرعًا، ولا مصلحة. ولا ريبَ أنَّ الدَّمَيْن قبل القهر والإذلال لم يكونا بمستويَيْن؛ لأجل الكفر، فأيُّ مُوجِبٍ لاستوائهما بعد الاستذلال والكفرُ قائمٌ بعينِه؟! فهل في الحكمة وقواعد الشريعة ومُوجبات العقول أن يكون الإذلالُ والقهرُ للكافر مُوجِبًا لمساواة دمه لدم المسلم؟! هذا مما تأباهُ الحكمةُ والمصلحةُ والعقول.
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى، وكَشَف الغطاء، وأوضحَ المُشْكِل، بقوله: «المسلمون تتكافأُ دماؤهم»([25])، أو قال: «المؤمنون…»([26])؛ فعلَّق المكافأة بوصفٍ لا يجوزُ إلغاؤه وإهدارُه وتعليقُها بغيره؛ إذ يكونُ إبطالًا لما اعتبره الشارعُ واعتبارًا لما أبطَله، فإذا علَّق المكافأةَ بوصف الإيمان كان كتعليقه سائرَ الأحكام بالأوصاف؛ كتعليق القَطْع بوصف السَّرقة، والرَّجم بوصف الزِّنا، والجَلْدِ بوصف القَذف والشُّرب، ولا فرقَ بينهما أصلًا.
فكلُّ من علَّق الأحكامَ بغير الأوصاف التي علَّقها به الشارعُ كان تعليقُه منقطعًا مُنْصَرِمًا، وهذا مما اتفق أئمَّةُ الفقهاء على صحَّته.
فقد أدَّى نظرُ العقل إلى أنَّ دَمَ عدوِّ الله الكافر لا يساوي دَمَ وَلِيِّه، ولا يكافئه أبدًا، وجاء الشرعُ بمُوجَبه، فأيُّ معارضةٍ هاهنا؟! وأيُّ حَيْرة؟! إن هو إلا بصيرةٌ على بصيرة، ونورٌ على نور)([27]).
وأما قول الإمام أبي حنيفة بجواز قتل المسلم بالذمّي فقد احتجّ به بعض التنويريين، فقالوا: إن الإمام أبا حنيفة يقتل المسلم بالذمي، وهذا يدل على أن الأساس لديه في التعامل بين رعايا الدولة المواطنة، لا الدين.
والناظر في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله يجده كسائرِ فُقهاء المسلمين؛ يقسم الديار إلى دار حرب ودار إسلام، ويقسم الناس في التعامل معهم إلى مسلمين وكفار، والكفار إلى حربيّين وذميّين ومستأمنين ومعاهدين، إلا أنه امتاز عنهم بكثرة تعليقه أحكام الدماء والأموال بالدار، ومن تطبيقات ذلك لديه:
في أحكام الأموال:
1- رجلٌ حربيٌّ دخل دار الإسلام بأمان، ثم أسلم في دار الإسلام، وله في دار الحرب ذرية وزوجة وأموال، ثم ظهر المسلمون على دار الحرب التي هو من أهلها، كان ماله وأهله وأولاده الصغار والكبار فيئًا أجمعين([28]).
ففي هذه المسألة حكم على مال المسلم بحكم الدار التي هو فيها، فلما كانت الدار دار حرب، وما فيها من النفوس والأموال مباح، استباح المال ولو كان في أصله مالًا لمسلم، إذ إن يدَه زالت عنه باختلاف الدار.
2- ومنها: رجلٌ حربيٌّ أسلم في دار الحرب ثم دخل دار الإسلام، وله في دار الحرب ذرية وزوجة وأموال، ثم ظهر المسلمون على دار الحرب التي هو من أهلها، كان ماله وأهله فيئًا أجمعين، إلا أولاده الصغار، فإنهم يكونون أحرارًا مسلمين([29]).
وهذه مثل المسألة السابقة، إلا أنه لم يحكم باسترقاق الأولاد الصغار لأنه يحكم لهم بحكم أبيهم، قال الجصَّاص: (وهم صاروا مسلمين بإسلام أبيهم هناك، ثم خروج أبيهم إلى دار الإسلام لا ينقلهم إلى حكم الكفر، فبقوا على حكم الإسلام إلى أن ظهر المسلمون على الدار، فلا يجوز استرقاقهم بعد الإسلام)([30]).
وهذا التعليل شاهد آخر على الأصل الذي تقدَّم، إذ لم يحكُم بإسلام الأولاد الصغار في الصورة الأولى لاختلاف الدار، وحكم هنا بإسلامهم لأن أباهم أسلم في نفس الدار التي هم فيها.
3- ومنها: رجل مسلم دخل دار الحرب بأمان، فاشترى دارًا أو أرضًا أو رقيقًا أو ثيابًا، فظهر المسلمُون على دار الحرب، فأما الدور والأرضون فهي فيء للمسلمين، وأما الرقيق والمتاع فهو للرَّجُل الذي اشتراه([31]).
ففي هذه المسألة حَكَم على العقارات التي كانت للمسلم التي في دار الحرب بحكم عقارات أهل الحرب، وهو أن تكون فيئًا للمسلمين، أما ما يحوزه المسلم من متاع ورقيق فلا تعلُّق لحكمه بالدار لأنه ليس مِنها، قال أبو يوسف رحمه الله في بيان وجه التفريق: (لأن الدُّور والأرضين لا تحول ولا يحرزها المسلم، والمتاع والثياب تُحرز وتحول)([32]).
