الأحد - 28 صفر 1446 هـ - 01 سبتمبر 2024 م

فتوى الشيخ عبد الرحمن بن عبدِ الله السُّويدِي (1134- 1200هـ) في فَعاليَّات الدَّرْوَشة

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

الحمد لله.

هذه فتوى لأحدِ علماءِ العراق في القرن الثاني عشر الهجري -وهو الشيخ عبد الرحمن السويدي الشافعي ت 1200هـ- في الأعمال التي يقوم بها المتصوّفة من أكل الحيات ودخول النيران، وضرب الصدور بالحراب وغير ذلك.

وقد اشتهرت هذه الأعمالُ عن أتباع الطريقة الرفاعية منذ دخول التتار إلى بغداد في القرن السابع الهجري، وظلّت تُمارس زمنَ الدولة العثمانية، الذي عاش فيه صاحبنا الشيخ عبد الرحمن السويدي.

ومن الذين يتبنّون هذه الطقوس والممارسات اليوم، ويعدونها وسيلةً دعويّة لإدخال الناس في الإسلام: أتباع الطريقة الكسنزانية([1]).

وسنقدّم بين يدي هذه الفتوى بمقدّماتٍ لا بد منها في التعريف بصاحبها، وموضوعها، وبيان أهميتها، ووصف النسخة الخطية المعتمدة.

أولًا: ترجمة صاحب الفتوى:

  • اسمه ومولده ونشأته:

هو الشيخ الفقيه أبو الخير عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله بن حسين بن مرعي بن ناصر الدين الدوري، ثم البغدادي، الشافعي، المعروف بالسويدي.

ولد ببغداد سنة أربع وثلاثين ومائة وألف (1134هـ).

أخذ عن والده، وعن فصيح الدين الهندي، وياسين الهيتي، وبرع وفضل([2]).

  • أسرته ومكانتها العلمية:

صدَّر الشيخ محمود شكري الآلوسي كتابه (المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر) بتراجم علماء السويديين بعد ذكره تراجم الآلوسيين، وقال في وصفهم: (هم جماعة كانوا من أفاضل بغداد، وأكابر علمائها الأمجاد، كم نشأ فيهم فاضل إمام، ونحرير همام، وبيتهم كان من أشهر البيوت، يغيظ الحاسد منه ويموت..)([3]).

وقد ذكر الآلوسي من علماء هذه الأسرة غير الشيخ عبد الرحمن صاحب هذه الفتوى أيضًا:

– الشيخ عبد الله أفندي السويدي، والد صاحب الفتوى.

– الشيخ أحمد بن عبد الله السويدي، شقيق صاحب الفتوى.

– الشيخ إبراهيم بن عبد الله السويدي، شقيق صاحب الفتوى.

– الشيخ محمد سعيد بن عبد الله السويدي، شقيق صاحب الفتوى.

– الشيخ أبو المعالي علي بن محمد سعيد السويدي، ابن شقيق صاحب الفتوى، وهو من أشهر علماء هذه الأسرة، وسبب شهرته كتاب (العقد الثمين في بيان مسائل الدين)، وهو من الكتب الإصلاحية المهمة([4])، وقد شرحه ابنه أبو الفوز محمد أمين.

– الشيخ محمد سعيد ابن الشيخ أحمد بن عبد الله السويدي، ابن شقيق صاحب الفتوى.

– الشيخ عبد الرحيم ابن الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الرحمن السويدي، حفيد صاحب الفتوى.

– الشيخ أبو الفوز محمد أمين بن محمد سعيد بن عبد الله السويدي، وهو شارح (العقد الثمين).

– الشيخ نعمان ابن الشيخ محمد سعيد ابن الشيخ أحمد أفندي السويدي.

  • ثناء العلماء عليه:

قال عصْرِيُّه الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي رحمه الله في رسالته له: (من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: ‌عبد ‌الرحمن بن عبد الله.. فقد وصل إليّ كتابك، وسَرَّ الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين..)([5]).

وترجمه الشيخ محمد خليل بن علي الحسيني بقوله: (عبد ‌الرحمن بن عبد الله الشافعي البغدادي الشهير بالسويدي، الشيخ الإمام العالم، العلامة، الفقيه، المفنن، أبو الخير زين الدين..)([6]).

وأثنى الشيخ محمود شكري الآلوسي عليه ثناء عاطرًا، حيث قال في ترجمته: (كان بدرًا في العلوم تُقتبس أنوارُه، وإمامًا في الفضائل لا يُشقُّ غباره، شيخ العلم وحامل لوائه، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكوكب سمائه، ذو بيانٍ هو عذب فصيح، ونطق يفوح منه العرار والشيح، علَّامة الآفاق الذي أخفى الجهل بإظهار علمه، وفهَّامَة أهل العراق بفقه نفسه ومزيد فهمه:

وإذا أردت مديح قومٍ لم تُلَم … في مدحهم فامدح بني العبّاس

وكان رحمه الله تعالى ذا زهدٍ وتعفّف، وورع ودينٍ رصين، فهو خير لمن مضى من آبائه السالفين.

له نظر ثاقب في معرفة رجال السنن والآثار، وتمييز ما طاب عما خبث من الأخبار، وكان ذا باع طويل في جميع العلوم، المنطوق منها والمفهوم، فدرس وحدَّث وأفاد، ونال به الطالبون غاية المراد)([7]).

  • مصنفاته([8]):

ألّف في الاعتقاد:

شرح الشيبانية: وهي منظومة في علم الكلام على طريقة المتأخرين. ذكره الآلوسي.

وفي الفقه الشافعي:

  • حاشية على تحفة المحتاج في شرح المنهاج للعلامة ابن حجر المكي: ذكرها الآلوسي، ووصفها بأنها مفيدة.
  • الدرة السنية على شرح المقدمة الحضرمية: ذكرها الآلوسي والحسيني، ووصفها الآلوسي بأنها حاشية جليلة.
  • إرواء المحتسي من كؤوس الشبراملسي: ذكره الآلوسي، وهذا الكتاب له علاقة في ما يظهر بحاشية الشبراملسي على (نهاية المحتاج) للشمس الرملي التي عليها التعويل لدى متأخري الشافعية.

وألّف في التصوف:

  • هبة المنان في شرح كلمات الشيخ رسلان: وقد ذكرها الآلوسي، وذكرها الشيخ عبد الرحمن نفسه في هذه الفتوى.
  • شرح التحفة المرسلة: أحسبها رسالة في وحدة الوجود، الذي انتشر القول به في زمن المؤلف، فمصطلحاتها مصطلحات أهل الاتحاد، وهي مطبوعة، واسمها: (كشف الحجب المسبلة شرح التحفة المرسلة، لحل غوامض عبارات السادة الصوفية، وكشف اعتراضات من رماهم بالخروج عن السنة السنية). ولها نسخة خطية في نفس المجموع الذي يضم الفتوى التي بين أيدينا.
  • شرح صلاة ابن مشيش: منها نسخة بالمكتبة الظاهرية برقم (5860).

وفي التاريخ والأدب:

  • حديقة الزوراء: في ترجمة حسن باشا وولده أحمد باشا واليي بغداد وفيما جرى في أيَّامِهما من الحوادث العراقية. مطبوع.
  • سكب الأدب على لامية العرب: نسبه إليه صاحب (معجم المؤلفين).
  • مراسلته مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله:

كان العراق من أوائل المناطق التي تأثرت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الإصلاحية، وكان بدء دخوله سنة 1155هـ في أواسطها، رغم أن الدولة العثمانية حذرت من تأثير الدعوة على بلاد العرب خارج نجد، فأغرت العلماء في الرد عليه والطعن في أهله، فاختلقوا عليهم ما شاؤوا، ونبزوا مذهبهم بما أرادوا، وهذا لم يمنع الكثير من العلماء أن يناصروه ويؤيدوه في الخفاء، وأن يتأثروا به في بغداد وسائر الأنحاء العراقية، وفي الأقطار الشامية والمصرية واليمانية، وبلاد المغرب([9]).

كان صاحبنا الشيخ عبد الرحمن السويدي معاصرًا للشيخ محمد، وجرت بينهما مراسلة، وحفظ لنا جواب الشيخ محمد على رسالة الشيخ عبد الرحمن.

