الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين.
وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض المخالفين مسلكَ التشويش والتشنيع على قضية الاهتمام بالتوحيد والتحذير من الشرك، فلم يكتفوا بالقعود عن واجبهم تجاهَ هذه القضية المحورية في الإسلام، بل أخذوا في انتقاد القائمين بها منطلقين من أفكار وأهواء لا تلقِي لها بالًا، وأصبحت دعوة التوحيد محاطة بأعداء يخالفونها في أصل الفكرة ممن يعظِّم المشاهد والمراقد ويرى جواز الطلب من المقبورين، وبخصوم يقلِّلون من شأن الاهتمام بمحاربة الشرك ومظاهره عند القبور، وينتقدون السلفيين لكثافة حضور هذه القضية في خطابهم.
لقد كان بإمكان المنتقدين أن يُكملوا النقص أو يسدّوا الخلل الواقع في عمل الإصلاحيين السلفيين؛ فهم بشر غير منزَّهين عن الخطأ والتقصير، لكن النقد لم يكن موجَّهًا نحو خدمة القضية وتقويم مسار الأقلية القائمة بها.
وكلامنا في هذه الورقة في مناقشة بعض انتقادات الخصوم للسلفيين في هذا الباب، مستعينين بالله تعالى ومستمدّين منه التوفيق والسداد.
أولًا: دعوى الاهتمام بشرك القبور وتجاهل شرك القصور:
من أشهر الانتقادات الموجَّهة للسلفيين في هذا الباب أنهم يكتفون بالإنكار على الاستغاثة بالأموات وهو ما يسمونه شركَ القبور، ولا يتعرضون في حديثهم لـ(شرك القصور) يعنون بذلك الإنكار على الحكام الظّلَمة ونقد السياسات الجائرة والمنحرفة عن الشرع.
والمتبني لهذه الدعوى لفيف من دعاة التنوير وغلاة التكفير([1]).
والجواب عن هذه الدعوى من وجوه:
- أن الذين يستهويهم الكلام فيما يسمَّى بشرك القصور يقعون فيما ينكرونه على السلفيين، فهم لا يكترثون لشرك القبور، وهذا هو الظاهر من خطابهم وعامة أحوالهم، بل ربما لا تحتلّ هذه القضية أيّ أهمية في سُلّم أولوياتهم.
والمنخرط في أي نشاط سياسيّ معارض يجد نفسه مترفِّعًا عن الخوض في الخلافات الدينية والجدالات المذهبية، ويرى أن ذلك يصدّه عن هدفه الأساسيّ، أو أن ما يسعى إليه في نظره أسمى من هذه الخلافات التي ينظر إليها نظرة سياسيّة لا تنطلق من ثوابت الشرع، ولربما أصبحت مثل هذه النقاشات عبئًا على نشاطه السياسيّ، وتخدم الطرف الذي يشتغل بمعارضته.
فمن يطلب من السلفيين الكلام عن شرك القصور إنما يدعوهم إلى ترك قضيَّتهم الأولى (شرك القبور)؛ لأنه لم ولن يقدم نموذجًا يوازن بين الأمرين، بل إنه لا يكترث لقضيّة شرك القبور، ولا يُلقي لها بالًا، ولا يؤمن بها كأولوية من أولويات الدعوة الإسلامية المعاصرة.
ولو طلبَ السلفيون من دعاة الإنكار على شرك القصور صرفَ شيء من الاهتمام لمواجهة شرك القبور فلن يجدوا إلا الصدود والإعراض والتجاهل؛ لأن الأولوية عندهم للكلام في الحكام ونقد السياسات، وليست لهم أي أولويات أو اهتمامات أخرى غيرها.
