تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ وَتُبْغِضَ فِي اللهِ»[1]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: «أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ»[2].
والنصوص في النهي عن موالاة الكفار والتحذير من ذلك وبيان عاقبته في الدنيا والآخرة كثيرة معلومة.
ومن أهم معاني الموالاة: النصرة، فالمولى يقع في اللغة على أسماء كثيرة، منها: الناصر[3] كما قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ﴾ [محمد: 11].
فيجب على المسلم أن يوالي المؤمنين بنصرتهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا»، فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: «تَحْجُزُهُ –أوْ: تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ»[4].
ويحرم عليه موالاة الكافرين بأن ينصرهم على المسلمين.
ونصرة الكافرين على المسلمين من أخطر صور الموالاة، بل عدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نواقض الإسلام العشرة، فقال: “الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين”[5].
ومِن صور هذه المظاهرة والنصرة المكفرة: خروج المسلم في جيوش الكافرين المعلِنين كفرَهم لمحاربة المسلمين لأجل إسلامهم، كما يقع من بعض المنتسبين للإسلام ممن يقاتلون مع الصهاينة ضدّ المسلمين، وربما استهان كثير من الناس بهذا الأمر الخطير الذي يوجب لصاحبه الخروج من الإسلام في الدنيا والخلود في النار في الآخرة.
ولذلك كانت هذه الورقة لبيان ما يتعلّق بهذه المسألة، من جهة بيان كونها من نواقض الإسلام، وذكر الأدلة على ذلك، وبيان أهمّ ضوابط المسألة منعًا للإفراط والتفريط في هذه المسألة المهمّة.
أولا: ذكر الأدلة على أن الخروج في جيوش الكافرين المعلنين كفرهم لمحاربة المسلمين لأجل إسلامهم من نواقض الإسلام والردة عنه:
- قال الله تعالى(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28].
قال ابن جرير: “لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلّونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر”[6].
وقال السدي: “يواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه”[7].
- وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51].
قال ابن جرير: “إن الله -تعالى ذِكْرُه- نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين؛ فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأنّ الله ورسولَه منه بريئان”[8].
وقال أيضا: “من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍّ أحدًا إلا وهو به وبِدِينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمُه حكمَه”[9].
وقال القرطبي رحمه الله: “{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي: يعضدهم على المسلمين، {فَإِنِّهُ مِنْهُمْ} بيّن تعالى أن حكمَه كحكمِهم… أي: لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم”[10].
والآية وإن اختلفوا في سبب نزولها إلا أن حكمها عام لجميع المؤمنين، كما ذكر الطبري والبغوي رحمهما الله[11].
قال ابن عطية: “نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكمُ هذه الآية باق”[12].
- وقال تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء: 138، 139].
قال ابن جرير رحمه الله: “{بَشِّرِ المنافقين} الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء، يعني: أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين”[13].
وقال البغوي رحمه الله: “يتخذون اليهود أولياء وأنصارًا أو بطانة”[14].
فدلت الآية على أن مناصرة الكفار على المسلمين من صفات المنافقين النفاق الأكبر؛ لأن الله تعالى جعلهم في الدرك الأسفل من النار، وجعلهم شرًّا من الكافرين؛ لعظم ضررهم على المسلمين.
وبالجملة فالآيات التي تدل على نفي الإيمان أو الحكم بالنفاق أو الردة على من والى الكفار كثيرة، وهي محمولة على من والى الكفار موالاة مطلقة، أو والاهم في الكفر، ومن أعظم ذلك وأظهره: مناصرتهم ومظاهرتهم على قتال المسلمين.
وأما من والاهم في المعصية مع اعتقاد كونها معصية فهو منهم في هذا القدر.
وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبَّهَ بقومٍ فَهوَ منْهم»[15]، أي: فهو منهم في القدر الذي شابههم فيه، فإن شابههم في الكفر فهو كافرٌ مثلهم، وإن شابههم في المعصية مع اعتقاد كونها معصية -أي: بغير استحلال- فهو عاص[16].