ويدور جواب الشيخ محمد على دحض مجموعة من الشبهات التي أثيرت على الدعوة، والتي كان الشيخ عبد الرحمن قد راسله مستوثقًا منه بشأنها، مثل القول بأنه يكفّر جميع الناس، وأنه لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها، وتحريقه لكتاب (دلائل الخيرات).

وقد خاطبه الشيخ محمد بأدبٍ واحترام، حيث قال في رسالته: (والحاصل: أن ما ذكر عني من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك، فكله من البهتان، وهذا لو خفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم. ولو أن رجُلًا من أهل بلدكم -ولو كان أحبَّ الخلق إلى الناس- قام يلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداءٌ وحُسَّادٌ أشدُّ منه رياسة، وأكثر اتباعًا، وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس أن هذا تنقُّصٌ بالصالحين، وأنَّ دعوتهم من إجلالهم واحترامهم، لعلمتم كيف يجري عليه)([10]).

ودعا الله تعالى أن يكرمه بنصرة دينه، وطلب منه أن يعرض كلامه على من يظن أنه يقبله([11]).

  • وفاته:

توفي الشيخ عبد الرحمن السويدي في عشري ربيع الثاني سنة مائتين وألف 20/ 4/ 1200هـ، رحمه الله تعالى.

ثانيًا: موضوع الفتوى:

  • فعاليات الدروشة:

هذا الاسم هو الاسم المعاصر الذي يُطلِقُه أبناء التصوّف المنحرف على الأعمال المبتدعة التي يقومون بها ويزعمون أنها من كرامات الأولياء؛ من دخول النيران، وأكل الحيات، والطعن بالحراب في الصدور، والضرب بالأحجار على الرؤوس، ومن فعاليتهم اليوم أيضًا: إمساك الكهرباء، وبلع المسامير، وضرب الخناجر في الرؤوس، وأكل شفرات الحلاقة، وغيرها([12]).

فموضوع الفتوى التي بين أيدينا هو بيان الحكم الشرعي في هذه الأعمال، ورد دعوى أنها من كرامات الأولياء.

وقد استغرق وصف تلك الفعاليات ثلثَ صفحات النسخة الخطية تقريبًا، بحيث يعتبر نص السؤال وثيقة تاريخية توثق ما كان يمارسه المتصوّفة المنحرفون من فعاليات في القرن الثاني عشر الهجري.

لم تكن هذه الفتوى هي الفتوى الوحيدة في موضوعها، فمن أبرز من حفظت له فتاوى في هذه المسألة: شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه عاصر تلك البدع التي ظهرت مع ظهور دولة التتار، قبل خمسة قرون من فتوى السويدي.

يقولُ علم الدين البِرزالي الشافعي في تاريخه: «وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى (9/ 5/ 705هـ) اجتمعَ جماعةٌ من الأحمديَّة الرفاعيَّة عند نائب السلطنة الأفرم بالقصر، وحضرَ الشيخُ تقي الدين ابن تيمية، وطلبوا أن يُسلِّم إليهم حالَهم، وأنَّ الشيخ تقيَّ الدين لا يُعارِضهم ولا يُنكر عليهم، وأرادوا أن يُظهِروا شيئًا مِمَّا يفعلونه، فانتدب لهم الشيخ، وتكلَّم باتباع الشريعة، وأنَّه لا يسعُ أحدًا الخروجُ عنها بقولٍ ولا فعل، وذكرَ أنَّ لهم حيلًا يتحيَّلُون بها في دخول النار، وإخراج الزبد من الحلوق، وقال لهم: من أراد دُخولَ النَّار فليغسل جسده في الحمام، ثم يدلكه بالخل ثم يدخل، ولو دخل لا يلتفت إلى ذلك، بل هو نوع من فعل الدجال عندنا، وكانوا جمعًا كبيرًا، وقال الشيخ صالح شيخ المُنيبِع: نحن أحوالنا تنفَقُ عند التَّتار، ما تنفق قُدَّام الشَّرع.

وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد، وعلى أنَّ من خرجَ عن الكتاب والسنة ضُرِبت رقبَتُه، وحَفِظ هذه الكلمة الحاضرون من الأمراء والأكابر وأعيان الدولة، وكتب الشيخ عقيب هذه الواقعة جُزءًا في حال الأحمدية، ومبدئِهم، وأصلِ طريقَتِهم، وذكر شيخهم وما في طريقهم من الخير والشر، وأوضحَ الأمر في ذلك»([13]).

وثَّق شيخ الإسلام هذه الواقعة، وكتب مُذكّرة تتضمَّنُ تفاصِيل ما جرى، «لِمَا حصَل بتلك الواقعة العظيمة من عزِّ الدين، وظُهور كلمتِه العليا، وقهرِ الناس على متابعة الكتاب والسُّنَّة، وظهُور زيفِ مَن خرج عن ذلك من أهل البدع المُضلَّة، والأحوال الفاسِدَة، والتلبيس على المُسلِمين»([14]). وللشيخ عدة فتاوى أخرى في هذا الموضوع غير توثيقه لما جرى في مناظرته للرفاعية.

وقد بيَّن الشيخ أنَّ فعاليات الدروشة هذه ليست من كرامَات الأولياء، واستدلَّ لذلك بأن الكرامة لا تكُون بالمحرمات وما نهى الله تعالى عنه من أكلِ الحيّات([15])، وفسّر ما يفعلُونه بأنه حالٌ شيطاني أو حال بهتاني، وتارة يقول: هم أهل حال إبليسي أو محال تلبِيسي، ولكُل من هذه المصطلحات معنى شرحه الشيخ، لا نطوّل بتفصيله.

كما بيَّن براءة الشيخ أحمد الرفاعي من هذه الفعاليات، وأنها ابتُدِعت بعد موته بمدة طويلة، ابتدعها طائفة من المنتسبين إليه، فخالفوا طريق المسلمين([16]).

وقال الذهبي في ترجمة الرفاعي: (وكان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة والذل والانكسار، والإزراء على نفسه، وسلامة الباطن، ولكن أصحابه فيهم ‌الجيد الرديء. وقد كثر الزغل فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق؛ من دخول النيران، وركوب السباع، واللعب بالحيات، وهذا ما عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان)([17]).

  • ترويج فعاليات الدروشة في الوقت الحاضر:

إن السعي في عصرنة وعقلنة التصوّف أفضى ببعض الطوائف المنتسبة إليه اليوم إلى ابتكار أبعادٍ جديدة لم تكن معروفةً في ما مضى للمارسات والطقوس الصوفية.

ففعاليات الدروشة كانت في ما مضى لا تعدو كونها -كسائر بدع الصوفية- وسيلةً لإقامة سلطة الشيوخ، حيث إنهم بذلك (يُقيمُون جاهَ شُيوخهم، إبقاء لحظوظ نفوسهم)، كما وصفهم الشيخ عماد الدين الواسطي رحمه الله([18]).

أما البعد الجديد اليوم لفعاليات الدروشة فيعتمد على محاججة منطقية، تتركّب من جملة من المقدمات، وهي أن هذه الفعاليات من كرامات الأولياء، وكرامات الأولياء هي معجزات لأنبيائهم، وبذلك فإن تلك الفعاليات بمثابةِ المعجزات التي تقام بها الحجة على الكفار اليوم، فهي من الوسائل الدعوية إلى الدخول في الإسلام!

وهذه المحاججة من أشهر من يستعملها اليوم أصحاب الطريقة القادرية الكسنزانية.

يقول أحد المعظّمين لهذه الطريقة في محاورة جرت بينه وبين رئيسها السابق محمد المحمد الكسنزان: (ذات مرّةٍ قال لي: سنفتح أنا وإيّاك روما إنْ شاء الله تعالى. استعظمت الأمر في نفسي، وقلت له: كيف سنفتح روما يا سيّدي؟! قال: متى حان الوقت؛ سنزور الفاتيكان معًا، ونلتقي بالبابا والكرادلة والقساوسة المسيحيّين، ونقول للبابا: أيها البابا، نحن أبناءُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، قد كان جدّنا الرسول رحمةً للعالمين، ونحن -أبناءَه- رحمةٌ للعالمين أيضًا، ونحن ندعوكم إلى الله تبارك وتعالى، وإلى دين الإسلام. نحن نعتقد أنّ دين الإسلام هو دينُ إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى ومحمّد عليهم الصلاة والسلام، ولنا على ذلك أدلّتنا العلميّة وأدلتنا العمليّة.