- أنّ غالبَ المنشغلين بما يسمّونه شرك القصور لا يقومون بشيء سوى الكلام المجرد من أي عمل، وليس لهم أيّ مشروع يدعون الناس إليه، ولا يملكون خططًا إستراتيجية مشفوعة بأخرى تكتيكية توصلهم إلى غايتهم المنشودة، بل تجدهم متعايشين مع الواقع الذي ينكرونه وينتقدونه، ولا يتقدمون خطوة عملية واحدة نحو الواقع الذي ينشدونه، ويعيبون على منِ اتخذ لنفسه خطَة إصلاحية متدرجة، ولا يقدّمون البديل العمليّ، بل يكتفون بالنقد والذمّ للمشاريع القائمة، فهم في الحقيقة لا يدعون إلى شيء، أو أنهم من الذين يقولون ما لا يفعلون ممن جاء الشرع بذمهم وتقبيح حالهم.
- أن الخوض في ما يسمّى بشرك القصور في أحسن أحواله لغوٌ لا طائلة منه، ولا يُرجى منه خير أو نفع عامّ أو مصلحة للدين والدعوة والعمل الإسلامي، وفي أسوأ أحواله مدخَل إلى شرّ وفساد كبير، يضرب المصالح المتحقِّقة للدين، ويزعزع الأمن، وهو من جنس ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه.
- أنّ الخوضَ في ما يسمّى بشرك القصور شائع ومنتشر، فلا يحتاج إلى مزيدٍ من الخائضين فيه دون نفعٍ أو فائدة، أما الكلام عن شرك القبور فهو قضية مهجورة عند الأكثرين، وكأنه من شأن السلفيين دون غيرهم؛ إذ إنهم يكادون يتفرَّدون بالتحذير من خطر الشرك والتأكيد على حماية جناب التوحيد من كلّ ما يمسه أو يخدشه، فليس من الحكمة وليس من العدل مطالبة الأقلية المتفرِّدة بالقيام بأعظم المهمات التي تخصّ اعتقاد المسلمين أن تشارك غيرها في أمرٍ غايتُه تنظير وجدل ومحضُ كلام مجرّد عن أي برنامج عمل إصلاحيّ يُرجى عموم نفعه.
- أن هذه الدعوى هي مغالطة في حقيقتها؛ إذ لا يلزم من انشغل بأيّ عمل أو نشاط ديني أو دنيوي أن يكون له مشاركة في أنشطة وفعاليات أخرى، لا سيما إن كان متخصّصًا ومتفرّدًا في مجال عمله لا يشاركه أحد فيه، فلا يُشترط مثلا على من انشغل بالعمل الخيريّ والإغاثي المشاركة في الدعوة والتدريس والتعليم، والعكس الصحيح، وليس مطلوبا من المتخصّص في الرد على النصارى أن يدخل في جدال الملحدين، ولا المتخصّص في مجادلة أهل الكلام والقبورية أن يردّ على النصارى والملاحدة. هذا إنْ سلّمنا أنّ الخوض فيما يسمَّى شرك القصور فيه خير وباب من أبواب العمل والعبادة، مع أن حقيقته خلاف ذلك، فالنفع فيه ليس مظنونا، بل معدوم، وفي أحسن الظروف فضرره المتحقِّق أكبر من نفعه المتوهَّم.
- أن الذي يهوّن من شأن شرك الأضرحة عندما يضعه في مقارنة الظلم والاستبداد السياسيّ إنما يعيد صياغة مقالة العلمانيين التي تهاجم الخطاب الدينيّ؛ لأنه يتوجه للفقراء المظلومين بالحثّ على الزهد والرغبة في الآخرة، ولا يأمرهم بالثورة على الإقطاعيين والحكام وأصحاب الثروات، كما أنه يتجنب توجيه النصح والزجر للحكام والسلاطين ويركّز في خطابه على دعوة الرعية إلى الزهد والتقلّل من الدنيا، ويتجاهل الحديث عن العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروة واستبداد الأقلية بالسلطة. وهذه الأطروحة الفاسدة رائجةٌ في كتابات العلمانيين ومنتقدي الدين بشكل عام، وأشهر من ذكرها من المعاصرين علي الوردي في كتابه (وُعّاظ السلاطين).