وهذا الضابط مهم؛ فإنه ليست كل صور موالاة الكفار من الردة الناقضة للإسلام، بل بعضها يكون محرّمًا وليس كفرًا، كالتشبه بهم في المعاصي كأعيادهم، أو توليتهم بعض الولايات، أو السكنى في ديارهم مع عدم القدرة على إقامة الدين، وغير ذلك من الصور المحرمة التي لا تستلزم الكفر، وسوف نبين هذه المسألة لاحقا عند كلامنا عن قصة حاطب رضي الله عنه.
- قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97].
قال ابن جرير: “نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرِض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها”[17].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ نَاسًا مِنَ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ المُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ، فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}[18].
وعنه رضي الله عنهما أيضا: كان قومٌ من أهل مكة أسلموا، وكانوا يَسْتَخْفُون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأُصِيب بعضُهم، فقال المسلمون: كان أصحابُنا هؤلاء مسلمين وأُكْرِهُوا، فاستغفروا لهم، فنزلت[19].
وقال عكرمة: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف. قال: لمّا خرج المشركون من قريش وأتباعِهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله وأصحابه، وأن يطلبوا ما نِيلَ منهم يوم نخلة[20]، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم”[21].
وعن السُّدّي قال: لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ وَعُقَيْلٌ وَنَوْفَلٌ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: «افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَ أَخِيكَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ نُصَلِّ إِلَى قِبْلَتِكَ وَنَشْهَدْ شَهَادَتَكَ؟! قَالَ: «يَا عَبَّاسُ، إِنَّكُمْ خَاصَمْتُمْ فَخُصِمْتُمْ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97][22].
وقد ثبت هذا الخبر موصولا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس لما أُسِر يوم بدر: «يَا عَبَّاسُ، افْدِ نَفْسَكَ، وَابْنَ أَخِيكَ»… قَالَ: فَأَبَى، وَقَالَ: إِنِّى كُنْتُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُونِى، قَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِشَأْنِكَ، إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِى حَقًّا فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ»[23].
فدلّت هذه الآية مع ما ذكرنا من سبب نزولها وتفسير السلف لها على حكم من زعم الإسلام ثم خرج في صفوف الكفار مقاتِلا للمسلمين، فإن حكم الكفر ينطبق عليهم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فلأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء من العباس، ومعاملته كسائر أسرى المشركين، ولم يقبل دعواه الإكراه في ذلك، وجعل سبب ذلك أنه كان في ظاهر أمره عليهم، أي: مع المشركين في القتال.
ولأن الله تعالى صوَّب فعل المسلمين الذين قتلوا من خرج مع المشركين من شباب المسلمين الذين لم يهاجروا وخرجوا يوم بدر إرضاءً لآبائهم.
وأما في الآخرة فلأن الله تعالى حكم عليهم بأن لهم جنهم وساءت مصيرًا، بل لما أراد بعض الصحابة الاستغفار لهم نزلت الآية تنهاهم عن ذلك، فدل عدم الاستغفار لهم على كونهم ماتوا على الكفر والشرك، بسبب مظاهرتهم المشركين على المسلمين بالقتال معهم.
ودلت الآية والآثار السابقة على أن هذه الموالاة الكفرية يصير فاعلها كافرًا، ولو لم يكن مستحلًّا لها، فقد كان هؤلاء الشباب الذين قتِلوا كارهين للقتال، وإنما خرجوا إرضاءً لآبائهم، وليس هذا مسوِّغًا لفعل الكفر، أو عذرًا في عدم التكفير.
وأفعال الكفر لا يتوقّف في تكفير فاعلها على الاستحلال، وإنما يتوقف تكفير فاعلها على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، كالجنون، والصغر، والإكراه، والجهل المعتبر، والتأويل المحتمل.. ونحو ذلك من موانع التكفير.
وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم دعوى الإكراه؛ لأنهم كانوا قادرين على الهجرة والفرار بدينهم من الفتن، ومن كان قادرًا على الفرار لا يُعَدُّ مكرهًا.
وقد ذكر العلماء شروط الإكراه المعتبر، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وشروط الإكراه أربعة: الأول: أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدِّد به، والمأمورُ عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار. الثاني: أن يَغْلِبَ على ظنّه أنه إذا امتنع أَوْقَع به ذلك. الثالث: أن يكون ما هدَّدَه به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غدًا لا يعد مكرها، ويُسْتَثنى ما إذا ذَكَرَ زمنًا قريبًا جدًّا، أو جرت العادة بأنه لا يُخْلَف. الرابع: أن لا يَظْهَرَ من المأمور ما يدلُّ على اختياره”[24].
فليست كل دعوى للإكراه تكون معتبرة، حتى تتوفَّر فيها هذه الشروط.
ثم إن الإكراه المعتبر لا بد فيه من غلبة الظن بحصول ضرر جسيم في النفس أو المال أو العرض، وليس مجرد إرضاء الأهل، أو فوات بعض المنافع المادية ونحو ذلك، أو حصول ضرر يسير، قال ابن قدامة رحمه الله في شروط الإكراه: “أن يكون مما يَسْتَضِرُّ به ضررًا كثيرًا، كالقتل، والضرب الشديد، والقيد، والحبس الطويل، فأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة، وكذلك أخذ المال اليسير”[25].
ولا شكّ أن الخروجَ في القتال مع المشركين أمر عظيم، والإكراه عليه لا بد أن يكون بضرر عظيم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “تأملتُ المذهبَ[26] فوجدتُ الإكراه يختلف باختلاف المكرَهِ عليه، فليس الإكراهُ المعتبرُ في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها”[27].
فالإكراه على الخروج لا يكون إلا بضرر عظيم يحصل للإنسان، وليس مجرد فوات بعض حظوظ الدنيا، أو حصول الضرر اليسير، أو أن يشنع عليه الكفار ويتهمونه، كما ذكر بعض من أفتى بجواز خروج المسلمين في جيوش الكفار وهم يقاتلون المسلمين؛ بحجة ألا يتَّهموا في وطنيتهم! ومثل هذا غير معتبر عند أحد من أهل العلم.
قال الغزالي في بيان ما يعتبر إكراهًا في سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما لا يعتبر: “ولو تُرِكَت الحسبةُ بلوم لائم، أو باغتياب فاسق أو شتمه وتعنيفه، أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله، لم يكن للحسبة وجوبٌ أصلًا؛ إذ لا تنفك الحسبةُ عنه”[28].
وقال ابن رجب الحنبلي: “فإن خافَ السَّبَّ أو سَماعَ الكلامِ السَّيئ لم يسقط عنه الإنكار بذلك. نصَّ عليه الإمام أحمد”[29]. فإذا كان هذا غير معتبر في سقوط النهي عن المنكر، فكيف يكون معتبرًا في تجويز الخروج مع الكافرين في قتال المسلمين؟!
وهذا في الإكراه على الخروج دون قتال، أما الإكراه على قتل المسلمين فعلا فهذا غير معتبر بالإجماع، قال القرطبي رحمه الله: “أجمع العلماءُ على أنّ مَنْ أُكْرِهَ على قتل غيره أنَّه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بِجَلْدٍ أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أنْ يَفْدِي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة”[30].
فالإكراه على قتل المسلم لا يجوز بحال، فليست نفسُ المكرَه أولى بالحفظ من نفس أخيه الذي يُكرَه على قتله، فيصبر المسلم على ذلك ولو قُتِل.