قال لي: أمّا أدلّتنا العلميّة فأنت تقوم بها يا سيّد نور الدين -وكان هو سمّاني بهذا الاسم-، وأمّا أدلتنا العمليّة فنقول للبابا: إنما ثَبت صدقُ الأنبياءِ عند أقوامِهم بالمعجزات، وعلينا نحن وإيّاكم أنْ نُقدّمَ للناسِ المعجزاتِ في زماننا هذا. هاتوا أعظم فُرن موجودٍ في العالم، لِتَكنْ درجة حرارته ألفَ درجة أو ألفين أو ما تستطيعين صُنعَه، وضعوه في ساحةٍ عامّة.

ثمّ نقول للبابا والقساوسة: هيّا نُدخل نحن وإياكم أيديَنا في هذا الفرن؛ فمن أكلت النارُ يدَه فهو على خطأ، ومَن خرجت يده سليمةً فهو على الحقّ، وعلى الطرف الآخر أن يدخل في دين الحقّ. بشرطٍ واحدٍ، هو أن يكون إظهار المعجزة هذا على ملأٍ من الناسِ، وعلى شاشات التلفزةِ الكبرى.

حضرت له مشاهدَ عجيبةً، كنت أستصغر نفسي وذكائي وعلمي معها.

زارنا في إحدى الليالي أحدَ عشرَ أستاذًا من جامعات ألمانيا، فيما أذكر العدد. تعشّوا معنا، ثمّ قمنا إلى الذِكر، ثم حضرنا معًا فعاليّات مجلس الذكر؛ من إمساك الكهرباء، وبلع المسامير، وضرب الخناجر في الرؤوس، وأكل شفرات الحلاقة، وغيرها.

سأل أحدُ أساتذة الجامعات شيخَنا الجليل: هل أستطيع أن أقوم أنا بهذه الفعاليّات؟ وكيف؟ قال له: كلّ واحدٍ يستطيع متى شاء، في هذه اللحظة تستطيع، بشروط:

الأوّل: أن توحّد الله تعالى؛ لأنك منه تحصل على المدَدِ.

الثاني: أن تبايعَ على القيام بتعاليم الإسلام.

الثالث: أن تبايعَ شيخَ الطريق، وتعاهد الله تعالى على الطاعة والالتزام بالأوراد.

قال له الأستاذ: الآن أستطيع أن أضرب نفسي، وأن أتناول شفرات الحلاقة، وأبتلع المسامير، بمجرّد أن أنطق بالشهادتين؟

تبسّم الشيخ وقال له: جرّب فورًا، والأمرُ أيسرُ ممّا تتصوّر.

التفت إليّ هذا الأستاذ وقال: نحن حضرنا مجلس الذكر، وشاهدنا الفعاليّات، وسجّلناها على الفيديو، واستمعنا إلى حوارك وإجاباتك، لكن لا يليق بنا -ونحن أكاديميّون- أن نتسرّعَ، وتأخذَنا العاطفةُ الآنيّةُ، إنما يجب علينا أن نشاهد الفيديو أكثر من مرّة، وأن نتأمّل بكلامك أكثر، ثمّ نُرسلُ إليكم رأينا بكلّ وضوح.

بعد أيّام أطلعني سماحةُ الشيخِ على جوابٍ منهم بأنهم أسلموا أجمعين، وبكى الشيخ رحمه الله تعالى، وبكيت ابتهاجًا بإسلام أحدَ عشرَ عالمًا معًا.

هذا هو شيخُنا محمّد المحمّد الكسنزان، صاحب هذه الهمّة، وصاحب هذه الثقة بالله تبارك وتعالى)([19]).

وقد ذكر الكسنزان في موسوعته التي يسميها: (موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان) أهداف (فعاليات الدروشة) وهي تتخلّص في ما يأتي: (إثبات وجود الله تعالى بالنسبة للملحدين، إثبات وحدانية الله تعالى بالنسبة للمشركين، إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للكافرين، إثبات ولاية المرشدين بالنسبة للمسلمين، تثبيت نور الإيمان بالنسبة للمؤمنين)([20]).

واعلم أن إنكار ما يصنعه هؤلاء الغلاة من المتصوفة ليس إنكارًا لكرامات الأولياء، بل إن إثبات كرامات الأولياء محل إجماع عند أهل السنة، وقد دلت عليها الدلائل المتكاثرة، وكذلك فإننا لا ننكر أن كرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت لا تدلّ على عصمة الوليّ، ولا على وجوب اتباعه.

وإنما الشأن في عدّ أكل الحيّات ونحوه من المحرمات والمبتدعات المخالفة للدين من الكرامات، فهذا محل النزاع.

ثالثًا: أهمية الفتوى:

تأتي أهمية هذه الفتوى من جهة المكانة العلمية للشيخ عبد الرحمن السويدي، فهو من فقهاء الشافعية في وقته.

وقد أفتى الشيخ بتحريم هذه الفعاليات بقواعد المذهب الشافعي وأصوله: (وأما اعتقاد حرمة أفعالهم فهو إصابةٌ أيُّ إصابة، وإن لم يصرّح أصحابنا بذلك؛ فقواعد مذهبِنَا وأصولُه تدلُّ عليها دلالةً غير خافية).

وقد كانت هذه الفتوى لأهل اليمن، ومعلومٌ أن المذهب الفقهي السائد في بلاد اليمن هو مذهب الإمام الشافعي.

وتأصيل المقولات الشرعية في المذاهب الفقهية المتّبعة فيه مراعاةٌ لمصلحة دعوية مهمة، وهي مراعاة البيئة والظرف، وهذا ما عبّر عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته للشيخ عبد الرحمن السويدي حيث قال: (أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي، كلا أخاصمه بكتب المتأخرين من علماء مذهبه الذين يعتمد عليهم)([21]).

ولذلك فإن في هذه الفتوى حجة على أتباع الطرق الصوفية كالرفاعية والكسنزانية وغيرها، ممن يدّعون الانتساب إلى مذهب الإمام الشافعي في الفروع.

هذا، ومما يدل على أهمية هذه الفتوى اعتناءُ عُلماء العراق بها، فإنَّ الشيخ شهاب الدين محمود الآلوسي في تفسيره عندما تطرق لهذه المسألة ذكر مناقشةً لبعض ما ورد في هذه الفتوى دون تسمية صاحبها، على طريقة أهل العلم في التأدب مع المردود عليه دون ذكر اسمه.

فقد ناقش الآلوسي القول بأن هذه الفعاليات من السحر كما ذهب إليه السويدي، وأورد حاصل كلامه بقوله: (وما يُشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي -قدس سره- من الفسَقة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارًا، فقيل: إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله، فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح، ولا يبعد أن تكون كفرًا وإن كان معها ما لا كفر فيه)([22]).

وهذا هو قول السويدي حيث قال: (لا نُسلِّم أنَّ فعلَهم لا يكون سِحْرًا، إذ عندَهم قبل أن يفعلوا هذا الفعل قراءة يقرؤها كبيرُهم بألفاظ لا معنى لها لدى السامع، تحرم قراءتُها عندنا، سمعتها من المشايخ المنتسبين إلى الرفاعيّة الذين يَدخلون النيران، ويلعبون بالسيوف).

ثم قال: (ثم اعلم إذا تحقّق سحرُهم ففي فاعله خلاف، فقال بعضُهم: يجبُ قتلُه، وقال آخرون: هو كافر، وقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: إذا اعترف الساحر بأنه قتل شخصًا بسحره، وبأن سحره مما يقتل غالبًا، وجب عليه القود).