4- ومنها: مسلمٌ ارتدَّ ثم لحق بدار الحرب، فإن لحاقه بدار الحرب ينزَّل منزلة موته، ويحكم على أمواله التي تركها في دار الإسلام بما يحكم على أموال الناس في دار الإسلام، فيُقضى بعتق أمهات أولاده، ويعتَق مدبروه من الثلث، ويحل ما عليه من الدين، ويقضى عنه، ويقسم ماله بين ورثته([33]).
أما في أحكام الدماء:
1- حربيٌّ أسلم في دار الحرب، وأقام بها ولم يهاجر إلى دار الإسلام، فقتله مسلم مستأمن في دار الحرب، لا يجب عليه القصاص ولا الدية، وتجب عليه الكفارة في القتل الخطأ([34]).
فلم يجعل هنا دين المقتول مناط الحكم، وإنما وقوع الجناية في غير دار الإسلام.
2- ومنها مسألتنا هذه التي يتعلق بها التنويريون:
مسلمٌ قتل ذمِّيًّا، فيُقتَل المسلم بالذمي([35])؛ لأن الدماء في دار الإسلام معصومة، والحكم في من انتهك حرمة دم معصوم القصاص، فلم يجعل دين المقتول مناط الحكم، وإنما وقوع الجناية في دار الإسلام.
فتبين بعد هذا أن هذه المسألة تطبيق لنظرية مُطّردة مبنية على تعليق الحقوق بالدار.
ثم إن قسمة الديار لدى أبي حنيفة قسمة دينية، إذ العبرة بدار الحرب لديه جريان أحكام الكفر فيها([36])، وإذا ثبت أن قسمة الديار هي قسمة دينية تابعة للأحكام المعمول بها في تلك الدار:
1- تبين أنها قسمة متسقة مع الغاية التي أرادها الله تعالى من خلق الخلق وهي تحقيق عبوديته، مخالفة للغايات الليبرالية المادية التي تقررها نظرياتهم الاجتماعية والسياسية.
2- تبين الفرق بين قول الإمام أبي حنيفة وبين قول التنويريين، إذ إنهم ينكرون هذه القسمة للديار أصلًا، ويُشنِّعون على القائل بها.
وخلاصة القول: أن الإسلام صان حقوق أهل الذِّمَّة أتمّ الصيانة، فإن الغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات، والتفريق في بعض التشريعات له حِكْمةٌ وغاية بيّنها أهل العلم، ولا حجة في شيء من القوانين أو المواثيق إذا عارضت الشريعة الإسلامية.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) عقود الأمان التي يعصم بها دماء الكفار ثلاثة: الأول: عقد ذمة وهو: ما ضُربت فيه الجزية. والثاني: عقد مهادنة وهو: ما عُوهد فيه على المسالمة وترك الحرب، وعُقِد عقدًا عامًّا في جماعة بلدٍ أو إقليم أو مملكةٍ لا يقصد آحادهم بالتعيين، بل هو كل عقد يتضمن الموادعة العامّة على البلاد والنفوس والأموال وكافة الأحوال. الثالث: وهو ما عُقد للواحد أو لعددٍ خاصٍّ على أنفسهم إذا قدموا علينا، أو احتيج إلى نزولهم للتكلم معهم وما أشبه ذلك. «الإنجاد في أبواب الجهاد» لابن المناصف القرطبي (2/ 320).
([2]) «الرسالة القبرصية» ضمن «مجموع الفتاوى» (28/ 622).
([5]) أخرجه أبو داود (5152)، والترمذي (2056).
([6]) أخرجه البخاري (1356، 5657).
([7]) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1101).
([8]) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1107).
([9]) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1113).
([10]) ينظر: «الخراج» (ص: 139).
([14]) أخرجه أبو داود (2760)، والنسائي (4747).
([15]) «مراتب الإجماع» (ص: 138).
([16]) «نيل الأوطار» (7/ 18 – 19).
([19]) اقتصرنا هنا على هاتين الشبهتين على سبيل التمثيل، وهناك شبهات أخرى يطرحها المستشرقون ومن تبعهم، مثل التفريق بين أهل الذمة والمسلمين باللباس، وغير ذلك.
([21]) «أحكام أهل الذمة» (1/ 96-98).
([22]) «فتاوى السبكي» (2/ 388).
([23]) «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين» (4/ 371-372).
([24]) «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» (ص: 193).
([25]) أخرجه أبو داود (2751)، وابن ماجه (2685).
([26]) أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4746).
([27]) «مفتاح دار السعادة» (2/ 1109-1110).
([28]) «الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن الشيباني (ص: 317)، و«مختصر الطحاوي» (ص: 290).
([29]) «الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن الشيباني (ص: 317)، و«مختصر الطحاوي» (ص: 290).
([30]) «شرح مختصر الطحاوي» للجصاص (7/ 175).
([31]) «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (ص: 107).
([32]) «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (ص: 110).
([33]) «الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن (ص: 304-305).
([34]) «أحكام القرآن» للجصاص (3/ 216).
([35]) انظر: «شرح مختصر الطحاوي» للجصاص (5/ 350).
([36]) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص: 294)، و«شرح مختصر الطحاوي» للجصاص (7/ 215-218).