أما الإكراه على الخروج فقط فلا بد فيه من تحقق شروط الإكراه السابقة، ومع ذلك فإن خروجه في جيش الكافرين يجعله أهلا لكي يعامل معاملتهم في الدنيا كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم العباس، فتجري عليه أحكام الكفر في الدنيا طالما كان في صفوفهم، وأمره إلى الله بعد ذلك.
- ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ﴾ [النساء: 88، 89].
أخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس أنه قال في سبب نزولها: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْخُبَثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ. وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! -أَوْ كَمَا قَالُوا- أَتَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ تُسْتَحَلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِذَلِكَ؟! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ؛ فَنَزَلَتْ”[31].
فدلّ ذلك على تصويب قول من قال: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، وأن علة ذلك أنهم يظاهرون المشركين على المسلمين، ولو كان هؤلاء من غير المسلمين أصلا لما اختلف المسلمون والصحابة في قتالهم، وإنما حدث الاختلاف لأنهم تكلَّموا بالإسلام، فنزلت الآية تنهى عن الدفاع عنهم، وتبين أنه لا يجوز الاختلاف في شأنهم بعد اتضاح نفاقهم وكفرهم بخروجهم مع المشركين لقتال المسلمين.
ثانيًا: كلام العلماء في ذلك:
- قال ابن حزم رحمه الله: “من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتدٌّ له أحكام المرتد كلها؛ من وجوب القتل عليه متى قُدِر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك… وكذلك: من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم[32] من المسلمين، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر، أو لقلة مال، أو لضعف جسم، أو لامتناع طريق، فهو معذور، فإن كان هناك محاربًا للمسلمين معينًا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر. وإن كان إنّما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمّي لهم[33]، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم، فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذرًا”[34].
ففي كلامه فرق بين الموالاة الكفرية والموالاة المحرَّمة، فمن حارب المسلمين مع الكفار فهذا كفر وردة، وأما من أقام في ديارهم لتحصيل أغراض الدنيا، مع عجزه عن إقامة دينه، ولكنه لم يُعِنهم في حربهم على المسلمين، فهذا آثم، ولا عذرَ له في ترك الهجرة، وهو لا يبعد عن الكفر، أي: فعله هذا ذريعة للكفر، وهو على خطر. وهذا هو الواقع فعلا في من يقيم في بلاد الكفر لغير عذر، فإن أبواب الكفر مفتوحَة عليه، نسأل الله العافية.
- وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في الأنواع التي يكفر بها الشخص: “النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكنّ أهلَ بلده يصرِّحون بعداوة أهل التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، وعذره أن ترْكَ وطنه يشُقُّ عليه، فيقاتلُ أهلَ التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضًا كافر؛ فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير، فهذا أيضًا كافر”[35].
ولأئمة الدعوة النجدية في ذلك رسائل وفتاوى كثيرة في بيان خطر هذا الأمر[36].
- وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: “أمَّا التعاونُ مع الإنجليزِ أثناء حَرْبِهم المُسلِمين بأيِّ نوعٍ من أنواعِ التعاوُنِ قَلَّ أو كَثُر فهو الرِّدَّةُ الجامحةُ والكُفرُ الصُّراحُ، لا يُقبَلُ فيه اعتذارٌ، ولا ينفَعُ معه تأوُّلٌ، ولا ينَجِّي من حُكمِه عَصَبيَّةٌ حَمقاءُ، ولا سياسةٌ خَرقاءُ، ولا مجاملةٌ هي النِّفاقُ، سواءٌ أكان ذلك من أفرادٍ أو حكوماتٍ أو زُعماءَ، كُلُّهم في الكُفرِ والرِّدَّةِ سواءٌ، إلَّا من جَهِلَ وأخطأ، ثم استدرك أمْرَه، فتاب وأخذ سبيلَ المؤمنين؛ فأولئك عسى اللهُ أن يتوبَ عليهم إن أخلصوا في قلوبِهم للهِ، لا للسِّياسةِ ولا للنَّاسِ”[37].
- وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: “مظاهرة المشركين على المسلمين ردة عن الإسلام، لقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] كونه يظاهر الكفار من اليهود والنصارى والشيوعيين أو غيرهم، كونه يظاهرهم ضد المسلمين، وينصرهم ضد المسلمين، هذا تولّ للكفار وردة عن الإسلام نعوذ بالله، كما نصّ عليه أهل العلم في باب أحكام المرتد، نسأل الله العافية”[38].
وقد سبق كلام ابن جرير والبغوي والقرطبي وغيرهم في حكم هذه الموالاة، ومنافاتها للإيمان، وكونها من نواقض الإيمان.
ثالثا: تحرير ضابط الحكم بالكفر في هذه الصورة:
كلام العلماء في كون موالاة الكفار من نواقض الإسلام محمولٌ على الموالاة التامة الكاملة، أو الموالاة الكفرية، وذلك أن الموالاة منها ما يكون كفرًا، ومنها ما يكون محرمًا ومعصية ولا يصل للكفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد تحصل للرجل موادّتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لمّا كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]”[39].
ولذلك نقول: إن النصرة تكون كفرًا إذا كانت بالخروج في صفوف الكافرين المجاهرين بكفرهم، لمحاربة المسلمين لأجل إسلامهم. فهذا هو الذي دلت النصوص وكلام العلماء على اعتباره ردة عن الإسلام.
- فقولنا: (الخروج في صفوفهم): احتراز عما لو أعانهم بالتجسّس مثلا، فإن التجسّس كبيرة لا يكفر بها صاحبها عند عامة العلماء، إلا إذا فعلها رضا بالكفر، أو محبة في ظهور الكفار على المسلمين. أما لو فعله لغرض دنيوي، مع عدم رضاه بالكفر، فلا يكفر بذلك.
والدليل على ذلك حديث حاطب رضي الله عنه[40] لما كاتب المشركين بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: لَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلام. فجعل ذلك هو المانع من تكفيره، فدل ذلك على أن التجسس ليس من أفعال الكفر في ذاته؛ لأن أفعال الكفر لا يتوقف تكفير فاعلها على ما ذكر حاطب.
قال الإمام الشافعي رحمه الله بعد أن أورد حديث حاطب: “لمّا كان الكتابُ يحتمل أن يكون ما قال حاطبٌ كما قال منْ أنَّه لم يفعله شاكًّا في الإسلام، وأنه فعله ليمنع أهله، ويَحْتَمِلُ أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح؛ كان القولُ قولَه فيما احتُمِل فعلُه، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأنْ لم يقتله، ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا أحدٌ أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذه؛ لأن أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان مَنْ خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غِرَّتهم فصَدّقه ما عاب عليه الأغلبَ ممّا يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولا كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه”[41].
فهذا صريحٌ في أنّ فعل حاطب موالاةٌ ومعاونةٌ بإفشاء سرّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانت محتملة للكفر ولغير الكفر. وإذا كان هذا في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم ففي حقّ غيره من باب أولى، أي: إفشاء سر غيره من المسلمين.
ثم أجاب الشافعي عن احتمال أن يكون هذا خاصًّا بحاطب بسبب علم النبي صلى الله عليه وسلم بصدقه الباطن، فقال: “أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد صَدَقَ»، إنما تركه لمعرفته بصدقه، لا بأنّ فِعْلَهُ كان يحتملُ الصدقَ وغيرَه، فيقال له: قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المنافقين كاذبون، وحَقَنَ دماءَهم بالظاهر، فلو كان حُكْمُ النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمُه على المنافقين القتلَ بالعلم بكذبهم، ولكنه إنما حكم في كلٍّ بالظاهر، وتولَّى اللهُ عز وجل منهم السرائر”[42].