وقد ناقش الآلوسي الاستدلال الذي ذكره السويدي على أن ما يفعلونه سحر، وهو قراءتهم غير المفهومة قبل دخول النار، قال الآلوسي: (والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطًا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه، فكثيرٌ منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف: يا شيخ أحمد، يا رفاعي، أو: يا شيخ فلان، لشيخ أخذ منه الطريق، ويدخل النار، ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلًا.

والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة، وقد يتّفق أن يقرأ أحدهم الأسماء، وتضرب له الدفوف، وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر.

والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة، بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون.

وقد رأيتُ منهم من يأخذ زقّ الخمر، ويستغيث بمن يستغيث، ويدخل تنّورًا كبيرًا تضطرم فيه النار، فيقعد في النار، فيشرب الخمر، ويبقى حتى تخمد النار فيخرج، ولم يحترق من ثيابه، أو جسده شيء.

وأقربُ ما يقال في مثل ذلك: إنه استدراج وابتلاء)([23]).

ثم قال: (وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها، فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة)([24]).

وهذا هو الحال البهتاني أو المحال التلبيسي، بحسب تعبير ابن تيمية.

وختامًا، فإن صاحبنا الشيخ عبد الرحمن -كغيره من العلماء- ابنُ زمانه، وقد كان في زمانه للتصوف سطوة، وللعقائد الكلامية حظوة، لذلك فإننا نجده يورد بعض خرافات الصوفية التي ذكرها الشعراني، وكذلك يساير الأشاعرة في تفريقهم بين المعجزة والكرامة والسحر بفروق ضعيفة، قائمة على أصولهم في نفي الحكمة والتعليل والتحسين والتقبيح.

وحسبنا أنه أدى ما عليه في إنكار هذا المنكر، ولم يُفتِ الدراويش بما يريدونه، ولم يسلّم إليهم أحوالهم الشيطانية كما سلمها إليهم غيرُه من المنتسبين للعلم.

رابعًا: وصف النسخة الخطية:

وقفت على النسخة الخطية لهذه الفتوى في محفوظات مكتبة الدولة ببرلين، ضمن مجموع برقم (2160).

وقد احتوى المجموع على كتاب (شرح التحفة المرسلة) للسويدي، وعلى هذه الفتوى، وعلى رسالتين لمحمد بن عفالق في الرد على الشيخ عثمان بن معمر.

جاءت هذه الفتوى في الصفحات (33-35) من المجموع، في نحو 26 سطرا في كل وجه، وكتُبت بخطّ واضح.

وقد جاءت نسبتها إلى الشيخ عبد الرحمن مصرحًا بها في أولها.

ومما يدل على ثبوت نسبتها للشيخ أنه ذكر فيها شرحه للرسلانية، وهو من الكتب التي ثبتت نسبتها له، وذكرها الشيخ محمود شكري الآلوسي كما تقدّم.

وهي مؤرخة بسنة 1175هـ، وفيها كان عمر الشيخ (41) سنة، وتوفي بعد كتابتها بـ(25) سنة.

وقد أثبتُّ نصَّ الرسالة، وصنعت ما يلزم من العناية به؛ من حيث التفقير والترقيم والضبط، وعلقت تعليقاتٍ يسيرةً حيث رأيت الحاجة تقتضي ذلك. وبالله التوفيق.

******

 

 

النصّ المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ألهمنا الجوابَ عند سؤالِه، وسلّكنا الصوابَ بأفضاله، ونصَبَ العلماءَ أعمدةَ الدين، وخصّهم بمزايا على العالمين، حيث جعل العلماء ورثةَ الأنبياء، وقال: {‌إِنَّمَا ‌يَخْشَى ‌ٱللَّهَ ‌مِنْ ‌عِبَادِهِ ‌ٱلْعُلَمَٰؤُاْ} [فاطر: 28]. ‌والصلاةُ والسلام على من أتى بالمعجزات الجمّة، ولا سيما القرآن المجيد، فهدى بدعوته الأمّة، فلن يزالوا في نصر وتأييد، بؤبؤَ([25]) المجد والبسالة، وضؤضؤ([26]) الشرف والعدالة، وعلى آله وصحبه الراشدين بلا ارتياب، الهادين إلى جادّة الصواب، ما طلب التحقيقَ مُبتَغِيه، وراج التدقيق على مُتبعيه.

أما بعد: فيقول الفقير إلى غنى مولاهُ المنان، الملتجي إلى حِماه الشيخ عبد الرحمن، ابن الشيخ عبد الله بن حسين بن مرعي بن ناصر الدين الدوري، ثم البغدادي، الشافعي، المعروف بالسويدي:

قد ورد علينا من قُطر اليمن في الحادثة التي وقعت هنالك، والبدعة التي ركِبَها كل هالك، فقد ابتُلِي المؤمنون وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، وامتُحن الأئمة الموحّدون ولكن زادهم الإيمان توحيدًا. وصورة السؤال:

ما تقولُ السادة العلماء العامِلُون والهُدَاة الراشدون -سدَّدَ الله أقوالهم وأصلح أحوالهم بما هم به قائمون- عمّا يشاهَدُ من أحوال هؤلاء الدراويش بدورانهم في سائر البلدان، وضرب صدورهم بالأفهار([27]) وطعنهم بنحو الحرابِ في نحورهم والعيون، وأكلِهم الحيات حيَّة، وخوضهم النيران، والتقامهم لها، وغير ذلك مما يفعلون.

ولهم أعمال فوق ذلك هم لها عاملون؛ كإدخالهم الأسنَّة في جانب من أجوافهم، وإخراجها من الجانب الآخر، وقد يسيل الدم وهم بذلك لا يتألَّمُون، ولا باستخباث الحيّات وسمّها وملامسة النار في أبدانهم يعبؤون ويتضرَّرون، ويكاد لو عَمِل بعضَ هذه الأعمال غيرُهم بنفسه أو بهم لأضرَّهُ ضررًا بيّنًا يعرفه العارفون.

وفي بعض الأوقات يأتون إلى نحو الأُمراء والتجار ويقولون: معكم في المحلّ الفلاني حيّة ضارية، أمرنا شيخنا بإخراجها ومسكِها، وأحالَنا عليكم بكذا وكذا من المال فيما يزعمون، فإذا أذن له في دخول ذلك المحلّ طرحوا ما عليه من الملبوس ما عدا ساتر العورة، وشرعوا في توحيدهم وتواجدهم وهتفهم بشيخهم ابن علوان، حتى تخرَّ تلك الحيّة إليهم من ذلك المحلّ، فيُمسكونها بأيديهم والناس حولهم يشاهدون، وإذا طلب صاحبُ المكان منهم قتلَهَا قتلُوها ودفنُوها، وإذا كشف عنها غيرُهم وجدها حيَّةً مقتُولة كما حقّقت، لا ينكرها الحاضرون.

 وفي بعضها يأتُون بأوراقٍ فيها اسم الشيخ الولي الذي فيه يعتقدون، ويقولون: إنه أحالهم بما يقتضيه المرسوم من الكسوة والمصروف عليهم، وإنهم بذلك المُعيّن يوفون، ويدَّعون ذلك كرامةً للشيخ أظهرها على أيديهم، مع ما هم به من الفسق مُتجاهرون، حتى صار الحفاة من الناس يعتقدون ذلك اعتقادًا جازمًا، ويرون أنهم بذلك الاعتقاد مُحسنون.

ويَحتجّون على مُنكره بأنه لو كان كذبًا على الشيخ في نسبة ذلك لأضرَّهُم من حيث لا يَشعُرون، وقد جاء عن الشفيع الذي ترد([28]) إليه المشفَّعون: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب»([29])، ولا شكَّ أنهم بنسبة هذه المنكرات إليه -إن قلتم بها- له مُعادون.

ويحصُل مع بعض حاضرهم عند صدور تلك الأفعال من الطعن والتواجُد والرَّقصِ والضرب بالكيزان، على تلك النغمات والألحان، والتمايُل عليها، الاضطرابُ والرَّوْع، ويرون أنهم ذاهلون.