والمنهجية التي تنقض هذه الفكرة الفاسدةَ هي ذات المنهجية التي تنقض فكرةَ من يشوّش على محاربة الشرك بدعوى مقارعة الظلم السياسي.
ثانيا: إنكار وجود الشرك
ومفاد هذا الإشكال أنّ الشرك لم يعد موجودًا في واقع المسلمين، فلا داعي للحديث عن ظواهر غير موجودة، والأولى العناية بالمشاكل والتحديات القائمة([2]).
ومنشأ هذا الإشكال عند البعض أنه ينظر في بلده ومدينته فلا يرى أضرحة ولا مقامات، فيعمّم هذه الحالة جهلا منه بما يوجد في كثير من مدن الإسلام العامرة بمظاهر المدنيّة والتحضّر من أضرحة وأولياء ومقامات، يحجّ الناس إليها، ويقصدون أصحابها في إطار ما بات يُعرف في زماننا بالسياحة الدينية.
وقد يكون الإشكال من ضعف في التصوّر عند البعض لحقيقة هذه الظاهرة ومدى انتشارها، فهو لا يتصوَّر وجود من يؤمن بقدرات الأموات وتأثيرهم في عالم الأحياء، ويرى ذلك سخفًا في العقل، فيستبعد وقوعه من المسلمين؛ قياسًا على تصوره، لا على ما هو موجود في الواقع.
وإنكار وجود الظاهرة الشركية القبورية أمر عجيب، سواء في زماننا أو في زمن الدعوة النجدية؛ إذ لا يتصوّر العقل أن قومًا يعلنون النكير على شيء لا وجود له في الواقع وكأنهم يخترعونه من وحي الخيال، ثم يأتي من يخالفهم فيما ينكرونه فلا يزعم أنه غير موجود، بل يجادلهم في شرعية الأعمال المنكرة، وأنها لا تقدح في عقيدة من اقترفها، مع أنه كان يكفيه إنكار وجود ذلك واتهام السلفيين بافتعال ضجَّة حول أمر لا وجود له.
ويكفي للجواب عن هذا الإشكال التأكيد على وجود المظاهر في كثير من بلاد المسلمين من أقصى الشرق في بلاد الصين وجمهوريات آسيا الوسطى حتى مراكش في أقصى الغرب.
بل إن الأضرحة موجودة في أكبر البلاد العربية كالعراق ومصر وسوريا واليمن والمغرب، وفي مدنها العامرة كدمشق وحلب والقاهرة وبغداد والنجف وكربلاء وفاس وحضرموت ومراكش، أما واقع القبورية في بلاد العجم كإيران وتركيا وباكستان والهند فهو عالم آخر ومشهد لا يقلّ قتامة عما هو في بلاد العرب.
ولم تعد القبورية مجرد ظاهرة دينية متخلّفة كانت وما زالت قائمة، بل إنها تعيش مرحلة من العلوّ والطغيان السياسيّ بفضل الدعم الكبير الذي تحظى به من قوى إقليمية وعالمية، تشجّع هذا اللونَ من ألوان التديّن، وتدعم “إسلام المراقد والموالد”؛ لتضرب به الأصولية السلفية والدعوة الوهابية كما يسمُّونها.
بل إن التوجّه القائم على تعظيم مشاهد أهل البيت له هيمنة سياسية لا تخفى على أحد وأطماع توسعيّة في البلاد العربية، وما الحروب الطائفية المشتعلة في المنطقة منذ 20 عامًا إلا ثمرة للعقلية الخرافية التي تختزل الدين في أضرحة أهل البيت، وتقاتل من أجلها، وتوظفها من أجل حشد الأتباع وقودا لهذه الحروب؛ لمدّ سلطة المذهب عبر بوابة “المرقد” وفرض نفوذه في البلاد السنية.