أي: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم في هذه الأمور بعلمه الباطن لقَتَلَ المنافقين الذين كان يعلم بالوحي كذبَ اعتذاراتهم، ولكنه كان يحكم في القضاء والأحكام بالأمور الظاهرة؛ ليُعَلِّم الأمةَ أصول الحكم على الناس بالظاهر.
قال النووي رحمه الله في شرحه لحديث حاطب: “وفيه أن الجاسوس وغيره من أصحاب الذنوب الكبائر لا يكفرون بذلك، وهذا الجنس كبيرة قطعًا؛ لأنه يتضمن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كبيرة بلا شك”[43].
ولا يصحّ أن يقال: إن شهود بدر هو الذي منع من تكفيره؛ فإن شهود بدر لا يكفِّر الكفر ولا الشرك، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48]، فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حاطب: «لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[44]: “هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مُصِرّين عليها، بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك”[45].
وشهود بدر كانت حسنة لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها، وقد دلّ ذلك -إضافة للدلالة على كونه ليس كفرًا- على أنه من باب العقوبات التعزيرية التي يرجع فيها للإمام، لا من باب الحدود الواجبة؛ لأنه لو كان من باب الحدود الواجبة لما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقامته عليه، فإن شهود بدر لا يمنع من إقامة الحدود بالإجماع[46].
قال الشافعي جوابًا على من قال: أفتأمر الإمامَ إذا وجد مثل هذا -أي: مثل ما فعله حاطب- بعقوبة من فعله أم تركه كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: “إن العقوبات غير الحدود، فأما الحدود فلا تعطلُّ بحال، وأما العقوبات فللإمام تركها على الاجتهاد”[47].
والغرض المقصود أنه لا بدّ من التفريق بين مظاهرة المشركين بالخروج في جيوشهم، فهذا من الكفر الأكبر، وما دون ذلك من الصور التي لا يلزم أن تكون كفرًا في ذاتها إلا إذا اقترنت بها الموالاة القلبية والرضا بالكفر.
ولهذه المسألة تعلُّقٌ بمباحث الإيمان والكفر، فإن مظاهرة الكفار بالقتال معهم ضد المسلمين لأجل إسلامهم لا يمكن أن تصدر من مؤمن صحيح الإيمان، بل لا تصدر إلا من منافق، كما قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22]. وإذا كان الفرح بظهور الكفار على المسلمين من أعمال النفاق وموجبات الردة، فكيف بمن يقاتل معهم وهو يعلم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الشرك هي العليا؟!
بخلاف أن يعينهم بما دون ذلك لغرض دنيوي، فمثل هذا وإن كان صادرًا عن ضعف في الإيمان، وغلبة للهوى وحب للدنيا، وينافي كمال الإيمان الواجب، إلا أنه لا ينافي أصله.
- وقولنا: (المعلنين كفرهم): ضابط مهمّ؛ لأنه قد يطبق بعض الغلاة ذلك الحكم على بعض الطوائف التي تكون متلبسة ببدعة كفرية، ولكنهم لا يجاهرون بالبراءة في الإسلام، فلا يصحّ تطبيق حكم الردّة على من قاتل في جيشهم، إلا لمن علِم حالهم.
قال ابن حزم رحمه الله بعد أن بين ردة من لحق بالكفار مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين: “وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومَنْ جَرَى مَجْرَاهُم؛ لأنّ أرضَ مصر والقيروان وغيرهما فالإسلام هو الظاهر، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارًا”[48].
فانظر كيف فرّق في أحكام الهجرة والقتال بين الكفار المجاهرين بالبراءة بالإسلام بحيث لا يلتبس أمرهم على أحد، وأهل البدع الغالية الذين تسلَّطوا على بعض البلاد الإسلامية، كالفاطميين الذين استولَوا على مصر والقيروان وغيرهما من بلاد المسلمين، مع كونهم في حقيقة الأمر كفارًا، ولكن ذلك قد يخفى.