فهل يليقُ نسبة ذلك إلى الشيخ الولي الذي إليه بالافتقار يُنسَبُون؟

وهل يكون ما ظهر عليهم كرامةً مع عدم الاستقامة كما هو مشاهد من أحوالهم، ولا سيما ما هم به من صورة التوحيد مع التحريف والتصحيف ينطقون؟

أم يكون خارجًا عنها ويُعدّ برهانًا ومعونة من الشيخ بمن استغاث به، ويدّعون أنهم بهتفهم به مستمدون منه وبه مستغيثون؟

أم استدراجًا وابتلاءً وإضلالًا، وهم بذلك فاسقون آثمون؟

أم هذه الأفعال من الشّعبذة والخيالات، والغالب أنه لا درية لهم بالسحر وأنواعه التي أُولع بها السُّفهاء الجاهلون؟

وهل مُعتَقِد حرمةَ ذلك مُصيب؟ والفرجة عليهم، وإعطاؤهم عليها، وأخذهم لما يعطونه صريحة في شروح الشافعية والمتون.

فإن قلتم بحُرمة مباشرتِهم لتلك الأفعال وإن لم يتضرَّرُوا بها وإعطائهم وأخذهم لما يعطون؛ فما الجواب عن مباشرة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه السُّمَّ مع علمه به، وأنه من مضرّات البدن، بنهي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه عن أكل اللحم الذي قدمته اليهودية، وأمره لهم برفع أيديهم منه بقوله: «ارفعوا أيديكم؛ فإن هذه الذّراع تُخبرني أنها مسمومة»([30])، وهو من تلك الوصية الذين هم بالنبي صلى الله عليه وسلم مُعتقدون([31])، وعن الوصمات منزّهون، وبالطاعات آمرون، وعن المعاصي زاجرون؟

أفتونا وأرشدونا إلى الحقّ ببيان انقسام الخارق وتعريفه، وتمييز كل قسمٍ منهُ عن الآخر، وأي قسم منها تنطبق عليه أفعالهم هذه؟ وضابط الوليِّ والكرامة، وتمييزها عن الاستدراج والإعانة، والابتلاء والإضلال والإهانة -لا عَدِمَكُم المسلمون-.

مع ما تيسر من الدلائل والأجوبة عمّا يرد من النظائر بالفرق والجمع، ليهتديَ المسترشدون، ويتوفّر الثواب بذلك للمفتي والساعي والسائل، وينزجر المُعتَدُون، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كُلَّمَا ذكره الذاكرون، وغفل عنه الغافلون.

فأقول وبالله التوفيق:

اعلم -وفقك الله لطاعاتِه، وهداك إلى مقبُول عباداتِه- أن الخارق عند من يُجوِّزُ وقوعه هو: الأمر الذي تُحِيل عادةُ البشرية وجودَه:

[1] فمن حيثُ إنه مقارن للدعوى والتحدي: معجزةٌ.

[2] ومن حيثُ إنه مقدمة للنبوة والرسالة: إرهاصٌ؛ كتظليل الغمام لنبينا عليه الصلاة والسلام([32]).

[3] ومن حيثُ صدوره من الصلحاء بقصدٍ أو غيره: كرامَةٌ.

كما وقع لسيّدي أبي مدين -على ما نقل الشعرانيّ عنه([33])– أنه رمى بواحد من نعليه رَجُلًا من مصر إلى خراسان فقتلَه!

وذلك أن ابنة تلميذِه خرجَت تحتطب، فراودها ماردٌ إنسيٌّ عن نفسها، فامتنعت، ولم تزل معه في جدال ونزاع في ذلك البَرّ الصفر([34]) الأقفر، إلى أن كاد يقضِي منها الوطَر، فلم ير إلا نعلًا أتى من الهواء، فوقع على عُنُقِه، فقتله.

فأتَت بالنعل إلى أبيها، وقصَّت عليه القصة، فعرَف نعل الشيخ وقبَّله، وكان من عادته أنه يزور شيخَه في العام مرة، فلما قدم إلى الشيخ أتاه بنعله، وكانت المسافةُ شهرًا أو أقل.

تنبيه: لا يُقال: إن الشيخ فعل أكبر الكبائر وهو القتل، فكيف يكون صالحًا، فضلًا عن كونه وليًّا؟! بل ما فعلَهُ نوع من الاستخدام أو السحر.

لأنا نقول: إن ذلك الرجل من قبيل الصائل، والشيخ من قبيل رادّ الصائل، وردُّه إذا توقَّف على قتله جازَ قتلُه هدرًا، وليست هذه المسألة بأسهل من مسألة المارِّ بين يدي المصلّي وسترته.

ولا جائز أن يُقال: إن دفعه لا يتوقَّف على قتله، إذ من يمكنه الدَّفع بمثل هذه المسافة بالقتل يُمكنه أن يدفعه بما هو أهون منه.

لأنا نقول: لا نُسَلِّم أنه يمكنه دفعه بغيره؛ إذ ما صدر عنه إنما هو بالفَيض من المبدأ الفعّال([35])، ولعله لم يَفِض عليه سوى هذِه القوَّة التي أدَّت إلى القتل. والمقصودُ من ردّ الصائل بذلُ الوسع فيه لا غير.

سلَّمنا؛ لكن لم لا يجوز أن يكون مُستحِقًّا له فيما يعلمه؟ فرأى دفعَه به أولى.

ولا يلزم من عدم العلم بكونه مُستَحِقًّا كونُه غير مستحقٍّ له في نفس الأمر، ويُرشِدُك إلى ما ذكرنا قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخِضرِ عليهما السلام([36]).

وكطيّ الأرض لهم([37])، وبلوغ البعيد بالمسافة القريبة، وكتبَدُّل الأشكال والصور، وغيرِ ذلك مما لا يمكن أن يُنكَر.

[4] ومن حيث صدُورُه من فاسقٍ مبتدعٍ مخالفٍ للشريعة النبوية:

(1) بلوى ابتلَى الله به عباده واستدراج له وإضلال. (2) أو سحرٌ. (3) أو بعضُ الخصوصيات.

والأوَّلُ وإن جاز وجودُه عقلًا، لكن لم يثبُت نقلًا إلا للدَّجّال.

وأما صدور الخارق على جهة الإهانة والإعانة من غير كونه معجزة أو كرامة أو إرهاصًا فلم يثبُت.

ثمّ المعجزة من حيث إنها علامة دالّة بطريق العادة على تصديق الله تعالى أنبياءَه تُسمى: آية، ومن حيث تُبيِّن وتُوضِح أمرَ النبوة: تبيانًا.

هذا، وأمّا الولاية فهي التصرُّف في الخلق بالحقّ، وما هي في الحقيقة إلا باطن النبوة؛ إذ هي ظاهرها الأنبياء([38])، وباطنُها التصرُّف في النفوس بإجراء الأحكام عليها.

والنبوة مختومة من حيثُ الإنباءُ؛ إذ لا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، دائمةٌ من حيث الولاية والتصرّف؛ لأن نفوس الأولياء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حمَلَةُ تصرُّف ولايته، يتصرّف بهم في الخلق بالحقّ إلى قيام الساعة، فبابُ الولاية مفتوح، وباب النبوة مسدودٌ.

وعلامةُ صحّةِ الوليِّ: مُتابعتُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، الخالصة سريرته من الأدناس البشرية، المحمودة سيرته بالأخلاق المرضيّة، الظاهرة عليه الآثار الربانية والسمات الصمدانيّة، الكارع من عين الجمع، الفازع من نتن عين الفرق([39])، مشاهد البعيد قريبًا، والغائب حاضرًا، بل العالم العلوي والسفلي في الساعة الواحدة، فتصدر عنهُ الآثارُ العجيبة والخوارق الغريبة، هذا مع حفظِهِ السرَّ الذي أُودع فيه، فلا يُذيعُه ولا يبديه، لسانه حكمة فلا ينطق عن الهوى، ومجالِسُه رحمةٌ لمن أغوَى أو غوى.

وقد حَدَّث (الشيخُ الأكبر)([40]) في المشاهدات أن بعض المريدين حدَّث شيخَه أن رجلًا في الحارة الفلانية وليٌّ، فقال شيخه: إذًا نزورُه.

فلما ذهبا إليه طرقا عليه الباب، ولما خرج إليهما اعترته نخمة، فبصَق في ناحية القِبلة.