فالقبورية اليوم تستهدف المسلمين في أمنهم وعقيدتهم وتماسك مجتمعاتهم، وتهدِّد استقرار الدول الإسلامية وسيادتها وأمنها القوميّ، وبسط الحديث عن الأخطار الأمنية والسياسية للمراقد وإيضاح ذلك بالأمثلة والشواهد له مقام آخر نُفرد له بحثًا مستقلًا.
وقد تحوَّلت القبورية في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة قابلة للانشطار والانتشار والتكاثر، وبات الحديث عن المراقد والأضرحة الوهمية والمزيفة في العراق ومصر أمرًا مألوفا، وهو حديث يتضمن أمرين: الأول: أنها تجارة مربحة وسوق رائجة يجني القائمون عليها أرباحًا كثيرة من النذور التي يقدمها الناس في صناديق الأضرحة، والثاني: كثرة هذه الأضرحة وأنها بالآلاف وليس بالعشرات أو المئات.
في عام 2017م نشر الباحث الشيعي عباس شمس الدين كتابا بعنوان: (المراقد المزيفة) وهو (معجم موجز للمراقد المزيفة والمنقولة والمجعولة في العراق) وهو في 350 صفحة.
أما في مصر فالأنباء المتواترة في الصحف والمواقع الإلكترونية تؤكّد أن الأضرحة المزيفة باتت تجارة رائجة، وبأرقام مهولة.
فقد ذكرت صحيفة الدستور المصرية في تحقيق لها نُشر بتاريخ (10 آذار 2019م) أن عدد الأضرحة الوهمية في أرجاء مصر يصل إلى نحو 4 آلاف مقام، ويتركز وجودها في محافظات الصعيد.
أما موقع (bbc) الإخباري الشهير فقد نشر موضوعًا بعنوان: (الأضرحة الزائفة في مصر تجارة مربحة) بتاريخ 30 آب 2011م.
كما نشرت صحيفة “اليوم السابع” بتاريخ (12 أيلول 2014م) تحقيقا بعنوان: (تجارة الخرافات: الأضرحة من قبلة للبسطاء إلى سبوبة أحياء على جثث موتى)([3]).
أما الدراسات الاجتماعية المعاصرة المنشورة عن الأضرحة وعادات الناس حولها ومعتقداتهم في المقبورين فهي كثيرة جدًّا، ويمكن أن تفرد في كتاب مستقلّ، وهي ناطقة بمدى تضخّم هذه الظاهرة في واقع المسلمين([4]).
وقد نشر عالم الاجتماع المصري الشهير سيد عويس كتابا بعنوان: (رسائل إلى الإمام الشافعي.. ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي دراسة سوسيولوجية). والعنوان ناطق بمضمون هذه الدراسة التي صدرت في سبعينيات القرن الماضي.
ومن اللافت أن هذا النوع من الانحراف الكبير عن عقيدة التوحيد يحصل في أهم المدن العربية وأعرقها في المدنية والتحضر، لكن الصدمة الأكبر حينما تقرأ في صحيفة الوطن المصرية بأن هذه الظاهرة مستمِرة حتى يومنا هذا، فقد نشرت بتاريخ 26 أيار 2022م خبرا بعنوان: (بعد أيام من فتح ضريح الشافعي للزوار.. عودة ظاهرة إلقاء الرسائل والنقود).
ثالثًا: التحذير من عبادة الأضرحة في بلاد الغرب:
يأخذ البعض على السلفيين شدّة اهتمامهم بمحاربة الأضرحة لدرجة أنهم قد يُلقون محاضرات في بلاد الغرب حول هذا الموضوع، وهذا في نظر المخالفين علامة على قلة الفقه وعدم مراعاة الواقع وحاجة الناس في الخطاب الدعوي([5]).