هذا فضلا عن الطوائف المبتدعة التي لا يحكم بكفر أصحابها، فإنه لا يجوز الحكم بكفر من قاتل معهم.
وفي هذا ردٌّ على طوائف من غلاة المعاصرين ممن استحلّوا قتال الجيوش في البلاد الإسلامية بحجة أنها جيوش ردَّة، ثم حكموا على كل منتسب إليها بالردّة!
وهذا من الغلو في التكفير واستباحة الدماء، حيث كفَّروا المسلم الذي لا يجوز تكفيره، ثم جعلوا الانضمام لجيوشهم ردةً عن الإسلام. والله المستعان.
- وقولنا: (لمحاربة المسلمين لأجل إسلامهم) ضابط مهم أيضًا، وهو احتراز من كون القتال لغير إسلامهم.
فيخرج بذلك صور، منها: لو شارك في قتال الكافرين لغيرهم من الكافرين، فإن هذا ليس من الشرك، وإن كان غيرَ جائز؛ لأنّ المسلم يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
قال محمد بن الحسن: “لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا أهل الشرك مع أهل الشرك؛ لأن الفئتين حزب الشيطان، وحزب الشيطان هم الخاسرون، فلا ينبغي للمسلم أن ينضم إلى إحدى الفئتين فيكثر سوادهم ويقاتل دفعا عنهم، وهذا لأن حكم الشرك هو الظاهر، والمسلم إنما يقاتل لنصرة أهل الحق، لا لإظهار حكم الشرك”[49].
وكذلك لو استعان بالمشركين في قتاله المسلمين، سواء كان هذا القتالُ قتالَ عصبية جاهلية، أو كان قتالا لفئة باغية أو مفسدة.
فهذه الصور لا تدخل في صورة الموالاة المكفِّرة.
وهذا لا يعني جواز ذلك أيضا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتَلَ تَحْتَ رايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أوْ يَدْعُو إلى عَصَبَةٍ، أوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ»[50].
قال ابن حزم رحمه الله: “وأما من حَمَلَتْهُ الحميّةُ مِنْ أهل الثغر من المسلمين، فاستعان بالمشركين الحربيين، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم، أو سبيهم، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافرًا، لأنه لم يأت شيئًا أوجب به عليه كفرًا: قرآنٌ أو إجماعٌ. وإن كان حكمُ الكفار جاريًا عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرًا”[51].
وقد اختلف العلماء في حكم الاستعانة بالمشرك في قتال الكفار أو قتال البغاة والخوارج على قولين، أظهرهما: الجواز عند الحاجة، مع الأمن من خطره وخيانته[52].
وعلى القول بعدم الجواز فغايته أن يكون محرّمًا، لا أن يكون كفرًا وردة ومظاهرة للمشركين.
- ومن الضوابط المهمة في هذا الباب: أن يعلم الفرق بين كفر النوع وكفر العين في ذلك، فحكمنا بأن مظاهرة المشركين على المسلمين كفر -كما سبق بيانه- لا يستلزم تكفير الأعيان إلا بعد النظر في استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين، وتكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وُجِدت الشروط وانتفت الموانع”[53].
خاتمة نلخص فيها أهم نتائج الورقة:
- مظاهرة الكفار على المسلمين من أعظم صور موالاة الكفار التي جعلها الله تعالى من صفات المنافقين، وبين منافاتها للإيمان.
- هذه المظاهرة منها ما يكون كفرًا بذاته، لا يتوقف على الاستحلال أو الرضا القلبي وهو: الخروج في جيوش الكفار المعلنين كفرهم لمحاربة المسلمين لأجل إسلامهم، وذلك كمن يلتحق بجيش الدول الكافرة ويحارب معهم المسلمين. فعلى المسلم أن يأخذ حذره، ولا يستهين بذلك.
- معاونة الكفار بما دون ذلك كأن يدلهم على بعض عورات المسلمين أو التجسس لهم من الموالاة المحرمة، ولكنها لا تكون كفرًا إلا إذا اقترنت بها الموالاة القلبية والرضا بالكفر.