فقبل أن يتحدَّثا معه قال الشيخ لتلميذِه: اذهب بنا نرجع، إنه ليس بوليّ.

فقال التلميذُ: ولِمَ؟

قال: إنه ليس بأمينٍ على سرِّ الشريعة، فكيف يكون أمينًا على سر الله تعالى؟!

ومِن شُروطه: أنه لو درست الشريعة لملأها وجدَّدَها حفظًا.

والنظر في اللوح المحفوظ([41])، والشهود إمّا آنًا فآنًا أو كالبرق الخاطف.

وهو أقسام غير خافية على من تتبّع كتب القوم، وقد ذكرتُ بعضَها في شرحي على (الرسلانيّة).

تنبيهان:

الأول: قيل: الوليُّ هو التقيُّ الصادرة عنه الكرامة. وهو باطلٌ للزوم الدور كما لا يخفى.

الثاني: أنكر بعضهم الكرامة بأنها لا تتميّز عن المعجزة، فلا تكون المعجزة حينئذ دالة على النبوة، وينسدُّ باب إثباتها. ورُدّ بالفرق، وقد مرَّ بيانُه([42]).

ثم لتعلم أن ما نقلتَه عن أولئك الدراويش ليس معجزةً لانسداد باب النبوة، ولا كرامة لما مرّ في تعريف الولاية والوليّ، ولا بلوى أو استدراج أو إضلال لما ذكرنا أن ذلك لم يثبت إلا للدجال؛ فتعيّن أن يكون سحرًا أو لبعض الخصوصيات.

قولك: (الغالب أنه لا درية لهم بالسحر).

قلنَا: مُسلَّم، لكن لا نُسلِّم أنَّ فعلَهم لا يكون سِحْرًا، إذ عندَهم قبل أن يفعلوا هذا الفعل قراءة يقرؤها كبيرُهم بألفاظ لا معنى لها لدى السامع، تحرم قراءتُها عندنا، سمعتها من المشايخ المنتسبين إلى الرفاعيّة الذين يَدخلون النيران ويلعبون بالسيوف، ومن جملتها التي بقي في ذكرى أَبْرِمَهْ([43]).

وقد رأيتُ أناسًا يكادون أن يكونوا كُفَّارًا؛ لكثرة فسقهم، يقال لهم: الكاوليّة([44])، نزلوا نادي بغداد عام الرابع والخمسين بعد المئة والألف، يلعبُون بالسيف القاطع، بحيث يضربُ بعضُهم بطنَ بعضٍ، ولا يضرُّهم، لكن بعد أن يقرأ كبيرهم على السيف، ويمسح حدّه بإصبعه مسحًا عنيفًا ولا يؤلمه، فيأخذونه منه ويلعبُون به كيفما شاؤوا.

وقد سألتُ بعض من ينتسب إلى الرفاعية، فقال: إن لنا كلماتٍ نأخُذُها كابرًا عن كابر، لا يضرُّنَا معها النار، ولا الدبوس، ولا السيف.

هذا، وأما الرفاعية فهم الصُّلَحاء العُبَّاد، والنُّسَّاك الزُّهَّاد، لا يقربون هذه الأفعال إلى مُجالسهم، ولا يحبون من يحضر ذكرها مجالسهم([45])، بل هم على طِبْق الشريعة النبوية، ولنا إلى هذه الطريقة نسبةٌ بإجازات من طُرُق مختلفة.

ثم اعلم إذا تحقّق سحرُهم ففي فاعله خلاف، فقال بعضُهم: يجبُ قتلُه، وقال آخرون: هو كافر، وقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: إذا اعترف الساحر بأنه قتل شخصًا بسحره، وبأن سحره مما يقتل غالبًا، وجب عليه القَوَد([46]).

سلَّمنا امتناع كونه سحرًا، لكن نقول: إن ذلك لخاصِّيَّة اقتضَتْهُ، وهي إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس البشرية في الماهية، فيجوز حينئذ أن يصدر عنه ما لا يقدر عليه آخر، والمِزاج الخاص في بدنه هو أقوى من أمزجة أقرانه، فيقدر على فعل يعجَز عنه غيره، وإن توافقا في الماهية.

أو لطلسمٍ اختصّ هو بمعرفته؛ إذ لا مجال لإنكار الطلسمات الغريبة، التي تؤثر تأثيرات عجيبة، يعرف ذلك من اطّلع على معرفة علم الحرف وتنزيل الوفق([47]).

أو خاصية بعض المركّبات، إذ لا شك أن المركّبات العنصرية لها خواص تستتبع آثارًا عجيبة؛ كالمغناطيس الجاذب للحديد، والكهرباء الجاذب للتبن، وكذلك الحجر الباغض للخلّ؛ فإنه إذا جُعل على إناءٍ فيه خل لم ينزل فيه، بل ينحرف حتى يسقُطَ خارج الإناء، وكالحجر الجالب للمطر، وهو مشهورٌ بين الأتراك.

وكسائر أهل الشعوذة، فإني أبصرتُ من يُخرج النيل من فيه([48])، ويبتلع القطن فيخرج دخانًا من فيه، معه أجزاءٌ نارية.

فجاز أن يكون الخارق الذي ظهر على يد هؤلاء لما مر، ويكونوا عالمين بذلك النوع دون غيرهم.

تنبيه: أثبتَ بعضُ أصحابنا صدُور الخارق على جهة الإعانة والإهانة، من غير كونه كرامة أو إرهاصًا أو معجزة أو غيرها، ومثّل لذلك بمسيلمة حين دعا لرجل أعور بإرجاع عينه فطمست الأخرى، وبتخليص بعض الناس من الشدائد والمحن بصدور الخارق عنه. وفيها نظر، فانظُر.

وأما اعتقاد حُرمة أفعالهم فهو إصابةٌ أيُّ إصابة! وإن لم يصرّح أصحابنا بذلك؛ فقواعد مذهبِنَا وأصولُه تدلُّ عليها دلالةً غير خافية.

وأما الفُرْجَة عليهم فحرام، وإعطاؤهم عليها كذلك.

وأما إعطاؤهم من غير وجه([49]) فهو جائز، إذ الصدقة جائزة ولو على حربيٍّ عندنا.

نعم، فرجة الفقيه على نية الاطلاع على أفعالهم هل توافق الشرع أم لا؟ جائزةٌ.

وأما الجواب عن قصة سيدنا خالد بن الوليد فذلك معلومٌ بالبديهة؛ إذ سيدنا خالد عند شربه السمّ كان مصاحبًا: (بسم الله الذي لا يضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم)، ومع هذه الكلمات لا يضرُّه شيء، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح([50]).

ولأن سيدنا خالدًا كان مُمتحنًا كما هو معلوم في قصته([51])، فلا يبعُدُ أن يكُون كرامةً منه، وعلَّةُ حُرمتِه الضرر، وهو منتفٍ كما قَرَّرْنا، فانتَفَت الحُرمَة بانتفائِه، إذ العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا.

وأما أكلُهم الحيّات فحرام؛ لضررها واستخباثها.

وكذا يحرم أكل الترياق المعمول من لحومها. قال البيهقي: كره أكله ابنُ سيرين. قال أحمد: ولذا كرهه الشافعي، فقال: لا يجوز أكل الترياق المعمول بلحم الحيّات، إلا أن يكون في حال الضرورة، حيث تجوز الميتة.

وأما السمك الذي في البحر على شكلها [فحلال]([52])، صرّح به غير واحد([53]).

والحاصلُ أنَّ أفعالَهم مما تأباهُ أصولُ الدين وقواعدُ المسلمين، فيجب على الإمام نهيُهُم وزجرُهم.

وهذا ما تيسَّر، والحمد لله على ذلك.