وقبل الإجابة عن هذا الإشكال لا بد أن نقول: إن الجاليات المسلمة في الغرب بحاجة إلى خطاب يلامس واقعها وحاجاتها والتحدّيات التي تواجه الوجود الإسلامي في الغرب، وهي مقدّمة في الأولوية على الحديث على غيرها من المباحث والموضوعات، أما استنكار التحذير من الشرك والغلو في الصالحين في بلاد الغرب بشكل عام فهو المنكر، وذلك من وجوه:
1- أنه لا يُشترط في التحذير من شر أو خطر قد يصيب العقيدة أن يكون قائما وحاضرًا، ويُشكل تهديدًا فعليًّا ومباشرًا، بل اللائق بالعقلاء التحذير من الأخطار المحتملة والتي قد تقع في المستقبل، فلا ينتظرون البلاء حتى يصيبهم، فالعاقل من يسعى لمعرفة الشر لاتقائه وتجنبه، كما كان يفعل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حيث كان يسأل النبي عليه السلام عن الشر مخافة أن يدركه.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التحذيرَ من فتنة الدجال مع علمه أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان، ومع ذلك كان يبالغ في تحذير الصحابة من أمره مع أنهم يعيشون في زمن الإسلام الأول.
والشرك الأكبر من أهمّ الأخطار الواجب على المسلمين في كل مكان وزمان معرفتها والحذر من مسالكها ومن كلّ يوصل إليها، فهو ليس خطرًا مُتخَيَّلا أو حالة افتراضية، بل هو في مقدمة العلل والأمراض التي بُلي بها المسلمون في هذا الزمان، وتعظيم المراقد والطلب من المقبورين ظاهرة قديمة متجدّدة توافرت الظروف لترسيخها وتثبيتها ودعمها، وعليه فالتحذير منها ومن مظاهر الشرك كافة ينبغي أن يكون عنصرًا ثابتًا ومركزيّا في الخطاب الدعوي لجميع التوجهات الإسلامية، وفي مختلف البلدان، لا فرق في ذلك بين بلاد العرب وبلاد العجم.
2- أن هذا المنطق يفرض نتيجة أخرى وهي ضرورة ترك الكلام عن شرك القبور في البلاد الإسلامية التي تخلو من الأضرحة، أو فيها بعض الأضرحة في النواحي والقرى البعيدة عن مراكز المدن الرئيسة، ولا تشكل ظاهرة واضحة في البلاد، إذ ليس لذلك أي أهمية، ولا داعي لتضخيم ممارسة دينية منحرفة لكنها ضئيلة الحجم محدودة الانتشار، وهذا يعني تقليص مساحة التوعية بخطر الشرك، وحصرها في نطاق ضيق وفي البيئات التي يكثر فيها زيارة الأضرحة والتبرك بها، فالأمر لا يقتصر على بلاد الغرب، بل ويشمل كل بلاد العرب الخالية من الأضرحة والمشاهد.
وهذا يقودنا لنتيجة أخرى وهي أن المنهج الذي دأب عليه كبار العلماء من العناية بقضية التوحيد والاهتمام بالشرح والتعليق والتدريس المستمرّ للرسائل والكتب المتعلِّقة بهذا الشأن كلّه من العبث وقلّة الفقه وتضييع الجهود، لا سيما أنهم يعيشون في بيئة قد تطهّرت من المراقد، وزالت منها مظاهر الشرك، ونشأ الناس كلهم على معرفة التوحيد، ولم يعد هناك حاجة إلى كثرة الحديث عن خطر لا وجود له في الواقع!
وهذه النتائج متّسقة مع العقلية التي تستهين بخطر الشرك وتُسقطه من حساباتها، ولا ترى أيّ وجاهة للحديث عنه في واقعنا المعاصر.
3- أن المبتدعة ينشطون للدعوة لمذاهبهم في بلاد الغرب، وقد ذكر بعض الذين ينتقدون الخطاب المحذِّر من الأضرحة في بلاد الغرب أنه رأى دعاة للطريقة النقشبندية في أوربا، وعليه فوجود الفكر المضاد للتوجهات البدعية أمر طبيعي ونتيجة منطقية لا ينبغي استنكاره والتعجّب منه، بل على الأقل يجب تفهّمه وإدراك سبب وجوده بدلًا من الانشغال بذمّه ونقده.