- تطبيق أهل الغلو هذا الحكم على جيوش الدول الإسلامية المعاصرة باطل ومبني على عقيدتهم الفاسدة في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] أخرجه أحمد (18524). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3030).
[2] أخرجه الطبراني (11537).
[3] انظر: لسان العرب (15/ 408-409). والمصباح المنير (2/ 672).
[4] أخرجه البخاري (6952).
[5] الدرر السنية (2/ 361).
[6] تفسير ابن جرير (5/ 315).
[7] ينظر: تفسير ابن جرير (5/ 317).
[8] تفسير ابن جرير (8/ 507).
[9] تفسير ابن جرير (8/ 508).
[10] تفسير القرطبي (6/ 217).
[11] انظر: تفسير ابن جرير (8/ 507). وتفسير البغوي (3/ 67).
[12] المحرر الوجيز (2/ 203).
[13] تفسير ابن جرير (7/ 601).
[14] تفسير البغوي (2/ 300).
[15] أخرجه أبو داود (4031). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
[16] مستفاد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 271).
[17] تفسير ابن جرير (7/ 381).
[18] أخرجه البخاري (4596).
[19] أخرجه ابن جرير (7/ 381).
[20] بلد بين مكة والطائف. والمقصود: سرية عبد الله بن جحش. انظر: سيرة ابن هشام (2/ 179)، والدرر لابن عبد البر (ص: 99).
[21] أخرجه تفسير ابن جرير (7/ 383).
[22] أخرجه ابن جرير في تفسيره مرسلا (7/ 384).
[23] أخرجه أحمد (3310). وقال الهيثمي في المجمع (10006): فيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. والحديث حسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند بشواهده.
[24] فتح الباري (12/ 311).
[25] المغني (10/ 353).
[26] أي: مذهب أحمد.
[27] الفتاوى الكبرى (5/ 490).
[28] إحياء علوم الدين (2/ 323).
[29] جامع العلوم والحكم (3/ 955).
[30] تفسير القرطبي (10/ 183).
[31] أخرجه ابن جرير (7/ 283).
[32] أغلب هذه البلدان فتحت بعد ذلك ودخلها الإسلام.
[33] أي: مستضعف ذليل كحال الذمي في بلاد المسلمين.
[34] المحلى (12/ 125-126).
[35] الدرر السنية (11/ 318-319).
[36] انظر رسالة: الدلائل في موالاة أهل الإشراك، للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، ورسالة: سبيل النجاة والفكاك من موالاة أهل الإشراك، للشيخ حمد بن عتيق، والدرر السنية (8/ 151-158)، ومواضع أخرى كثيرة.
[37] كلمة حق (ص: 130).
[38] فتاوى نور على الدرب بعناية الشويعر (4/ 172).
[39] مجموع الفتاوى (7/ 522-523).
[40] حديث حاطب أخرجه البخاري (3007، 4272، 4890، 6259)، ومسلم (4550).
[41] الأم (4/ 264).
[42] المصدر السابق.
[43] شرح صحيح مسلم (16/ 55).
[44] أخرجه البخاري (4890)، ومسلم (2494).
[45] الفوائد (ص: 16).
[46] نقله النووي عن القاضي عياض. شرح صحيح مسلم (16/ 56).
[47] الأم (4/ 264).
[48] المحلى (12/ 126).
[49] شرح السير الكبير (1515).
[50] أخرجه مسلم (1848).
[51] المحلى (12/ 126-127).
[52] انظر: الأم (4/ 276)، المغني (13/ 98)، المبسوط (10/ 23-24)، زاد المعاد (3/ 268). وانظر: الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي، للدكتور زياد المشوخي -مبحث الاستعانة بالكفار في القتال- (ص: 233).
[53] مجموع الفتاوى (12/ 487-488).