هذا جوابي فاعذِرْ إن تجِدْ خَللا … فمَصدَر العجزِ والتَّقصيرِ كاتِبُهُ

سنةَ 1175

([1]) هي طريقة تنسب إلى عبد الكريم الشاه الكسنزاني المولود في العراق سنة 1240هـ، وكلمة “الكسنزان” معناها بالكردية: (لا يعلم عنه أحد)، وذلك أنهم يذكرون عن هذا الرجل أنه اختفى في أحد الجبال يقتات من ورق النباتات وقِطَع الطين النقية مدة أربع سنوات، وهم يسندون طريقتهم هذه إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله. ترأس هذه الطريقة في الوقت الحاضر محمد المحمد الكسنزان، وتلاه بعد وفاته سنة 1440هـ ابنُه محمد نهرو، وهو رئيس هذه الطريقة في وقت كتابة هذه الكلمات. وتنتشر هذه الطريقة في شمال العراق وإيران، ويُقدِّر نهرو أتباع طريقته بخمسة ملايين في العراق وستة ملايين في إيران! وقد أصدروا عدة نشرات تعريفية بهم، وأصدروا موسوعة ضخمة في التصوف في (22) مجلدًا، ولهم موقع إلكتروني، وقناة في اليوتيوب تنشر احتفالاتهم ومحاضرات زعيمهم وكلماته ولقاءاته، ومنها استقينا هذه المعلومات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([2]) «المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر» (ص: 123).

([3]) «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» (2/ 330).

([4]) انظر: «المسك الأذفر» (ص: 123).

([5]) «الدرر السنية» (1/ 79).

([6]) «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» (2/ 330).

([7]) «المسك الأذفر» (ص: 131).

([8]) «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» (2/ 330)، «المسك الأذفر» (ص: 131-132)، «معجم المؤلفين» (5/ 149).

([9]) «ذكرى أبي الثناء» للعزّاوي (ص: 37).

([10]) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (1/ 81).

([11]) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (1/ 81-82).

([12])، انظر «الطريقة العلية القادرية الكسنزانية» لمحمد المحمد الكسنزان (ص: 156-161). وفي هذا الكتاب نشر أتباع الطريقة الكسنزانية عددًا من الصور لتلك الفعاليات.

([13]) «المقتفي على الروضتين» (3/ 298-299).

([14]) «مجموع الفتاوى» (11/ 446).

([15]) «مجموع الفتاوى» (11/ 608، 611)، «جامع المسائل» (3/ 396).

([16]) «مجموع الفتاوى» (11/ 494).

([17]) «العبر» (3/ 75)، ونقله الآلوسي في «روح المعاني» (9/ 67).

([18]) هنا يدسّ الكسنزان السم في العسل، فيعرض ما يرومه في إسكات الاعتراض عليه في قالب جميل ومقبول، وهو قالب (احترام التخصص).

([19]) الكلام لعداب محمود الحمش، وقد عمل في التدريس في زوايا الطريقة الكسنزانية في العراق في نهاية القرن الميلادي الماضي كما يذكر عن نفسه.

([20]) «موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان» (17/ 368-374).

([21]) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (1/ 81-82).

([22]) «روح المعاني» (9/ 66-67). وقوله: (الفسَقة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارًا) هو عين الوصف الذي جاء في هذه الفتوى بألفاظه.

([23]) «روح المعاني» (9/ 67).

([24]) «روح المعاني» (9/ 67).

([25]) البؤبؤ: أصل الشيء.

([26]) الضؤضؤ والضئضئ: الأصل والمعدن.

([27]) الأفهار: الأحجار.

([28]) كذا في الأصل بالتأنيث، والوجه التذكير.

([29]) أخرجه البخاري (6502).

([30]) أخرجه الدارمي (69)، وأبو داود (4511)، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلًا، وله شواهد.

([31]) كذا العبارة في الأصل.

([32]) جاء ذلك في خبر خروج أبي طالب إلى الشام ولقائه ببحيرا الراهب، أخرجه الترمذي (3620)، وابن أبي شيبة (32391، 37696)، والحاكم (2/ 615). قال الترمذي: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه).

([33]) ما ينقُلُه الشعراني من كراماتٍ مُدَّعَاة لا تروج على أهل العلم المميزين بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية، ولولا سطوة التصوّف في عصر المؤلّف لما سعى في ترويج هذه الحكاية، ولما التمس لها المخارج، ولما بذل جهده في الجواب عن الإشكالات المتوجهة إليها بما أوتيه من معارف شرعية وفقهية.

([34]) الصفر: الخالي.

([35]) يستخدم الصوفية لفظ الفيض بمعنى أن الحق تعالى يسبغ بعض نعمه على أحبَّائه ظاهرة وباطنة بفتح رباني. انظر: «معجم ألفاظ الصوفية» (ص229). فلعل هذا ما أراده السويدي في هذا الموضع.

([36]) يعني قتله الغلام، ثم قوله: {وَأَمَّا ٱلْغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرا مِّنْهُ زَكَوٰةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81].

([37]) أي: للصلحاء. يستمرّ الكلام عن الذين تحدث عنهم بقوله: (ومن حيثُ صدوره من الصلحاء بقصدٍ أو غيره: كرامَة)، فهي أمثلة أخرى للكرامات.

([38]) كذا العبارة في الأصل.

([39]) الجمع والفرق من اصطلاحات الصوفية، ويمكن التعامل معها تعاملًا شرعيًّا بتقسيمها إلى صحيح وباطل، ورد الباطل منها، وهو القول بالاتحاد بين الخالق والمخلوق. انظر: «مدارج السالكين» (4/ 411-412). ونرجو أن الشيخ عبد الرحمن السويدي لم يكن يقصد قول أهل الوحدة.

([40]) يقصد ابن عربي الطائي.

([41]) ما في اللوح المحفوظ من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه. وانظر في الرد على ضلال الصوفية في هذا: «فتاوى اللجنة الدائمة» (2/ 10-14).

([42]) الفرق الذي ذكره السويدي هو أن المعجزة مقرونة بالدعوى والتحدّي بخلاف الكرامة، وهو فرق ضعيف، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما شرب السمّ تحدى النصارى في كون الإسلام دين الحق. انظر: «النبوات» (1/ 131-132، 2/ 767-770).

([43]) كذا ضُبِطت في الأصل.

([44]) هم الذين يعرفون باسم: الغجر، أو النّوَر. وهنا فائدة تاريخية في وقت وصولهم إلى بغداد.

([45]) كذا في الأصل.

([46]) انظر: «روضة الطالبين» للنووي (9/ 347).

([47]) علم الأوفاق: هو علم يُتَوَصَّل به إلى توفيق الأعداد والحروف واستوائها في الأقطار والأضلاع، وعدم التكرار، قال ابن خلدون: (حدث هذا العلم في الملة بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات) «مقدمة ابن خلدون» (2/ 936). وانظر: «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» لطاش كبري زاده (1/ 373)، «الفروق» للقرافي (4/ 112)، «مجموع الفتاوى» (35/ 191-195).

([48]) النيل أو النَّيلَجُ: هو دخان الشحم، يعالج به الوشم، ويحشى به حتى يخضر.

([49]) أي: من وجه آخر غير المقابلة على ما يفعلونه، كالصدقة عليهم.

([50]) أخرجه أحمد (446، 474)، وأبو داود (5089)، والترمذي (3388)، وابن حبان (852).

([51]) جاء في هامش النسخة الخطية هنا ما نصه: “وكان السبب في ذلك لما نزل رضي الله عنه الحيرة خرج إليه من قصر بني [بقيلة] شيخ ابن ثلاثمئة وخمسين سنة، معه سم ساعة، فقال له: ما تصنع به؟ قال: إن يكن عندك ما يوافق أهل بلدي حمدت الله تعالى وقبلته، وإن يكن الأخرى لم أكن أول من ساق إلى أهله ذُلًّا، فأشرَبُه، وأستريح. فأخذ منه خالد رضي الله عنه وقال: بسم الله، وبالله، بسم رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء. ثم شربه، وعلته غشية، ثم رشح جبينه، وقام كأنما نشط من عقال. فرجع الشيخ إلى قومه وقال: جئتكم من عند شيطان، أعطوا هؤلاء ما سألوا. فصالحوهم على مئة ألف درهم. تعالى الله، ما ألطف صبغته وأحسن صنعته!. من «ربيع الأبرار» للزمخشري (2/ 380-381)”.

([52]) زيادة من كتاب «حياة الحيوان» للدميري ليتم بها المراد.