4- أن الدعاة المسلمين يذهبون إلى بلاد الغرب للوعظ والتعليم والإرشاد، وكلٌّ ينطلق في حديثه من ثوابت دعوته ومنهجه، فيحصل لدى المسلمين هناك اطلاع على أفكار مختلفة فيها الجيّد وفيها الرديء، فما الضير في حصولهم على وعي بقضية تمس اعتقاد المسلم، فالمعرفة والعلم بهذا الشيء قطعا أولى بكثير من المعرفة بأفكار الحركات الإسلامية وآراء منظريها، كما أن المعرفة بهذه المسائل ينبغي أن تكون من صلب الثقافة الإسلامية المعاصرة لجميع المسلمين في مشرق البلاد وغربها.
5- أن الذي يستنكر التحذير من الشرك وتعظيم المشاهد في البلاد الأوربية عليه أن يستنكر التحذير من الشذوذ الجنسيّ وعمل قوم لوط في البلاد العربية والإسلامية -وهي الدعوة الرائجة في زماننا بكل قوة- وذلك أن الشريعة الإسلامية والثقافة الشرقية تضع حواجز كبيرة أمام التطبيع مع هذه الممارسة المنحرفة، فالتحذير منها في بلاد المسلمين عبثٌ لا فائدة منه؛ إذ لا يتصوَّر العقل أن يتقبل المسلمون فكرة الشذوذ الجنسيّ والتعايش معها كممارسة طبيعيّة وحرية شخصية وميول يجب احترامها، فهذه الفكرة مرفوضة جملةً وتفصيلا عند العرب المسلمين، ولا يمكن أن تجد لها مدخلًا إلى بيئتهم؛ لأن ثقافة العيب والعار والحرام بمثابة سدود شاهقة وحصون منيعة أمام تسلّل مثل هذه الشذوذات السلوكية والفكرية.
فالشذوذ الجنسيّ كممارسة وثقافة عامة مقبولة لا يمكنه الانتشار بين العرب المسلمين في ظل الظروف والمعطيات الحالية، ولا يمكنه أن يصبح ظاهرة مستوطنة في المجتمع لها أنصارها ومؤيدوها في البلاد الشرقية الإسلامية تماما كما هو الحال في بلاد الغرب، وعليه فلا يجب النشاط في التحذير منه إلا في نطاق البيئة الغربية التي يكثر فيها التثقيف لهذه الممارسة بين طلاب المدارس في مراحل عمرية مبكرة والترويج لها في مختلف وسائل الإعلام.
ومعلوم أن هذا الكلام مرفوض عند أكثر الدعاة في البلاد العربية؛ لأنهم واقعون تحت تأثير الحملة الغربية العالمية الداعية لهذا الشذوذ، ويرون ضرورة التصدّي له والتوعية بخطره ومفاسده، وهو أمر حسن. وبهذا المنطق الذي يجعل التحذير من الشذوذ في بيئة رافضة له أمرًا ضروريًّا مستحبًّا ينبغي على الأقل تفهّم تحذير بعض دعاة السلفية من الغلو في الصالحين وتعظيم مراقدهم في بلاد الغرب، بل إن الدعوة لعمل قوم لوط حتى يومنا هذا لا تجد لها رواجًا وأنصارًا في البيئة العربية، بخلاف عبادة الأضرحة المنتشرة في مراكز المدنية في العالم العربي كالعراق ومصر والشام والمغرب واليمن، فشرها قائم وخطرها موجود وليس أمرًا متوقعًا.
رابعًا: كثرة الكلام عن التوحيد وإهمال غيره من الموضوعات المهمة:
ومن المؤاخذات على دعاة المنهج السلفي كثرة كلامهم عن التوحيد وإهمال موضوعات مهمة وقضايا مستجدة متعلقة بالواقع المعاصر([6]).
ويرتبط بهذا النقد أيضًا كلام عن فشل السلفية في تقديم مشروع نهضويّ متكامل للأمة، أو عجزها عن الخروج عن فلك مقولاتها التقليدية وتقديم إجابات عن التحديات الجديدة والإشكالات الفكرية المعاصرة وغير ذلك من وجوه النقد الجائر في خطاب منتقدي السلفية.
وهذا الإشكال يقلّل من أهمية الدعوة للتوحيد والحديث عنه، ويؤسّس على ذلك مزاعمه في فشل من يُكثر الكلام في هذا الموضوع، والجواب عنه من وجوه:
1- أن التوحيد هو محور الحياة الإسلامية، بل إنه أهم قضية في تاريخ البشرية إلى قيام الساعة، فالاهتمام به والتّمحور حوله هو الأصل الذي لا يصحّ سواه، وإن وقع من المعتنين بهذا الأصل العظيم تقصير فيما سواه من الأمور فالواجب هو تنبيههم إليها، وليس التقليل من شأن هذه القضية.
2- أن أنصار المنهج السلفي لهم عناية بكثير من الموضوعات والمباحث الفكرية، وإنتاجهم العلمي يفوق كمًّا ونوعًا ما أنتجه خصومهم، خاصّة في مجال الردود على الفرق المنحرفة والتيارات الفكرية المخالفة للإسلام كالليبرالية والحداثة والعلمانية، فضلا عن معالجة كثير من مستجدات الحياة المعاصرة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغيرها، وما أصدرته الجامعات ومراكز البحث السلفية خلال العقود الماضية من دراسات وتحقيقات يتجاوز بمراحل كثيرة مجموع ما أصدره خصومهم من مختلف التوجهات، فليس من الصحيح اتهامهم بأنهم لا يعرفون سوى الكلام عن التوحيد والتحذير من الشرك ويتجاهلون غيرها من الموضوعات.
3- على التسليم جدلًا بأن السلفيين لا يخرجون من دائرة الدعوة للتوحيد والتحذير من الشرك، فالمفترض من خصومهم صرف الاهتمام إلى مجالات أخرى ومباحث وموضوعات أهملها السلفيون، وبهذا تتكامل الجهود ويحصل التعاون بين مختلف الأطراف الإسلامية للقيام بواجبات الدين والعمل الدعوي؛ إذ من غير المعقول أن يقع العبء كاملا على السلفيين ويكتفي خصومهم بالمراقبة وتوجيه الانتقادات، فالواجب الشرعي هو تقديم النصح المتضمن للتعزيز والتقويم والإصلاح، وليس النقد السلبي الهدام الذي غايته محض النقد والتنظير.
4- حينما يزعم البعض أن السلفية فشلت في تقديم مشروع نهضوي متكامل حينما حصرت نفسها بزاوية البحث في العقيدة وكثرة الحديث عن الشرك والتوحيد، فإن الجواب الأنسب عن مثل هذه الادعاءات لا يكون بمجرد نقضها وإثبات عكسها، بل بطرح السؤال عن المشروع البديل الذي قدمه الخصوم.
لنفترض أن السلفية فشلت فعلا في تقديم مشروع فكري متكامل، أو برنامج عملي شامل للنهضة الإسلامية، فما الذي قدّمته التيارات الإسلامية المخالفة لها سواء كانت من الاتجاهات البدعية التقليدية كالتصوف والأشعرية، أو من التوجهات المعاصرة ممن يخلو خطابهم من مفردات الجدالات العقائدية أو الحديث عن البدعة والسنة والشرك والتوحيد، هل هناك مشروع منافس أو رؤية أخرى أكثر صلاحًا لواقعنا من المشروع السلفي المتَّهم بالجمود على مفاهيم معينة لم تعد صالحة لمستجدات هذا الزمان ومشكلاته؟!