([53]) النقل عن البيهقي وما يليه من «حياة الحيوان» للدميري (1/ 397).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية في الإسلام

  إنَّ حريةَ الاعتقاد في الإسلام تميَّزت بتفاصيل كثيرة واضحة، وهي تعني أن كلَّ شخص حرّ في اختيار ما يؤمن به وما يدين به، ولا يجب على أحدٍ أن يُكرهَه على اعتقاده، كما تعني الاحترامَ لحرية الآخرين في اختياراتهم الدينية والمعتقدات الشخصية. موقفُ الإسلام من الحرية الدينية: الأصلُ عدمُ الإجبار على الإسلام، ولا يُكره أحد […]

دفع إشكال في مذهب الحنابلة في مسألة حَلِّ السِّحر بالسحر

  في هذا العصر -عصر التقدم المادي- تزداد ظاهرة السحر نفوذًا وانتشارًا، فأكثر شعوب العالم تقدّمًا مادّيًّا -كأمريكا وفرنسا وألمانيا- تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال. […]

الفكر الغنوصي في “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي وموقف فقهاء ومتصوفة الغرب الإسلامي منه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم لا تخفى المكانة التي حظي بها كتاب إحياء علوم الدين عند المتصوفة في المغرب والأندلس، فكتب التراجم والمناقب المتصوفة المغربية المشهورة، شاهدة على حضور معرفي مؤثر ظاهر لهذا الكتاب في تشكيل العقل المتصوف وتوجيه ممارسته، وأول ما يثير الانتباه فيه، هو التأكيد على الأثر المشرقي […]

لماذا أحرق أبو بكر وعمر الأحاديث؟

تمهيد: يلتفُّ بعض فرق المبتدعة حول الحداثيين والعلمانيين، ويلتفُّ العلمانيون ومن نحى نحوهم حول هذه الفرق، ويتقاطع معهم منكرو السنَّة ليجتمعوا كلّهم ضدَّ منهج أهل السنة والجماعة في تثبيت حجية السنة والأخذ بها والعمل بها والذبِّ عنها. وبالرغم من أنّ دوافع هذه الفرق والطوائف قد تختلف، إلا أنها تأخذ من بعضها البعض حتى يطعنوا في […]

هل كان ابن فيروز وغيره أعلم من ابن عبد الوهاب بمنهج ابن تيمية؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يعتمد المخالفون على أن مناوئي الدعوة -من الحنابلة- كانوا معظِّمين لابن تيمية وابن القيم، بل وينتسبون إليهم أيضًا؛ كابن فيروز وابن داود وابن جرجيس، ويعتبرون ذلك دليلًا كافيًا على كونهم على مذهب ابن تيمية، وعلى كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعيدًا عن منهج الشيخين ابن تيمية وابن القيم. […]

ترجمة الشَّيخ د. عمر حسن فلاته (محدث الحرمين الشريفين وأول من نال شهادة الماجستير في المملكة العربية السعودية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. عمر حسن فلاته([1]) محدث الحرمين الشريفين وأول من نال شهادة الماجستير في المملكة العربية السعودية   اسمه ونسبه: هو محدث الحرمين الشريفين الشَّيخ الدكتور أبو ميْسُون عُمر بن حسن بن عثمان بن محمد الفُلَّاني المدني المالكي، المعروف بـ(عمر حسن فلاته)([2]). مولده: ولد الشَّيخ في المدينة المنورة […]

ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده.  وبعد: فهذه ترجمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذتها من كتاب زعماء الإصلاح للكاتب والأديب المصري الراحل أحمد أمين، وقد ضمنتها بعض التعاليق التي تبين الوجهة الصحيحة من الشيخ وما في زمانه من أحداث، وتتميز […]

أسانيد الأمة عن الأشاعرة ووجود فجوة بين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب (دعوى ونقاش)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الدعاوى التي يروّجها كثيرٌ من الأشاعرة المعاصرين القولُ بأن أسانيد علوم الإسلام نُقلت من خلالهم، مثل علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم التفسير والأصول، فنقَلَةُ الدين في العصور المتأخرة من الأشاعرة، أو على الأقل من المتأثرين بهم، وحتى فقهاء الحنابلة لم يسلَموا من تقريرات الأشاعرة في كتبهم. ثم […]

فتوى الشيخ عبد الرحمن بن عبدِ الله السُّويدِي (1134- 1200هـ) في فَعاليَّات الدَّرْوَشة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله. هذه فتوى لأحدِ علماءِ العراق في القرن الثاني عشر الهجري -وهو الشيخ عبد الرحمن السويدي الشافعي ت 1200هـ- في الأعمال التي يقوم بها المتصوّفة من أكل الحيات ودخول النيران، وضرب الصدور بالحراب وغير ذلك. وقد اشتهرت هذه الأعمالُ عن أتباع الطريقة الرفاعية منذ دخول التتار إلى بغداد […]

إيضاح ما أَشكَل في قصة موسى عليه السلام وملك الموت

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: إن حديثَ لطم موسى عليه السلام لملك الموت من الأحاديث التي طعَن فيها المبتدعةُ منذ وقتٍ مبكِّرٍ، وتصدَّى العلماءُ للردِّ عليهم في شُبهاتهم. وقد صرّح الإمامُ أحمد رحمه الله لما سئل عن هذا الحديث بأنه: (لا يدَعُهُ إلا ‌مُبتَدِع أو ضعيف الرأي)([1])؛ ولذلك ذكر الأئمة الإيمان بهذا الحديث […]

التداخل العقدي بين الطوائف المنحرفة – الشيعة والصوفية أنموذجًا –

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أولًا: المد الشيعي في بلاد أهل السنة: من أخطر الفتن التي ابتُليت بها هذه الأمة: فتنةُ الشيعة الرافضة، الذين بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، الذين يشهد التاريخ قديمًا وحديثًا بفسادهم وزيغهم وضلالهم، الذين ما سنحت لهم فرصة إلا وكانت أسلحتهم موجَّهة إلى أجساد أهل السنة، يستحلّون […]

الحجاب.. شبهات علمانية، عرض ونقاش

  الهجوم على الحجاب قديم متجدِّد، ولا يفتأ العلمانيون والليبراليون من شحذ أقلامهم دائما في الصحف والمواقع والمنتديات الثقافية للكتابة عن الحجاب وحوله، سالبين بذلك حتى أبسط الحقوق التي ينادون بها، وهي الحرية. فالمسلمة التي تلتزم بحجابها دائما عندهم في موطن الرَّيب، أو أنها مضطهَدة، مسلوبة الحقوق والإرادة، ولا يرون تقدُّما علميًّا أو فكريًّا أو […]

الدِّيوان الصوفي.. نظريةٌ بدعيةٌ وخرافةٌ صوفيةٌ

ما الديوان الصوفي؟ يصوِّر الفكر الصوفي أن لهم مجلسًا يطلَق عليه اسم: (الديوان الصوفي)، وهذا المجلس النيابي تمثَّل فيه أقطار الدنيا من النخبِ الممتازة من الصوفية، وهو حكومةٌ باطنيةٌ خفيَّة يرونَ أن عليها يتوقَّفُ نظام العالم، ويتخيَّلون انعقاده في غار حراء خارج مكة، وفي أماكن أخرى أحيانًا؛ ليدير العالم من خلال قراراته، ويجتمع فيه سائر […]

المنهج النبوي في معالجة المواقف الانفعالية عند الأزمات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إنَّ الأزمات والفتن النازلة بالمسلمين تدفع بعض الغيورين إلى اتخاذ مواقف انفعالية وردود أفعال غير منضبطة بالشرع، ومن ذلك إصدار الأحكام والاتهامات تحت وطأة الغضب والحمية الدينية. ومعلوم أن لهذه المواقف آثارا سلبية منها: أنها تؤثر على تماسك المجتمع المسلم ووحدته، لا سيما في أوقات الشدة والفتنة واختلاف الآراء […]

المحرم وعاشوراء.. شبهات ونقاش

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: هذا الدين العظيم يجعل الإنسان دائمًا مرتبطًا بالله سبحانه وتعالى، فلا يخرج الإنسان من عبادة إلَّا ويتعلَّق بعبادة أخرى؛ لتكون حياته كلُّها كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، فلا يكاد […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017