5- والسؤال الأكثر أهمية لدفع مثل هذه الاتهامات: المشاريع البديلة للمشروع السلفي والتي تقدِّم خطابا عصريًّا ناضجًا يواكب مستجدات الواقع هل تضع بعين الاعتبار الانحرافات الواقعة في باب التوحيد في هذا الزمان؟ وهل تضع الظواهر الشركية والبدعية المنتشرة في حياة المسلمين المعاصرة في دائرة اهتماماتها في مشروعها النهضوي؟ وهل عناصر الإصلاح السلفي داخلة في خطتها الإصلاحية؟
فإن كان الجواب بالنفي فالمشكلة حينها ليست في النهج العملي لأتباع المنهج السلفي، بل في مفردات هذا المنهج وثوابته وأصوله؛ إذ لو كان هناك اعتراف بأهمية هذه المبادئ والأصول لأدرجت ضمن دائرة الاهتمام وأخذت موقعها الملائم بعيدًا عن غلو السلفيين، لكن الحقيقة أن مشكلة الخصوم ليست مع القائمين على النهج السلفي، بل مع جوهره وثوابته ومرتكزاته.
وأما الجواب بالإثبات فدونه تقديم البيّنات والأدلة، وهو ما يصعب على الخصم ويعجز عنه.
وخاتمة القول في هذا الشأن: أن الدعوة للتوحيد والتحذير من صور الشرك لها الحضور الأكبر في الخطاب القرآني وفي دعوة الأنبياء والمرسلين، بل هي حقيقة دعوتهم وجوهرها، وعليها مدار الوحي الإلهي للبشرية، فأي مساس بها تقليلًا من شأنها أو تحييدا لها وتنحيةً من دائرة الاهتمام ومحاولةَ تقديم أولويات أخرى عليها، فإن أول ما يعترض هذه المحاولات هو الاصطدام بضآلة حضورها في نصوص الوحي الشريف، مع ضخامة الاهتمام بقضية التوحيد والشرك، وهذه إشكالية كبرى تواجه الذين يوجّهون الانتقادات للسلفيين في هذا الباب.
أما الذين جعلوا الاهتمام بالتوحيد قضية مركزية وقاعدة ومنطلقا للدعوة والعمل فمن السهل عليهم تقويم مسارهم العملي إن وقع فيه خلل أو اضطراب؛ لأن البوصلة مضبوطة بالاتجاه الصحيح، والأولويات قد أخذت ترتيبها الصحيح، والعمل مستند إلى قاعدة صلبة ثابتة.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: أوراق في النقد الذاتي للحركة الإسلامية (ص: 106)، الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج (ص: 26-27).
([2]) ينظر: دراسات وأبحاث المفتي الشيخ خليل الميس (3/ 344).
([3]) انظر أيضا: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، للدكتور زكريا سليمان بيومي (ص: 159).
([4]) منها: (زيارة الأضرحة والمراقد -ضريح عمر مندان أنموذجا- دراسة اجتماعية طبية) لعبد الرزاق صالح محمود، بحث منشور في مجلة دراسات موصلية العدد (19)، شباط 2008م، ورسالة ماجستير بعنوان: (زيارة الأضرحة وأثرها في إعادة تشكل الوعي الجمعي) من جامعة قاصدي مرباح في الجزائر عن ضريح سيدي عطا الله ببلدية تاجموت – ولاية الأغواط سنة 2011م.
([5]) ينظر: مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه؟ (ص: 36)، الوجود الإسلامي في الغرب الهوية والاندماج، ضمن كتاب: نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني (ص: 401).
([6]) انظر: السلفية المعاصرة وقضايا العصر: دراسة تحليلية نقدية في مقاصد القرآن والسنة، إبراهيم التركاوي، دار البشير، الطبعة الأولى، 2023م.